شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [28]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أكرم الأكرمين!

اللهم لك الحمد على حلمك بعد علمك، ولك الحمد على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فلا زلنا في مبحث حكم تناكح الجن مع الإنس، وكنا ذكرنا أن مذهب جماهير العلماء هو حرمة الزواج بين الجن والإنس، وذكرنا أدلتهم من الكتاب، ثم السنة، ثم أثار السلف، والآن سوف نستكمل بقية الأدلة على ذلك.

الدليل الرابع: قياس الأولى، وهو أقوى من القياس الذي هو في معنى الأصل, والذي يعني أن نتبين أن العلة الموجودة في الأصل موجودة في الفرع, وعليه يجب أن يحرم هذا الفرع لتحريم هذا الأصل لاشتراكهما في العلة, وهو قياس فرع بأصل لعلة جامعة بينهما في الحكم, تقول: حكم هذا كحكم هذا؛ لأن شريعة الله جاءت في التسوية بين المتماثلين, والتفريق بين المختلفين, أما قياس الأولى فتقول إذا نهيت عن هذا فذاك منهي عنه من باب أولى.

كقول الله جل وعلا في الوصية بالوالدين: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] فإذا كان لا يجوز لك أن تتأفف منهما، فمن باب أولى يحرم أن تضربهما, فهذا قياس الأولى يعني: إذا حرم عليك التأفف، والتضجر، وإظهار الاستياء فقط فمن باب أولى الضرب، فإذا حرم التأفف ونحوه من أجل علة الأذى فالأذى في الضرب أكثر, فهذا يحرم من باب أولى، وهذا هو قياس الأولى.

المنع من نكاح الحر للأمة يستدل به على تحريم النكاح بين الجن والإنس

وهنا عندنا قياس الأولى في تحريم التناكح بين الإنس والجن، وقد أشار إلى هذا القياس السيوطي وهو في منتهى القوة والرجاحة, حيث ذكره في الأشباه والنظائر صفحة سبع وخمسين ومائتين, فقال: إن شريعة الله منعت من نكاح الحر للأمة, فلا يجوز للحر أن يتزوج أمة وهي من جنسه إلا في حالتين كما هو مقرر.

الحالة الأولى: إذا خشى على نفسه العنت.

والثانية: إذا لم يكن قادراً على نكاح حرة.

فالأمة هي آدمية، من جنسك, وقد تكون أصلح منك وأتقى لله وأبر, وأنت إذا كنت حراً فتنهى عن نكاحها إلا في حالتين, إذا لم يكن عندك القدرة على نكاح حرة أو كنت تخشى على نفسك من الوقوع في العنت أي: الوقوع في الزنا فيباح لك أن تتزوج أمة, والعلة من ذلك أن أولاد الأمة أرقاء؛ لأن الولد يتبع أمه في الحرية والرق, فأنت إذا كنت حراً وتزوجت أمة فسيكون أولادك أرقاء مع أنهم ولدوا على فراشك وفي بيتك وينسبون إليك, فيقال هذا ابن فلان ثم يأخذه مالك الأمة وينادي عليهم في السوق ويبيعهم, وأنت تنظر إليهم فهم ملك لمالك الأمة, وأنت لا تستطيع أن تأخذ ولدك ولا أن تتحكم فيه لمجرد أن يملكه مالك زوجتك التي هي أمة عنده, فمن أجل استرقاق الولد الذي يكون عند نكاح الأمة نهانا الله عن نكاح الإماء, ولا يجوز أن تتزوج أمة إلا إذا لم تتمكن من أن تتزوج حرة, وخشيت على نفسك من الزنا؛ لأن زواج الأمة خير من الزنا بلا شك؛ لأن في الزنا ضياع الدين, وأما في زواج الأمة فضياع الذرية، وضياع الولد حيث يصبح عبداً رقيقاً، لكن بالإمكان أن يحرر في المستقبل, ومن الممكن أن تشتريه أنت، أو يشتريه غيرك ويعتقه ويصبح حراً، وأما الزنا: فهذه بلية البلايا؛ وعليه فنكاح الأمة مع ما فيه من غصة فهو أخف من الزنا وأيسر.

إذاً: أنت منهي عن نكاح الأمة وهي من جنسك لأجل ألا يصبح الولد رقيقاً, فالولد سيتضرر بالرق.

وإذا كان الأمر كذلك فقد قال السيوطي : ولا شك أن الضرر بكونه من جنية -أي: الولد, وفيه شائبة الجن خلقاً, وله بهم اتصال ومخالطة- أشد من ضرر الإرقاق, يعني: لو صار رقيقاً فهذا أيسر عليه من أن يكون ابن جنية، أو ابن جني حين أعطينا إنسية لجني, فصار فيه شائبة من خلقهم ثم يخالطهم ويتصل بهم, فالضرر الذي سيقع على هذا الآدمي أعظم من الضرر الذي سيقع على ولد الأمة, الذي ستبقى فيه خصال الإنس كاملة, لكنه رقيق ويمكن أن يحرر.

وأما هنا فلا يمكن أن تخلصه من الجن بحال؛ لأن أمه جنية أو أبوه جني, وقد أمرنا ببر الوالدين, فلا يمكن أن تقول له: لا علاقة لك بأمك، وحتى لو طلقتها، فهو مأمور ببر والدته التي هي جنية, فالضرر سيلحق عليه أكثر مما لو كان رقيقاً.

قال السيوطي : فإذا منع الحر من نكاح الأمة مع اتحاد الجنس للاختلاف في النوع -هذا حر وتلك أمة- والجنس واحد فكلهم من بني آدم, فلأن يمنع من نكاح ما ليس من الجنس من باب أولى.

قال: وهذا تخريج قوي لم أر من تنبه له.

