الرؤى والأحلام


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لـه، ومن يضلل فلا هادي لـه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعــد:

فهذا هو الدرس الأول من (سلسلة الدروس العلمية العامة) التي كنت وعدت بها إخواني من طلاب درس الحديث في مطلع العام الهجري الحالي، أي: قبل نحو ستة أشهر، ثم وعدتهم في المجلس السابق أن نبدأ في هذه الليلة، وهي ليلة الإثنين، السابع عشر من شهر رجب لعام (1410هـ).

لابد -أيها الإخوة- قبل أن أبدأ بموضوع هذه الأمسية، أن أعطي الإخوة الحضور والمستمعين فكرة عن منهج هذا الدرس.

ففي الأصل كانت هناك نية لإيجاد درس آخر في (بلوغ المرام) لكن حالت دونه بعض الحوائل، ففكرت في إقامة درس آخر، ثم ترددت ماذا يكون الموضوع الذي أُدرِّس فيه؟

هل أدرس في التفسير مثلاً؟

فهناك وقفات وفوائد عظيمة في هذا العلم، أم أُدرِّس في السيرة النبوية؟

ولا شك أن الناس في أمس الحاجة إلى دروس وعبر من سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم أم أدرس في العقيدة والتوحيد؟

وهذا هو لُبُّ اللباب وأصلُ الأصول، وقد كثرت الثغرات والانحرافات في هذا الباب، فالناس أيضاً في أمس الحاجة إلى من يبصرهم بحقيقة دينهم وأصل الأصول فيه، ألا وهو موضوع العقيدة الصحيحة، والرد على أهل البدع والأهواء والمِلَل والنِّحَل وغيرهم.

وبعد طول تفكير؛ رأيت أن من المناسب أن يكون هذا الدرس عاماً ليشمل هذه الأمور جميعها؛ بحيث يكون لدينا فرصة لنتحدث في إحدى الليالي -مثلاً- عن موضوع في العقيدة، ونتحدث في ليلة أخرى عن موضوع في السيرة، وفي ليلة ثالثة: عن موضوع يتعلق بالأخلاق والآداب والسلوك، وفي بعض الليالي عن موضوعات تتعلق بالأحوال الاجتماعية، والتنبيه عن بعض ما يقع الناس فيه، وأحياناً يكون هناك مناسبة تستدعي الحديث عنها، كقدوم موسم من مواسم الطاعة، كاستقبال رمضان أو الحج، أو وجود مناسبة تاريخية معينة، أو حدوث حادث يتطلب التعليق عليه والتوعية بشأنه، فضلاً عن بعض الموضوعات الأخرى التي يناسب طرحها في مثل هذا المجال.

ولذلك رأيتُ أن يبقى موضوع هذا الدرس عاماً، من ناحية عدم تقييده بفن معين، بل قد أتحدث - أحياناً - عن كتاب من الكتب له أهمية، أو نقد له، أو أتحدث عن ترجمة لبعض رجالات الإسلام الكبار، وبعض الدروس والعبر والفوائد من حياته.. إلى غير ذلك؛ بحيث لا يكون هناك حدود أو قيود في هذا الموضوع.

هذا من جهة موضوع الدرس، فلن يكون له موضوع خاص، بل سيكون لكل ليلة موضوع خاص، وقد يستدعي الأمر -أحياناً- أن أتحدث ليلتين أو أكثر، على مدى أسبوعين أو أكثر في موضوع واحد؛ لأنه موضوع طويل، ولا يمكن استقصاؤه واستيعابه في درس واحد أو جلسة واحدة، كما هو الحال -تقريباً- بالنسبة لدرس هذه الليلة، فسيتضح لكم أنني لا أستطيع أن أستغرق كل ما ينبغي أن يقال في هذا الموضوع في هذه الأمسية الواحدة.

إذاً: هو درس علمي عام، وسأحرص -إن شاء الله- على أن يكون تناول الموضوع الذي أريد الحديث عنه -قدر الإمكان- مُيَسراً مُسَهلاً قريباً، يمكن أن يفهمه أي إنسان، بمعنى: ألاَّ يكون هذا الدرس خاصاً بطلاب العلم، كما هو الحال في درس (بلوغ المرام) بل أن يكون الدرس درساً للكافة، مِن الكبار والصغار، والمتعلمين وغير المتعلمين، ومِن الرجال والنساء أيضاًً، ولذلك -إن شاء الله- سيتم إيجاد وترتيب مكان مخصص للنساء، إن لم يكن موجوداً فعلاً الآن، هذا ما يتعلق بموضوع الدرس.

أما وقته فقد علمتموه جميعاً، فسينعقد بصفة دورية أسبوعية -إن شاء الله- في كل أسبوع، في مساء الأحد، ليلة الإثنين، بعد صلاة المغرب، في هذا المكان، في الجامع الكبير بـبريدة.

أما فيما يتعلق بـما بين الأذان والإقامة، فسيكون مخصصاً للإجابة على الأسئلة غالباً، باستثناء هذا الليلة؛ لعدم ترتيب مسبق في هذا، وإلاَّ فسيكون هناك ورق تُوَزَّع على الإخوة الحضور أو على من أراد؛ لكتابة الأسئلة، على أن تكون الأسئلة متعلقة بالدرجة الأولى بالموضوع، لا مانع من الأسئلة المهمة وإن لم تكن في الموضوع، لكن في الدرجة الأولى: بالموضوع؛ لأننا سنتناول -كما ذكرتُ- موضوعات كثيرة، فيستحسن أن تكون الأسئلة فرصة لاستكمال الجوانب التي قد لا أكون تطرقت إليها أثناء الحديث.

هذه مقدمة تتعلق بفكرة هذا الدرس وطبيعته وطريقته، ولا أستغني عن جهودكم في هذا المجال؛ لأن هذا الدرس عام -كما ذكرتُ لكم- فمثلاً: حين يوجد في المجتمع ظاهرة معينة تحتاج إلى الحديث عنها، قد لا أستطيع أن أدرك هذه الظاهرة؛ لأنني - أحياناً - أكون بعيداً عنها، لكن منكم من يدركها، ويحس أنها موضوع يستحق الحديث، فلا مانع من الاقتراح في هذا المجال، بل هو مطلوب.

موضوع هذا الليلة هو: الحديث عن (الرؤى والأحلام).

ولا بد أن يسأل سائل: لماذا تبدأ بهذا الموضوع، موضوع الرؤى والأحلام؟

فأقول:

أولاً: ليس البدء بهذا الموضوع مقصـوداً أن نبدأ به دون غيره، كلا! بل من منهج هذا الدرس ألا يلـتزم -كما ذكرتُ- بترتيب معين، بل ينتقل من موضوع إلى موضوع، ولو كانا متباعدَين؛ لدفع الملل والسآمة عن نفوس الإخوة الحضور والمستمعين عموماً.

ثانياً: أما الحديث عن الرؤى والأحلام، فهو ضروري لأسباب أشير إليها:

الغلو في الرؤى أو الجفاء عنها

أولاً: ما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: أنه كان يقول في عهده، وقد شُكِي إليه بعض الانحراف في أمور معينة، فقال: "هذا الزمان قَلَّمَا تجد فيه شيئاً مستقيماً".

أكثر الأشياء مُعْوَجَّة، وإذا كان هذا في عصر الإمام أحمد، فما بالك في عصرنا هذا؟!

