هذا الحبيب يا محب 50


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: ها نحن مع أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في السنة الثانية من الهجرة المحمدية، غزوة بدر الكبرى، وقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة تحت عنوان: [بشائر النصر] كيف تلوح؟

قال: [وعجل الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم بتبشير المسلمين في المدينة بالنصر الذي تم، فبعث عبد الله بن راوحة بشيراً إلى أهل العالية] من المدينة [وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة] كان للمدينة عالية وسافلة كمكة.

[قال أسامة بن زيد ] حب رسول الله صلى الله عليه وسلم [رضي الله عنه: أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم] ماتت رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم وخديجة بنت خويلد رضي الله عنهما وأرضاهما [التي كانت عند عثمان بن عفان رضي الله عنه] ويقال فيه عثمان ذو النورين؛ لأنه تزوج رقية وأم كلثوم ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: أتانا الخبر [أن زيد بن حارثة قد قدم، فجئت وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو جهل ، وزمعة بن الأسود ، وأبو البختري ، وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، فقلت: يا أبت أحق هذا؟ قال: نعم، والله يا بني!] أي: نعم والله يا بني كل هؤلاء الطواغيت قتلوا في بدر. وهذه هي البشرى!

[طلوع البدر] بعد البشرى[وطلع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم من بدر عائداً إلى المدينة] هو أتى من بدر ونوره أعظم من نور البدر، فلقد هدى الله بنوره ما لم يهد على نور بدر، وكفى بقول الله عز وجل: وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:46].

قال: [ومعه الأسارى من المشركين] وكانوا سبعين أسيراً [واحتمل معه صلى الله عليه وسلم الغنائم] التي غنموها من العدو عندما انهزم وقتل صناديده وأُسروا [وجعل عليها عبد الله بن كعب النجاري ] من بني النجار [وسار صلى الله عليه وسلم، حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية إلى سرحة به، فقسم هناك الغنائم بالسوية على المسلمين، ثم ارتحل حتى إذا كان بالروحاء] قريباً من المدينة [لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه وعلى من معه بالنصر المبين، وأثناء مسيره -وبالصفراء بالضبط- قتل علي بن أبي طالب النضر بن الحارث -أحد الأسرى-] وكان شيطاناً مارداً، فهو الذي قال من سورة الأنفال: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32] أي: إذا كان ما جاء به محمد هو الحق، فنحن لا نستطيع أن نعيش أبداً، ونمطر حجارة من السماء ولا نرى محمداً ينتصر ودينه ينتشر. ولهذا ما صبر علي فقتله.

قال: [كما قُتل عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت الأنصاري ] وعقبة هذا من شر الخلق وقد شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـقدار بن سالف عاقر ناقة صالح، فقد كان أزرق العينين، أحمر اللون، قصير القامة، كأنه قدار بن سالف . وسبحان الله! ذاك ظالم في قوم صالح، وهذا ظالم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم [بعرق الطيبة] في مكان يسمى عرق الطيبة [وثم لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو هند حجام الرسول صلى الله عليه وسلم] الذي كان يحجم لرسول الله اسمه أبو هند ، والحجامة من سنن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وهي دواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الشفاء في ثلاث: شربة عسل وشرطة محجم وكية نار ).

قال: [لقيه بحميت حيساً] والحميت: الزق من الجلد، والحيس: السمن يخلط بالتمر والأقط [فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما هو أبو هند امرؤ من الأنصار فأنكحوه، وأنكحوا إليه ) ففعلوا، وكان أبو هند مولى لـفروة بن عمرو البياضي ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى المدينة فوصلها قبل الأسارى بيوم] عندما قدم أبو هند للحبيب صلى الله عليه وسلم هذا الطعام احتفاء به وتكريماً بعودته من الغزوة كافأه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن قال: ( إنما هو أبو هند امرؤ من الأنصار )، فسجل اسمه في الأنصار، ثم قال: ( فأنكحوه ) أي: زوجوه لا تقولوا: هذا مولى، ( وأنكحوا إليه ) أي: تزوجوا منه، وجعله واحداً من أنصار المدينة.

