فتاوى نور على الدرب [273]


الحلقة مفرغة

السؤال: التدخين هل هو حرام أم مكروه فقط، وما الدليل على تحريمه من الكتاب والسنة؟

الجواب: التدخين الذي هو شرب الدخان أو التتن محرم بدلالة الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح، أما دلالة الكتاب ففي مثل قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، ووجه الدلالة من هذه الآية: أنه قد ثبت الآن في الطب أن شرب الدخان سبب لأمراض مستعصية متنوعة، من أشدها خطراً مرض السرطان، وإذا كان سبباً لهذه الأمراض، فإن الأمراض كما هو معلوم تفتك بالأبدان، وربما تؤدي إلى الموت، فيكون كل سبب لهذه الأمراض محرماً، ومن أدلة الكتاب قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، ووجه الدلالة من الآية: أن الله نهانا أن نعطي السفهاء، وهم الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم، أن نعطيهم هذه الأموال، وأشار الله سبحانه وتعالى أن هذه الأموال جعلها الله قياماً لنا، تقوم بها مصالح ديننا ودنيانا، فإذا عدل بها إلى ما فيه مضرة في ديننا ودنيانا، كان ذلك عدولاً بها عما جعلها الله تعالى لنا من أجله، وكان هذا نوعاً من السفه الذي نهى الله تعالى أن نعطي أموالنا السفهاء من أجله، خوفاً من أن يبذلوها فيما لا تحمد عقباه، ومن أدلة القرآن قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، أي: لا تفعلوا سبباً يكون فيه هلاككم، وهي كالآية الأولى، ووجه دلالتها: أن شرب الدخان من الإلقاء باليد إلى التهلكة.

أما من السنة: فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: ( نهى عن إضاعة المال )، وإضاعة المال صرفه في غير فائدة، ومن المعلوم أن صرف المال في شراء الدخان صرف له في غير فائدة، بل صرف له فيما فيه مضرة، ومن أدلة السنة أيضاً ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا ضرر ولا ضرار )، فالضرر منفي شرعاً، سواء كان ذلك الضرر في البدن أو في العقل أو في المال، ومن المعلوم أن شرب الدخان ضرر في العقل وفي البدن وفي المال.

وأما الاعتبار الصحيح الدال على تحريم شرب الدخان، فلأن شارب الدخان يوقع نفسه فيما فيه مضرة، وقلق وتعب نفسي، والعاقل لا يرضى لنفسه بذلك، وما أعظم قلق شارب الدخان وضيق صدره إذا فقده، وما أثقل الصيام ونحوه من العبادات عليه، لأنه يحول بينه وبين شربه، بل ما أثقل المجالسة للصالحين الذين لا يمكنه أن يشرب الدخان أمامهم، فإنك تجده قلقاً من الجلوس معهم ومن مصاحبتهم، وكل هذه الاعتبارات تدل على أن شرب الدخان محرم.

فنصيحتي لإخواني المسلمين الذين ابتلوا بشربه، أن يستعينوا بالله عز وجل، وأن يعقدوا العزم على تركه، وفي العزيمة الصادقة مع الاستعانة بالله ورجاء ثوابه والهرب من عقابه، في ذلك كله معونة على الإقلاع عنه، ومن المعونة عن الإقلاع عنه أن يبتعد الإنسان عن الجلوس مع شاربيه، حتى لا تسول له نفسه أن يشربه معهم، وسوف يجد الإنسان بحول الله من تركه نشاطاً في جسمه وحيوية لا يجدها حين شربه له.

فإن قال قائل: إننا لا نجد النص في كتاب الله أو سنة رسوله على شرب الدخان بعينه.

فالجواب أن يقال: إن نصوص الكتاب والسنة على نوعين: نوع تكون أدلة عامة، كالضوابط والقواعد التي يدخل تحتها جزئيات كثيرة إلى يوم القيامة، ونوع آخر تكون دالة على الشيء بعينه، مثال الأولى: ما أشرنا إليه من الآيات والحديثين التي تدل بعموماتها على شرب الدخان، وإن لم ينص عليه بعينه، ومثال الثاني: قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة:3]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، وسواء كانت النصوص من النوع الأول أو من النوع الثاني، فإنها ملزمة لعباد الله بما تقتضيه من الدلالة.

