شرح العقيدة الطحاوية [63]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب والثواب والعقاب، والصراط والميزان)

الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على منكريه في غالب سور القرآن.

وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالآخرة، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفي؛ بيّن تفصيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء؛ ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري.

والقرآن بين معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع، وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقول من يقول منهم: إنه لم يخبر به إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريق التخييل، وهذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام.

وقد أخبر الله بها من حين أن أهبط آدم، فقال تعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:24-25]، ولما قال إبليس اللعين: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر:36-38].

وأما نوح عليه السلام فقال: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً [نوح:17-18].

وقال إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] إلى آخر القصة، وقال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41]، وقال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260].

وأما موسى عليه السلام فقال الله تعالى لما ناجاه: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:15-16] بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد، وإنما آمن بموسى قال تعالى حكاية عنه: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:32-33] إلى قوله تعالى: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39] إلى قوله: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46].

وقال موسى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، وقد أخبر الله في قصة البقرة: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73]].

هذا الكلام وما بعده يتعلق بالبعث بعد الموت، الذي هو بعث الأجساد وحشرها، ونشرها، وإعادة الأرواح إلى الأجساد، وجمع الأجساد بعد أن بليت وبعد أن صارت تراباً، وبعد أن تمزقت وتفرقت، فيبعثها الله، ويعيد إليها الحياة، وتتصل بها أرواحها اتصالاً أبدياً محكماً ليس بعده انفصال، ليس كاتصالها بها في الدنيا الذي يعتريه شيء من الانفصالات، هذا هو البعث بعد الموت، فمتى يكون؟

يكون يوم القيامة عندما ينفخ في الصور، وقيل: إن الصور هو قرن واسع كبير، فيه ثقوب بعدد أرواح بني آدم، ينفخ فيه إسرافيل فتخرج كل روح من ثقب وتصل إلى جسدها، وقبل النفخ في الصور ينزل الله مطراً فتنبت منه أجسادهم، والله قادر على أن ينبتها بدون مطر وغيره، كما في هذه الآية: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [نوح:17] (أنبتكم) يعني: أخرجكم إلى هذا الوجود.

اهتمام القرآن والسنة بالإيمان بالبعث أكثر من غيره

الإيمان باليوم الآخر والبعث: هو ركن أساسي من أركان الإيمان، وقد يكون هو الركن المؤكد عليه دائماً؛ ولأجل هذا كثيراً ما يقتصر عليه مع الإيمان بالله في كثير من الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره) ، (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث).

لم يذكر مع الإيمان بالله إلا الإيمان باليوم الآخر؛ وذلك لأن اليوم الآخر وقع فيه الخلاف بين الرسل وأممهم، وأنكره المشركون وبالغوا في إنكاره، واعتقدوا أن الأجساد بعد موتها تضمحل ولا تعود، وأنه ليس هناك حياة، وأن هذه الدنيا باقية وليس لها فناء؛ ولهذا حكى الله عنهم أنهم يقولون: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ [الجاثية:24] أي: الزمان، ومعنى قولهم: نموت ونحيا أي: يموت قوم ويحيا آخرون، وهو معنى قولهم: أرحام تدفع، وأرض تبلع، هذه عقيدة أولئك المشركين، وهي أيضاً عقيدة الدهريين.

فالإيمان بالله واليوم الآخر آكد أركان الإيمان، فهو آكد من الإيمان بالكتب، ومن الإيمان بالرسل، ومن الإيمان بالملائكة.. ونحو ذلك؛ لأن الخلاف في الإيمان بها قليل بخلاف الإيمان باليوم الآخر فإن المنكرين له كثير، ولما كان الأمر كذلك، جاءت الأدلة الكثيرة عليه، فلا تحصى الآيات التي تؤكد البعث بعد الموت، وستأتينا آيات مشروحة موضحة لما حكى الله، ولما رد الله به على المشركين الذين أنكروا البعث بعد الموت، وكيف أنه احتج عليهم بحجج عظيمة، فإذا آمن العباد باليوم الآخر وبما بعده فإنهم يستعدون لذلك اليوم بالأعمال الصالحة التي يكونون بها سعداء، وإذا لم يؤمنوا به فإنهم لا يهتمون إلا بهذه الحياة، حيث إنهم ليس في نظرهم حياة أخرى بعد هذه الحياة.