قال: [أيهما خير القتل أو الفداء؟] وكان الأسرى قد وصلوا بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم بيوم إلى المدينة، والسؤال: أيهما خير القتل أم الفداء؟ هل يُفادون بأموال تعود على المسلمين المجاهدين، أم يقطعون رءوسهم ويستريحون منهم؟ حصل خلاف في هذه القضية سنسمعه إن شاء الله.

قال: [إنه بعد أن أتم الله نصره لرسوله والمؤمنين حيث انهزم المشركون وفروا من المعركة لائذين] بالفرار [تاركين وراءهم سبعين جثة ألقيت في القليب، وسبعين أسيراً وُضعوا في القيود، وقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً ونزل منزلاً، واستشار أصحابه في الأسرى أيُقتلون أم يُفادون بمال يستعان به على مواصلة الجهاد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أمكنكم منهم، فما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ )، فقام عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم] فقد كذبوك وأخرجوك. هذه كلمة ابن الخطاب ، ولعل بعض الزوار لا يعرفونه، يقول ابنه عبد الله : "ما قال أبي في شيء أظنه كذا إلا كان كما ظن". وقد وافق ربه في أربع أو خمس مسائل، وما كان الشيطان يقوى أو يقدر على أن يمشي مع عمر في طريق واحد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه )، وقال أيضاً: ( لو كان في أمتي محدثون ) يعني: من تحدثهم الملائكة ( لكان منهم عمر ، ولكن لا نبي بعدي )؛ إذ الملائكة لا تحدث إلا الأنبياء.

من زهد عمر رضي الله عنه ونتائجه

كيف وصل عمر إلى هذا المستوى الرفيع؟

نذكر له صورة واحدة من صور زهده: أقام له أحد ولاته أيام خلافته مأدبة طعام، ووضع لونين أو ثلاثة من الطعام على السفرة، فلما نظر عمر إلى الطعام وألوانه انتفض انتفاضة الأسد وقام، فقال له الوالي: يا خليفة رسول الله! ما لك لا تطعم؟! فقال -بالحرف الواحد-: خشيت أن أكون ممن قال الله تعالى فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20]. والآن فقراؤنا على مائدتهم ثلاثة أو أربعة أنواع من الطعام، تجد الفول والعسل واللبن والخبز والشاي والقهوة .. وهو من أفقر الناس.

عرفتم كيف ارتفع عمر ؟ ارتفع بصفاء الروح، وطهارة النفس وزكاتها، فهي التي تجعل المرء هكذا، أما الذي يكب على الشهوات أنى له أن يصل إلى هذا المستوى؟ وكيف يميز بين الحق والباطل؟ والخير والشر، والعدل والظلم؟ ويؤكد هذه النظرية أو هذه القاعدة الحقيقية قول الله عز وجل واسمعوا وتأملوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] ومعنى هذا الكلام أيها المسلمون أن تتقوا الله فلا تعصوه، وتعملون على طاعته، وتزكون أنفسكم حتى تصبح كتلة من نور. ذلكم هو الفرقان، الذي تفرقون به بين الحق والباطل، فلا يلتبس عليكم شيء.

والآن قادة العالم الإسلامي ورجالاته ومسئولوه ومديروه ومدبروه لا يملكون هذا الفرقان؟ والذي اتقى الله عز وجل فلم يخرج عن طاعته، ولم يفسق عن أمره، فنهض بالتكاليف وأداها على الوجه المطلوب، وتجنب مغاضب الله ومساخطه، وما حرمه وما نهى عنه.. -والله- ليعطين هذا الفرقان، وتصبح نظريته السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تخطئ.

ومن كان يعيش على الفسق والفجور والباطل أنى له أن يعطى هذا النور؟ والبرهنة: العالم الإسلامي الذي يتخبط تخبط العميان، والسبب أن المسئولون لا يملكون هذا النور؛ لأن هذا النور يأتي بتقوى الله، كن شريفاً أو وضيعاً أو كن ما شئت وأن تتقي الله يأتيك الله هذا النور، ويكون ذلك -أولاً-: بأن تعرف فيم تتقي الله من الأمر والنهي.

