مقدمة في الفقه - صدق الإمام الشافعي ومحنته


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.

إخوتي الكرام! قبل أن أختم ترجمته بوفاته رحمة الله ورضوانه عليه، ومتى توفي؟ وما حصل له من الرؤى عند وفاته رحمة الله ورضوانه عليه، كما هي عادتنا في تراجم من تقدم من أئمة الإسلام، أختمها بصلتهم بالسلاطين، وما حصل لهم من السلاطين في زمانهم.

تقدم معنا في ترجمة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه كيف ضُرب على يد يزيد بن هبيرة في الدولة الأموية، وعلى يد أبي جعفر، ثم مات مسقياً مسموماً شهيداً رضي الله عنه وأرضاه في سجن أبي جعفر ، وكيف ضُرب سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه على يد جعفر بن سليمان أمير المدينة، وهو ابن عم أبي جعفر ، وكان أميراً على المدينة المنورة على منورها صوات الله وسلامه، ونُكِّل به وسُخِّم وجهه كما تقدم معنا حاله، وتقدم معنا أنه عرض عليه أبو جعفر وهارون والمهدي ما عرضوا من الدنيا، وأن يكون معهم في بغداد فأبى، فقال كلمته الشهيرة، وهي كلمة مأثورة كما تقدم معنا تخريج ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.

وهكذا حصلت للإمام الشافعي محنة، لكن محنته أخف محن الأئمة الأربعة، الإمام أبو حنيفة محنته أشد المحن، والإمام مالك والإمام أحمد محنتهما متقاربة وإن كانت محنة الإمام أحمد أيضاً أشد، الضرب والحبس أكثر بكثير مما حصل للإمام مالك رضي الله عنهم وأرضاهم.

أما الإمام الشافعي فما حصل له ضرب وسجن كما سيأتينا، جيء به من اليمن يداه مغلولتان إلى عنقه رضي الله عنه وأرضاه إلى بلاد بغداد، عندما اتهم بما اتهم به في عهد خلافة هارون الرشيد ، هذه المحنة -إخوتي الكرام- ذكرها أئمتنا كما في الانتقاء في صفحة خمس وتسعين، وفي توالي التأسيس صفحة سبع وعشرين ومائة، وانظروها في مناقب الإمام الشافعي للإمام البيهقي في الجزء الأول صفحة خمس ومائة، وخلاصة المحنة التي حصلت له وسببها:

أنه ادعي عليه أنه يريد أن يخرج على هارون الرشيد ، وأنه يريد الخلافة لنفسه، وسبب هذا الادعاء: أنه عندما ذهب إلى اليمن رضي الله عنه وأرضاه، وارتفع شأنه، كان والي اليمن في زمنه ظلوماً غشوماً، وكان قد صار للإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه -كما قلت- منزلة، وارتفع شأنه، وكانت له قوة، وشوكة، فكان يأمر وينهى، وكان يأخذ على يدي هذا الأمير ويمنعه من الظلم، فعمل له هذه الوشاية، وأرسل إلى هارون الرشيد وقال له: إن كان لك حاجة في اليمن، وتريد أن تبقى تابعة لخلافتك، فاحترس من الإمام الشافعي ، فلا أمر لي ولا نهي معه! لا أستطيع أن آمر ولا أنهى وهو موجود في اليمن، وأنت إذا كنت تريد أن تبقى هذه البقعة تابعة لك فاحترس من الإمام الشافعي ، فلعله يريد شيئاً.. هذا جبروت الحكم في كل وقت، فأمر مباشرة بأن يُرحَّل الإمام الشافعي إليه بهذه الكيفية، جيء به مغلولة يداه إلى عنقه رضي الله عنه وأرضاه بقيود الحديد من ذلك المكان إلى بغداد، فلما جاء في أول الأمر ما أُدخل عليه وتركه فترة، ثم بعد ذلك سُجن، ثم بعد ذلك أُدخل عليه، ولكن ظهر فضل الإمام الشافعي ومكانته وإمامته، وكذب ما افتُري وادعي به عليه رضي الله عنه وأرضاه لأمرين اثنين:

أولهما: بواسطة شيخه وصاحبه محمد بن الحسن عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، وكان بينهما معرفة وصلة بواسطة شيخهما الإمام مالك رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لأن قدوم الإمام الشافعي في هذه المرة كان سنة أربع وثمانين ومائة للهجرة، وتقدم معنا أن الإمام مالكاً توفي سنة تسع وسبعين ومائة، ومحمد بن الحسن رضي الله عنه وأرضاه هاجر إلى شيخه الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، وهو أوثق من روى عنه الموطأ، وضبطه له يزيد على ضبط غيره، لازمه ثلاث سنوات ونصفاً، ينقل عنه الموطأ ويضبط عنه، فتعرف على الإمام الشافعي ، والإمام الشافعي استفاد من الإمام محمد بن الحسن ، وهما في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، فكان بينهما معرفة، وكل واحد منهما يعرف فضل الآخر ويقدره، ومحمد بن الحسن كان له شأن في ذلك الوقت، وهو من أصحاب هارون الرشيد، ومن خواصه، وممن يحضرون مجلسه، فلما علم بقدوم أبي عبد الله الشافعي رضي الله عنه وأرضاه استاء محمد بن الحسن ، فتحيَّن دخول الإمام الشافعي على هارون الرشيد ، فدخل وكان موجوداً، هذا سبب كما سيأتينا.

والسبب الثاني: علم الإمام الشافعي وفضله، فقد كان كأنه علم على رأسه نار، وهو كالنجوم المضيئة في السماء رضي الله عنه وأرضاه، فلما دخل على هارون ، وقال له هارون : ما بلغني عنك؟! وتبين أن الدعوى ملفقة ولا صحة لها، وأن الإمام الشافعي من أهل العلم، قال: محمد بن الحسن يشهد لي بذلك، فقال: نعم، إنه من أهل العلم والفضل، وله شأن، فـهارون سأله بعد ذلك عن مسائل العلم فيما يتعلق بالكتاب والسنة والتاريخ وغير ذلك فأجاب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، فأُعجب هارون به على أئمتنا جميعاً رحمة الله ورضوانه، فقال له هارون: إنك ملأت صدري وعظمت في عيني فعظني، فوعظه بعد ذلك وأمر له بخمسمائة دينار، ثم زاده خمسمائة أخرى، فحمل معه ألف دينار وفرقها في بغداد، وما أخذ منها ديناراً واحداً رضي الله عنه وأرضاه.

هذه المحنة حصلت لهذا الإمام المبارك رضي الله عنه وأرضاه، كما قلت: جيء به من ذلك المكان، بهذه الكيفية يداه مغلولتان، ثم بعد ذلك اعتُقل وسُجن فترة، ثم بعد ذلك عندما قابل هارون ظهر فضل الإمام المبارك الميمون، وأُفرج عنه رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا أجمعين.

وقد تم الإفراج عنه، وخلاصه من هذه الشدة بهذين الأمرين: بواسطة محمد بن الحسن ، وبما عند الإمام الشافعي من علم وفضل رضي الله عنه وأرضاه، والفضل في الأمرين لله عز وجل.

أما محمد بن الحسن فهو شيخ الإمام الشافعي ، وكان الشافعي يثني عليه، فكان يقول كما في الجزء الذي ألفه الإمام الذهبي في فضائل أبي حنيفة وصاحبيه في صفحة ثمانين، وانظروا الأثر أيضاً في السير في ترجمة محمد بن الحسن في الجزء التاسع صفحة خمس وثلاثين ومائة، قال الإمام الشافعي : ما رأيت أعلم بكتاب الله من محمد بن الحسن ، كأن القرآن نزل عليه. وكان يقول: هو أفصح من رأيت، ما رأيت أفصح منه، ولو شئت لقلت: إن القرآن نزل بلغته.

ومحمد بن الحسن له شأن عظيم في التدقيق في أمور الفقه رضي الله عنه وأرضاه, يروي شيخ الإسلام إبراهيم الحربي أنه قال للإمام المبجل سيدنا أحمد بن حنبل رضي الله عنهم وأرضاهم: يا أبا عبد الله ! من أين لك هذه المسائل الدِّقاق؟ هذا الفقه والاستنباط من أين لك هذا؟ فقال: من كتب محمد بن الحسن . قال الإمام الذهبي في آخر ترجمته في الجزء الذي ذكرته في ترجمة سيدنا أبي حنيفة وصاحبيه رضي الله عنهم وأرضاهم: يُحكى عنه ذكاء مفرط، وعقل تام وسؤدد، وكثرة تلاوة، كان يقرأ كل ليلة ثلث القرآن، فيختم في ثلاث ليال رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا أجمعين.