فعرفنا بذلك أن الإيمان باليوم الآخر من آكد أركان الإيمان، وهو يعم -كما تقدم- البرزخ والحشر، ولكن أكثر ما يركز على الحشر الذي هو حياة الأجساد وحشرها وحسابها وجمع الناس في الدار الآخرة.. وما أشبه ذلك وما بعده، وهكذا إلى أن يحصل الجزاء على الأعمال، وإدخال أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.

هذا هو الذي اتفقت عليه دعوة الرسل، وهذه الآيات التي سمعنا لا شك أنها تدل على أن الرسل مجمعون على أن اليوم الآخر لابد منه وأنه سيأتي، كما في قول نوح عليه السلام: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً [نوح:17-18]، ينبههم على أنهم سيخرجون منها، مثل قوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55].

وكذلك بقية الرسل ذكروا البعث لأتباعهم، وكانوا يحثونهم على الإيمان بالله وعلى الإيمان بالبعث بعد الموت وعلى الاستعداد له، وكذلك غير الأنبياء كما سمعنا من مؤمن آل فرعون الذي قال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:32]، وهو يوم القيامة، وقوله: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40] ، فكل ذلك دليلٌ على أن أتباع الأنبياء أيضاً صرحوا بأنهم يؤمنون باليوم الآخر.

من الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر؛ لأنه خبر الله، فالله هو الذي أخبر باليوم الآخر، وبما يكون في اليوم الآخر، فمن آمن بالله آمن بأخبار الله.

واليوم الآخر يشمل البعث وما بعده، بل يشمل الموت وما بعده، ولكن أكثر ما يذكرون البعث بعد الموت، وما بعده من الجزاء والحساب والثواب والحوض والميزان وجزاء الأعمال ومحاسبة الله تعالى للعباد، وما يكون في عرصات القيامة من طول الوقوف ومن طلب الشفاعة، ومن الأهوال وطول ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيباً، فيؤمن أهل السنة بذلك على التفصيل الذي ذكره الله تعالى، ومن آثار إيمانهم الاستعداد ليوم المعاد، فإن الذي يؤمن بالشيء ويصدق به تظهر عليه آثاره، فيستعد له، ويتهيأ لذلك اليوم، ويعرف أنه لا نجاة له إلا بالأعمال الصالحة التي كلف بها.

إنكار الفلاسفة للبعث الجسماني

ذكر الشارح أن القرآن فيه الأدلة الكثيرة على الإيمان بالبعث، وضرب الأمثلة على ذلك، ولعل السبب في ذلك كثرة المنكرين له من المشركين الذي يستبعدون إعادة الموتى من القبور بعد التفرق وذهاب الأشلاء وصيرورة الأجسام تراباً، ويقولون: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3] ، يستبعدون ذلك، ويطلبون شططاً فيقولون: ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجاثية:25].

ولما كان هذا تكذيبهم؛ فإن الله -سبحانه- ضرب لهم الأمثلة، وذكر الأدلة، وبين لهم كمال القدرة؛ ولأجل ذلك يقول العلماء: إنه لم يشتمل كتاب من الكتب السابقة على تقرير البعث وذكر أدلته مثلما اشتمل كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ففيه التصريح به تصريحاً بليغاً لا يحتمل أو يتطرق إليه تأويل أو حمل على محمل بعيد، لكثرة الأدلة وقوتها وصراحتها، وكثرة ضرب الأمثلة عليها.

ومع هذا فإن كثيراً من الذين تسموا مسلمين ينكرون هذا البعث -البعث الجثماني أو البعث الجسماني- ويقال لهؤلاء: الفلاسفة الإلهيون، وهم الذين ينكرون أولاً بدأ الخلق، ويقولون: إن هذا الإنسان لم يزل قديماً، وليس له أول، فينكرون أن يكون أبو البشر آدم، وينكرون أن يكون بدء خلقه من طين، وينكرون أن يكون هناك وقت للإنسان لم يكن فيه شيئاً مذكوراً.