ثانياً: أن تجاهد نفسك حتى تؤدي المأمور على الكيفية والنحو والظرف المأمور به، حتى يُنتج لك طاقة نورانية.

ثالثاً: تجنب مساخط الله من الكلمة إلى النظرة إلى كل سيئة؛ ليبقى النور كما هو ويزداد؛ لأن الذنوب تقضي على تلك الأنوار وتفسدها..

إذاً: استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمر الأسرى، أما قال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] ونطق عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، قد كذبوك وأخرجوك [فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم] أعطاه عرضه ولم التفت إليه، بل سمع رأيه وسكت، يريد رأياً من الآخرين [ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى قوله طالباً المشورة في الأسرى، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. فذهب عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم فعفا عنهم وقبل الفداء] فرج أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه ذلك، فما أرحم الصديق ! لا إله إلا الله، هذا أبو بكر الصديق يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل ).

بين الصديق والنبي .. موقفان متشابهان

الصديق له موقفان جليلان:

الأول: ساعة ما كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار، خاف وارتعد؛ لأنه وجد الحيات والعقارب وكان المشركون يقلبون الحجارة بحثاً عن النبي وصاحبه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وذلك بعد أن خاف وقال: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] ( ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟ ).

والموقف الثاني: في بدر الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرتعد خائفاً رافعاً يديه إلى ربه يقول: ( رب! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض ) وأبو بكر يأخذ رداء النبي صلى الله عليه وسلم ويصلحه ويقول: لا تخف يا رسول الله إن الله معنا. فسبحان الله العظيم! موقفان مختلفان، فما هو السر؟

الموقف الأول؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه أدى كل ما وجب أن يؤديه من الحذر والحيطة والاستعدادات الكاملة، فمن هنا كان مطمئناً إلى أن الله لا يخيبه، فقد اختار الرفيق في خروجه من مكة، واختار الجغرافي الخاص (الخريت)، وتهيأ واستعد لهذه السفرة وهذا الخروج. إذاً: ما ترك شيئاً من الأسباب إلا عمله، ومن هنا كان اطمئنانه إلى نصر الله. فلما كان الصديق خائفاً قال له: ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ )، لكن في بدر الرسول صلى الله عليه وسلم شعر بأنه قصّر، حيث كان خروجه بثلاثمائة مقاتل فقط لأجل القافلة لا لقتال قريش، وقد رمت بأفلاذ أكبادها، فلهذا قال كلمته: ( رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد في الأرض ).

ومن هنا إذا أعد المسلمون العدة وهيئوا كل أسباب الجهاد والنصر، واطرحوا بين يدي الله فالله ناصرهم. وإن قصروا في تلك الأسباب وما أدوها على وجهها فإنهم يخافون، وقد يهزمون ولا ينتصرون، فإذا كنت تريد أن تقاتل وتجاهد، هيأ وأعد ما ينبغي أن تعده، ثم باسم الله قاتل والله ناصرك، أما أن تكون هابطاً -كهبوطنا نحن الآن وإن كان ليس في العدة العتاد ولكنه في قلوبنا الممزقة وشهواتنا الطاغية وجهلنا العام- فكيف تنتصر؟

إن بنو عمنا اليهود أذلوا العالم الإسلامي -وهم حفنة- وهزموا ألف مليون؛ وكل مسلم مسئول عن هذا عربي أو عجمي.. مع أن اليهود أعداء الله ورسوله إلى يوم القيامة، والسر أنه لا صلة لنا -حقيقية- بالله ، فسقنا عن أمر الله وخرجنا عن طاعته، وحكمنا أهواءنا وشهواتنا، وأقبلنا على أوساخ دنيانا وتقاتلنا عليها، وما أصبحنا أمة ولا جماعة واحدة، وسُنة الله ماضية لن تتخلف، فلا بد من هزيمة، ولن يتم نصر أبداً إلا إذا كان طالبي النصر أهلاً لذلك، بإيمان وتقوى وفرقان يضيء لهم الحياة ويبين لهم الطريق.