فكل شيء في عصرنا هذا يكاد أن يكون وقع فيه اعوجاج عظيم، ويحتاج إلى تقويم، ففي موضوع الرؤيا -مثلاً- تجد هناك مَن غلا في تقييم الرؤيا ورَفَعَها عن مكانتها، حتى أصبحتَ تجد مَن يَعْتَبر الرؤيا تشريعاً أو ينقص بها شرع الله عز وجل، فقد يحلل الحرام أو يحرم الحلال؛ بناءً على رؤيا رآها، وقد يدَّعي بعضهم عِلْمَ الغيوب التي تفرد الله تعالى بعلمها، والتي لم يطّلع عليها أحداً، بسبب أنه رأى رؤيا أو رئيت له رؤيا، وطالما افتتن الناس -مثلاً- بأن فلاناً رأى أن الساعة تقوم بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة، مجرد رؤيا في المنام، تخدع كثيراً من سذج الناس ودهمائهم، مع أنها مناقضة لصريح القرآن الكريم، قال الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان:34] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15] يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات:42-45] ومع ذلك فكثيراً ما ينخدع الناس بهذا، وقد تنشره الصحف أحياناً، ويغتر به بعض المسلمين.

وفي مقابل هؤلاء الذين يعظمون شأن الرؤيا، ويعتبرونها -أحياناً- تشريعاً؛ تجد هناك من يستهينون بالرؤيا ويفرطون في شأنها، حتى أنهم لا يرونها شيئاً، يقللون من قيمتها، بل لا يرون لها قيمة البتة، ويرون أن جميع ما يُتَحَدَّثُ عنه من الرؤى، إنما هو كلام عجائز، وخرافات وأساطير وما أشبه ذلك!

وهذا هو الآخر انحراف في الطرف الثاني، وهو أقرب ما يكون إلى نظرات الماديين في هذا العصر، الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس، ولذلك ينكرون الغيب، وما يتعلق به من الأمور.

ارتباط الرؤى بواقع الناس

ثانياً: أننا نجد أن الرؤيا مرتبطة بواقع الناس، فكثيراً ما يتحدث الناس عن الرؤى والأحلام وخاصةً النساء، وغيرهن على سبيل العموم، كثيراً ما يتحدثون عن الرؤى والأحلام، يقال: رأيت فيما يرى النائم، ورأت فلانة، ورأى فلان، وما أشبه ذلك.

وعلى سبيل المثال أيضاً: عندما تسمع من بعض المشايخ الذين يسألهم الناس عن أمور دينهم، تجد أن كثيراً من السائلين يسألون عن الأحلام -أحياناً- أكثر مما يسألون عن الحلال والحرام، كثيراً ما يسأل الإنسان عن رؤيا رآها لنفسه، أو لأبيه الذي مات منذ كذا أو أمه التي ماتت منذ كذا، أو قريبه، لكن ربما هذا الإنسان نفسه لا يسأل -أحياناً- عن أمر من أمور الدين الذي يخصه ويتعلق به، وقد يكون بعض ما يسأل عنه من الرؤى والأحلام أضغاث أحلام لا قيمة لها.

وأذكر أن كثيراً من المغرضين يستغلون ناحية اشتغال الناس بالرؤيا، فينشرون -أحياناً- رؤى باطلة، ولعلكم جميعاً تذكرون الورقة التي وُزِّعت منذ سنين عما يسمى بـ(رؤيا الشيخ أحمد) خادم الكعبة، كما سُمِّيَ في الورقة، وفيها تهاويل وخرافات ومبالغات وأساطير ما أنـزل الله بها من سلطان، وفي نفس الورقة طُلِبَ أن تُكْتَبَ هذه الرؤيا وتوزع، وأن من استهان بها أو أحرقها أو أتلفها فإنه يتعرض للعقوبة العاجلة والآجلة، وهذه الرؤيا كَتَبَ فيها سماحةُ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة بعنوان: تنبيه هام على كذب الوصية المنسوبة إلى الشيخ أحمد، ووزع الكتاب كثيراً ومراراً، ومع ذلك فإن هذه الوصية نفسها تثور بين حين وآخر، وتنتشر عند الخاصة والعامة، وأخص: أوساط النساء في كثير من الأحيان.

وقبل فترة ليست بالبعيدة في أواخر الفصل الأول؛ اتصل بي مجموعة غير قليلة من الطالبات، يسألن عن رؤيا يزعمن أنها وُجِدَت، فيقلن: إن إحدى الفتيات كانت مريضة أو شيئاً من هذا القبيل، ورأت في المنام إحدى أمهات المؤمنين، فقالت: إنها مَسَحَتْ عليها، فشُفِيَتْ بإذن الله، ثم قالت لها: اكتبي هذه القصة في ورقة (13) مَرَّة، وأبلغي الناس أن يكتبوها (13) مَرَّة، ومن كتبها فإنه يكون له الأجر والثواب في الدنيا والآخرة، ومن استهان بها فإنه يُعاقَب.

وانتشرت هذا الأسطورة في أنحاء البلاد، وبدأ بعض النساء يَكْتُبْنَها، خوفاً من العقوبة الدنيوية، أو خوفاً من العقوبة الأخروية، مع أنها أسطورة مكذوبة مختلقة لا أصل لها.

ونحن لا نشك في أن هذا الأمر مكذوب لأسباب عديدة، سبق أن بينتها في بعض المناسبات، منها على سبيل المثال: إن هذه الرؤيا لا يتعلق بها تشريع ولا حلال ولا حرام، بمعنى: أنه ليس فيها حكم شرعي، حتى يلزم الناس أن يطلعوا عليها ويعرفوها ويكتبوها، فمن أنكر هذه الرؤيا وكذبها، فكيف نقول: إنه آثم أو يتعرض لعقوبة؟!

التشريع من عند الله تعالى، والله تعالى أنـزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] فقد كَمُلَ الدين، وتمت النعمة، فلم يعد الدين بحاجة إلى من يكمله، بمعنى: أن بعد وفاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- لن يَجِدَّ أمرٌ من الأمور يصبح بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- مطلوباً من الناس، أو يصبح بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- منهياً عنه، المنهيُّ عنه عُلِم والمطلوبُ عُلِم، ولم يعد هناك مجال للزيادة أو النقص في الدين.

كما أننا نعلم أن هذه القصة مسلسلة بالمجهولين والكذابين، فمن التي رأت هذه القصة؟

ومن الذي روى عنها وأسند عنها هذا الخبر؟

لا شك أنهم أناس أو نساء مجهولات لا نعرف مَن هُن!

ثم لنفترض أن هؤلاء النساء نساء موثوقات ودينات وصينات وعابدات و... و... إلخ، فكيف يروِين مثل هذا الأمر الذي لو فُرِضَ أنه صحيح ورأته واحدة في المنام؛ لكنا نجزم ونقطع بأنه من لَعِبِ الشيطانِ على الإنسان؟

لأن الشيطان قد يأتي للإنسان في المنام فيلعب به ويخادعه، فإذا حدث مثل هذا، فكان الأجدر بالإنسان أن يكتم هذا الأمر ولا يُخبر بِلَعِب وعَبثِ الشيطان به في منامه، أما أن يعلنه على الناس ويبينه ويضـحك به على السذج، فهـذا -لا شك- أنه لا يجوز.

وأخيراً: أقول في شأن هذه الرؤيا: كونها تطلب أن تُكتب هذه الرؤيا وتُنْشر، وتزعم أن رجلاً كتَبَها فحصل له سعادة ومال وتوفيق، وآخر مزقها ففصل من وظيفته، وثالث أصابه حادث، ورابع تلف ماله بسبب تمزيقها، نسأل: هذه الرؤيا هل تُكْتب على أنها أمر من الأمور الدينية، أم تُكْتب على أنها أمر من الأمور الدنيوية؟

إن كانت ستكتب على أنها دين، فلا شك أن هذا باطل؛ لأن تعالى يقول في محكم التنـزيل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16] فالإنسان لو صلَّى -مثلاً- أو صام أو حج يريد الدنيا؛ لكان صومه وصلاته وحجه من الأشياء التي يُعاقَب عليها في الآخرة، وإن كانت عبادات في الأصل، لكنه أراد بها الدنيا قال الله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [هود:15] وكذلك يقول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7].