السؤال: هل يجوز قراءة الفاتحة على الموتى وهل تصل إليهم؟

الجواب: قراءة الفاتحة على الموتى لا أعلم فيها نصاً من السنة، وعلى هذا فلا تقرأ، لأن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على ثبوتها، وأنها من شرع الله عز وجل، ودليل ذلك أن الله أنكر على من شرعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، فقال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، وإذا كان مردوداً كان باطلاً وعبثاً وينزه الله عز وجل أن يتقرب به إليه، وأما استئجار قارئ يقرأ القرآن ليكون ثوابه للميت فإنه حرام، ولا يصح أخذ الأجرة على قراءة القرآن، ومن أخذ أجرة على قراءة القرآن فهو آثم ولا ثواب له، لأن القرآن عبادة ولا يجوز أن تكون العبادة وسيلة إلى شيء من الدنيا، قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، وإذا كان هذا القاري آثماً فلا ثواب له، وإذا لم يكن له ثواب فإنه لن يصل الميت من قراءته شيء، لأن وصول الثواب إلى الميت فرع عن ثبوته لهذا القارئ، ولا ثواب لهذا القارئ، فلا يصل للميت شيء من الثواب، وعلى هذا فيكون استئجار هؤلاء القراء إثماً ومعصية وإضاعة للمال وإضاعة للوقت.

ونصيحتي لإخواني الذين ابتلوا بهذا أن يقلعوا عنه، وأن يتوبوا إلى الله تعالى منه، وأن يستعيضوا عنه بما دلت عليه النصوص من الدعاء للميت، فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )، فإذا أراد الإنسان أن ينفع ميته بشيء فليكثر من الدعاء له، ولا سيما في أوقات الإجابة، كآخر الليل وحال السجود، وبين الأذان والإقامة، ومن تمشى على شريعة الله ونبذ البدع في دين الله نال خيراً كثيراً.

السؤال: عندما نجلس أنا ومجموعة من الأصدقاء في مطعم، وأريد أن أدفع الحساب يقوم أحدهم ليدفع الحساب، لكنني أقسم بأن أدفع الحساب، وأقول بالله ما تدفع أنت لكنه يدفع دون مبالاة بالقسم، فهل هذا يجوز وهل يعتبر قسمي هذا يميناً وعليه كفارته؟

الجواب: أولاً: أنصح هذا السائل وغيره أن يتركوا القسم على غيرهم بفعل شيء أو تركه، لأن في هذا القسم إحراجاً لهم أو لمن أقسموا عليهم، أما كونه إحراجاً لهم، فلأن هذا المحلوف عليه إذا خالف لزمته الكفارة، وأما كونه إحراجاً لمن حلفوا عليه، فلأنه قد يفعل ذلك مع المشقة، وربما مع المشقة والضرر مجاملة لهذا الذي أقسم عليه، وفي ذلك من الإحراج والإعنات ما فيه.

وأما بالنسبة للكفارة، فإن الإنسان إذا حلف على فعل شيء في نفسه أو من غيره، أو على تركه، فإما أن يقرن يمينه بالمشيئة، أي: بمشيئة الله، فيقول: والله إن شاء الله لتفعلن كذا أو لأفعلنّ كذا، وإما أن لا يقرنها، فإن قرن يمينه بالمشيئة فلا حنث عليه ولا كفارة، ولو تخلف المحلوف عليه، وإن لم يقرنها بالمشيئة، فإنه يحنث إذا ترك ما حلف على فعله أو فعل ما حلف على تركه، والذي ينبغي للإنسان إذا حلف على شيء سواء من فعل نفسه أو من فعل غيره أن يقول: إن شاء الله، فإن في قول: إن شاء الله فائدتين عظيمتين: إحداهما: أن ذلك سبب لتسهيل ما حلف عليه، والثانية: أنه لو حنث في يمينه فلم يفعل ما حلف عليه أو فعل ما حلف على تركه، فإنه لا كفارة عليه، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، أنه حلف ليطوفن على تسعين امرأة، أي: يجامعهنّ، وتلد كل واحدة منهنّ غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل إن شاء الله فلم يقل اعتماداً على ما في نفسه من العزيمة، فطاف على تسعين امرأة وجامعهنّ ولم تلد واحدة منهنّ إلا واحدة ولدت شق إنسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته )، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من حلف على يمين فقال: إن شاء الله لم يحنث )، وعليه فينبغي للحالف إذا حلف على شيء أن يقرن يمينه بالمشيئة، فيقول: والله إن شاء الله.