وواقع الأمر كذلك, فما رأيت أحداً من أئمتنا ذكر هذا قبل السيوطي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

النهي عن إنزاء الحمر على الخيل يستدل به على تحريم النكاح بين الجن والإنس

ثم قال: ويقويه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إنزاء الحمر على الخيل) فلا يجوز أن تنزى الحمير, أي: أن يركب الحمار الفرس أو المهرة، والمهرة الأصيلة خيل عراض، ولو وطئ الحمار فرساً لجاء المولود بغلاً، والبغل خلقته بين الحمار وبين الفرس, وهو من الجافي الخلقة كما يقول أئمتنا, وشتان بين البغل وبين الخيل، فنهانا نبينا عليه الصلاة والسلام عن إنزاء الحمير على الخيل, وعلة ذلك اختلاف الجنس, وكون المتولد منها يخرج عن جنس الخيل, فيلزم منه قلتها يعني: الخيل لا يبقى لها بعد ذلك نسل كثير؛ لأنها تنتج بغالاً, وعلل النبي صلى الله عليه وسلم هذا ونهى عنه, فقال: (إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون).

قال السيوطي : فالمنع من ذلك فيما نحن فيه أولى.. نكاح الجني الإنسية أولى وأحرى, يعني: إذا منعنا من أن ننزي الحمار على الخيل فنحن إذاً نمنع من أن يتصل إنسي بجنية من باب أولى.

أما حديث إنزاء الحمير على الخيل, فهذا حديث صحيح ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام من رواية ثلاثة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

الحديث الأول: حديث علي رضي الله عنه رواه أحمد في المسند، وأبو داود ، والنسائي في السنن, وراه الطحاوي في شرح معاني الآثار، في الجزء الثالث، صفحة واحدة وسبعين ومائتين, وهو غير مشكل الآثار, فشرح معاني الآثار في أربع مجلدات, ومشكل الآثار في أربع مجلدات أيضاً لكن الموجود منه ثلث الكتاب والثلثان مفقودان, وقد أخبرني بعض الإخوة الكرام البارحة بأنه عثر على بقية الأجزاء, وطبع الآن أخيراً في طبعة في ستة عشر مجلداً, وأما شرح معاني الآثار فطبع كاملاً وهو للطحاوي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا, فالحديث في شرح معاني الآثار, وقد أورده بالإسناد, واحتج بذلك على طريقة المحدثين، ورواه أبو داود الطيالسي ، وابن أبي شيبة في المصنف، وإسناد الحديث صحيح، وهو في جامع الأصول في الجزء الخامس، صفحة ثلاث وخمسين عن علي رضي الله عنه قال: (أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة) وهي المتولدة بين الخيل والحمير, (فركبها عليه الصلاة والسلام, فقال علي رضي الله عنه: لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه) يعني: ننزي الحمير على الخيول من أجل أن يخرج لنا بغال كالبغلة التي ركبها نبينا المختار عليه الصلاة والسلام, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون) .

وبوب أبو داود على هذا الحديث باباً في كتاب الجهاد, فقال: باب في كراهية الحمير تنزى على الخيل، وبوب عليه الإمام النسائي باباً في سننه في كتاب الخيل, وفيه: باب في التشديد في حمل الحمير على الخيل, وبوب عليه البيهقي في السنن الكبرى في كتاب السبق والرمي، باب في كراهية إنزاء الحمير على الخيل, وبوب عليه ابن أبي شيبة في المصنف في الجزء الثاني عشر، صفحة أربعين وخمسمائة باب في إنزاء الحمير على الخيل.

ومراد النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: ( إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون ) أي: ما في ذرية الخيل من الخير والمصلحة الشرعية, وألف بغل لا يسدون مسد حصان أو خيل أو فرس, ولذلك يفعل هذا الذين لا يعلمون, وما يحصله الإنسان من تربية الفرس أو الخيل من الأجر لا يحصل هذا الأجر لو ربى ألف بغل, ولذلك ما كان شيء أحب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام بعد النساء في هذه الحياة من الخيل، كان يحب الخيل، وهي آلة الجهاد المفضلة, وسيأتينا ما يوجد من أجر على تربية الخيل.

فأنت لو أنزيت الحمير على الخيل فسينتج بغلاً, والبغال ليست كالخيل؛ لأنها لا تصلح للجهاد, وعندما تركبها كأنك تركب الحمار, فلا كر ولا فر، ولا قتال معك، ولا سرعة, بخلاف الخيل فإنها أحياناً إذا كانت مسرعة تبلغ مائة كيلو في الساعة، وهذه هي الخيل العادية, وإذا زادت فممكن أن تصل إلى مائة وستين كيلو متراً في الساعة, يعني أنه يغلب السيارة حقيقة, ثم يقاتل معك، وغير ذلك, فهذه الأشياء عظيمة في الخيل.

ولذلك ثبت في سنن النسائي بسند حسن عن أنس رضي الله عنه قال: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل.

فالخيل لها شأن عظيم, ولا يحب النبي عليه الصلاة والسلام إلا ما يقربه إلى ذي الجلال والإكرام, فالنساء ذرية طيبة، وبعد ذلك عشرة ينتج عنها خيرات في العاجل والآجل كذلك الخيل, لها هذه المكانة؛ فقد ثبت في الصحيحين من رواية ثلاثة من الصحابة الكرام من رواية ابن عمر وعروة البارقي وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم) والحديث روي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه لكن في سنن الترمذي والنسائي , وليس في الصحيحين.

وقد ثبت في المسند، وصحيح البخاري ، وسنن النسائي ، من رواية أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من احتبس فرساً إيماناً واحتساباً فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة).

شبعه، وريه، وبوله، وروثه كل هذا يوضع في ميزانه يوم القيامة, وله هذا الأجر العظيم، وهي آلة الجهاد, وقد تقدم أن أبا حنيفة -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- كره أكل لحوم الخيل لا لآفة في لحمها, فإنه يؤكل عند الجمهور, ولحمها كلحم الضأن, وهي كريمة طيبة مباركة, لكن كره أكل لحمها لكرامتها لا لآفة في لحمها, وقال: لو تمادى الناس وفشا فيهم ذبح الخيل وأكلها فستنقطع بعد ذلك وسيلة الجهاد, فيمنع الناس من ذبح الخيل لا لأن الخيل لا يحل لحمها؛ إنما كرامة لها من أجل أن يستعان بها على ما هو أعظم من الأكل؛ ألا وهو القتال في سبيل الله عز وجل، فكان للخيل هذا الشأن الكبير عند ربنا الجليل سبحانه وتعالى.