موافقة عمر لربه في أمر الأسرى

قال: [فأنزل الله تعالى من سورة الأنفال مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67]] أي: تريدون المال الدنيوي، والله يريد الآخرة. وهذا عتاب. فما من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل الأسرى ويأخذ المال، وما زال ما أثخن في الأرض فتحاً وتعميراً وبناء، كان من المفروض أن يقتل هؤلاء؛ ليفزع العرب في كل مكان ويندهشوا، وييأسوا من نصرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لما قبلوا الفداء قد يقال: هؤلاء نستطيع أن نستميلهم بالمال [فوافقت الآية عمر رضي الله عنه فيما رآه من قتل الأسرى في هذه المعركة.

وأنزل الله تعالى عذر نبيه صلى الله عليه وسلم وعذر صاحبه أبي بكر الصديق فقال: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:68-69]] الله أكبر!

الذي عنده ربه كيف يكرب أو يخاف أو يحزن؟ والمقطوع عن مولاه كيف يعيش؟ كيف يكمُل أو يسعد؟

لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ كتاب المقادير سَبَقَ هذه المفردات لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68] لكن هذا أمر كتبه وقدره، فلا بد وأن يتم ابتداء، ثم قال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69] فاستراحت النفوس وارتاحت الصدور، أي كلوا من هذا الفداء للأسرى حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69].

[وأنزل في الأسرى قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70]] ففتح لهم باب الدخول في الإسلام، ودخلوا إلا ما كان من الشياطين كـعقبة والنضر وغيرهم.

وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا أي: رغبة في الإسلام وشوق إليه يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ، فإذا أخذ منك ألف دينار أو ألفين فالله يعوضكم خيراً منها؛ لأن الفداء لا بد منه فهذا حق المجاهدين، قال تعالى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي: ما سبق من الشرك والكفر والظلم والحرب للإسلام ورسوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70]. بشرى عجيبة!

[فشجعهم بهذا على دفع الفدية وواعدهم بالمغفرة والرحمة إن هم أسلموا وحسن إسلامهم] وليس إسلام نفاق بأن يقول: أسلمت ما دام في الأسر [من بين هؤلاء الأسرى العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعقيل بن أبي طالب وغيرهما] من الأسرى أشراف، وهل هناك أشرف من العباس عم سيد الناس؟!

قال: [وبهذا كان القتل للأسرى في هذه المعركة البدرية خيراً من المفاداة؛ لأنها أول معركة انتصر فيها الإسلام، وإن كان المفاداة في غيرها خيراً، وفي كل خير والحمد لله إذ أنزل تعالى بعد هذه الآيات من سورة الأنفال أنزل سورة القتال، وفيها قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4]] هذه التعاليم من أين أتت، هل أتت من قادة الجيش؟ هل أتت من خريجي كليات الحرب؟ وأنى لهم أن يحوموا حول هذا؟ سبحان الله! والمسلمون معرضون عن القرآن تماماً. ستقولون: لا تقل يا شيخ معرضون فتكذب عليهم؟ أقول: إنهم يقرءونه كل ليلة ولكن على الأموات، ما يموت ميت رجل أو امرأة غني أو فقير حتى العاهرة إذا ماتت يقرءون عليها القرآن، أقربائها يأتون بأهل القرآن يقرءون عليها؛ حتى تنجو من النار وتدخل الجنة! ويبرهن على هذا الواقع الواقعُ نفسه، فالمسلمون ممزقون مشتتون أذلاء، مهانون فقراء يجرون وراء الشرق والغرب لضعفهم وهبوطهم.