ثانياً: ينكرون نهاية الدنيا، ويقولون: الدنيا ليس لها آخر، وهذه الحياة تستمر أبداً إلى غير نهاية، ويعبرون عن هذا بقولهم: أرحام تدفع، وأرض تبلع، وينكرون عودة الأجساد وجمعها بعد تفرقها، ويجعلون الجزاء على الأرواح، ويدعون أن هذه الأرواح هي التي أهبطت من السماء واتصلت بالجسد، ثم بعد ذلك خرجت منه إلى حيث كانت، ويقول رئيسهم ابن سينا -وهو من أكابر الفلاسفة- في مطلع قصيدته العينية:

هبطت إليك من المحل الأرفعِ ورقاءُ ذات تقلب وتفجع

وصلت على كرهٍ فلما واصلت ألفت مرافقة الخراب البلقعِ

يصف الروح بأنها هبطت إليك من المكان الأرفع، ثم اتصلت بجسدك، ثم ألفته، إلى أن صارت كجزء منه، ثم بعد ذلك تنفصل وتعود كما كانت، فهؤلاء ما آمنوا بالله حق الإيمان؛ لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بخبره، ومن خبره حشر الأجساد وبعثها وجمعها بعدما تتفرق، وهذا لم يؤمن به هؤلاء.

إيراد الأدلة القرآنية المتنوعة على البعث

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين في آيات من القرآن، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]، وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا، فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة، فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد يذكر فيها الدنيا والآخرة.

وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد، فقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ [سبأ:3] ، وقال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53] ، وقال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].

وأخبر عن اقترابها فقال: اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] ، وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1] ، سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [المعارج:1-2]، إلى أن قال: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:6-7].

وذم المكذبين بالمعاد فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس:45] ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18] ، بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمِونَ [النمل:66] ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً [النحل:38] ، إلى أن قال: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:39] ، وقال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر:59] ، وقال تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً [الإسراء:97-99] ، وقال تعالى: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:49-52].

فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال سؤال على التفصيل، فإنهم قالوا: أولاً: أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء:49]، فيقال لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب، فهلا كنتم خلقاً لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد، وما هو أكبر في صدوركم من ذلك، فإن قلتم: كنا خلقاً على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء، فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم، وبين إعادتكم خلقاً جديداً؟

وللحجة تقدير آخر: وهو لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما فإنه قادر على أن يفنيكم، ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة، فما الذي يعجزه فيما دونها؟

ثم أخبر أنهم يسألون سؤالاً بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله: قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:51] ، فلما أخذتهم الحجة، ولزمهم حكمها، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به تعلل المنقطع، وهو قولهم: متى هو؟ فأجيبوا بقوله: عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الإسراء:51]].

قد ذكرنا أن القرآن اشتمل على الأدلة الكثيرة في تقرير البعث والنشور، وفيه ذكر عظم قدرة القادر، وأنه لا يعجزه شيء، وأن الرسل أولهم وآخرهم كلهم بلغوا هذا البيان، الذي هو الخبر عن اليوم الآخر والبعث والجزاء في الدار الآخرة، وذكروا ما يكون بعد الموت، فقد اتفقت دعوة الرسل كلهم على ذلك.

حكمة الله وعدله يقتضيان البعث

الحكمة تقتضي البعث، فإن هذه دار عمل، والآخرة دار جزاء، فالناس في هذه الدنيا يعملون، وفي الآخرة يلقون جزاء أعمالهم؛ ولأجل ذلك صار اهتمام العقلاء في هذه الدار بعمارة ما بعد الموت، وهو الدار الآخرة التي سيفدون إليها، وقد انتبهوا إلى أنهم مأمورون بالعمارة وبالبناء، ولكن البناء الذي يبقى ليس البناء الذي يفنى، فإن بناء الدنيا يفنى ويفنى ساكنوه، وتفنى الدار ويموت صاحبها، وأما العمارة في الآخرة فإنها هي الباقية، يقول بعضهم:

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها

النفس ترغب في الدنيا وقد علمت أن السعادة فيها ترك ما فيها

فاغرس أصول الهدى ما دمت مجتهداً واعلم بأنك بعد الموت لاقيها

فإذا آمن العبد بأنه مأمور بأن يعمل للآخرة أكثر من العمل للدنيا أفلح، والآخرة هي دار الجزاء، والمؤمنون يعملون لآخرتهم، بمعنى أنهم يقدمون ما تعمر به مساكنهم في الجنة، روي في بعض الآثار: (أن الملائكة يبنون قصوراً لبني آدم، فإذا توقف الإنسان عن العمل توقفوا عن البناء وقالوا: نتوقف حتى تأتينا النفقة).

معلوم: أن الذي يبني في الدنيا يتوقف العمال عن البناء حتى يعطيهم أجرتهم ونفقتهم، فكذلك في الآخرة لا تبنى المباني الأخروية من الغرف التي فوقها غرف إلا بالأعمال الصالحة.

إقامة الله الحجة على الكفار المنكرين للبعث يوم القيامة

الرسل كلهم أخبروا باليوم الآخر، واعترفت الأمم التي تدخل النار بأن رسلهم قد بلغوهم، واعترفوا بأنهم لم يصدقوا لنقص في عقولهم، قال الله تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] يعني: ينذركم بالعذاب وينذركم بالنار، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا [الملك:9] واعترفوا بأن تكذيبهم هو الذي أوقعهم في العذاب حتى قالوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10] .

وسمعنا الآية التي في سورة الزمر، وهي قوله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]، وكذلك في سورة الأنعام أن الرسل تقول لهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الأنعام:130]، يقول الله لهم هذه المقالة، فيقولون: بلى، يعترفون بأنهم قد جاءهم الرسل الذين أنذروهم لقاء يومهم هذا، ومع ذلك لم يتقبلوا، بل كذبوا الرسل، واستبعدوا أن يكون هناك بعث بعد الموت، واعتقدوا أن ليس هناك إلا هذه الدنيا، وأنهم إنما خلقوا ليأكلوا ويشربوا ويمتعوا أجسامهم، وبعد أن يخرجوا من الدنيا لا يعودون مرة أخرى، هذه عقيدة أوبقتهم وأهلكتهم وأنستهم ما خلقوا له.

ومن الأدلة على البعث أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه على اليوم الآخر في قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53] الضمير (هو) يعود إلى البعث وما بعد الموت من الجزاء على الأعمال، (أحق هو؟) أي: أحق صحيح وثابت ما أخبرتنا به من البعث والجزاء، (قل: إي وربي) أمره أن يحلف بالله ربه الذي هو رب المخلوقات وخالقها ومدبرها.

وكذلك قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي [سبأ:3] ، (بلى وربي) هذا حلف أيضاً، (لتأتينكم): أي: لابد أن تأتيكم الساعة.

وكذلك قوله: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي [التغابن:7] ، هذا أيضاً قسم ثالث: ( ..بلى وربي لتبعثن) أي: لابد من البعث.

وكذلك قوله تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23] .. ونحو ذلك من الآيات الكثيرة التي يقسم فيها بأنه لابد أن يبعثوا.

أما المشركون: فإنهم ينكرون هذا، بل يحلفون عليه، يقول الله تعالى في سورة النحل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل:38]، والله تعالى يقيم عليهم الحجج بعد جزمهم هذا، فيخبرهم أنه هو الذي بدأ خلقهم فلابد أن يعيده، وهو الذي خلق هذه المخلوقات التي هذه عظمتها، فلابد أن يعيد الإنسان الذي هو أحقر وأصغر وأذل من هذه المخلوقات العظيمة، يقول الله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] ، السماوات والأرض بما فيها الله تعالى هو الذي خلقها، والإنسان بلا شك أنه من أفضل من خلقه الله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] فالله خلق الإنسان، وأعطاه السمع والبصر والفؤاد، وخصه بالعقل والمعرفة، وعند ذلك كلفه، وأمره بأن يتعبد لربه ويطيع، وأمره بأن يستعد للقاء الله، وأخبره أنه لابد من لقاء ربه، وأن اللقاء حتم لابد منه، فمن حقق ذلك الإيمان وذلك الرجاء استعد له، قال تعالى : فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً [الكهف:110] (لقاء ربه) يعني: مقابلة ربه، أي: من كان موقناً بأنه لابد أن يلقى الله تعالى فليستعد بالعمل الصالح الخالي من الشرك.

حقيقة الدنيا الزائلة

أخبر الله تعالى بأن هذه الدنيا وما عليها حقيرة هينة، لا تستحق أن يهتم لها الإنسان هذا الاهتمام فقال تعالى : اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ [الحديد:20] ، أي: هذه أكثر ما يشتغل به أهلها، ثم ضرب لها مثلاً في انقضائها، كمثل غيث أعجب الكفار نباته، فالغيث إذا نزل فإن الكافرين بالله هم الذين تعجبهم زهرة الدنيا، وهم الذين تعجبهم زينتها وما عليها؛ لأن رغبتهم في الدنيا، وليس لهم رغبة في الآخرة، ومن العلماء من يقول: الكفار هم الزراع، ولكن الأولى أنهم الكفار بالله، فهم الذين يعجبهم نباته، وبعد مدة ماذا يكون هذا النبات؟

لا شك أنه ييبس ويصير حطاماً وتذروه الرياح، فهكذا هذه الدنيا تثمر لأهلها وتخضر وتقبل عليهم، ثم بعد ذلك تدبر عنهم ولا تقبل، ويذوقون الضر كما ذاقوا الخير، وتنزع عنهم أو ينزعون عنها، ولسان حالها يقول كما أنشد بعضهم:

هي الدنيا تقول بملئ فيها حذار حذار من بطشي وفتكي

فلا يغرركم طول ابتسامي فقولي مضحك والفعل مبكي

فهذه حالة هذه الدنيا، إذا فكر العباد بما عليها علموا أنها متاع فقنعوا منها باليسير، وشمروا للدار الآخرة، ونصبوا الأقدام، وهجروا التواني والتكاسل الذي يعوقهم عن السير في الآخرة، وهجروا الفتور الذي يبطل هممهم، وأنصبوا أبدانهم وأجسامهم في طاعة الله تعالى، وعلموا أن الدنيا فانية وقنعوا منها باليسير، وجعلوا رغبتهم في الآخرة، ووثقوا بقول الله تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:30]، هذه حالة المصدقين.

وأما حال المكذبين فقد سمعنا ما ذكر الله تعالى عنهم في الآيات التي في سورة الإسراء، وهي قول الله تعالى: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً [الإسراء:47-48]، ثم يقول تعالى: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:49-51] ، فهذه حجة عليهم: أن الذي يعيدكم هو الذي فطركم أول مرة، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ أي: متى هذا البعث؟ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الإسراء:51] ، يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:52].

إذا دعاهم وأخرجهم تذكروا هيئتهم الأولى، وقالوا: كم لبثتم؟ يظنون أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا أياماً قليلة، يوماً أو بعض يوم، كما في آية أخرى، يقول تعالى عنهم: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً [طه:103] ، وأمثلهم وأعقلهم يقول: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً [طه:104]، يتقالُّون الزمن الذي لبثوه ومكثوه في الدنيا، وما ذاك إلا أنهم لما كانوا في سرور، مضت عليهم الأيام قصيرة، وبلا شك أنهم سيلقون بعد ذلك السرور جزاء ينسيهم ما كانوا فيه من قبل، فإنهم يعذبون في الآخرة أو يثابون في الآخرة، ورد في بعض الأحاديث: (يجاء بأشد الناس عذاباً في الدنيا من أهل الجنة فيغمس في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت سوءاً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا يا رب! ما رأيت سوءاً قط، وما مرت بي شدة قط، ويجاء بأنعم الناس في الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مرت بك نعمة قط؟ فيقول: لا يا رب! ما رأيت خيراً وما مرت بي نعمة)، نسي النعمة التي كانت في الدنيا؛ وذلك لأن لحظة واحدة في النار تنسيه ما كان فيه من النعيم في الدنيا، ويضرب بعضهم مثل هذا فيقول:

مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم إنها شبه أنصابِ

فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقابِ

لو أن إنساناً نُعِّمَ في الدنيا عشرات السنين، في ألذ وأنعم ما يكون من الحياة والبهجة، ثم بعد ذلك ناله عذاب ساعة واحدة؛ نسي ذلك النعيم، ونسي تلك البهجة، ونسي ذلك السرور، فكيف ونعيم الدنيا بأسرها قليل! ونعيمك الذي تناله أنت في عمرك أقل من القليل؟ كيف إذا تعقب هذا النعيم العذاب المستمر الذي لا انقضاء له ولا انقطاع وهو عذاب الآخرة، عذاب النار وبئس القرار، فإنه هو الذي لا انقضاء له أبداً، فهذا يبين لك أن الدنيا قليل متاعها، وأن حظ الإنسان منها أقل من القليل.

قرب قيام الساعة

وذكر أيضاً الآيات التي فيها ما يدل على قرب قيام الساعة، وقد يقول قائل: قد مضى مئات السنين بعد نزول هذه الآيات، مضى أربعة عشر قرناً وبعض قرن، فكيف يقال: إنها قريب؟ الله تعالى ذكر أنها قريب في قوله تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب:63] ، يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً [الأعراف:187] ، يعني: استعدوا لها فإنها تأتي على حين غفلة وبغتة، فلابد أن تأتي، فلما كنتم مؤمنين بها وأنها تأتي فكونوا على أهبة في كل لحظة، وفي كل وقت، ترقبوا أن تأتي الساعة في ذلك اليوم أو في تلك الليلة.

يقول الله: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [النازعات:42-44]، يعني: علمها، إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:45-46]، وفي آية أخرى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف:35] ، لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار، فالآيات التي ذكر الله فيها أنها قريبة: اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ [القمر:1] ، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1] ، أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1] ، تدل على أنها قريبة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها قريبة وأن الناس عليهم أن ينتظروها، بقوله: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) ، (إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة) ، فإذا رأينا أماراتها وأشراطها، فإننا ننتظر أن تأتي الساعة بغتة ليأتي أمر الله.

وأولها: أن ينفخ في الصور نفخة الفزع ونفخة الصعق: وهي نفخة واحدة، ثم بعدها تموت الأجساد وتفنى، ثم ينفخ فيه نفخة أخرى هي نفخة البعث والقيام من القبور، فيبعث الناس ويجتمعون في دار الجزاء، وليس دون ذلك إلا أيام قليلة.

فالمسلم يكون متأهباً لذلك، حتى إذا جاءه أمر الله يكون على أهبة، وقد أعد للساعة عدتها، وقد عمل عملاً صالحاً يكون سبباً في نجاته، كما كان كثير من السلف -رحمهم الله- يهتمون بالآخرة، حتى لو قيل لأحدهم: إنك تموت هذا اليوم، لم يستطع أن يزيد في عمله، يعني: قد بلغ أقصى ما يمكنه من العمل ومن الاجتهاد في الأعمال الصالحة، بحيث إنه يترقب الموت في كل حالة، ويمتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) ، وقول ابن عمر رضي الله عنه: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) يعني: ترقب الموت بينك وبين الصباح أو بينك وبين المساء، مخافة أن يأتيك أمر الله، ومن مات فقد قامت قيامته.

قوله تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم)

قال رحمه الله: [ومن هذا قوله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] ، إلى آخر السورة، فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها في ألفاظ تشابهه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضع الأدلة وصحة البرهان؛ لما قدر، فإنه -سبحانه- افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد اقتضى جواباً، فكان في قوله: (ونسي خلقه) ما وفّى بالجواب، وأقام الحجة وأزال الشبهة، لوما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها، فقال: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79] ، فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، إذ كل عاقل يعلم -علماً ضرورياً- أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز، ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلقه، أتبع ذلك بقوله: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79] ، فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ومواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم ك


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2715 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2631 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2591 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2565 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2472 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2408 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2387 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2373 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2336 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2301 استماع