أما فيما يتعلق بسؤال السائل الذي حلف على صاحبه أن لا يحاسب صاحب المطعم فحاسبه، فإنه يجب عليه أن يكفر كفارة يمين، لأن صاحبه لم يبر قسمه، وكفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة، وللإطعام كيفيتان: فإما أن يصنع طعاماً غداء أو عشاء ويدعو المساكين إليه، المساكين العشرة حتى يأكلوا، وإما أن يفرق طعاماً على العشرة، ومقداره بالرز ستة كيلو، فإذا وجد بيتاً فيه عشرة أنفار وأعطاهم هذا المقدار من الرز وجعل معه إداماً من لحم أو غيره كان ذلك كافياً في الإطعام، فإن لم يجد بأن لم يكن عنده ما يطعمه منه، أو لم يجد أحداً يطعمهم أو يكسوهم لكون البلد بلد غنى، فإنه في هذه الحال يصوم ثلاثة أيام متتابعة.

السؤال: لقد كان لي صديق عزيز، لكنه انتقل إلى رحمة الله تعالى، وبعد أن توفي رحمه الله قطعت عهداً على نفسي بأن لا أذهب إلى بيت أهله، وأقسمت على ذلك، لكنني بعد إلحاح من أهله وجدت نفسي مضطراً للذهاب إليهم مرة واحدة، وبعدها قررت أن لا أذهب أبداً، فهل علي كفارة لما فعلت وهل يجوز لي أن أذهب إليهم؟

الجواب: تضمن سؤاله كلمة أحب أن أنبه عليها، وهي قوله: انتقل إلى رحمة الله، وهذه الكلمة لها وجهان؛ فالوجه الأول: أن يكون جازماً بأن هذا الرجل انتقل إلى رحمة الله، والوجه الثاني: أن يكون راجياً أن يكون هذا الرجل انتقل إلى رحمة الله، فأما الأول: فإنه لا يجوز لنا أن نجزم لأحد بأنه في الجنة أو في النار إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، كما قرر ذلك أهل السنة في عقائدهم، فقالوا: لا نشهد لأحد بجنة ولا نار إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، لكننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء.

وأما إذا كان الإنسان راجياً أن هذا الرجل انتقل إلى رحمة الله، فإن الرجاء بابه واسع ولا حرج عليه في ذلك، ومثله قولهم: فلان رحمه الله، إن كان خبراً فإنه شهادة ولا يجوز، وإن كان دعاء ورجاء فلا بأس به، ومثله قولهم: فلان المغفور له أو المرحوم، إن كان خبراً فإنه لا يجوز، لأنك لا تعلم ولا تشهد بذلك، وإن كان رجاء ودعاء فإنه لا بأس به.

أما الجواب على سؤاله: وهو أنه أخذ على نفسه عهداً وأقسم أن لا يذهب إلى أهل صديقه هذا، وبعد إلحاح ذهب إليهم مرة واحدة ثم ترك الذهاب، فإن عليه في هذه الحال أن يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة، إلا إذا كان قد قرن يمينه بالمشيئة، فقال: والله إن شاء الله، فإنه لا يحنث في يمينه ولا كفارة عليه، وحينئذٍ يذهب إلى أهل هذا الميت، وتكفيه كفارته الأولى.

السؤال: لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بصلة الرحم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ولكن كيف تتفق هذه الآيات مع قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ [المجادلة:22]، الآية، وبما أن الكفر والشرك محادة لله ورسوله، فكذلك قاطع الصلاة، أو الذين لهم اعتقادات فاسدة، كالتوسل بالأولياء وغير ذلك، وكممارستهم للباطل في أفراحهم ومآتمهم، فكيف نعاملهم؟