الحديث الثاني: من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي والنسائي في السنن, وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح, والحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه, والبيهقي في السنن الكبرى, والطحاوي في شرح معاني الآثار، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً مأموراً) لا شك أنه عبد وأنه أفضل العبيد وأحبهم إلى ربنا المجيد سبحانه وتعالى, فما خلق الله وما ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من حبيبنا وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, يبلغ ما أمر بتبليغه؛ لأنه عبد لله عز وجل, (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً مأموراً ما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث)، يقول: نحن آل البيت الطيبين الطاهرين ما خصنا بشيء؛ لأنه مأمور بالبلاغ لكل الناس، إلا بثلاثة أمور خصنا بها, وهذا من قبل الله عز وجل؛ لأنه قدم مقدمة, فقال: كان عبداً مأموراً فالله أمره أن يخص آل البيت بهذه الأمور الثلاثة كما خصهم بكثير من الأمور, وهذه الأمور الثلاثة كما يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه هي: (أمرنا أن نسبغ الوضوء، وألا نأكل الصدقة، وألا ننزي حماراً على فرس).

قد يقول قائل: الأولى والثالثة يشترك فيها آل البيت وغيرهم, فأقول: لا؛ لأن إسباغ الوضوء على آل البيت واجب, وعلى غيرهم سنة, فبقي بيننا وبينهم فارق فهم ينبغي أن يسبغوا الوضوء؛ لأنهم الذرية الطيبة الطاهرة ولهم شأن فإذا توضأ أحدهم فيجب أن يسبغ الوضوء أكثر منا.

والإسباغ هو: المبالغة في الدلك والفرك عند الوضوء من أجل كمال الإنقاء على وجه التمام, والأصل صب الماء عندما تدلك، وهذا هو إسباغ الوضوء, وهو واجب على آل البيت الطيبين الطاهرين, وهو في حقنا سنة مستحبة فيستحب لك الدلك وإسباغ الوضوء.

والأمر الثاني: الصدقة، فهذه محرمة عليهم ولا تحرم على غيرهم.

والثالث: يحرم عليهم أن ينزوا حماراً على خيل؛ لأن هؤلاء هم أول من يقوم بالجهاد, وينصروا دين الله قبل غيرهم, وإذا أرادوا البغال بدل الخيل تأخروا عن الجهاد فمن باب أولى غيرهم, فيحرم عليهم ويكره في حق غيرهم, فيكره لنا أن ننزي حماراً على خيل ولا يحرم, وفي حق آل البيت يحرم, وليس المقصود الكراهة.

ولذلك يقول: (كان رسول الله عليه الصلاة والسلام عبداً مأموراً ما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث: أولها: أمرنا أن نسبغ الوضوء. والثانية: لا نأكل الصدقة. والثالثة: ألا ننزي حماراً على فرس).

وهذا أحد القولين في توجيه الحديث, أن هذه واجبة علينا -أهل البيت- وهي على غيرنا سنة, وبالنسبة لأكل الصدقة نحن نمنع منها على سبيل التحريم, وأما غيرنا فالأولى أن يتعفف.

وهناك قول ثانٍ لأئمتنا؛ قالوا المعنى: خصنا بمزيد حث ومبالغة, فغيرنا يندب له هذه الأمور, وأما نحن فالندب فينا قوي ومبالغ فيه أكثر من غيرنا, فالندب لنا فيه تأكيد, ولغيرنا ندب فيه ترغيب.

فهذان جوابان ذكرهما أئمتنا في شرح هذا الحديث, كما في تحفة الأحوذي في الجزء الثالث، صفحة واحدة وثلاثين, قال الطحاوي -مبيناً أن المنع للكراهة من إنزاء الحمير على الخيل في حق الأمة, وفي حق آل البيت الطيبين الطاهرين يمنعون من ذلك بشدة أكثر من غيرهم- : تواترت الأحاديث عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه بركوب البغال, وهذا مما يدل على أن إنزاء الحمير على الخيل جائز لكنه مكروه, ولو كان محرماً لما ركب النبي عليه الصلاة والسلام البغل ولزجر عنه؛ لأنه تولد من شيء محرم لا بد من أن ينهي عنه.

ثم روى الطحاوي في شرح معاني الآثار في الجزء الثالث، صفحة خمس وسبعين ومائتين عن أبي جهضم وهو موسى بن سالم مولى بني هاشم رضي الله عنهم, وهو صدوق حديثه في السنن الأربعة، يقول: حدثني عبيد الله بن عبد الله -يعني: هذا الحديث- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهي عن إنزاء الحمير على الخيل).

يقول: حدثني بهذا الحديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهم، فلقيت عبد الله بن الحسن رضي الله عنهم أجمعين وهو يطوف فحدثته بهذا الحديث الذي بلغني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام خص آل البيت بهذه الأمور الثلاثة: بإسباغ الوضوء, وبمنعهم من الصدقة, وألا ينزوا حماراً على خيل, فقال عبد الله بن الحسن : صدق، كانت الخيل قليلة في بني هاشم, فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تكثر فيهم, فكأنه يقول هذا الأمر هم وغيرهم فيه سواء, إنما نهاهم النبي عليه الصلاة والسلام عنه في أول الأمر؛ لأن الخيول كانت قليلة عند بني هاشم, فلأجل أن تكثر فيهم من أجل أن يكونوا في القتال على الصفة الكاملة، نهاهم على وجه التحريم في حقهم عن إنزاء الحمير على الخيل؛ لتكثر الخيل فيهم, ولئلا تنتج خيولهم بغالاً, وعليه كأن عبد الله بن الحسن رضي الله عنهم أجمعين يقول: إذا كثرت الخيل كما هو الحال الآن في بني هاشم, فلا داعي بعد ذلك للمنع على سبيل التحريم, نحن وغيرنا في ذلك سواء, والعلم عند الله جل وعلا.

