خطب ومحاضرات
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 391-393
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أما أحاديث الليلة فعندنا ثلاثة أحاديث:
أولها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى )، متفق عليه.
تخريج الحديث
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما جاء في صلاة الليل مثنى مثنى.
وقد اقتصر المصنف رحمه الله تعالى على عزوه في الصحيحين كما قال، وفي ذلك تقصير من حيث شرط المصنف، فإن الحديث أيضاً أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صلاة الليل مثنى مثنى.
وأخرجه النسائي أيضاً في قيام الليل، باب الوتر بواحدة، وأخرجه الترمذي في الصلاة، في باب صلاة الليل مثنى مثنى، وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، وبناءً على هذا يكون الحديث مما أخرجه السبعة، على حسب مصطلح المصنف.
ولا ضير في ذلك، فإن الاقتصار على إخراج الصحيحين لا حرج فيه، لولا أن المصنف جعل لنفسه شرطاً كما سبق، وقد أخرج الحديث أيضاً البيهقي في سننه، والطحاوي في شرح معاني الآثار، وعبد الرزاق في مصنفه، والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان، والطيالسي، والدارقطني، وأبو يعلى في مسنده .. وغيرهم من أهل العلم عن ابن عمر رضي الله عنه، وجاء عن ابن عمر من طرق كثيرة جداً عن خمسة عشر راوياً، عن ابن عمر رضي الله عنه بهذا اللفظ: ( صلاة الليل مثنى مثنى ) وهذا هو حديث الباب.
وسيأتي بعده ( صلاة الليل والنهار )، فندع الكلام عن هذه الزيادة، مع أنه سبق ذكر شيء يسير عنها، لكن ندع الكلام عن زيادة: ( والنهار ) للحديث الذي بعده، وهو ما ذكره المصنف في قوله: وللخمسة، وصححه ابن حبان .
فالذي خرجناه الآن بدون الزيادة، الحديث الذي خرجناه: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، أما بلفظ الزيادة، فهذا حديث آخر سوف نعرض له الآن، فكان الأولى بالمصنف أن يقول: خرجه السبعة، وللخمسة وصححه ابن حبان، ولكن لا حرج الأمر واسع.
على كل حال، هذا الحديث في بعض طرق البخاري أنه قال: ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف صلاة الليل )، وفي رواية: ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل ).
وقد دلت الرواية في صحيح البخاري على أن هذا السؤال كان في المسجد، والرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب، كما جاء في بعض المواضع في صحيح البخاري .
إبهام الراوي نفسه في الحديث
فهذا يدل على أن السائل غير ابن عمر، كما جاء في رواية عند النسائي : ( أن رجلاً من البادية سأل النبي صلى الله عليه وسلم )، وابن عمر لا يمكن يعبر عنه بأنه من البادية، وقد جاء في كتاب أحكام الوتر، وهو كتاب نفيس أثنى عليه أهل العلم للإمام محمد بن نصر المروزي، وله كتاب في قيام الليل، فلا أدري أهو هو أم غيره، ومختصره مطبوع مختصر قيام الليل .
المهم لم يتح لي مراجعة الأمر للتأكد من أن كتاب الوتر هو مختصر قيام الليل أو غيره، المهم أن محمد بن نصر المروزي روى في كتاب الوتر : ( أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ) والأعرابي هو ساكن البادية، فتتفق هذه مع رواية النسائي .. ويبقى الفرق بينها وبين رواية المعجم الصغير للطبراني، فيحتمل أن يكون الأمر قد تعدد، يعني: مرة سأل ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عند الطبراني في المعجم الصغير، ومرة رجل من الأعراب سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ولعل الأقوى حمل الأمر على أن السائل لم يكن هو ابن عمر؛ لأن مخرج الحديث واحد، والله تعالى أعلم.
معاني ألفاظ الحديث
وقوله صلى الله عليه وسلم في الجواب: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، (صلاة) مبتدأ كما هو معروف، و(مثنى) الأولى خبر، و(مثنى) الثانية توكيد للأولى، وقوله: (مثنى مثنى) يعني: ثنتين ثنتين، أي: تسلم من كل ركعتين.
وهو دليل على أن الرجل كان يسأل عن التسليم متى يكون؟ هل بعد كل ركعتين، أم بعد أربع ركعات، أم غير ذلك؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وهذا التفسير (تسلم من كل ركعتين) جاء منصوصاً عليها عن ابن عمر رضي الله عنه وهو راوي الحديث، فقد روى مسلم في صحيحه في حديث الباب، عن ابن عمر قال، وقد سأله السائل: ( ما معنى مثنى مثنى؟ فقال: تسلم من كل ركعتين )، قال ابن عمر : ( تسلم من كل ركعتين )، فهذا يحدد المعنى المقصود؛ لأن الراوي أعلم بما روى، كما يقول كثير من الأصوليين، ولأن هذا التفسير من ابن عمر هو المتفق والمنسجم مع ظاهر النص.
فهل يفهم أحد مثلاً: أن الصلاة الرباعية تسمى مثنى مثنى؟ هل نستطع أن نقول: إن صلاة الظهر مثلاً مثنى مثنى؟ أو صلاة العصر مثنى مثنى؟ كلا، أو المغرب؟ كلا، فليس المقصود أنه يتشهد بين كل ركعتين، كما ذهب إليه بعض الحنفية، قالوا: ( مثنى مثنى ) يعني: يتشهد بعد كل ركعتين، ولو لم يسلم إلا بعد الرابعة، هذا بعيد، والأقرب بل الأصح أن المعنى: ( مثنى مثنى ) أي: يسلم بعد كل ركعتين .
وقد روى أبو داود بسند صحيح، بل هو على شرط البخاري عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ما بين صلاة العشاء وصلاة الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين )، فهذا دليل على معنى حديث ابن عمر .
وقوله: ( فإذا خشي أحدكم الصبح ) المعنى: خاف طلوع الفجر ( صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى ) أي: تجعل ما سبق من صلاته وتراً.
وقت صلاة الوتر
وقد حكى ابن المنذر رحمه الله عن جماعة من السلف: أن الذي يخرج بطلوع الفجر هو وقت الاختيار، ويبقى وقت الضرورة إلى صلاة الفجر، ومن المعلوم أن الأوقات لها وقت اختيار ولها ضرورة، كما سبق في المواقيت.
فقال هؤلاء الجماعة من السلف قالوا: الوتر كذلك له اختيار وله ضرورة، فوقت الاختيار ينتهى بطلوع الفجر بالنسبة للإنسان اليقظ، والإنسان غير المشغول.
أما الوقت الضرورة فهو للنائم والناسي وشبههما، فإن وقت الوتر عندهم يستمر لهما -يعني: للنائم والناسي- ولشبههما أيضاً إلى صلاة الفجر.
وحكى هذا المذهب الإمام القرطبي عن الجماعة، فحكاه عن الإمام مالك وأحمد والشافعي وأنه مذهبهم، والصواب أنه مذهب الشافعي في القديم لا في الجديد، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر، والنووي .. وغيرهما.
وعلى كل حال: فقد نقل الأئمة الإمام مالك والطحاوي وابن أبي شيبة .. وغيرهم نقلوا عن جماعة كبيرة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يوترون بعد طلوع الفجر، كما نقل ذلك عن ابن مسعود .. وغيره، وسوف أذكر نماذج من هذه النقول بعد قليل.
فيحتمل أن يكون هذا الذي نقل عن الصحابة والتابعين يكون أداءً للوتر، فيكون الوقت حينئذ يمتد إلى صلاة الفجر، ويحتمل أن يكون قضاءً لها، يكون الوقت قد خرج، ولكن قضوه بعد خروج الوقت؛ لأنهم تركوه لعارض من نوم أو نسيان أو مرض.. وما أشبه ذلك.
حكم قضاء الوتر وصلاة الليل
ومعنى الحديث: (من نام عن وتره فليصله إذا أصبح)، (ومن نسي وتره فليصله إذا ذكر).
ومعنى قوله: ( إذا أصبح )، يعني: إذا دخل في الصبح، كما تقول: (أتهم) إذا دخل في تهامة، و(أنجد) إذا كان في نجد .. وهكذا.
