مختصر التحرير [37]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [وإن طلب واحد من أشياء كخصال كفارة ونحوها فالواجب واحد لا بعينه، ويتعين بالفعل].

إذا طلب واحد من أشياء كخصال كفارة، أي الكفارة التي هي تخيير؛ لأن الكفارات نوعان: ترتيب وتخيير، أما الترتيب فالمطلوب فيها واحد بعينه، فإن لم يجد انتقل إلى ما بعده، مثل كفارة الظهار الواجب فيها أولاً عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، هذه الخصال في الكفارة الواجب فيها واحد بعينه.

أما كفارة التخيير وهي النوع الثاني، فهذه الواجب فيها واحد لا بعينه، مثل: فدية الأذى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] هذا على التخيير، والواجب واحد لا بعينه، لكن إذا فعله تعين، فإذا ذبح شاة صارت هي الواجب؛ لأنه حصل بها الأداء، وإذا أطعم ستة مساكين صار الإطعام هو الواجب، وإذا صام ثلاثة أيام صار الصيام هو الواجب بعينه؛ لأنه هو الذي عينه.

يقول: [كخصال كفارة ونحوها].

خصال الكفارة ككفارة اليمين، ونحوها مثل فدية الأذى، فإن الله سماها فدية ولم يسمها كفارة، في اليمين قال: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89]، وهنا قال: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] .

يقول رحمه الله: [وإن كفر بها مترتبةً فالواجب الأول]، أي: إن كفر بالخصال كلها مرتبة فالواجب الأول، مثل: إنسان حلق رأسه، فذبح شاة، ثم أطعم ستة مساكين، ثم صام ثلاثة أيام، ما هو الواجب؟

الجواب: الواجب هو الأول، ولكن لو سألنا سائل: نحن الآن عرفنا أن الواجب الأول، فهل يشرع أن يفعل ذلك فيأتي بالخصلة الثانية والخصلة الثالثة؟

نقول: لا يشترط؛ لأن الله إنما أوجب واحدة من هذه الخصال لا جميع الخصال، فإذا أتيت بجميع الخصال فإن هذا من تعدي الحدود، ومن الغلو في دين الله، لكن هذا قد يقع على سبيل النسيان، فيكفر بواحدة من هذه الخصال، ثم ينسى أنه كفر به، فيكفر بالثاني وينسى ويكفر بالثالث، فنقول: الواجب هو الأول، والله أعلم.

نعم، إذا نوى بما بعد الأول التطوع فلا بأس، أما إذا نوى أنه كفارة وقد برئت ذمته بالأول ففي جواز ذلك نظر.

يقول المؤلف رحمه الله: [ومعاً] يعني: إن كفر الكفارة معاً، [أثيب ثواب واجب على أعلاها فقط]، هذا الذي نراعيه فيه الأعلى إذا كفر بها معاً، مثل أن جمع كسوة عشرة فقراء، وإطعام عشرة فقراء، وكل فقير أعطاه طعاماً وكسوة، يكون كفر بها معاً، فيثاب على الأعلى؛ وذلك لأن الواجب لم يتعين في أحدها، وقد فعل الأعلى فيثاب عليه؛ ولأن الله سبحانه وتعالى قال: (إن رحمتي سبقت غضبي)، فإذا كان إذا اجتمع في الفعل ما يقتضي الغضب والرحمة غلب جانب الرحمة، فكذلك إذا كان في الفعلين ما يقتضي الرحمة فإنه يغلب ما كان أكثر وأعلى.

فصار في ذلك تعليلان:

التعليل الأول: أنه لم يتعين الوجوب في أحدهما، فكان في الأعلى.

والثاني: أن رحمة الله سبقت غضبه، فإذا فعل ما يقتضي رحمة أكثر فلأن تسبق هذه الرحمة الكثيرة أولى من أن تسبق الرحمة الغضب.

يقول: [أثيب ثواب واجب على أعلاها فقط، كما لا يأثم لو تركها سوى بقدر لا نفس عقاب أدناها في قول]. هذا اختصار مشكل، ومراعاة الاختصار توجب التعقيد حتى يكون الكلام العربي كأنه كلام غير عربي.

يقول: (كما لا يأثم لو تركها)، أي: لو ترك خصال الكفارة، والمعنى لو ترك خصال الكفارة هل يأثم على أعلاها وإلا على أدناها؟ وإذا أثم على أدناها هل يأثم على عينه أو بقدر عقابه؟

فعندنا الآن ثلاثة أشياء: إذا ترك خصال الكفارة فهل يعاقب على ترك أعلاها؟ لأن الأعلى أشد عقاباً مما دونه، أو على أدناها بعينه، أو على أدناها بقدر عقابه؟

المؤلف يقول: (كما لا يأثم لو تركها سوى بقدر لا نفس عقاب أدناها في قول)، يعني: يأثم بقدر عقاب أدناها، لا بنفس عقاب أدناها. الآن عندنا في كفارة اليمين الخصال المخير فيها ثلاث: عتق، وإطعام، وكسوة، فإذا تركها، يعني: نوى ألا يكفر، فهل يأثم على ترك العتق لأنه الأعلى، أو على ترك الكسوة لأنها الوسط، أو على ترك الإطعام لأنه الأدنى؟

يقول المؤلف: لا يعاقب على ترك أعلاها؛ لأننا لو قلنا: يعاقب على ترك أعلاها لعاقبناه على أمر لا يلزمه؛ لأنه لا يلزم أن يكفر بالأعلى فكيف نقول: العقاب على الأعلى؟ ولأن رحمة الله سبقت غضبه، ونحن إذا قلنا: يعاقب على الأعلى صار الغضب سابقاً للرحمة.

ولا يعاقب على الوسط؛ لأننا لو قلنا: يعاقب على الوسط لكان الوسط متعيناً، وهو لا يتعين.

بل يعاقب على الأدنى، ولكن هل يعاقب على عقوبة نفس الأدنى بعينه أو على قدر العقوبة؟

نقول فيها قولان، لأنه قال: (في قول)، أي: بعضهم يقول: يعاقب على نفسه عقوبة الأدنى، وعلى هذا القول يكون الأدنى متعيناً، فانظر دقة العلماء، يقول: إذا قلت: إنك ستعاقب عقوبة الأدنى فقد جعلت الأدنى متعيناً، والأدنى لا يتعين، إذاً تقول: بقدر العقوبة، ولا تقول: بالعقوبة، لئلا تجعل الأدنى متعيناً.

وعلى كل حال: فإننا بالنسبة للثواب والعقاب نراعي في الثواب الأعلى، وفي العقاب الأدنى؛ بناء على هذه القاعدة العظيمة التي اتصف بها الرب عز وجل، وهو أن رحمته سبقت غضبه، والله أعلم.