الحديث الثالث في النهي والزجر عن إنزاء الحمير على الخيل: مروي من رواية دحية بن خليفة الكلبي وحديثه في المسند, في الجزء الثالث، صفحة إحدى عشرة وثلاثمائة, وهو في معجم الطبراني الأوسط كما في مجمع الزوائد, في الجزء الخامس، صفحة خمس وستين ومائتين, ورواه ابن أبي شيبة في المصنف، وهكذا رواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة, والبغوي ، وابن قانع كما في جمع الجوامع في الجزء الأول، صفحة ثمان وتسعين ومائتين, ورجال إسناده رجال الصحيح.

قال الهيثمي خلا عمر بن حسين بن سعد بن حذيفة بن اليمان , وقد وثقه ابن حبان ، وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: قال وكيع : كان ثبتاً وقد روى عنه، لكن قال: عن الشعبي -فيكون حديثاً مرسلاً- أن دحية الكلبي , وسيأتينا لفظ الحديث إن شاء الله, وهو حديث إنزاء الحمير على الخيل, وقال البخاري في التاريخ الكبير عمر بن حسين ، عن الشعبي مرسل.

والذي يظهر والعلم عند الله جل وعلا أن عمر بن حسين من الرواة عن الشعبي , روى عنه وهو من تلاميذه, والشعبي روى عن دحية الكلبي , فـالشعبي من تلاميذ دحية ودحية صحابي رضي الله عنه, وعليه فالإسناد متصل, وهو لم يرسل الحديث، يعني: ما رواه عمر بن حسين عن دحية , وأسقط الشعبي وما رفعه عن الشعبي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فـعمر بن حسين من تلاميذ الشعبي والشعبي أدرك دحية وروى عنه, وعليه ينبغي أن يكون الإسناد متصلاً، وراجع في ذلك تعجيل المنفعة في صفحة سبع وتسعين ومائتين, والإصابة للحافظ ابن حجر في الجزء الأول، صفحة أربع وستين وأربعمائة, وكيفما كان أمر الحديث مرسلاً أو متصلاً فهو صحيح قطعاً وجزماً بشهادة الحديثين المتقدمين له, ولفظ حديث دحية قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أحمل لك حماراً على فرس فتنتج -يعني- الفرس لك بغلاً فتركبها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون) وفي رواية المصنف لـابن أبي شيبة عن دحية رضي الله عنه قال: (أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء, فقال دحية رضي الله عنه: لو شئنا أن نتخذ مثلها, فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: وكيف ستأتي بمثلها -هذه البغلة- فقال: نحمل الحمر على الخيل العراض الجيدة الخالصة فتأتي بها فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون)، وفي رواية: قال دحية : (ألا ننزي حماراً على فرس فتنتج مهرة نركبها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون).

إذاً: الحديث صحيح من رواية ثلاثة من الصحابة: علي ، وعبد الله بن عباس ، ودحية الكلبي رضي الله عنهم أجمعين: (نهى نبينا عليه الصلاة والسلام عن إنزاء الحمير على الخيل) ؛ لاختلاف الجنس؛ ولأن الذرية ستخالف الأصل, ونهانا ربنا عن نكاح الأمة إذا كنا قادرين على حرة, وأما إذا لم لم نكن قادرين فإذا ملكنا أنفسنا فلا نتزوجها, وكذا إذا لم نستطع نكاح حرة، وخشينا على أنفسنا من الزنا فيجوز نكاح الأمة.

فإذاً: منعنا عنها للحالتين المتقدمتين مع أنها من جنسنا، والنوع مختلف، فلأن نمنع عن نكاح ما ليس من جنسنا أولى وأحرى, وهذا استدلال السيوطي وهو قياس الأولى, وهذا هو الدليل الرابع، والعلم عند الله.

وهنا عندنا قياس الأولى في تحريم التناكح بين الإنس والجن، وقد أشار إلى هذا القياس السيوطي وهو في منتهى القوة والرجاحة, حيث ذكره في الأشباه والنظائر صفحة سبع وخمسين ومائتين, فقال: إن شريعة الله منعت من نكاح الحر للأمة, فلا يجوز للحر أن يتزوج أمة وهي من جنسه إلا في حالتين كما هو مقرر.

الحالة الأولى: إذا خشى على نفسه العنت.

والثانية: إذا لم يكن قادراً على نكاح حرة.

فالأمة هي آدمية، من جنسك, وقد تكون أصلح منك وأتقى لله وأبر, وأنت إذا كنت حراً فتنهى عن نكاحها إلا في حالتين, إذا لم يكن عندك القدرة على نكاح حرة أو كنت تخشى على نفسك من الوقوع في العنت أي: الوقوع في الزنا فيباح لك أن تتزوج أمة, والعلة من ذلك أن أولاد الأمة أرقاء؛ لأن الولد يتبع أمه في الحرية والرق, فأنت إذا كنت حراً وتزوجت أمة فسيكون أولادك أرقاء مع أنهم ولدوا على فراشك وفي بيتك وينسبون إليك, فيقال هذا ابن فلان ثم يأخذه مالك الأمة وينادي عليهم في السوق ويبيعهم, وأنت تنظر إليهم فهم ملك لمالك الأمة, وأنت لا تستطيع أن تأخذ ولدك ولا أن تتحكم فيه لمجرد أن يملكه مالك زوجتك التي هي أمة عنده, فمن أجل استرقاق الولد الذي يكون عند نكاح الأمة نهانا الله عن نكاح الإماء, ولا يجوز أن تتزوج أمة إلا إذا لم تتمكن من أن تتزوج حرة, وخشيت على نفسك من الزنا؛ لأن زواج الأمة خير من الزنا بلا شك؛ لأن في الزنا ضياع الدين, وأما في زواج الأمة فضياع الذرية، وضياع الولد حيث يصبح عبداً رقيقاً، لكن بالإمكان أن يحرر في المستقبل, ومن الممكن أن تشتريه أنت، أو يشتريه غيرك ويعتقه ويصبح حراً، وأما الزنا: فهذه بلية البلايا؛ وعليه فنكاح الأمة مع ما فيه من غصة فهو أخف من الزنا وأيسر.