الجواب: لا معارضة بين أمر الله تعالى بصلة الرحم وبين قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]؛ لأن الصلة لا يلزم منها الموادة، فالموادة معناها تبادل المودة، والمودة هي خالص المحبة، وعلى هذا فإنه من الممكن أن تصل هؤلاء الأقارب وأنت لا تحبهم بل تكرههم على ما هم عليه من الباطل من الشرك فما دونه، ولهذا قال الله عز وجل في الوالدين: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان:14-15]، فأمر الله سبحانه وتعالى أن نصاحب الوالدين في الدنيا معروفاً، وإن كانا كافرين مشركين، بل وإن كانا قد بذلا جهدهما في أن يكون ابنهما مشركاً بالله عز وجل، أو في أن يكون ولدهما من ذكر أو أنثى مشركاً بالله عز وجل، ومن الممكن عقلاً وشرعاً أن تصل شخصاً وقلبك يكرهه، تصله بما بينك وبينه من القرابة أو من الجوار إذا كان جاراً لك، ولكنك تكرهه بقلبك على ما عنده من محادة الله ورسوله.

السؤال: لقد توفي أبي منذ عشرين سنة، وكان قاطعاً للصلاة، وكان يفطر أحياناً في رمضان كما أخبرتني والدتي وهي تنصحه ولكن بالنسبة للفطر في رمضان امتنع عنه، ولكن الصلاة كان قاطعاً لها، حتى توفي، فهل يجوز لي أن أدعو له بالمغفرة والرحمة؟

الجواب: إن والدك الذي قطع الصلاة ولم يصل حتى مات لا يحل لك أن تدعو الله له بالمغفرة والرحمة، وذلك لأنه مات على الكفر، وقد قال الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:113-114]، وإنما حكمنا على والدك بالكفر بترك الصلاة بدلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والنظر الصحيح، والاعتبار على كفر تارك الصلاة، أما الأدلة من كتاب الله فمنها قوله تعالى عن المشركين: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة:11]، ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى لم يثبت الأخوة في الدين إلا بهذه الأوصاف الثلاثة: التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والمشروط إذا علق على شرط متعدد الأوصاف فلا بد من تحقق هذا الشرط بأوصافه، وعلى هذا فإذا تابوا من الشرك ولم يقيموا الصلاة فليسوا إخوة لنا في الدين، ولا تنتفي الأخوة في الدين إلا بالكفر، لأن المعاصي مهما عظمت لا تخرج الإنسان من الدين إذا كانت لا تصل إلى درجة الكفر، ولا تخرجه من الأخوة الإيمانية، وانظر إلى قتل المؤمن عمداً، فإن قتل المؤمن عمداً من أعظم الكبائر التي دون الشرك، ومع ذلك لا تخرج القاتل عن الأخوة في الدين، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178]، فجعل الله القاتل أخاً للمقتول، مع أنه فعل ذنباً من أعظم الذنوب بعد الشرك وهو قتل المؤمن، وقال الله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:9-10]، فقد جعل الله عز وجل هاتين الطائفتين المقتتلين أخوين للطائفة المصلحة بينهما، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، مع أن قتال المؤمن لأخيه من كبائر الذنوب، فإذا علم ذلك تبين أن انتفاء الأخوة في الدين لا يكون إلا بكفر مخرج عن الدين، وعلى هذا فإذا تاب المشرك من شركه ولكنه لم يقم الصلاة، فإنه لا يكون أخاً لنا في الدين، فلا يكون مؤمناً بل يكون كافراً خارجاً عن ملة الإسلام، فإن قلت: ينتقض عليك هذا بإيتاء الزكاة، فهل تقول: إن من لم يزك يكون كافراً خارجاً عن الملة؟

فالجواب: أن بعض أهل العلم قال ذلك: أن من ترك الزكاة متهاوناً بها كفر وخرج عن الملة، ولكن القول الراجح أنه لا يكفر بدليل حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار )، فكونه يمكن أن يرى سبيلاً له إلى الجنة يدل على أنه ليس بكافر، إذ أن الكافر لا يمكن أن يرى سبيلاً له إلى الجنة، وبهذا يكون إيتاء الزكاة التي تدل الآية بمفهومها على أنه شرط للأخوة في الدين يكون معارضاً بمنطوق الحديث، وقد علم من قواعد الأصول أن المنطوق مقدم على المفهوم، وسنذكر بقية الأدلة في حلقة قادمة إن شاء الله.