وقد توفي في بلاد الرَّقة عندما كان مع هارون سنة تسع وثمانين بعد المائة في بلاد الرقة، توفي هو والكسائي في يوم واحد في وقت واحد، فحزن هارون وقال: دفنا الفقه والعربية في يوم واحد! عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.

ومحمد بن الحسن عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كان يكرم تلميذه وصاحبه الإمام الشافعي رضي الله عنهم وأرضاهم، ويجله ويبجله، ففي توالي التأسيس في صفحة اثنتين وثلاثين ومائة، قال: ركب الإمام محمد بن الحسن على دابته وهو متوجه إلى دار الخلافة بطلب من هارون ، ولما وصل إلى الدِّهليز الذي سيخرج منه، وإذا بالإمام الشافعي قد أقبل، فنزل الإمام محمد بن الحسن وعانق صاحبه وتلميذه الإمام الشافعي ، وقال لغلامه: اذهب فاعتذر لنا. أي أنني لن أذهب إلى هارون ، فقال الإمام الشافعي : سوف آتي في وقت آخر، قال: لا، فذهب الغلام واعتذر وآثر مجالسة الإمام الشافعي على مجالسة أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في ذلك الحين هارون الرشيد عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، قال أئمتنا: اختار مجالسته على مرتبته، وعلى منزلته، وعلى مجلسه في دار الخلافة، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل.

الإمام محمد بن الحسن عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا التقى مرة بشيخ كريم وهو علي بن معبد بن شداد ، من المحدثين الكبار، ثقة فقيه، كان أيضاً يتفقه على مذهب سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنهم وأرضاهم، التقى به في الرقة عندما كان مع هارون وهو ذاهب إلى دار القضاء، فنزل وسلم عليه وأخذه معه، فلما خلا به قال: ما الذي خلَّفك عني؟ أنت هنا وليس بيننا صلة! فقال علي بن معبد : جئت مرة لأسلم عليك فمنعني الغلمان، هؤلاء الذين على الباب، الحُجَّاب، قالوا: لا تدخل على محمد بن الحسن ، فانصرفت، فقال: من هو؟ أخبرني، فقال: لا أخبرك بعينه، والأمر سهل، قال: إن لم تخبرني لأطردنهم كلهم، ما يبقى غلام معي ولا حاجب عندي من أجلك، فقال له: لا أريد أن يُؤذى البريء من أجل واحد. قال: إن كان كذلك نتوسط، فجمع غلمانه وقال: إذا جاء علي بن معبد فلا شأن لكم معه، يدخل علي مباشرة إلى مجلس القضاء، فكان إذا جاء يسلم، فإذا رد عليه محمد بن الحسن دخل، عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، هذا إجلال العلماء لبعضهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فالإمام محمد بن الحسن يجل تلميذه وصاحبه الشافعي، والشافعي يجل شيخه وصاحبه محمد بن الحسن رضي الله عنهم وأرضاهم.

إخوتي الكرام! إنما ذكرت هذا لنعي أمراً لابد من وعيه، الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه قدم بغداد ثلاث مرات، قَدمَته الأولى كانت سنة أربع وثمانين ومائة، والثانية سنة خمس وتسعين ومائة، الأولى أتى إليها من غير اختياره، جيء به مغلولاً يُحاكم، وله صلة بـمحمد بن الحسن في المدينة المنورة على منورها صلوات الله سلامه قبل هذا اللقاء، ففرح بعد ذلك بلقاء صاحبه وشيخه أيضاً وجلس معه فترة واستفاد، ثم عاد بعد ذلك إلى مكة المكرمة، وعاد إلى بغداد مرة ثانية لطلب العلم، ولقاء المشايخ سنة خمس وتسعين ومائة، وجلس فيها سنتين متتاليتين، ثم عاد إلى مكة المكرمة وجلس فيها قليلاً، ثم عاد إلى بغداد مرة أخرى سنة ثمان وتسعين ومائة، فمكث فيها أشهراً فقط، ثم شد رحله إلى بلاد مصر وفيها توفي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا, هذه الرحلات الثلاث التي حصلت للإمام الشافعي إلى بغداد، سنة أربع وثمانين، وخمس وتسعين، وثمان وتسعين ومائة، عليه وعلى أئمتنا رحمان رب العالمين.

إخوتي الكرام! بهذه الرحلات يتبين لنا أمر مكذوب لُفق على بعض أئمة الإسلام لابد من أن نحذره، وقد رده أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين، قال الإمام ابن حجر رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا في توالي التأسيس صفحة إحدى وثلاثين ومائة: الرحلة المنسوبة إلى الإمام الشافعي ذكرها الإمام الآجري والإمام البيهقي في مناقب الإمام الشافعي، وذكرها الإمام الرازي في مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنهم وأرضاهم، قال: إنها مكذوبة، وغالب ما فيها موضوع، وبعضها ملفق من روايات مفرقة، وأوضح ما فيها من الكذب أن الإمام محمد بن الحسن وصاحبه أبا يوسف حرضا هارون الرشيد على قتل الإمام الشافعي في الرحلة، قيل: إن محمد بن الحسن وأبا يوسف حرضا هارون الرشيد على قتله، وأرادا أن يقتله، وأن يبطش به، حتى ظهر له بعد ذلك فضله فعفا عنه وأفرج عنه وأطلق سراحه.

هذا -إخوتي الكرام- مكذوب قطعاً وجزماً، أولاً: من ناحية التاريخ، فالإمام أبو يوسف كما قال الحافظ ابن حجر ، وكما هو مقطوع به، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة، أي: قبل قدوم الإمام الشافعي بسنتين، وعليه فالكلام كله مكذوب مزور، الإمام الشافعي جاء سنة أربع وثمانين ومائة، فكيف سيحاول أبو يوسف إقناع الخليفة ليقتل الإمام الشافعي رضي الله عنهم وأرضاهم؟! وهذا حقيقة أمر لا يُصدق، ولا يُقبل من ناحية التاريخ.

الأمر الثاني: كما قال الإمام ابن حجر ، ونِعم ما قال رضي الله عنه وعن أئمتنا، قال: لو كان الإمام أبو يوسف حياً -والإمام محمد بن الحسن كان حياً قطعاً وجزماً- لكن لو كان الإمام أبو يوسف حياً، فهما أتقى لله من أن يفعلا ذلك، ولا يُظن بهما ذلك، وإن منزلتهما وجلالتهما وما اشتُهر من دينهما لا يمكن أن يصدر عنهما ذلك, هذا لا يمكن أن يحصل منهما مع ما عندهما من الديانة والصلاح والإمامة رضي الله عنهم وأرضاهم، إنما هذه الرحلة التي لفقها وافتراها وكذبها واحد ممن ينتسب إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله عن أئمتنا أجمعين، وتقدم معنا ضمن مواعظ الجمعة بيان التعصب المذموم الذي ينبغي أن نحذره، وهو أن ينتسب الإنسان إلى مذهب ثم يتسفه على المذاهب الأخرى, هذه الرحلة افتراها واختلقها وزورها وحبكها وصنعها عبد الله بن محمد البلوي .

قال الإمام الدارقطني كما في الميزان: كان يضع. كان وضَّاعاً، قال الإمام ابن حجر كما في اللسان في الجزء الثالث صفحة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، ومعه الميزان: وهو صاحب الرحلة المنسوبة إلى الإمام الشافعي ، وقد طوَّلها عبد الله بن محمد البلوي ونمقها، وغالب ما أورده فيها مختلق.

هذا -إخوتي الكرام- ينبغي أن نعيه، حصلت للإمام الشافعي محنة، منَّ الله عليه بهذين الأمرين وأُفرج عنه بسببهما: شيخه وصاحبه محمد بن الحسن ، وعلمه وفضله الذي تفضل الله به عليه.

الإمام الشافعي بعد ذلك أخوتي الكرام عُرض عليه القضاء من قِبل خليفتين اثنين فرفض، أولها: هارون الرشيد ، فبعد أن ظهر لـهارون الرشيد فضل الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، عرض عليه القضاء، كما في مناقب الإمام الشافعي للإمام البيهقي في الجزء الأول صفحة اثنتين وخمسين ومائة, فقال: لا حاجة لي فيه، لا أكون قاضياً ولا ألي لكم عملاً، لا حاجة لي فيه، وعرض عليه القضاء بعده الخليفة المأمون ، وتقدم معنا أن المأمون بأس وبلاء على أهل الإسلام، وقد توفي سنة ثماني عشرة ومائتين، عرض عليه أيضاً القضاء كما في مناقب الإمام الشافعي في الجزء الأول صفحة خمس وخمسين ومائة، وفي توالي التأسيس صفحة اثنتين وثمانين ومائة، عرض عليه القضاء وأرسل رسولاً إلى مصر ومعه صك بتكليف الإمام الشافعي القضاء ورئاسة القضاء، وأنه هو المسئول عن القضاء في بلاد مصر، فلما وصل الرسول إلى الإمام الشافعي قال: حتى أستخير الله، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أن هذا خير لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري فأمضه ويسره لي، وإن كنت تعلم أن هذا شر لي في ديني ودنياي وفي عاقبة أمري فاقبضني إليك، فمات بعد ثلاثة أيام عليه الرحمة والرضوان.

ردَّ القضاء -كما قلت- الذي عُرض عليه من قِبل هارون ، ولما جاءه التكليف من قِبل المأمون لجأ إلى الحي القيوم أن يختار له ما فيه رضاه عليه، فقُبض إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه، وعمره -كما تقدم معنا- أقل عمراً بين الأئمة قاطبة رضوان الله عليهم أجمعين، فقد عاش أربعاً وخمسين سنة فقط عليه رحمة الله ورضوانه.

إخوتي الكرام! عدد من أئمة الإسلام كانوا يمتنعون عن القضاء كما تقدم معنا في تراجمهم، منهم منصور بن المعتمر ، ثقة ثبت ما دلَّس قط، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة، إمام مبارك، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء الخامس صفحة اثنتين وأربعمائة: قام الليل أربعين سنة، وصام أربعين سنة، وصلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة. وقد عُرض عليه القضاء في عهد الدولة الأموية، والذي عرض عليه القضاء هو يزيد بن هبيرة الذي نكَّل بسيدنا أبي حنيفة كما تقدم معنا رضي الله عنه وأرضاه، عرض عليه القضاء فأبى، فسجنه شهراً، ثم أخرجه من السجن إلى دار القضاء لأجل أن يقضي فأُجلس كرهاً، فجاء إليه الخصوم، فكان إذا جلس الخصمان يختصمان، هذا يذكر كلامه، وهذا يذكر كلامه، يقول: فهمت كلامكما، لكن لا أحسن القضاء بينكما، انتهت الجلسة، في أمان الله، فتكرر هذا منه، فقيل لـيزيد بن هبيرة : لو نثرت لحمه فلن يقبل القضاء، فلا داعي للمجادلة والمحادة بالباطل، لا يمكن مهما عملت به، سجنته شهراً ثم أخرجته إلى دار القضاء، وفعل هذا، فما يمكن أن يقبل أبداً، فأعفاه بعد ذلك وتركه.

عدد من أئمتنا -إخوتي الكرام- فعلوا هذا، وتقدم معنا أن القضاة يحشرون مع الأمراء، والعلماء يحشرون مع الأنبياء على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، والقضاء بعد الخلافة الراشدة عندما تدنس صار أهل الخير يبتعدون عنه، ومن ابتُلي به واتقى الله، فلعله ينجو رأساً برأس، والعلم عند الله جل وعلا؛ لأنه سيصبح للقاضي صلة وثيقة واتصال مباشر بالمسئول، وكما قلت: بعد الحلافة الراشدة دخلوا في ظلم وجور، يقل ويكثر على حسب حال الأمير الذي جاء بعد الخلافة الراشدة، باستثناء سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه.

يذكر أئمتنا في ترجمة العبد الصالح شريك بن عبد الله النخعي ، توفي سنة سبع وسبعين ومائة، صدوق لكنه يخطئ كثيراً، وتغير حفظه منذ أن ولي القضاء، وكان عابداً، يقول الحافظ ابن حجر في ترجمته في التقريب: كان عابداً فاضلاً شديداً على أهل البدع، روى له البخاري تعليقاً وأهل السنن الأربعة، وروى له الإمام مسلم لكن مقروناً وفي المتابعات، عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا, هذا أيضاً أكرهه المهدي على القضاء لكن بحيلة، دعاه المهدي وقال: أنت مخير بين ثلاث: إما أن تلي القضاء لنا، وإما أن تعلم أولادي وأن تؤدبهم، وإما أن تأكل طعامنا، أن تأكل أكلة واحدة, اختر ماذا تريد؟ لا مفر لك من واحدة من هذه الثلاث، ففكر رضي الله عنه وأرضاه قليلا فاختار الأكل، وأكل السلطان مثل الخمر أم الخبائث، فاختار الأكل، فقال لطباخه: اصنع له من الطعام الذي تتعلق به الأذهان وهمة الإنسان، بحيث إذا أكل لا يصبر عنه، فصنع له طعاماً من الطعام الذي يُقدم للسلطان، فلما أكله قال المهدي : لن يفلح أبداً، انتهى، فما خرج حتى قبل القضاء وعلم أولاد المهدي ، فكُتب له بعد ذلك صك باستلام العطاء، فذهب إلى الصراف الذي سيعطيه العطاء، فبدأ يحاققه ويستوفي منه العطاء كاملاً! قال: تريد عطاءك كاملاً وما تسامح في شيء يسير، كأنك بعت بزة، فقال: لقد بعت ما هو أعظم منه، بعت ديني، أكثر من هذا ماذا تريد وأنت ستنقصني أيضاً من عطائي؟! لقد بعت ديني، عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ومع هذه الترجمة الطيبة له كان عابداً فاضلاً لا تأخذه في الله لومة لائم، ومع ذلك يقول هذا عن نفسه رحمة الله ورضوانه عليه.

نسأل الله أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فأئمتنا كانوا يحذرون من هذا، والسلامة لا يعدلها شيء.

أختم الكلام أخوتي الكرام بوفاة هذا الإمام الهمام، وكما قلت سنختم ترجمته بعون الله وتوفيقه في هذه الليلة المباركة لنقف عند ترجمة سيدنا الإمام المبجل أبي عبد الله أحمد بن حنبل نتدارسها، وهي آخر التراجم للأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين.

هذا الإمام المبارك توفي آخر يوم من رجب، يوم الخميس في أول ليلة من شعبان، وهي ليلة الجمعة، وكانت وفاته رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا بعد العشاء، ودُفن يوم الجمعة بعد العصر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

الرؤى التي رئيت للإمام الشافعي بعد موته

انظروا هذا في مناقب الإمام الشافعي للإمام البيهقي في الجزء الثاني صفحة سبع وتسعين ومائة.

وقد حصلت رؤى في الليلة التي توفي فيها هذا الإمام المبارك، رآها عدد من أئمة الإسلام سأقتصر على اثنتين منها.

الرؤيا الأولى: رأى بعض أصحابه أنه توفي في تلك الليلة نبي الله أبونا آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فسألوا المعبر فقال: مات في هذه الليلة أعلم أهل الأرض، فسلوا من مات، تحققوا من الخبر، قالوا: وكيف؟ من أين علمت؟ قال: وعلم آدم الأسماء كلها، أعلم أهل الأرض في هذا الوقت توفي، فجاءهم الخبر في نفس الليلة بوفاة الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه.

خبر آخر في نفس هذا الكتاب أيضاً: رأى راءٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُبض تلك الليلة ودُفن بعد صلاة العصر، وهو خليفة النبي عليه الصلاة والسلام الإمام الشافعي ، وكان المقرر أن يُدفن بعد صلاة الجمعة كما قرر أمير مصر، فلما قيل له: رئي أن النبي عليه الصلاة والسلام مات هذه الليلة ودُفن بعد صلاة العصر، فقال: لا يُدفن الشافعي إلا بعد صلاة العصر، فصلوا العصر ودفنوه، رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا أجمعين.

وفاة الإمام الشافعي ليلة الجمعة وذكر فضل من يموت يوم الجمعة وليلتها

وهذه الليلة التي مات فيها واليوم الذي دُفن فيه، هذا من حُسن خاتمة الإنسان أن يموت في ليلة الجمعة أو في يوم الجمعة، ومن مات في ليلة الجمعة وفي يوم الجمعة ينجو من فتنة القبر، ولا يتعرض لسؤال منكر ونكير، ولا يتعرض للحساب ولا للعذاب في القبر بفضل الله وكرمه ورحمته وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ، والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، والحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر )، والحديث لا ينزل عن درجة الصحة، وقد رُوي عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

رُوي الحديث من رواية سيدنا أنس بن مالك كما في مسند أبي يعلى ، انظروا المجمع الجزء الثاني صفحة تسع عشرة ومائتين، ورُوي من رواية سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه أجمعين كما في الحلية في الجزء الثالث صفحة خمس وخمسين ومائة: ( ما من مسلم يموت ليلة الجمعة أو يوم الجمعة إلا أُجير ) في رواية جابر : ( من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء ).

ورُوي الحديث من رواية سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، رواه الإمام الديلمي ، فهو من رواية عبد الله بن عمرو وأنس ومن رواية جابر وسيدنا علي رضي الله عنهم وأرضاهم, وانظروا الكلام على الحديث في المقاصد الحسنة صفحة تسع وعشرين وأربعمائة، وفي تحفة الأحوذي في الجزء الثاني صفحة خمس وستين ومائة.

وقد قرر أئمتنا أن تسعة أصناف لا يُمتحنون ولا يفتنون في قبورهم, انظروا الكلام عليهم موسعاً مفصلاً في جمع الشتيت في صفحة تسع وثمانين إلى تسع ومائة، وهؤلاء الأصناف التسعة أسردهم سرداً، وأدلتهم تُطلب من الكتاب الذي ذكرته ومن غيره من الكتب: أولهم: النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ثانيهم: الصديق، ثالثهم: الشهيد، رابعهم: المرابط، إذا مات في رباط، خامسهم: المطعون الذي يموت بالطاعون، سادسهم: الصابر في بلد انتشر فيه الطاعون ثم مات وإن لم يمت بسبب الطاعون، سابعهم: الطفل الذي هو دون البلوغ والحِنث، ثامنهم: من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، تاسعهم: من يداوم ويواظب على قراءة سورة الملك (تبارك الذي بيده الملك) كل ليلة.

هؤلاء الأصناف التسعة يُجارون ويُحفظون من فتنة القبر وعذاب القبر بفضل الله ورحمته، وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105]، فمن وُفق لشيء من ذلك، وحصل له شيء من ذلك، فهو دليل على نجاته من فتنة القبر، والله على كل شيء قدير.

فإن قال قائل: المحافظة على الأمر الأخير -قراءة سورة الملك- أمر يسير، تقول: يا عبد الله! إن لم تُكتب لك هذه الكرامة سيحال بينك وبين المحافظة عليها في كثير من الليالي، وقد قال لي بعض الإخوة: أواظب عليها وأحياناً أنسى، يقول: أحياناً تمر أسابيع ولا أقرؤها، قلت: يا عبد الله! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

هذه الأمور التسعة إذا حصلت أو واحد منها لإنسان فإنه يسلم من فتنة القبر ولن يقابل الفتان، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

إخوتي الكرام! الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في آخر يوم من حياته وهو يوم الخميس، دخل عليه تلاميذه وأصحابه كما في صفحة أربع وتسعين ومائتين، فسألوه: يا أبا عبد الله ! كيف أصبحتَ؟ قال: أصبحتُ من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، وعلى الله وارداً، ولكأس المنية شارباً، ولسوء أعمالي ملاقياً، فلا أدري نفسي إلى الجنة تصير فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها. عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

إخوتي الكرام! توفي هذا الإمام المبارك كما قلت سنة أربع ومائتين عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

هذا ما يتعلق بترجمته في هذه المواعظ التي تقدمت، وكما قلت مدارسة هذه الأخبار لأئمتنا الأبرار عندما نريد أن نقرأ فقههم ضرورية لنعرف قدرهم ومنزلتهم، ولنتأسى بهم رضوان الله عليهم أجمعين، فعند ذكرهم تنزل الرحمات ويرضى رب الأرض والسماوات.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.