إذاً: أنت لو صليتَ -مثلاً والصلاة مشروعة كما هو معلوم- تريد الدنيا، وتريد مدح الناس أو ثناءهم، أو أن يزوجوك، أو أن تحصل على وظيفة من المصلين، لكانت صلاتك وبالاً عليك، وتعذب بها يوم القيامة، وهي عبادة في الأصل، لكن نيتك فيها سيئة، فكيف حين يفعل الإنسان أمراً ليس مشروعاً بنية تحصيل الدنيا؟ هذا لا يكون.

والأسباب في الوصول إلى الأمور الدنيوية معروفة، فالإنسان -مثلاً- إذا أراد حفظ صحته -بعد توفيق الله- يعمل بالأسباب، مثل: تجنب الإكثار من الطعام والشراب أو الإقلال منه، أو التعرض -مثلاً- للبرد الشديد، أو الحر الشديد، أو غير ذلك من الأسباب التي تجلب لـه -بعد إرادة الله تعالى- المرض.

فأسباب تحصيل الأمور الدنيوية معروفة، وأسباب تحصيل الأمور الدينية أيضاً معروفة، فهذه الرؤيا ليست من أسباب تحصيل أمور الدنيا، وليست من أسباب تحصيل أمور الدين، وبذلك ثبت أنها باطلة، وأنه يجب التحذير منها، وأن ينتبه لذلك أولياء الأمور، فينبهوا من يطلعون عليه إلى مثل هذا السخف ومثل هذا الهراء.

إذاً: كثيراً ما يشتغل الناس بالرؤى والأحلام، وكثيراً ما تؤثر في حياتهم، وتجعل بعضَهم يتصرفون تصرفات منافية للشرع.

بيان شمولية الإسلام

الأمر الثالث الذي يدعو إلى الحديث في موضوع الرؤيا هو: أن نبين أن للإسلام بياناً وتفصيلاً في كل أمر من الأمور، كما قال الله عز وجل: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12] وقال أيضاً: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] ولذلك جاء في الصحيح: {أن رجلاً من اليهود أو من المشركين قال لـسلمان الفارسي رضي الله عنه: هل علمكم نبيكم كل شيء، حتى الخراءة؟ -يعني: آداب قضاء الحاجة- قال: أجل! أمرنا ألا نستقبل القبلة بغائط ولا بول، وألا نستنجي برجيع ولا عظم، وألا نستنجي بأقل من ثلاث أحجار}.

فلم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين لأمته البيان الشافي الشامل الكامل في كل أمر من الأمور، دقيقها وجليلها، ومن ذلك: أمر الرؤيا، فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أتم بيان، وهذا الهدي النبوي الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم يقف في مقابلة كلام المنحرفين الذين لم يستنيروا بنور النبوة، فأنت تجد في موضوع الرؤيا -مثلاً- هناك للأطباء في الرؤيا كلام، وللفلاسفة أيضاً كلام، ولعلماء النفس في العصر الحاضر في الرؤيا كلام، حتى أن فرويد، وهو صاحب مدرسة التحليل النفسي -كما يسمونها- لـه نظرية متكاملة في الأحلام، وسيأتي الإشارة إلى بعض الطرائف المضحكة في شأن هؤلاء بعد قليل إن شاء الله.

إذاً: نحن نبين للناس هدي الإسلام وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ في مقابل ما يُشاع على ألسنة الكثيرين من انحرافات الجاهلية، ولوثات المادية، ومع الأسف الشديد لم يعد الكلام في الرؤيا -الذي يقوله أعداء الإسلام- سراً، فقبل أسابيع كنت أستمع إلى أحد البرامج، فإذا به يتحدث عن الرؤى والأحلام، ويذكر نظريات غربية مادية في شأن الرؤيا، ويعتبر أنها من أحدث ما توصل إليه العلم، وأنها أمور طريفة، مع أن المسلم الواعي لا يملك إلا أن يضحك منها، ويحمد الله على نعمة العقل والإسلام.

وعلى أي حال فإن منهج الإسلام في موضوع الرؤيا هو منهج الاعتدال، لا إفراط ولا تفريط، ليست الرؤيا وحياً ولا تشريعاً، كما أن الرؤيا ليست عبثاً ولا تخليطاً، بل منها الحق ومنها الباطل، كما سيظهر.

أولاً: ما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: أنه كان يقول في عهده، وقد شُكِي إليه بعض الانحراف في أمور معينة، فقال: "هذا الزمان قَلَّمَا تجد فيه شيئاً مستقيماً".

أكثر الأشياء مُعْوَجَّة، وإذا كان هذا في عصر الإمام أحمد، فما بالك في عصرنا هذا؟!

فكل شيء في عصرنا هذا يكاد أن يكون وقع فيه اعوجاج عظيم، ويحتاج إلى تقويم، ففي موضوع الرؤيا -مثلاً- تجد هناك مَن غلا في تقييم الرؤيا ورَفَعَها عن مكانتها، حتى أصبحتَ تجد مَن يَعْتَبر الرؤيا تشريعاً أو ينقص بها شرع الله عز وجل، فقد يحلل الحرام أو يحرم الحلال؛ بناءً على رؤيا رآها، وقد يدَّعي بعضهم عِلْمَ الغيوب التي تفرد الله تعالى بعلمها، والتي لم يطّلع عليها أحداً، بسبب أنه رأى رؤيا أو رئيت له رؤيا، وطالما افتتن الناس -مثلاً- بأن فلاناً رأى أن الساعة تقوم بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة، مجرد رؤيا في المنام، تخدع كثيراً من سذج الناس ودهمائهم، مع أنها مناقضة لصريح القرآن الكريم، قال الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان:34] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15] يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات:42-45] ومع ذلك فكثيراً ما ينخدع الناس بهذا، وقد تنشره الصحف أحياناً، ويغتر به بعض المسلمين.

وفي مقابل هؤلاء الذين يعظمون شأن الرؤيا، ويعتبرونها -أحياناً- تشريعاً؛ تجد هناك من يستهينون بالرؤيا ويفرطون في شأنها، حتى أنهم لا يرونها شيئاً، يقللون من قيمتها، بل لا يرون لها قيمة البتة، ويرون أن جميع ما يُتَحَدَّثُ عنه من الرؤى، إنما هو كلام عجائز، وخرافات وأساطير وما أشبه ذلك!

وهذا هو الآخر انحراف في الطرف الثاني، وهو أقرب ما يكون إلى نظرات الماديين في هذا العصر، الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس، ولذلك ينكرون الغيب، وما يتعلق به من الأمور.

ثانياً: أننا نجد أن الرؤيا مرتبطة بواقع الناس، فكثيراً ما يتحدث الناس عن الرؤى والأحلام وخاصةً النساء، وغيرهن على سبيل العموم، كثيراً ما يتحدثون عن الرؤى والأحلام، يقال: رأيت فيما يرى النائم، ورأت فلانة، ورأى فلان، وما أشبه ذلك.

وعلى سبيل المثال أيضاً: عندما تسمع من بعض المشايخ الذين يسألهم الناس عن أمور دينهم، تجد أن كثيراً من السائلين يسألون عن الأحلام -أحياناً- أكثر مما يسألون عن الحلال والحرام، كثيراً ما يسأل الإنسان عن رؤيا رآها لنفسه، أو لأبيه الذي مات منذ كذا أو أمه التي ماتت منذ كذا، أو قريبه، لكن ربما هذا الإنسان نفسه لا يسأل -أحياناً- عن أمر من أمور الدين الذي يخصه ويتعلق به، وقد يكون بعض ما يسأل عنه من الرؤى والأحلام أضغاث أحلام لا قيمة لها.

وأذكر أن كثيراً من المغرضين يستغلون ناحية اشتغال الناس بالرؤيا، فينشرون -أحياناً- رؤى باطلة، ولعلكم جميعاً تذكرون الورقة التي وُزِّعت منذ سنين عما يسمى بـ(رؤيا الشيخ أحمد) خادم الكعبة، كما سُمِّيَ في الورقة، وفيها تهاويل وخرافات ومبالغات وأساطير ما أنـزل الله بها من سلطان، وفي نفس الورقة طُلِبَ أن تُكْتَبَ هذه الرؤيا وتوزع، وأن من استهان بها أو أحرقها أو أتلفها فإنه يتعرض للعقوبة العاجلة والآجلة، وهذه الرؤيا كَتَبَ فيها سماحةُ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة بعنوان: تنبيه هام على كذب الوصية المنسوبة إلى الشيخ أحمد، ووزع الكتاب كثيراً ومراراً، ومع ذلك فإن هذه الوصية نفسها تثور بين حين وآخر، وتنتشر عند الخاصة والعامة، وأخص: أوساط النساء في كثير من الأحيان.

وقبل فترة ليست بالبعيدة في أواخر الفصل الأول؛ اتصل بي مجموعة غير قليلة من الطالبات، يسألن عن رؤيا يزعمن أنها وُجِدَت، فيقلن: إن إحدى الفتيات كانت مريضة أو شيئاً من هذا القبيل، ورأت في المنام إحدى أمهات المؤمنين، فقالت: إنها مَسَحَتْ عليها، فشُفِيَتْ بإذن الله، ثم قالت لها: اكتبي هذه القصة في ورقة (13) مَرَّة، وأبلغي الناس أن يكتبوها (13) مَرَّة، ومن كتبها فإنه يكون له الأجر والثواب في الدنيا والآخرة، ومن استهان بها فإنه يُعاقَب.

وانتشرت هذا الأسطورة في أنحاء البلاد، وبدأ بعض النساء يَكْتُبْنَها، خوفاً من العقوبة الدنيوية، أو خوفاً من العقوبة الأخروية، مع أنها أسطورة مكذوبة مختلقة لا أصل لها.

ونحن لا نشك في أن هذا الأمر مكذوب لأسباب عديدة، سبق أن بينتها في بعض المناسبات، منها على سبيل المثال: إن هذه الرؤيا لا يتعلق بها تشريع ولا حلال ولا حرام، بمعنى: أنه ليس فيها حكم شرعي، حتى يلزم الناس أن يطلعوا عليها ويعرفوها ويكتبوها، فمن أنكر هذه الرؤيا وكذبها، فكيف نقول: إنه آثم أو يتعرض لعقوبة؟!

التشريع من عند الله تعالى، والله تعالى أنـزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] فقد كَمُلَ الدين، وتمت النعمة، فلم يعد الدين بحاجة إلى من يكمله، بمعنى: أن بعد وفاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- لن يَجِدَّ أمرٌ من الأمور يصبح بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- مطلوباً من الناس، أو يصبح بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- منهياً عنه، المنهيُّ عنه عُلِم والمطلوبُ عُلِم، ولم يعد هناك مجال للزيادة أو النقص في الدين.

كما أننا نعلم أن هذه القصة مسلسلة بالمجهولين والكذابين، فمن التي رأت هذه القصة؟

ومن الذي روى عنها وأسند عنها هذا الخبر؟

لا شك أنهم أناس أو نساء مجهولات لا نعرف مَن هُن!

ثم لنفترض أن هؤلاء النساء نساء موثوقات ودينات وصينات وعابدات و... و... إلخ، فكيف يروِين مثل هذا الأمر الذي لو فُرِضَ أنه صحيح ورأته واحدة في المنام؛ لكنا نجزم ونقطع بأنه من لَعِبِ الشيطانِ على الإنسان؟

لأن الشيطان قد يأتي للإنسان في المنام فيلعب به ويخادعه، فإذا حدث مثل هذا، فكان الأجدر بالإنسان أن يكتم هذا الأمر ولا يُخبر بِلَعِب وعَبثِ الشيطان به في منامه، أما أن يعلنه على الناس ويبينه ويضـحك به على السذج، فهـذا -لا شك- أنه لا يجوز.

وأخيراً: أقول في شأن هذه الرؤيا: كونها تطلب أن تُكتب هذه الرؤيا وتُنْشر، وتزعم أن رجلاً كتَبَها فحصل له سعادة ومال وتوفيق، وآخر مزقها ففصل من وظيفته، وثالث أصابه حادث، ورابع تلف ماله بسبب تمزيقها، نسأل: هذه الرؤيا هل تُكْتب على أنها أمر من الأمور الدينية، أم تُكْتب على أنها أمر من الأمور الدنيوية؟

إن كانت ستكتب على أنها دين، فلا شك أن هذا باطل؛ لأن تعالى يقول في محكم التنـزيل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16] فالإنسان لو صلَّى -مثلاً- أو صام أو حج يريد الدنيا؛ لكان صومه وصلاته وحجه من الأشياء التي يُعاقَب عليها في الآخرة، وإن كانت عبادات في الأصل، لكنه أراد بها الدنيا قال الله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [هود:15] وكذلك يقول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7].

إذاً: أنت لو صليتَ -مثلاً والصلاة مشروعة كما هو معلوم- تريد الدنيا، وتريد مدح الناس أو ثناءهم، أو أن يزوجوك، أو أن تحصل على وظيفة من المصلين، لكانت صلاتك وبالاً عليك، وتعذب بها يوم القيامة، وهي عبادة في الأصل، لكن نيتك فيها سيئة، فكيف حين يفعل الإنسان أمراً ليس مشروعاً بنية تحصيل الدنيا؟ هذا لا يكون.

والأسباب في الوصول إلى الأمور الدنيوية معروفة، فالإنسان -مثلاً- إذا أراد حفظ صحته -بعد توفيق الله- يعمل بالأسباب، مثل: تجنب الإكثار من الطعام والشراب أو الإقلال منه، أو التعرض -مثلاً- للبرد الشديد، أو الحر الشديد، أو غير ذلك من الأسباب التي تجلب لـه -بعد إرادة الله تعالى- المرض.

فأسباب تحصيل الأمور الدنيوية معروفة، وأسباب تحصيل الأمور الدينية أيضاً معروفة، فهذه الرؤيا ليست من أسباب تحصيل أمور الدنيا، وليست من أسباب تحصيل أمور الدين، وبذلك ثبت أنها باطلة، وأنه يجب التحذير منها، وأن ينتبه لذلك أولياء الأمور، فينبهوا من يطلعون عليه إلى مثل هذا السخف ومثل هذا الهراء.

إذاً: كثيراً ما يشتغل الناس بالرؤى والأحلام، وكثيراً ما تؤثر في حياتهم، وتجعل بعضَهم يتصرفون تصرفات منافية للشرع.

الأمر الثالث الذي يدعو إلى الحديث في موضوع الرؤيا هو: أن نبين أن للإسلام بياناً وتفصيلاً في كل أمر من الأمور، كما قال الله عز وجل: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12] وقال أيضاً: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] ولذلك جاء في الصحيح: {أن رجلاً من اليهود أو من المشركين قال لـسلمان الفارسي رضي الله عنه: هل علمكم نبيكم كل شيء، حتى الخراءة؟ -يعني: آداب قضاء الحاجة- قال: أجل! أمرنا ألا نستقبل القبلة بغائط ولا بول، وألا نستنجي برجيع ولا عظم، وألا نستنجي بأقل من ثلاث أحجار}.

فلم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين لأمته البيان الشافي الشامل الكامل في كل أمر من الأمور، دقيقها وجليلها، ومن ذلك: أمر الرؤيا، فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أتم بيان، وهذا الهدي النبوي الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم يقف في مقابلة كلام المنحرفين الذين لم يستنيروا بنور النبوة، فأنت تجد في موضوع الرؤيا -مثلاً- هناك للأطباء في الرؤيا كلام، وللفلاسفة أيضاً كلام، ولعلماء النفس في العصر الحاضر في الرؤيا كلام، حتى أن فرويد، وهو صاحب مدرسة التحليل النفسي -كما يسمونها- لـه نظرية متكاملة في الأحلام، وسيأتي الإشارة إلى بعض الطرائف المضحكة في شأن هؤلاء بعد قليل إن شاء الله.

إذاً: نحن نبين للناس هدي الإسلام وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ في مقابل ما يُشاع على ألسنة الكثيرين من انحرافات الجاهلية، ولوثات المادية، ومع الأسف الشديد لم يعد الكلام في الرؤيا -الذي يقوله أعداء الإسلام- سراً، فقبل أسابيع كنت أستمع إلى أحد البرامج، فإذا به يتحدث عن الرؤى والأحلام، ويذكر نظريات غربية مادية في شأن الرؤيا، ويعتبر أنها من أحدث ما توصل إليه العلم، وأنها أمور طريفة، مع أن المسلم الواعي لا يملك إلا أن يضحك منها، ويحمد الله على نعمة العقل والإسلام.

وعلى أي حال فإن منهج الإسلام في موضوع الرؤيا هو منهج الاعتدال، لا إفراط ولا تفريط، ليست الرؤيا وحياً ولا تشريعاً، كما أن الرؤيا ليست عبثاً ولا تخليطاً، بل منها الحق ومنها الباطل، كما سيظهر.

النقطة الثانية التي سأشير إليها هي: الحديث عن معنى الرؤيا ودلالاتها.

أما معنى الرؤيا فهو ما يتخيله الإنسان ويَعْرِض له في منامه. وتُجْمَع على رؤى، ومفردها رؤيا، ويقال: أحلام، ومفردها حُلُم، وسيأتي بيان الفرق بين الرؤيا وبين الحُلُم.

وأما ما يراه الإنسان عياناً فيُسَمَّى رؤية، بالهاء، فإذا قيل: رؤيا، فمعناها: رؤيا في المنام، وأما إذا قيل: رؤيةٌ، فالمقصود رؤية بالعين المجردة، وقد تُسمى الرؤيا مناماً. هذا فيما يتعلق بتعريفها.

أما فيما يتعلق بدلالات الرؤيا، فأحب أن أشير إلى عدة نقاط، أعتبر أنها مهمة جداً.

الدلالة الأولى: أنها تدل على اهتمام صاحبها

الدلالة الأولى من دلالات الرؤيا: أنها تدل على اهتمام صاحبها.

فإذا اهتم الإنسان بشـيء فإنه كثيراً ما يراه في منامه، كما أن الواحد إذا اهتم بأمر فإنه يشغله وهو في الصـلاة أحياناً، ويشغله وهو يستمع إلى محاضرة، فكذلك يشغله هذا الأمر وهو في المنام، فيرى رؤى وأحلاماً متعلقة بهذا الأمر الذي شغله في اليقظة.

ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث سمرة بن جندب المتفق عليه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر التفت إلى أصحابه، وقال لهم: هل رأى أحد منكم رؤيا؟

فإن رأى أحدهم رؤيا قصها. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: خيرٌ لنا وشرٌّ لأعدائنا} ويؤوِّل هذه الرؤيا.

إذاً: كونه صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه: { هل رأى أحد منكم رؤيا؟ } دليلٌ على أن أولئك الرجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان هم الإسلام يشغل قلوبهم -حتى وهم يتقلبون في فرشهم- كانت قلوبهم مرتبطة بالإسلام، ولذلك انظر أيَّ لون من المرائي كانوا يرونها؟

وسأشير في نقطة قادمة إلى بعض مرائي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا بأس أن نسبق الأحداث، وأشير إشارة عابرة إلى شيء منها:

رؤيا عبد الله بن عمر -مثلاً- كما في الصحيحين يقول: {كنت أنام وأنا أتمنى أن أرى رؤيا، فرأى يوماً من الأيام أنه جاءه رجلان فأخذا بيديه، فذهبا به فوقفا به على النار، قال: وإذا بها رجال قد عرفتهم، وهي مطوية كطي البئر، ولها قرنان، فقلت: أعوذ بالله من النار. فقالا لي: لن تُرَعْ -أي: لا تخف- ثم ذهبا به إلى الجنة، وأعطياه قطعة من حرير، قال: فما أريد مكاناً إلا طارت بي إليه، ثم استيقظ، فأخبر أخته حفصة بهذه الرؤيا، فأخبرت بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: نِعْم الرجلُ عبد الله بن عمر لو كان يقوم من الليل. فكان عبد الله بن عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً} كان كثير الصلاة رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: هذا ما كان يفكر فيه ابن عمر في يقظته رضي الله عنه وأرضاه، أي: كان موضوع الجنة والنار قد شغل باله، وكان لـه حيز في قلبه وتفكيره في اليقظة، فلما نام رأى رؤيا تتناسب مع هذا الهم الذي كان يشغله في يقظته.

ومثله مرائي كثيرة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه، كما في رؤياه في معركة أحد، وكما في رؤيته صلى الله عليه وسلم لـعمر في أحوال عديدة، ومنها: أنـه صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {دخلت الجنة فوجدت فيها قصراً من ذهب، فاقتربت منه فوجدت امرأة تتوضأ، فسألتُ: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـعمر قال: فأردتُ أن أدخل، ثم ذكرتُ غَيْرَتك فولَّيتُ مدبراً، قال أبو هريرة: فبكى عمر رضي الله عنه وقال: أوَ عليك أغار يا رسول الله!}

وقل مثل ذلك في مرائي كثيرة رآها النبي عليه الصلاة والسلام، أو رآها أصحابه الكرام، أو رآها الصالحون، وسوف أشير إليها -إن لم يمكن في هذه الحلقة- ففي الأسبوع القادم الذي وعدتكم بأننا سوف نكمل فيه الحديث عن هذا الموضوع.

المهم أن الرؤيا أولاً: تدل على اهتمام الرائي بأمر من الأمور، فإذا كان الإنسان مشتغلاً بقضية الإسلام والإيمان، فإنه -غالباً- يرى أموراً تتعلق بهذا الموضوع.

وقُل مثل ذلك فيمن يكون مشغولاً بغير هذا، مَن يكون مشغولاً بالدنيا أو بالدراسة، أو بأي أمر من الأمور، غالباً ما يرى ما يتناسب مع اهتمامه.

دلالتها على العجز وعدم التمكن

الدلالة الثانية من دلالات الرؤيا: هي أنها تدل على نوع من العجز وعدم التمكن.

كيف ذلك؟

الإنسان - أحياناً - تُغْلَق أمامَه الأبواب في أمر من الأمور، والوسائل التي يستطيعها بذلها، ثم فوض الأمر بعد ذلك إلى الله، والإنسان بطبيعته ضعيف وعاجز، وهذا من حكمة الله تعالى، ومن علامات النبوة -أيضاً- أن الرؤيا تدل على العجز في الإنسان.

ولذلك تجد -مثلاً- أن السجين كثيراً ما يرى الرؤيا. لأن السجين أُغْلِقَت أمامَه الأبواب، فهو عاجز لا يستطيع أن يصنع شيئاً، ولذلك غالب بضاعته تتعلق بالرؤيا، وفي القرآن الكريم في سورة يوسف، ذكر الله تعالى ضمن القصة مرائي عدد من المساجين الذين ذكروا ليوسف عليه السلام مرائيهم: قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36].

وكثيراً ما يرى المسجونون الأحلام ويتحدثون بها، وأذكر شاعراً كان يقول وهو في السجن، يصف حاله:

خرجنا من الدنيا ولسنا من أهلها     ولسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السَّجَّان يوماً لحاجة     عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

ونفرح بالرؤيا فجُلُّ حديثِنا     إذا نحن أصبحنا الحديثُ عن الرؤيا

فهي تدل على نوع من العجز، ولعلي أستشهد في هذا بالحديث الذي صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه مسلم وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا تقارب الزمان لم تَكَدْ رؤيا المؤمن تكذب}.