إذاً: أنت منهي عن نكاح الأمة وهي من جنسك لأجل ألا يصبح الولد رقيقاً, فالولد سيتضرر بالرق.

وإذا كان الأمر كذلك فقد قال السيوطي : ولا شك أن الضرر بكونه من جنية -أي: الولد, وفيه شائبة الجن خلقاً, وله بهم اتصال ومخالطة- أشد من ضرر الإرقاق, يعني: لو صار رقيقاً فهذا أيسر عليه من أن يكون ابن جنية، أو ابن جني حين أعطينا إنسية لجني, فصار فيه شائبة من خلقهم ثم يخالطهم ويتصل بهم, فالضرر الذي سيقع على هذا الآدمي أعظم من الضرر الذي سيقع على ولد الأمة, الذي ستبقى فيه خصال الإنس كاملة, لكنه رقيق ويمكن أن يحرر.

وأما هنا فلا يمكن أن تخلصه من الجن بحال؛ لأن أمه جنية أو أبوه جني, وقد أمرنا ببر الوالدين, فلا يمكن أن تقول له: لا علاقة لك بأمك، وحتى لو طلقتها، فهو مأمور ببر والدته التي هي جنية, فالضرر سيلحق عليه أكثر مما لو كان رقيقاً.

قال السيوطي : فإذا منع الحر من نكاح الأمة مع اتحاد الجنس للاختلاف في النوع -هذا حر وتلك أمة- والجنس واحد فكلهم من بني آدم, فلأن يمنع من نكاح ما ليس من الجنس من باب أولى.

قال: وهذا تخريج قوي لم أر من تنبه له.

وواقع الأمر كذلك, فما رأيت أحداً من أئمتنا ذكر هذا قبل السيوطي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

ثم قال: ويقويه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إنزاء الحمر على الخيل) فلا يجوز أن تنزى الحمير, أي: أن يركب الحمار الفرس أو المهرة، والمهرة الأصيلة خيل عراض، ولو وطئ الحمار فرساً لجاء المولود بغلاً، والبغل خلقته بين الحمار وبين الفرس, وهو من الجافي الخلقة كما يقول أئمتنا, وشتان بين البغل وبين الخيل، فنهانا نبينا عليه الصلاة والسلام عن إنزاء الحمير على الخيل, وعلة ذلك اختلاف الجنس, وكون المتولد منها يخرج عن جنس الخيل, فيلزم منه قلتها يعني: الخيل لا يبقى لها بعد ذلك نسل كثير؛ لأنها تنتج بغالاً, وعلل النبي صلى الله عليه وسلم هذا ونهى عنه, فقال: (إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون).

قال السيوطي : فالمنع من ذلك فيما نحن فيه أولى.. نكاح الجني الإنسية أولى وأحرى, يعني: إذا منعنا من أن ننزي الحمار على الخيل فنحن إذاً نمنع من أن يتصل إنسي بجنية من باب أولى.

أما حديث إنزاء الحمير على الخيل, فهذا حديث صحيح ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام من رواية ثلاثة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

الحديث الأول: حديث علي رضي الله عنه رواه أحمد في المسند، وأبو داود ، والنسائي في السنن, وراه الطحاوي في شرح معاني الآثار، في الجزء الثالث، صفحة واحدة وسبعين ومائتين, وهو غير مشكل الآثار, فشرح معاني الآثار في أربع مجلدات, ومشكل الآثار في أربع مجلدات أيضاً لكن الموجود منه ثلث الكتاب والثلثان مفقودان, وقد أخبرني بعض الإخوة الكرام البارحة بأنه عثر على بقية الأجزاء, وطبع الآن أخيراً في طبعة في ستة عشر مجلداً, وأما شرح معاني الآثار فطبع كاملاً وهو للطحاوي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا, فالحديث في شرح معاني الآثار, وقد أورده بالإسناد, واحتج بذلك على طريقة المحدثين، ورواه أبو داود الطيالسي ، وابن أبي شيبة في المصنف، وإسناد الحديث صحيح، وهو في جامع الأصول في الجزء الخامس، صفحة ثلاث وخمسين عن علي رضي الله عنه قال: (أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة) وهي المتولدة بين الخيل والحمير, (فركبها عليه الصلاة والسلام, فقال علي رضي الله عنه: لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه) يعني: ننزي الحمير على الخيول من أجل أن يخرج لنا بغال كالبغلة التي ركبها نبينا المختار عليه الصلاة والسلام, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون) .

وبوب أبو داود على هذا الحديث باباً في كتاب الجهاد, فقال: باب في كراهية الحمير تنزى على الخيل، وبوب عليه الإمام النسائي باباً في سننه في كتاب الخيل, وفيه: باب في التشديد في حمل الحمير على الخيل, وبوب عليه البيهقي في السنن الكبرى في كتاب السبق والرمي، باب في كراهية إنزاء الحمير على الخيل, وبوب عليه ابن أبي شيبة في المصنف في الجزء الثاني عشر، صفحة أربعين وخمسمائة باب في إنزاء الحمير على الخيل.

ومراد النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: ( إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون ) أي: ما في ذرية الخيل من الخير والمصلحة الشرعية, وألف بغل لا يسدون مسد حصان أو خيل أو فرس, ولذلك يفعل هذا الذين لا يعلمون, وما يحصله الإنسان من تربية الفرس أو الخيل من الأجر لا يحصل هذا الأجر لو ربى ألف بغل, ولذلك ما كان شيء أحب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام بعد النساء في هذه الحياة من الخيل، كان يحب الخيل، وهي آلة الجهاد المفضلة, وسيأتينا ما يوجد من أجر على تربية الخيل.