فقوله: (إذا أصبح) يشمل ما بعد طلوع الفجر، وهذا الحديث -حديث أبي سعيد رضي الله عنه- رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، وأحمد، والدارقطني، والبيهقي، وأبو يعلى، والحاكم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن حزم .. وغيرهم من أهل العلم.
وسنده لا مطعن فيه، فهو دليل لمن قال بقضاء الوتر، ولا يلزم أن يكون القضاء المذكور في الحديث هو القضاء المعروف عند الفقهاء، وإنما قد يكون المعنى أن يصليه، وبذلك تأتي روايات الحديث: ( من نام عن وتره أو نسيه فليصله )، فهو صلاة للوتر في ذلك الوقت، ولا يلزم أن تكون قضاءً.
وكذلك جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غلبه على صلاة الليل نوم أو وجع، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ).
وبين حديث عائشة وحديث أبي سعيد نوع من الاختلاف يحتاج إلى كشف، فإن حديث أبي سعيد : ( فليصله إذا ذكره، أو إذا أصبح )، يدل على أن الوتر يقضى على هيئته، ويعزز هذا المعنى حديث ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك )، فإن قوله: ( فليصلها )، يعني: يصليها على هيئتها، وهذا معروف، فالقضاء كالأداء، وهذه أيضاً قاعدة، فهذا يقوي حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
أما حديث عائشة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يدل على أنه كان يصلي الوتر شفعاً، فيصلي من النهار ثنتي عشرة ركعة، فكيف نجمع بين هذين الحديثين؟
يقال: حديث أبي سعيد فيه قوله: ( فليصله إذا ذكره )، يحمل على حديث عائشة، أي: ستكون صلاة الوتر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي الوتر شفعاً، فيحمل حديث أبي سعيد على حديث عائشة هذا وجه.
والوجه الثاني الذي ظهر لي: وهو أن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم كان لقيام الليل وليس للوتر، فكان يصليها شفعاً لأنها شفع، ولا يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نام عن قيام الليل وعن الوتر، بمعنى أنه قد يغلبه عن قيام الليل نوم أو وجع، فلا يصلي الليل، ولكنه يوتر بركعة أو ثلاث مثلاً، ثم يصلي من النهار ثنتي عشرة ركعة؛ تعويضاً عما ترك من صلاة الليل.
ويعزز هذا المعنى ما جاء في الصحيح أيضاً، عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل ).
فالقول إذاً بقضاء الوتر هو مذهب من سبق، وهو مذهب الأوزاعي وسعيد بن جبير وجماعة من الأئمة والتابعين.
وذهب الأكثرون كما يقول غير واحد إلى عدم قضاء الوتر، وحكاه محمد بن نصر المروزي عن جمهور أهل العلم، ورجحه أيضاً الإمام ابن تيمية رحمه الله، وانتصر له، وكذلك الإمام ابن القيم، كما في زاد المعاد وغيره، ونقله عن الشيخ ابن تيمية .
وقال محمد بن نصر المروزي : لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه، قال: ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم في ليلة نومهم عن صلاة الصبح في الوادي أنه قضى الوتر، فلم يصب. انتهى كلام المروزي .
ولا شك أن فيه نظراً، فقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقضاء الوتر، كما في حديث أبي سعيد السابق، ونقل عنه في حديث عائشة أنه يقضي صلاة الليل.
الآثار الواردة في قضاء الوتر
منها: أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما أبالي لو أقيمت صلاة الصبح، وأن أوتر)، هذا عن ابن مسعود .
ومثله أيضاً عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وكلها في الموطأ: (أنه كان يؤم قوماً -يعني: يصلي بقوم-، فخرج يوماً إلى صلاة الصبح فقام المؤذن ليقيم الصلاة، فأسكته عبادة بن الصامت حتى أوتر رضي الله عنه، ثم صلى بهم صلاة الصبح).
الأثر الثالث الذي ذكره مالك : هو عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال: (إني لأوتر وأنا أسمع الإقامة)، وكأنه يوتر في بيته رضي الله عنه.
الأثر الرابع: عن القاسم بن محمد رحمه الله، وهو من فقهاء المدينة قال: (إني لأوتر بعد الفجر)، يعني: بعد طلوع الفجر.
ونقل هذه الآثار الطحاوي وغيره، ونقلوا آثاراً أخرى أيضاً عن التابعين والسلف غير هذا.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: وإنما يوتر بعد الفجر -يعني: بعد طلوع الفجر- من نام عن الوتر، ولا ينبغي لأحد أن يتعمد ذلك حتى يضع وتره بعد الفجر، يعني: لا ينبغي أن يتخذ هذه عادة، وإنما يصلي الوتر بعد طلوع الفجر وقبل الصلاة إذا نسيه أو نام عنه أو شغل عنه.. أو ما أشبه ذلك، لا أن يتخذ هذه عادة.
وقريب من هذا الكلام قاله الإمام ابن قدامة صاحب المغني.
فوائد الحديث
من فوائد الحديث: عدم الزيادة في صلاة الليل على ركعتين، أنه يسلم في صلاة الليل من ركعتين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( مثنى مثنى )، وفسرها ابن عمر بقوله: ( يسلم من كل ركعتين )، إلا أن يصلي بنية الوتر من أول الصلاة، فإنه حينئذ له أن يزيد على ذلك، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الإمام ابن القيم في زاد المعاد في الجزء الأول: في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل، ذكر ثمانية أنواع من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
الفائدة الثانية: أنه لا ينقص في صلاة الليل عن ركعتين أيضاً، الفائدة الأولى: لا يزيد، الفائدة الثانية: أنه لا ينقص في صلاة الليل عن الركعتين. فليس له أن يتنفل بركعة واحدة، إلا إذا نواها وتراً.
الفائدة الثالثة: عدم تحديد صلاة الليل بعدد معين، فله أن يصلي عشرين ركعة، أو ثلاثين ركعة، أو أربعين ركعة، أو خمسين ركعة، المهم أنه يسلم من كل ركعتين، وهذا ظاهر جداً، فإن الرجل كان أعرابياً، وفي رواية كان من أهل البادية، والرجل قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ( كيف صلاة الليل؟ )، وفي رواية: ( كيف تأمرنا في صلاة الليل ).
الرجل لا يعرف كيفيه الصلاة، فمن باب أولى أنه لا يعرف لها حداً محدوداً أو عدداً لا يُتجاوز، وفي ذلك رد على من قال من أهل العلم: بأنه لا تجوز الزيادة في صلاة الليل على إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، مع أنه لا دليل أصلاً على هذا القول، فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على التحديد، بل غاية ما فيه أنه يدل على السنية، أن هذا أفضل من غيره، أما أن يدل على تحريم ما زاد عليها، فهو بعيد وإن كان قال بهذا بعض الفضلاء والعلماء والمحدثين، كمحدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، إلا أنه ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه، وأبى الله أن تكون العصمة إلا لرسله عليهم الصلاة والسلام، والعبرة بالدليل، وأظن إن شاء الله أن هذا الوجه في الاستدلال بالحديث ظاهر.
الفائدة الرابعة: أن وقت الوتر يخرج بطلوع الفجر، وقد سبق ذكر ما في هذا، وروى أبو داود والنسائي وأبو عوانة في مستخرجه على مسلم: أن ابن عمر رضي الله عنه كان يقول: ( من صلى بالليل فليجعل آخر صلاته وتراً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر )، هذا كلام ابن عمر : (فإذا كان الفجر) يعني: إذا طلع الفجر، (فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر).
وجاء في صحيح ابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: ( من أصبح ولم يوتر فلا وتر له )، وقد حمل أهل العلم هذا حديث أبي سعيد على من تعمد ترك الوتر من غير حاجة، لا نوم ولا نسيان ولا شغل، فتعمد تأخير الوتر إلى ما بعد طلوع الفجر، جمعاً بينه وبين الأحاديث الأخرى.
الفائدة الخامسة: أن الوتر يجوز بركعة واحدة، كما نص عليه في الحديث: ( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة )، وجاء في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، الذي رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي أيضاً .. وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الوتر حق، من أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أوتر بواحدة )، فنص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقد صح عن جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، أنهم كانوا يوترون بركعة، حتى ولو لم يسبقها نفل ولا صلاة، وفي صحيح البخاري [ أن معاوية رضي الله عنه أوتر بركعة، فسئل ابن عباس عن ذلك فاستصوبه، وقال: إنه فقيه ] ونقل هذا عن جماعة كثيرة من الصحابة.
وهذه الفائدة الخامسة إذاً: أن الوتر يجوز بركعة واحدة، سواء سبقها نفل أو لم يسبقها نفل.
أما حديث النهي عن (البتيراء) تصغير البتراء وهي الركعة الواحدة، فقد أخرجه الحافظ ابن عبد البر في التمهيد، وذكره عبد الحق في الأحكام، واستدل به بعض الحنفية على منع الوتر بركعة واحدة، قال ابن القطان: هذا الحديث شاذ.
وكذلك ذكر الإمام ابن الجوزي في التحقيق نحو هذا الكلام، وفي سند الحديث عثمان بن محمد بن ربيعة وهو متكلم فيه، فالحديث إذاً لا يصح، وعلى فرض صحته، فإن أهل العلم حملوه على معنىً آخر، على الركعة التي يبخسها صاحبها، فلا يتم قيامها، ولا ركوعها، ولا سجودها، هذه بعض فوائد الحديث.
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في مواضع: منها كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر، وقد أخرجه أيضاً في كتاب التهجد، الذي هو كتاب التطوع.. وغيره.
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما جاء في صلاة الليل مثنى مثنى.
وقد اقتصر المصنف رحمه الله تعالى على عزوه في الصحيحين كما قال، وفي ذلك تقصير من حيث شرط المصنف، فإن الحديث أيضاً أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صلاة الليل مثنى مثنى.
وأخرجه النسائي أيضاً في قيام الليل، باب الوتر بواحدة، وأخرجه الترمذي في الصلاة، في باب صلاة الليل مثنى مثنى، وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، وبناءً على هذا يكون الحديث مما أخرجه السبعة، على حسب مصطلح المصنف.
ولا ضير في ذلك، فإن الاقتصار على إخراج الصحيحين لا حرج فيه، لولا أن المصنف جعل لنفسه شرطاً كما سبق، وقد أخرج الحديث أيضاً البيهقي في سننه، والطحاوي في شرح معاني الآثار، وعبد الرزاق في مصنفه، والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان، والطيالسي، والدارقطني، وأبو يعلى في مسنده .. وغيرهم من أهل العلم عن ابن عمر رضي الله عنه، وجاء عن ابن عمر من طرق كثيرة جداً عن خمسة عشر راوياً، عن ابن عمر رضي الله عنه بهذا اللفظ: ( صلاة الليل مثنى مثنى ) وهذا هو حديث الباب.
وسيأتي بعده ( صلاة الليل والنهار )، فندع الكلام عن هذه الزيادة، مع أنه سبق ذكر شيء يسير عنها، لكن ندع الكلام عن زيادة: ( والنهار ) للحديث الذي بعده، وهو ما ذكره المصنف في قوله: وللخمسة، وصححه ابن حبان .
فالذي خرجناه الآن بدون الزيادة، الحديث الذي خرجناه: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، أما بلفظ الزيادة، فهذا حديث آخر سوف نعرض له الآن، فكان الأولى بالمصنف أن يقول: خرجه السبعة، وللخمسة وصححه ابن حبان، ولكن لا حرج الأمر واسع.
على كل حال، هذا الحديث في بعض طرق البخاري أنه قال: ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف صلاة الليل )، وفي رواية: ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل ).
وقد دلت الرواية في صحيح البخاري على أن هذا السؤال كان في المسجد، والرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب، كما جاء في بعض المواضع في صحيح البخاري .
وأما السائل في قوله: ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم )، فقد جاء في بعض الروايات أن السائل هو ابن عمر رضي الله عنه ذاته، ولا غرابة أن يبهم الراوي اسمه كما سبق معنا إبهام أسماء لاسمها في حديث، وإبهام أبي سعيد الخدري رضي الله عنه باسمه أيضاً في حديث، لكن احتمال أن يكون هو ابن عمر هنا وارد، وقد جاء في المعجم الصغير للطبراني أن السائل هو ابن عمر رضي الله عنه، لكن يعكر عليه أن في روايات أُخر أن ابن عمر كان يقول: (وبيني وبين السائل رجل).
فهذا يدل على أن السائل غير ابن عمر، كما جاء في رواية عند النسائي : ( أن رجلاً من البادية سأل النبي صلى الله عليه وسلم )، وابن عمر لا يمكن يعبر عنه بأنه من البادية، وقد جاء في كتاب أحكام الوتر، وهو كتاب نفيس أثنى عليه أهل العلم للإمام محمد بن نصر المروزي، وله كتاب في قيام الليل، فلا أدري أهو هو أم غيره، ومختصره مطبوع مختصر قيام الليل .
المهم لم يتح لي مراجعة الأمر للتأكد من أن كتاب الوتر هو مختصر قيام الليل أو غيره، المهم أن محمد بن نصر المروزي روى في كتاب الوتر : ( أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ) والأعرابي هو ساكن البادية، فتتفق هذه مع رواية النسائي .. ويبقى الفرق بينها وبين رواية المعجم الصغير للطبراني، فيحتمل أن يكون الأمر قد تعدد، يعني: مرة سأل ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عند الطبراني في المعجم الصغير، ومرة رجل من الأعراب سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ولعل الأقوى حمل الأمر على أن السائل لم يكن هو ابن عمر؛ لأن مخرج الحديث واحد، والله تعالى أعلم.
على كل حال قوله: ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف صلاة الليل؟ ) أو ( عن صلاة الليل )، جواب النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن الرجل كان يسأل عن كيفية الصلاة، يعني: أنه لم يكن على علم كيف يصلي صلاة الليل، من حيث هيئتها، والتسليم فيها.. وما أشبه ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الجواب: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، (صلاة) مبتدأ كما هو معروف، و(مثنى) الأولى خبر، و(مثنى) الثانية توكيد للأولى، وقوله: (مثنى مثنى) يعني: ثنتين ثنتين، أي: تسلم من كل ركعتين.
وهو دليل على أن الرجل كان يسأل عن التسليم متى يكون؟ هل بعد كل ركعتين، أم بعد أربع ركعات، أم غير ذلك؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وهذا التفسير (تسلم من كل ركعتين) جاء منصوصاً عليها عن ابن عمر رضي الله عنه وهو راوي الحديث، فقد روى مسلم في صحيحه في حديث الباب، عن ابن عمر قال، وقد سأله السائل: ( ما معنى مثنى مثنى؟ فقال: تسلم من كل ركعتين )، قال ابن عمر : ( تسلم من كل ركعتين )، فهذا يحدد المعنى المقصود؛ لأن الراوي أعلم بما روى، كما يقول كثير من الأصوليين، ولأن هذا التفسير من ابن عمر هو المتفق والمنسجم مع ظاهر النص.
فهل يفهم أحد مثلاً: أن الصلاة الرباعية تسمى مثنى مثنى؟ هل نستطع أن نقول: إن صلاة الظهر مثلاً مثنى مثنى؟ أو صلاة العصر مثنى مثنى؟ كلا، أو المغرب؟ كلا، فليس المقصود أنه يتشهد بين كل ركعتين، كما ذهب إليه بعض الحنفية، قالوا: ( مثنى مثنى ) يعني: يتشهد بعد كل ركعتين، ولو لم يسلم إلا بعد الرابعة، هذا بعيد، والأقرب بل الأصح أن المعنى: ( مثنى مثنى ) أي: يسلم بعد كل ركعتين .
وقد روى أبو داود بسند صحيح، بل هو على شرط البخاري عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ما بين صلاة العشاء وصلاة الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين )، فهذا دليل على معنى حديث ابن عمر .
وقوله: ( فإذا خشي أحدكم الصبح ) المعنى: خاف طلوع الفجر ( صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى ) أي: تجعل ما سبق من صلاته وتراً.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 | 4761 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 | 4393 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 | 4212 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 | 4094 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 | 4045 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 | 4019 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 | 3972 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 | 3916 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 | 3898 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 | 3877 استماع |