مكانة القرآن في حياة المسلمين

إن القرآن هو روح الحياة، القرآن الذي يقرأ على الموتى هو الروح، ولا حياة بدونه، والدليل: أن العرب الذين كانوا يعيشون في الصحراء من هذه الديار على أسوأ الأحوال، تستعمرهم دولة فارس في الشرق، والروم في الشمال، والأحباش في الجنوب.. وفي خمس وعشرين سنة أصبحت هذه الأمة سيدة العالم، ولم تكتحل عين الوجود بأمة أكمل ولا أطهر ولا أشجع ولا أرحم ولا أعدل ولا أعلم من هذه الأمة، من خلال أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأبنائهم وأبناء أبنائهم.

وهل هناك آية تدل على أن القرآن روح؟ إي والله! اسمع! يقول تعالى من سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] فسمى القرآن روحاً؟ فمن ثم من آمن بهذا القرآن وقرأه وفهمه، وطبق أنظمته حيي، وعز وطهر وكمل، وتهيأ للملكوت الأعلى، ومن أعرض عنه أعماه الله وأذله وأخذه، يقول عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

ولقد عرف المجوس واليهود والنصارى أن هذه الأمة روحها القرآن، فحاولوا أن ينتزعوه وعجزوا، لأنه محفوظ في صدور الرجال والنساء، وحاولوا -فقط- تغيير حرف واحد وما استطاعوا. فقالوا: احتالوا عليهم واصرفوهم عنه، فلا يتدبرون، ولا يطبقون، ولا يعملون .. إذاً: كيف نفعل؟ قالوا: اقرءوه على الموتى! فأصبح العالم الإسلامي لا يعرف الاجتماع على القرآن إلا فقط ليلة الميت، يجتمعون سبع ليال، أو أربعين ليلة أحياناً.

إن أردنا عودة للكمال فعلينا أن نعود إلى القرآن. ومن يفسر لنا القرآن؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه وآدابه من القرآن الكريم، مدونة موجودة. ومما يؤسف له إلى الآن أننا ما أقبلنا على القرآن الكريم، نعم وجد إقبال عليه من حيث حفظه، فقد كان حفظة القرآن قليلين، والآن كثروا في كل البلاد، لكن الاجتماع عليه لاستخراج أنواره والهداية بها! ليس موجود إلا من رحم الله عز وجل.

تنازل النبي عن بعض الحق لما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين

قلنا: وكان من بين هؤلاء الأسرى العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعقيل بن أبي طالب وكذلك: نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعمرو بن أبي سفيان وأبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو عدي بن عمير أخو مصعب بن عمير وسهيل بن عمرو ، وهو أحد ساسة قريش البارزين، وسفيرها في الحديبية، فهو الذي فاوض الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلح، ولا ننسى موقفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعلم هذا الضائعون، فعندما قال النبي: اكتب: باسم الله الرحمن الرحيم -وكان الكاتب علياً - قال سهيل بن عمرو : ما نعرف الرحمن الرحيم.. ولكن اكتب باسمك اللهم، فوجل علي وانتفض عمر فقال لهم النبي: اسكتوا أنا رسول الله! لأنه يعلم أن الصلح يحقق له هدنة تدوم عشر سنين ينتقل فيها الإسلام بين الناس بدلاً من أن يكون محصوراً في المدينة، وكتب باسمك اللهم.

ثم قال: هذا ما عاهد عليه رسول الله، فقال سهيل : لو عرفناك رسول الله ما قتلناك! وعند هذه كاد يتفجر عمر . فقال النبي: اكتب هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله. وتنازل عن كلمة (رسول الله) لأجل ما يتحقق بهذا الصلح من المصلحة للمسلمين، والآن -أعني شبيبتنا الناهضة- لو أن سياسياً في مكان ما اضطر لمصلحة الإسلام والمسلمين بأن يتنازل عن كلمة كهذه لكفروه في الشرق والغرب، والليل والنهار وكتبوا حتى على بابه: كافر! لأنهم ما تربوا في حجور الصالحين، ولا تلقوا العلوم والمعارف من الكتب والمحاضرات، فالذي يكون أهلاً للكمال يجب أن يزاحم العلماء بركبتيه، وأن يجالسهم حتى تزكو روحه وتطيب نفسه بالكتاب والحكمة، ولهذا لا تسأل عن تخبط العالم الإسلامي، ونتائجه دائماً الخراب، ولن تقوم لنا قائمة أبداً؛ لأننا ما نهجنا نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: [فخير تعالى في هذه الآية الإمام بين المن مجاناً وبين الفداء بمقابل وبين القتل، فليدُر الإمام مع المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، فإن كانت في الفداء فدى، وإن كانت في القتل قتل، وإن كانت في المن منّ].