والمقصود بذلك: أنه في آخر الدنيا، وقبل قيام الساعة، يغلب على رؤيا المؤمن الصدق، حتى لا تكاد تكذب، ولا تكاد تخلف، ولعل من الحِكَم -والله تعالى أعلم- أن المؤمن في آخر الزمان ضعيف مستضعف؛ لأن الإيمان قَلَّ ونَدُرَ أهله، وكَثُر الشرك والفساد والضلال والانحراف والمنكر، فأصبح المؤمن يعتصر قلبه من الأسى والحزن، ثم لا يجد طريقة ينصر فيها الإسلام، ويأمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر، ويدعو الناس إلى الخير، وحينئذ -مع شدة اهتمامه بقضيته- ينفس الله تبارك وتعالى عن هذا المؤمن بهذه الرؤيا، التي يكون فيها الأنس والسرور والتثبيت والتبشير لهذا المؤمن.

التطلع إلى المجهول المغيب

الدلالة الثالثة من دلالات الرؤيا: أن في الرؤيا تطلعا إلى المجهول المغيب عن الإنسان.

ومن حِكمة الله تعالى أنه غيَّب عن الإنسان أشياءَ كثيرة، عالَم الغيب محجوبٌ عن الإنسان، فالإنسان بطبيعته يتطلَّع إلى المغيَّب عنه، فإن كان مؤمناً فإنه يتطلع بطريقة، وإن كان غير مؤمن فإنه يتطلع بطريقة أخرى.

خُذ على سبيل المثال: كثيرٌ من الناس يتجهون إلى التعرف على المحجوب عنهم عن طريق الخط في الرمل، والضرب بالحصى، وإتيان الكهان والعرافين والمنجِّمين وغيرهم، الذين يدَّعون علم الغيوب، فيقولون للناس: سيحدث كذا وكذا، وكذا، وهذا من وحي الشياطين إليهم.

ومثله الخط في الرمل والضرب بالحصى وغيرها. فبعض الشباب -مثلاً- إذا أهمه أمر وأراد أن يعرف نتيجته؛ يسلك طريقة هي طريقة الخط في الرمل؛ لأنهم يهتمون بأمور دنيوية؛ فإن الواحد منهم إذا اهتم بموضوع الرياضة، فالرياضة أصبحت هماً مقلقاً لكثير من الشباب، فهو يهتم لقضية من يفوز في مباراة رياضية، لكن لا يهتم بقضية الإسلام، وقضية انتصار الإسلام، وقضية التنصير الذي يجتاح المسلمين، وقضية احتلال اليهود لبلاد الإسلام، والشيوعيين، والنصارى، هذه قد لا تهمه.

يهمه أن فريق كذا انتصر على كذا، فإذا أُعْلِنَ عن مباراة حاوَلَ أن يتعرَّفَ على نتيجة المباراة قبل حصولها، كيف؟

يخط خطوطاً في السبورة أو في الأرض مثلاً هذا يفعله بعض الشباب، يضاهِئون به فِعْل أهل الجاهلية، ويَتْبَعُون به وحيَ الشياطين، فيخطون خطوطاً عشوائية، فيقولون: إن كانت الخطوط فردية، فالنصر حليف فلان، وإن كانت الخطوط زوجية؛ فالنصر حليف فلان، ثم بعدما ينتهون من التخطيط العشوائي يبدءون في العد، فإذا كان فردياً قالوا: المنتصر فلان، وإن كان زوجياً قالوا: المنتصر فلان.

إذاً: يتعرف الإنسان غير المؤمن أو ضعيف الإيمان، الذي يَتَّبِع الشيطانَ في كثيرٍ من أموره، يتعرف أو يحاول أن يتعرف على ما حُجِب عنه عن طريق الوسائل المحرمة.

ولعلكم تشاهدون ما يُكْتَب في المجلات والصحف اليوم، وهي تباع في أسواقنا مع الأسف الشديد: حظك هذا الأسبوع، أو ما أشبه ذلك، ويضعون بروجاً معينة، فإذا كنتَ من مواليد برج الثور، أو مواليد برج الحوت، فإنه في هذا اليوم سوف يحصل لك أزمة عاطفية، أو يحصل لك أمور تجارية، ومكاسب تجارية، أو صفقة مربحة، أو يحصل لك كذا وكذا.

ومع الأسف أن المسلمين يشترون هذه الأشياء بأموالهم، ويتعاطونها فيما بينهم، وينسون هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي حذَّر من الكهان والعرافين والمنجمين، وبيَّن أن من صدقهم فإنه كافر بما أنـزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتاهم ولو لم يصدقهم؛ فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، صح ذلك عنه عليه الصلاة والسلام.

هذا شأن غير المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، يتعرفون على المحجوب عنهم بهذه الطريقة.

أما المهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يُفْتَح لـه روزنة إلى ما حُجِب عنه -إلى المجهول- عن طريق الرؤيا وما أشبهها، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لم يَبْقَ من النبوة إلا المبشرات. قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟

قال: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل، أو تُرى له} وإنما عدَّها النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة؛ لأن هذه المبشرات فيها إشعار للمؤمن بأمر خير سيقع، فيكون فيها تبشير له بما سيقع من هذا الخير، وقد يكون فيها تحذير المسلم من شر سيقع؛ ليأخذ أُهْبَتَه واستعداده لـه، فتكون محذرات، وإنما سماها مبشرات على سبيل التغليب، ولأنها بالنسبة إلى غيره تعتبر خيراً له.

فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن هذه الرؤى من المبشرات، كما أنه عليه الصلاة والسلام قال في الحديث المتفق عليه أيضاً: {الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وفي لفظ: {الرؤيا الصالحة جزءٌ من سبعين جزءاً من النبوة}.

وقد أطال أهل العلم في الكلام على معنى كون الرؤيا من النبوة، بما لا أرى ما يدعو إلى الحديث عنه الآن والإطالة في شأنه، لكن من الأشياء المشهورة في هذا الباب: ما ذكره الإمام ابن القيم، وذكره قبله جماعة من العلماء: أن معنى كونها جزءاً من (46) جزءاً من النبوة: أن الرؤيا الصالحة في أول النبوة، مكثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم مكث ثلاثاً وعشرين سنة نبياً رسولاً عليه الصلاة والسلام فستة أشهر إلى ثلاث وعشرين سنة هي جزء من ستة وأربعين جزءاً.

وهذا التفسير عليه بعض الاعتراضات والمآخذ، التي من أهمها: إن الحديث جاء في سياق بيان البشارة للمؤمنين بالرؤيا، وعلى هذا التفسير تكون خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم على أي حال هذا أحد الأقوال في الحديث.

والأقرب والأظهر عندي -والله تعالى أعلم- أن مقصود الحديث: أن الرؤيا فيها إشعار للمؤمن بخير سيقع ليغتنمه، أو بشر سيقع ليجتنبه ويحذر منه ويتخذ أُهبته واستعداده، فهي من هذا الوجه جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة؛ لأن فيها إخباراً لهذا المؤمن بأمر غيب لم يقع، وإن كان لا يمكن الجزم والقطع بهذه الرؤيا إلا إذا وقعت؛ لأنه قد يخطئ الذي عبَّرها، وقد تكون على خلاف ما ظن أو على خلاف ما توقع.

المقصود: أن المؤمن فتح الله تعالى لـه هذا الرَّوْزَنَة، لمعرفة بعض الأحداث والأشياء التي وقعت أو ستقع أيضاً، كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام علَّم المؤمنين موضوع الاستخارة في الأمور المستقبلية، كما في صحيح البخاري من حديث جابر: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه باسمه- خير لي في ديني ودنياي، وعاجل أمري وآجله، ومعاشي ومعادي فاقْدِرْه لي ويسره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به} في مقابل أن أهل الجاهلية كانوا يستقسمون بالأزلام -مثلاً- لمعرفة الأحسن من الأمور في ظنهم، وأهل هذا الزمان لهم طرق -أيضاً- تناسبهم في معرفة الأنسب من الأمور، وفعلها أو تركها، مثلما يقولون: قراءة الكف، أو غير ذلك من الوسائل الجاهلية، ففي الإسلام بدل وعوض عن كل أمر يطمح ويتطلع إليه الناس.

التثبيت للمؤمنين

الدلالة الرابعة من دلالات الرؤيا: أنها تثبت من الله عز وجل للمؤمنين، ولهذا -أيضاً- سبق أن في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب؛ لأن المؤمن أشد ما يكون حاجة إلى تثبيت الله تعالى له في مثل ذلك العصر الذي قَلَّ فيه المساعدون، وكثر فيه المخالفون والمناوئون.

الدلالة على نوع من الفراغ

الدلالة الخامسة من دلالات الرؤيا والانشغال بها: أنها تدل على نوع من الفراغ.

فإن كون المجتمعات فارغة من الأمور الجادة يجعلها تتجه إلى الحديث عن الأحلام، ولذلك أسلفت لكم قبل قليل، أن في هذا العصر كثر الحديث عن رؤى ومنامات باطلة ومخالفة للشرع، لماذا؟

لأن الناس عندهم فراغ، ليس لديهم علم شرعي صحيح، وليس لديهم أعمال إسلامية ودينية نافعة، فيشتغلون بهذه الأمور التي لا قيمة لها، ومثل ما تسمعونه وتقرءونه في الكتب عن منامات الصوفية وأحلامهم وأباطيلهم، التي يزعمون أنهم رأوها على فُرُشِهِم، لهذا السبب نفسه، كما أنها تكون في النساء أكثر منها في الرجال، للسبب نفسه أيضاً.

الدلالة الأولى من دلالات الرؤيا: أنها تدل على اهتمام صاحبها.

فإذا اهتم الإنسان بشـيء فإنه كثيراً ما يراه في منامه، كما أن الواحد إذا اهتم بأمر فإنه يشغله وهو في الصـلاة أحياناً، ويشغله وهو يستمع إلى محاضرة، فكذلك يشغله هذا الأمر وهو في المنام، فيرى رؤى وأحلاماً متعلقة بهذا الأمر الذي شغله في اليقظة.

ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث سمرة بن جندب المتفق عليه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر التفت إلى أصحابه، وقال لهم: هل رأى أحد منكم رؤيا؟

فإن رأى أحدهم رؤيا قصها. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: خيرٌ لنا وشرٌّ لأعدائنا} ويؤوِّل هذه الرؤيا.

إذاً: كونه صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه: { هل رأى أحد منكم رؤيا؟ } دليلٌ على أن أولئك الرجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان هم الإسلام يشغل قلوبهم -حتى وهم يتقلبون في فرشهم- كانت قلوبهم مرتبطة بالإسلام، ولذلك انظر أيَّ لون من المرائي كانوا يرونها؟

وسأشير في نقطة قادمة إلى بعض مرائي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا بأس أن نسبق الأحداث، وأشير إشارة عابرة إلى شيء منها:

رؤيا عبد الله بن عمر -مثلاً- كما في الصحيحين يقول: {كنت أنام وأنا أتمنى أن أرى رؤيا، فرأى يوماً من الأيام أنه جاءه رجلان فأخذا بيديه، فذهبا به فوقفا به على النار، قال: وإذا بها رجال قد عرفتهم، وهي مطوية كطي البئر، ولها قرنان، فقلت: أعوذ بالله من النار. فقالا لي: لن تُرَعْ -أي: لا تخف- ثم ذهبا به إلى الجنة، وأعطياه قطعة من حرير، قال: فما أريد مكاناً إلا طارت بي إليه، ثم استيقظ، فأخبر أخته حفصة بهذه الرؤيا، فأخبرت بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: نِعْم الرجلُ عبد الله بن عمر لو كان يقوم من الليل. فكان عبد الله بن عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً} كان كثير الصلاة رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: هذا ما كان يفكر فيه ابن عمر في يقظته رضي الله عنه وأرضاه، أي: كان موضوع الجنة والنار قد شغل باله، وكان لـه حيز في قلبه وتفكيره في اليقظة، فلما نام رأى رؤيا تتناسب مع هذا الهم الذي كان يشغله في يقظته.

ومثله مرائي كثيرة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه، كما في رؤياه في معركة أحد، وكما في رؤيته صلى الله عليه وسلم لـعمر في أحوال عديدة، ومنها: أنـه صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {دخلت الجنة فوجدت فيها قصراً من ذهب، فاقتربت منه فوجدت امرأة تتوضأ، فسألتُ: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـعمر قال: فأردتُ أن أدخل، ثم ذكرتُ غَيْرَتك فولَّيتُ مدبراً، قال أبو هريرة: فبكى عمر رضي الله عنه وقال: أوَ عليك أغار يا رسول الله!}

وقل مثل ذلك في مرائي كثيرة رآها النبي عليه الصلاة والسلام، أو رآها أصحابه الكرام، أو رآها الصالحون، وسوف أشير إليها -إن لم يمكن في هذه الحلقة- ففي الأسبوع القادم الذي وعدتكم بأننا سوف نكمل فيه الحديث عن هذا الموضوع.

المهم أن الرؤيا أولاً: تدل على اهتمام الرائي بأمر من الأمور، فإذا كان الإنسان مشتغلاً بقضية الإسلام والإيمان، فإنه -غالباً- يرى أموراً تتعلق بهذا الموضوع.

وقُل مثل ذلك فيمن يكون مشغولاً بغير هذا، مَن يكون مشغولاً بالدنيا أو بالدراسة، أو بأي أمر من الأمور، غالباً ما يرى ما يتناسب مع اهتمامه.

الدلالة الثانية من دلالات الرؤيا: هي أنها تدل على نوع من العجز وعدم التمكن.

كيف ذلك؟

الإنسان - أحياناً - تُغْلَق أمامَه الأبواب في أمر من الأمور، والوسائل التي يستطيعها بذلها، ثم فوض الأمر بعد ذلك إلى الله، والإنسان بطبيعته ضعيف وعاجز، وهذا من حكمة الله تعالى، ومن علامات النبوة -أيضاً- أن الرؤيا تدل على العجز في الإنسان.

ولذلك تجد -مثلاً- أن السجين كثيراً ما يرى الرؤيا. لأن السجين أُغْلِقَت أمامَه الأبواب، فهو عاجز لا يستطيع أن يصنع شيئاً، ولذلك غالب بضاعته تتعلق بالرؤيا، وفي القرآن الكريم في سورة يوسف، ذكر الله تعالى ضمن القصة مرائي عدد من المساجين الذين ذكروا ليوسف عليه السلام مرائيهم: قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36].

وكثيراً ما يرى المسجونون الأحلام ويتحدثون بها، وأذكر شاعراً كان يقول وهو في السجن، يصف حاله:

خرجنا من الدنيا ولسنا من أهلها     ولسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السَّجَّان يوماً لحاجة     عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

ونفرح بالرؤيا فجُلُّ حديثِنا     إذا نحن أصبحنا الحديثُ عن الرؤيا

فهي تدل على نوع من العجز، ولعلي أستشهد في هذا بالحديث الذي صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه مسلم وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا تقارب الزمان لم تَكَدْ رؤيا المؤمن تكذب}.

والمقصود بذلك: أنه في آخر الدنيا، وقبل قيام الساعة، يغلب على رؤيا المؤمن الصدق، حتى لا تكاد تكذب، ولا تكاد تخلف، ولعل من الحِكَم -والله تعالى أعلم- أن المؤمن في آخر الزمان ضعيف مستضعف؛ لأن الإيمان قَلَّ ونَدُرَ أهله، وكَثُر الشرك والفساد والضلال والانحراف والمنكر، فأصبح المؤمن يعتصر قلبه من الأسى والحزن، ثم لا يجد طريقة ينصر فيها الإسلام، ويأمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر، ويدعو الناس إلى الخير، وحينئذ -مع شدة اهتمامه بقضيته- ينفس الله تبارك وتعالى عن هذا المؤمن بهذه الرؤيا، التي يكون فيها الأنس والسرور والتثبيت والتبشير لهذا المؤمن.

الدلالة الثالثة من دلالات الرؤيا: أن في الرؤيا تطلعا إلى المجهول المغيب عن الإنسان.

ومن حِكمة الله تعالى أنه غيَّب عن الإنسان أشياءَ كثيرة، عالَم الغيب محجوبٌ عن الإنسان، فالإنسان بطبيعته يتطلَّع إلى المغيَّب عنه، فإن كان مؤمناً فإنه يتطلع بطريقة، وإن كان غير مؤمن فإنه يتطلع بطريقة أخرى.

خُذ على سبيل المثال: كثيرٌ من الناس يتجهون إلى التعرف على المحجوب عنهم عن طريق الخط في الرمل، والضرب بالحصى، وإتيان الكهان والعرافين والمنجِّمين وغيرهم، الذين يدَّعون علم الغيوب، فيقولون للناس: سيحدث كذا وكذا، وكذا، وهذا من وحي الشياطين إليهم.

ومثله الخط في الرمل والضرب بالحصى وغيرها. فبعض الشباب -مثلاً- إذا أهمه أمر وأراد أن يعرف نتيجته؛ يسلك طريقة هي طريقة الخط في الرمل؛ لأنهم يهتمون بأمور دنيوية؛ فإن الواحد منهم إذا اهتم بموضوع الرياضة، فالرياضة أصبحت هماً مقلقاً لكثير من الشباب، فهو يهتم لقضية من يفوز في مباراة رياضية، لكن لا يهتم بقضية الإسلام، وقضية انتصار الإسلام، وقضية التنصير الذي يجتاح المسلمين، وقضية احتلال اليهود لبلاد الإسلام، والشيوعيين، والنصارى، هذه قد لا تهمه.

يهمه أن فريق كذا انتصر على كذا، فإذا أُعْلِنَ عن مباراة حاوَلَ أن يتعرَّفَ على نتيجة المباراة قبل حصولها، كيف؟

يخط خطوطاً في السبورة أو في الأرض مثلاً هذا يفعله بعض الشباب، يضاهِئون به فِعْل أهل الجاهلية، ويَتْبَعُون به وحيَ الشياطين، فيخطون خطوطاً عشوائية، فيقولون: إن كانت الخطوط فردية، فالنصر حليف فلان، وإن كانت الخطوط زوجية؛ فالنصر حليف فلان، ثم بعدما ينتهون من التخطيط العشوائي يبدءون في العد، فإذا كان فردياً قالوا: المنتصر فلان، وإن كان زوجياً قالوا: المنتصر فلان.

إذاً: يتعرف الإنسان غير المؤمن أو ضعيف الإيمان، الذي يَتَّبِع الشيطانَ في كثيرٍ من أموره، يتعرف أو يحاول أن يتعرف على ما حُجِب عنه عن طريق الوسائل المحرمة.

ولعلكم تشاهدون ما يُكْتَب في المجلات والصحف اليوم، وهي تباع في أسواقنا مع الأسف الشديد: حظك هذا الأسبوع، أو ما أشبه ذلك، ويضعون بروجاً معينة، فإذا كنتَ من مواليد برج الثور، أو مواليد برج الحوت، فإنه في هذا اليوم سوف يحصل لك أزمة عاطفية، أو يحصل لك أمور تجارية، ومكاسب تجارية، أو صفقة مربحة، أو يحصل لك كذا وكذا.

ومع الأسف أن المسلمين يشترون هذه الأشياء بأموالهم، ويتعاطونها فيما بينهم، وينسون هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي حذَّر من الكهان والعرافين والمنجمين، وبيَّن أن من صدقهم فإنه كافر بما أنـزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتاهم ولو لم يصدقهم؛ فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، صح ذلك عنه عليه الصلاة والسلام.

هذا شأن غير المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، يتعرفون على المحجوب عنهم بهذه الطريقة.

أما المهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يُفْتَح لـه روزنة إلى ما حُجِب عنه -إلى المجهول- عن طريق الرؤيا وما أشبهها، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لم يَبْقَ من النبوة إلا المبشرات. قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟

قال: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل، أو تُرى له} وإنما عدَّها النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة؛ لأن هذه المبشرات فيها إشعار للمؤمن بأمر خير سيقع، فيكون فيها تبشير له بما سيقع من هذا الخير، وقد يكون فيها تحذير المسلم من شر سيقع؛ ليأخذ أُهْبَتَه واستعداده لـه، فتكون محذرات، وإنما سماها مبشرات على سبيل التغليب، ولأنها بالنسبة إلى غيره تعتبر خيراً له.

فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن هذه الرؤى من المبشرات، كما أنه عليه الصلاة والسلام قال في الحديث المتفق عليه أيضاً: {الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وفي لفظ: {الرؤيا الصالحة جزءٌ من سبعين جزءاً من النبوة}.

وقد أطال أهل العلم في الكلام على معنى كون الرؤيا من النبوة، بما لا أرى ما يدعو إلى الحديث عنه الآن والإطالة في شأنه، لكن من الأشياء المشهورة في هذا الباب: ما ذكره الإمام ابن القيم، وذكره قبله جماعة من العلماء: أن معنى كونها جزءاً من (46) جزءاً من النبوة: أن الرؤيا الصالحة في أول النبوة، مكثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم مكث ثلاثاً وعشرين سنة نبياً رسولاً عليه الصلاة والسلام فستة أشهر إلى ثلاث وعشرين سنة هي جزء من ستة وأربعين جزءاً.

وهذا التفسير عليه بعض الاعتراضات والمآخذ، التي من أهمها: إن الحديث جاء في سياق بيان البشارة للمؤمنين بالرؤيا، وعلى هذا التفسير تكون خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم على أي حال هذا أحد الأقوال في الحديث.

والأقرب والأظهر عندي -والله تعالى أعلم- أن مقصود الحديث: أن الرؤيا فيها إشعار للمؤمن بخير سيقع ليغتنمه، أو بشر سيقع ليجتنبه ويحذر منه ويتخذ أُهبته واستعداده، فهي من هذا الوجه جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة؛ لأن فيها إخباراً لهذا المؤمن بأمر غيب لم يقع، وإن كان لا يمكن الجزم والقطع بهذه الرؤيا إلا إذا وقعت؛ لأنه قد يخطئ الذي عبَّرها، وقد تكون على خلاف ما ظن أو على خلاف ما توقع.

المقصود: أن المؤمن فتح الله تعالى لـه هذا الرَّوْزَنَة، لمعرفة بعض الأحداث والأشياء التي وقعت أو ستقع أيضاً، كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام علَّم المؤمنين موضوع الاستخارة في الأمور المستقبلية، كما في صحيح البخاري من حديث جابر: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه باسمه- خير لي في ديني ودنياي، وعاجل أمري وآجله، ومعاشي ومعادي فاقْدِرْه لي ويسره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به} في مقابل أن أهل الجاهلية كانوا يستقسمون بالأزلام -مثلاً- لمعرفة الأحسن من الأمور في ظنهم، وأهل هذا الزمان لهم طرق -أيضاً- تناسبهم في معرفة الأنسب من الأمور، وفعلها أو تركها، مثلما يقولون: قراءة الكف، أو غير ذلك من الوسائل الجاهلية، ففي الإسلام بدل وعوض عن كل أمر يطمح ويتطلع إليه الناس.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5118 استماع
حديث الهجرة 5007 استماع
تلك الرسل 4155 استماع
الصومال الجريح 4146 استماع
مصير المترفين 4123 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4052 استماع
وقفات مع سورة ق 3976 استماع
مقياس الربح والخسارة 3929 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3872 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3833 استماع