فأنت لو أنزيت الحمير على الخيل فسينتج بغلاً, والبغال ليست كالخيل؛ لأنها لا تصلح للجهاد, وعندما تركبها كأنك تركب الحمار, فلا كر ولا فر، ولا قتال معك، ولا سرعة, بخلاف الخيل فإنها أحياناً إذا كانت مسرعة تبلغ مائة كيلو في الساعة، وهذه هي الخيل العادية, وإذا زادت فممكن أن تصل إلى مائة وستين كيلو متراً في الساعة, يعني أنه يغلب السيارة حقيقة, ثم يقاتل معك، وغير ذلك, فهذه الأشياء عظيمة في الخيل.

ولذلك ثبت في سنن النسائي بسند حسن عن أنس رضي الله عنه قال: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل.

فالخيل لها شأن عظيم, ولا يحب النبي عليه الصلاة والسلام إلا ما يقربه إلى ذي الجلال والإكرام, فالنساء ذرية طيبة، وبعد ذلك عشرة ينتج عنها خيرات في العاجل والآجل كذلك الخيل, لها هذه المكانة؛ فقد ثبت في الصحيحين من رواية ثلاثة من الصحابة الكرام من رواية ابن عمر وعروة البارقي وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم) والحديث روي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه لكن في سنن الترمذي والنسائي , وليس في الصحيحين.

وقد ثبت في المسند، وصحيح البخاري ، وسنن النسائي ، من رواية أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من احتبس فرساً إيماناً واحتساباً فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة).

شبعه، وريه، وبوله، وروثه كل هذا يوضع في ميزانه يوم القيامة, وله هذا الأجر العظيم، وهي آلة الجهاد, وقد تقدم أن أبا حنيفة -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- كره أكل لحوم الخيل لا لآفة في لحمها, فإنه يؤكل عند الجمهور, ولحمها كلحم الضأن, وهي كريمة طيبة مباركة, لكن كره أكل لحمها لكرامتها لا لآفة في لحمها, وقال: لو تمادى الناس وفشا فيهم ذبح الخيل وأكلها فستنقطع بعد ذلك وسيلة الجهاد, فيمنع الناس من ذبح الخيل لا لأن الخيل لا يحل لحمها؛ إنما كرامة لها من أجل أن يستعان بها على ما هو أعظم من الأكل؛ ألا وهو القتال في سبيل الله عز وجل، فكان للخيل هذا الشأن الكبير عند ربنا الجليل سبحانه وتعالى.

الحديث الثاني: من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي والنسائي في السنن, وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح, والحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه, والبيهقي في السنن الكبرى, والطحاوي في شرح معاني الآثار، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً مأموراً) لا شك أنه عبد وأنه أفضل العبيد وأحبهم إلى ربنا المجيد سبحانه وتعالى, فما خلق الله وما ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من حبيبنا وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, يبلغ ما أمر بتبليغه؛ لأنه عبد لله عز وجل, (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً مأموراً ما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث)، يقول: نحن آل البيت الطيبين الطاهرين ما خصنا بشيء؛ لأنه مأمور بالبلاغ لكل الناس، إلا بثلاثة أمور خصنا بها, وهذا من قبل الله عز وجل؛ لأنه قدم مقدمة, فقال: كان عبداً مأموراً فالله أمره أن يخص آل البيت بهذه الأمور الثلاثة كما خصهم بكثير من الأمور, وهذه الأمور الثلاثة كما يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه هي: (أمرنا أن نسبغ الوضوء، وألا نأكل الصدقة، وألا ننزي حماراً على فرس).

قد يقول قائل: الأولى والثالثة يشترك فيها آل البيت وغيرهم, فأقول: لا؛ لأن إسباغ الوضوء على آل البيت واجب, وعلى غيرهم سنة, فبقي بيننا وبينهم فارق فهم ينبغي أن يسبغوا الوضوء؛ لأنهم الذرية الطيبة الطاهرة ولهم شأن فإذا توضأ أحدهم فيجب أن يسبغ الوضوء أكثر منا.

والإسباغ هو: المبالغة في الدلك والفرك عند الوضوء من أجل كمال الإنقاء على وجه التمام, والأصل صب الماء عندما تدلك، وهذا هو إسباغ الوضوء, وهو واجب على آل البيت الطيبين الطاهرين, وهو في حقنا سنة مستحبة فيستحب لك الدلك وإسباغ الوضوء.

والأمر الثاني: الصدقة، فهذه محرمة عليهم ولا تحرم على غيرهم.

والثالث: يحرم عليهم أن ينزوا حماراً على خيل؛ لأن هؤلاء هم أول من يقوم بالجهاد, وينصروا دين الله قبل غيرهم, وإذا أرادوا البغال بدل الخيل تأخروا عن الجهاد فمن باب أولى غيرهم, فيحرم عليهم ويكره في حق غيرهم, فيكره لنا أن ننزي حماراً على خيل ولا يحرم, وفي حق آل البيت يحرم, وليس المقصود الكراهة.

ولذلك يقول: (كان رسول الله عليه الصلاة والسلام عبداً مأموراً ما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث: أولها: أمرنا أن نسبغ الوضوء. والثانية: لا نأكل الصدقة. والثالثة: ألا ننزي حماراً على فرس).

وهذا أحد القولين في توجيه الحديث, أن هذه واجبة علينا -أهل البيت- وهي على غيرنا سنة, وبالنسبة لأكل الصدقة نحن نمنع منها على سبيل التحريم, وأما غيرنا فالأولى أن يتعفف.

وهناك قول ثانٍ لأئمتنا؛ قالوا المعنى: خصنا بمزيد حث ومبالغة, فغيرنا يندب له هذه الأمور, وأما نحن فالندب فينا قوي ومبالغ فيه أكثر من غيرنا, فالندب لنا فيه تأكيد, ولغيرنا ندب فيه ترغيب.

فهذان جوابان ذكرهما أئمتنا في شرح هذا الحديث, كما في تحفة الأحوذي في الجزء الثالث، صفحة واحدة وثلاثين, قال الطحاوي -مبيناً أن المنع للكراهة من إنزاء الحمير على الخيل في حق الأمة, وفي حق آل البيت الطيبين الطاهرين يمنعون من ذلك بشدة أكثر من غيرهم- : تواترت الأحاديث عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه بركوب البغال, وهذا مما يدل على أن إنزاء الحمير على الخيل جائز لكنه مكروه, ولو كان محرماً لما ركب النبي عليه الصلاة والسلام البغل ولزجر عنه؛ لأنه تولد من شيء محرم لا بد من أن ينهي عنه.

ثم روى الطحاوي في شرح معاني الآثار في الجزء الثالث، صفحة خمس وسبعين ومائتين عن أبي جهضم وهو موسى بن سالم مولى بني هاشم رضي الله عنهم, وهو صدوق حديثه في السنن الأربعة، يقول: حدثني عبيد الله بن عبد الله -يعني: هذا الحديث- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهي عن إنزاء الحمير على الخيل).

يقول: حدثني بهذا الحديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهم، فلقيت عبد الله بن الحسن رضي الله عنهم أجمعين وهو يطوف فحدثته بهذا الحديث الذي بلغني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام خص آل البيت بهذه الأمور الثلاثة: بإسباغ الوضوء, وبمنعهم من الصدقة, وألا ينزوا حماراً على خيل, فقال عبد الله بن الحسن : صدق، كانت الخيل قليلة في بني هاشم, فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تكثر فيهم, فكأنه يقول هذا الأمر هم وغيرهم فيه سواء, إنما نهاهم النبي عليه الصلاة والسلام عنه في أول الأمر؛ لأن الخيول كانت قليلة عند بني هاشم, فلأجل أن تكثر فيهم من أجل أن يكونوا في القتال على الصفة الكاملة، نهاهم على وجه التحريم في حقهم عن إنزاء الحمير على الخيل؛ لتكثر الخيل فيهم, ولئلا تنتج خيولهم بغالاً, وعليه كأن عبد الله بن الحسن رضي الله عنهم أجمعين يقول: إذا كثرت الخيل كما هو الحال الآن في بني هاشم, فلا داعي بعد ذلك للمنع على سبيل التحريم, نحن وغيرنا في ذلك سواء, والعلم عند الله جل وعلا.

الحديث الثالث في النهي والزجر عن إنزاء الحمير على الخيل: مروي من رواية دحية بن خليفة الكلبي وحديثه في المسند, في الجزء الثالث، صفحة إحدى عشرة وثلاثمائة, وهو في معجم الطبراني الأوسط كما في مجمع الزوائد, في الجزء الخامس، صفحة خمس وستين ومائتين, ورواه ابن أبي شيبة في المصنف، وهكذا رواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة, والبغوي ، وابن قانع كما في جمع الجوامع في الجزء الأول، صفحة ثمان وتسعين ومائتين, ورجال إسناده رجال الصحيح.

قال الهيثمي خلا عمر بن حسين بن سعد بن حذيفة بن اليمان , وقد وثقه ابن حبان ، وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: قال وكيع : كان ثبتاً وقد روى عنه، لكن قال: عن الشعبي -فيكون حديثاً مرسلاً- أن دحية الكلبي , وسيأتينا لفظ الحديث إن شاء الله, وهو حديث إنزاء الحمير على الخيل, وقال البخاري في التاريخ الكبير عمر بن حسين ، عن الشعبي مرسل.

والذي يظهر والعلم عند الله جل وعلا أن عمر بن حسين من الرواة عن الشعبي , روى عنه وهو من تلاميذه, والشعبي روى عن دحية الكلبي , فـالشعبي من تلاميذ دحية ودحية صحابي رضي الله عنه, وعليه فالإسناد متصل, وهو لم يرسل الحديث، يعني: ما رواه عمر بن حسين عن دحية , وأسقط الشعبي وما رفعه عن الشعبي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فـعمر بن حسين من تلاميذ الشعبي والشعبي أدرك دحية وروى عنه, وعليه ينبغي أن يكون الإسناد متصلاً، وراجع في ذلك تعجيل المنفعة في صفحة سبع وتسعين ومائتين, والإصابة للحافظ ابن حجر في الجزء الأول، صفحة أربع وستين وأربعمائة, وكيفما كان أمر الحديث مرسلاً أو متصلاً فهو صحيح قطعاً وجزماً بشهادة الحديثين المتقدمين له, ولفظ حديث دحية قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أحمل لك حماراً على فرس فتنتج -يعني- الفرس لك بغلاً فتركبها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون) وفي رواية المصنف لـابن أبي شيبة عن دحية رضي الله عنه قال: (أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء, فقال دحية رضي الله عنه: لو شئنا أن نتخذ مثلها, فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: وكيف ستأتي بمثلها -هذه البغلة- فقال: نحمل الحمر على الخيل العراض الجيدة الخالصة فتأتي بها فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون)، وفي رواية: قال دحية : (ألا ننزي حماراً على فرس فتنتج مهرة نركبها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون).

إذاً: الحديث صحيح من رواية ثلاثة من الصحابة: علي ، وعبد الله بن عباس ، ودحية الكلبي رضي الله عنهم أجمعين: (نهى نبينا عليه الصلاة والسلام عن إنزاء الحمير على الخيل) ؛ لاختلاف الجنس؛ ولأن الذرية ستخالف الأصل, ونهانا ربنا عن نكاح الأمة إذا كنا قادرين على حرة, وأما إذا لم لم نكن قادرين فإذا ملكنا أنفسنا فلا نتزوجها, وكذا إذا لم نستطع نكاح حرة، وخشينا على أنفسنا من الزنا فيجوز نكاح الأمة.

فإذاً: منعنا عنها للحالتين المتقدمتين مع أنها من جنسنا، والنوع مختلف، فلأن نمنع عن نكاح ما ليس من جنسنا أولى وأحرى, وهذا استدلال السيوطي وهو قياس الأولى, وهذا هو الدليل الرابع، والعلم عند الله.

الدليل الخامس: اختلاف الجنس دليل على تحريم التناكح بين الجن والإنس, وقد قرر هذا أئمتنا الكرام, ففي رد المحتار على الدر المختار، في الجزء الثالث، صفحة خمسين, وهو من كتب فقه الحنفية, لـابن عابدين توفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين بعد الألف, ويوجد حاشية أيضاً على الدر المختار للإمام الطحطاوي وكان في بلاد مصر، أما ابن عابدين فكان في بلاد الشام, وهما متعاصران, وكتاباهما أيضاً متقاربان في الحجم وفي الشرح, لكن كتب الله الذيوع والانتشار لحاشية رد المحتار دون حاشية الطحطاوي , والطحطاوي توفي سنة واحدة وثلاثين ومائتين بعد الألف, وهو في الأصل حلبي من بلاد الشام, لكنه ذهب إلى بلاد مصر واستقر فيها.

فـالطحطاوي ذكر في حاشيته على الدر المختار شرح متن تنوير الأبصار في الفقه الحنفي في الجزء الثاني، صفحة ثلاثة, وذكره السيوطي في لقط المرجان صفحة سبع وثلاثين عرفوا النكاح, فقالوا: النكاح عند الفقهاء: عقد يفيد ملك المتعة قصداً, فهذا العقد يبيح لك أن تتمتع بمن عقدت عليها قصداً, فأنت تقصد الوطء وهذا مما يباح لك, وخرج بهذا الوطء ضمناً كما لو اشتريت أمة يباح لك التمتع بها عند الشراء, لكنك لا تقصد هذا, وقد لا تتمتع بها طول حياتك, فتشتريها ولا تقربها، فيقع لك عند شراء الأمة حل التمتع ضمناً.

قال أئمتنا: معنى النكاح عند الفقهاء: عقد يفيد ملك المتعة قصداً, أي: حل استمتاع الرجل بامرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي.

قالوا: خرج بقوله: (امرأة) الذكر والخنثى لجواز ذكورته, فلا يجوز أن تتزوج هذا ولا ذاك.

وخرج بالمانع الشرعي المحارم من أم، وجدات، وبنات، وخالات، وعمات وغير ذلك؛ لأن المحرم امرأة منع من التمتع بها مانع شرعي, وخرج المشركة غير الكتابية فقد منع من نكاحها مانع شرعي, وخرج إنسان الماء فلو وجدت في البحر مخلوقاً على صورة الإنسان كما يقول الفقهاء: فلا يجوز أن تقربه, ولا أن تطأه, ولا أن تتزوجه, ولا أن تملكه؛ لاختلاف الجنس, إذ ليس هو امرأة من بني آدم، وخرجت الجنية.

فقوله: (لم يمنع منها مانع شرعي) أخرج أربعة أصناف: المحارم, والمشركة غير الكتابية, وإنسان الماء، والجنية.

إذاً فتعريف النكاح هو: حل استمتاع الرجل بامرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي, فالجنية ليست من جنسنا, فلا يجوز لنا أن نتزوجها.

قال ابن عابدين في حاشية رد المحتار: وقول الله جل وعلا في سورة النحل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72] بين المراد من قوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] قال وهو الأنثى من بنات آدم وبنات بني آدم, فلا يثبت حل غيرها بلا دليل.

ثم قال: ولأن الجن يتصورون بصور مختلفة شتى, فقد يكون الجني ذكرا, وتصور بصورة أنثى, فكيف ستتزوجه؟ وليس عندك يقين بأنه أنثى؟ وإذا كان الأمر كذلك فيمنع من التزواج والتناكح بين الإنس والجن.

وعليه قول الله: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72] يبين المراد من قوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] أي: من النساء الآدميات، ويضاف إلى هذا أن هذه الجنية ليس عندنا وثوق بأنها أنثى, فقد تتشكل بأشكال مختلفة, وقد تكون ذكراً وظهرت بصورة أنثى, والعلم عند الله جل وعلا.

فاختلاف الجنس إذاً من موانع النكاح، والإنسان ينبغي أن يتزوج من جنسه الذي يكافئه, والله جل وعلا عندما نفى الوالدية والولدية عنه نفى الزوجة عنه، بعدم وجود كفء له, فقال في سورة الإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2] وهو: السيد الذي اكتمل في السؤدد والشرف والكمال, يصمد إليه في الحاجات, وهو غني ليس بأجوف سبحانه وتعالى, وهو الذي يطعم ولا يطعم, لَمْ يَلِدْ [الإخلاص:3] أي: ليس له فرع, وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3] ليس له أصل, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4] قال أئمتنا في كتب التفسير: في ذلك دليل على نفي الزوجية عن الله جل وعلا؛ لأن الزوجة تكون من جنس زوجها, والله لا يوجد من يكافئه ولا من يماثله, وهل يرضى الواحد منا نحن من بني آدم أن يتزوج من غير جنسه؟ لا, والله جل وعلا لا يوجد من يكافئه ولا من يماثله, فكيف تنسبون إليه الزوجة؟ هذا نقص في حقه عظيم, تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً, أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ [الأنعام:101] سبحانه وتعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4] ففي هذا دليل على انتفاء الزوجة كما هو مقرر في كتب التفسير؛ لأنها حتى تكافئ الزوج لابد أن تكون من جنسه, والله لا يماثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله, لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] إذاً: لا ولد، ولا والد، ولا زوجة, فهذا دليل اختلاف الجنس وهو من موانع النكاح.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4045 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3979 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3906 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3793 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3787 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3771 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3570 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3486 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3465 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] 3417 استماع