كيف وصل عمر إلى هذا المستوى الرفيع؟

نذكر له صورة واحدة من صور زهده: أقام له أحد ولاته أيام خلافته مأدبة طعام، ووضع لونين أو ثلاثة من الطعام على السفرة، فلما نظر عمر إلى الطعام وألوانه انتفض انتفاضة الأسد وقام، فقال له الوالي: يا خليفة رسول الله! ما لك لا تطعم؟! فقال -بالحرف الواحد-: خشيت أن أكون ممن قال الله تعالى فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20]. والآن فقراؤنا على مائدتهم ثلاثة أو أربعة أنواع من الطعام، تجد الفول والعسل واللبن والخبز والشاي والقهوة .. وهو من أفقر الناس.

عرفتم كيف ارتفع عمر ؟ ارتفع بصفاء الروح، وطهارة النفس وزكاتها، فهي التي تجعل المرء هكذا، أما الذي يكب على الشهوات أنى له أن يصل إلى هذا المستوى؟ وكيف يميز بين الحق والباطل؟ والخير والشر، والعدل والظلم؟ ويؤكد هذه النظرية أو هذه القاعدة الحقيقية قول الله عز وجل واسمعوا وتأملوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] ومعنى هذا الكلام أيها المسلمون أن تتقوا الله فلا تعصوه، وتعملون على طاعته، وتزكون أنفسكم حتى تصبح كتلة من نور. ذلكم هو الفرقان، الذي تفرقون به بين الحق والباطل، فلا يلتبس عليكم شيء.

والآن قادة العالم الإسلامي ورجالاته ومسئولوه ومديروه ومدبروه لا يملكون هذا الفرقان؟ والذي اتقى الله عز وجل فلم يخرج عن طاعته، ولم يفسق عن أمره، فنهض بالتكاليف وأداها على الوجه المطلوب، وتجنب مغاضب الله ومساخطه، وما حرمه وما نهى عنه.. -والله- ليعطين هذا الفرقان، وتصبح نظريته السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تخطئ.

ومن كان يعيش على الفسق والفجور والباطل أنى له أن يعطى هذا النور؟ والبرهنة: العالم الإسلامي الذي يتخبط تخبط العميان، والسبب أن المسئولون لا يملكون هذا النور؛ لأن هذا النور يأتي بتقوى الله، كن شريفاً أو وضيعاً أو كن ما شئت وأن تتقي الله يأتيك الله هذا النور، ويكون ذلك -أولاً-: بأن تعرف فيم تتقي الله من الأمر والنهي.

ثانياً: أن تجاهد نفسك حتى تؤدي المأمور على الكيفية والنحو والظرف المأمور به، حتى يُنتج لك طاقة نورانية.

ثالثاً: تجنب مساخط الله من الكلمة إلى النظرة إلى كل سيئة؛ ليبقى النور كما هو ويزداد؛ لأن الذنوب تقضي على تلك الأنوار وتفسدها..

إذاً: استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمر الأسرى، أما قال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] ونطق عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، قد كذبوك وأخرجوك [فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم] أعطاه عرضه ولم التفت إليه، بل سمع رأيه وسكت، يريد رأياً من الآخرين [ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى قوله طالباً المشورة في الأسرى، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. فذهب عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم فعفا عنهم وقبل الفداء] فرج أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه ذلك، فما أرحم الصديق ! لا إله إلا الله، هذا أبو بكر الصديق يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل ).