شرح عمدة الأحكام [28]


الحلقة مفرغة

تعريف الزكاة وأهميتها وحكمتها

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[كتاب الزكاة.

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) .

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة، وفي لفظ: إلا زكاة الفطر في الرقيق)].

ابتدأ في كتاب الزكاة، والزكاة قرينة الصلاة، وقد ذكرت الزكاة والصلاة في القرآن في مواضع عديدة قد تصل إلى ستين موضعاً أو نحوها، ولا شك أن اقترانها بالصلاة دليل على أهميتها، وذلك لأن الصلاة عبادة بدنية، والزكاة عبادة مالية، فكما أن الله تعبد الإنسان في بدنه بعبادة محضة من قيام وركوع وسجود وذكر ودعاء وقراءة ونحوها فإنه قد تعبده في ماله، فهذا المال الذي رزقه الله إياه ويسر له أسبابه قد فرض عليه فيه حقاً، هذا الحق هو هذا الجزء المعين المعلوم منه الذي أمره الله بإخراجه، وسماه (زكاة).

والزكاة في اللغة: النماء أو الطهارة. يقولون: زكا المال إذا نما وكثر، أو إذا طهر ونقي، وزكيت الشيء: إذا طهرته ونقيته. ومنه تزكية النفس، وهو تطهيرها وإزالة ما علق بها، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14] يعني: طهر نفسه من الأدناس ونحوها، فسميت الزكاة بذلك لأنها تطهر المال وتنميه؛ ولأنها قربة إلى الله وطاعة لأمره، وقد أكد الله تعالى الأمر بها، قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] أي: تطهر أموالهم وتزكي أموالهم. يعني: تنميها بهذه الزكاة، فهذا من الحكمة في شرعيتها.

ومن الحكمة أنها طعمة للفقراء، قال الله تعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].

فجعل الله الزكاة حقاً، والحق هو الواجب، وجعلها في أموالهم، وبين مستحقها وأنه المحروم الذي هو فقير ولكنه لا يسأل، والسائل هو الذي يطلب من الناس ويستجدي، فهذان من جملة أهلها.

حكم الزكاة

وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال من منع الزكاة، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم منع قوم الزكاة، فعند ذلك اجتمع الصحابة مع أبي بكر على قتالهم، وقال أبو بكر : إن الزكاة حق المال. وقال: (لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه). قال عمر : (فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق).

واستدلوا على ذلك بآيات وبأحاديث، فمن الآيات قول الله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فما أمر بتخلية سبيلهم إلا بالتوبة من الشرك، وبالصلاة، وبالزكاة.

وثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، فهذا دليل من السنة، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم ركناً من أركان الإسلام في قوله: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، جعل هذه أركاناً، وجعل الصلاة والزكاة ركنين مجتمعين لا متفرقين، لا يجوز أن يؤتى بواحد دون الآخر، فمن صلى ولم يزك لم تقبل صلاته، كما أن من لم يصل وزكى لم تقبل زكاته، فعرف بذلك أهمية هذا الحق.

كيف يتصرف العامل عليها فيها

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث الجباة الذين هم عمال الزكاة العاملون عليها لجبايتها، ويبعثهم لتفريقها وإعطائها لمستحقيها، ومن ذلك ما في حديث معاذ هذا الذي رواه ابن عباس ، وكان مبعث معاذ إلى اليمن في أول سنة عشر، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشرة وهو باليمن، بعثه يدعوهم إلى الله، ولهذا قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) أي: يدعو إلى الإسلام، وبعثه معلماً وذلك لأنه من أعلم الصحابة بكتاب الله وبأحكام الله كما شهد له بقوله: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل).

وبعثه يفرق الزكاة بعد جبايتها، وقال له في هذا الحديث: (واتق دعوة المظلوم) يعني: لا تأخذ منهم أكثر من الواجب عليهم فوظيفته أنه يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام، وبعد ذلك يعلمهم الأحكام والشرائع، ثم بعد ذلك يقبض منهم الحقوق التي عليهم، يقبض الزكاة ويفرقها، ويقبض الجزية ممن هي عنده ويرسلها إلى المدينة، أو يعطي منها من هو مستحق، وهكذا كان عمله الذي بعث به، ويقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فهذا شخص واحد وصحابي واحد بعث إلى قطر من الأقطار ودولة من الدول مترامية الأطراف، وهو وحده قام بهذه الأعمال كلها، قام بالدعوة إلى الله، وقام بجباية الزكوات وتفريقها، وقام بالقضاء بينهم عند اختلافهم، وقام بتعليمهم ما يخفى عليهم من أحكام الله وشرائعه.

وأوصاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وأخبره بأن فيهم أهل كتاب، أي: من هم من أهل الكتاب يهوداً أو نصارى، وذلك لأن أهل الكتاب معهم شيء من الجدل، ومعهم شيء من الحجج، فلابد أن يلقاهم مستعداً لمخاصمتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن حتى يظهر الحق على باطلهم، وهكذا كان معاذ رضي الله عنه كلما لقي من عنده شيء من الشبهات أزالها وخاصمهم إلى أن يقبلوا الحق وينيبوا إليه.

فأولاً كان يبدأ بالدعوة إلى التوحيد، وذكر في هذا الحديث إحدى الشهادتين؛ وذلك لأن فيها النزاع؛ لأنهم كانوا يقولون: (لا إله إلا الله)، ولكن يجعلون معه آلهة أخرى وإن لم يسموها آلهة، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم يعظمون الأموات، وإذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره وصوروا صورته وعظموها، وذلك تعظيم وتأليه لها وإن لم يسموها آلهة، فقد بطل بذلك توحيدهم، فأمره بأن يجدد لهم التوحيد، وأن يحققوا كلمة لا إله إلا الله.

ولا شك -أيضاً- أنه لابد من الشهادة الثانية، وهي الشهادة بأن محمداً رسول الله، وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الواسطة، وهو الذي أمره بأن يدعو إلى التوحيد، فلابد أن يشهد العبد له بالرسالة حتى يتلقى الشريعة منه، ويتلقى رسالته التي هي هذا الدين.

بعد ذلك أمره بأن يدعوهم إلى الصلاة؛ لأنها عمود الإسلام، فإذا دخلوا في الإسلام بالشهادتين فكأنهم دخلوا في الدين، والدين لابد أن يكون قائماً، والصلاة عماد الدين، فهي بمنزلة عمود الخيمة الذي لا تقوم الخيمة إلا عليه، فأمره بأن يؤكد لهم هذه الصلاة، وأن يخبرهم بأنها فريضة، ويخبرهم بأنها خمس صلوات في كل يوم وليلة، ولم يذكر له النوافل لأنها زائدة، ولأن معاذاً رضي الله عنه سيخبرهم بالنوافل وبالرواتب وبالوتر وبذوات الأسباب من العبادات ونحو ذلك، اكتفاءً بأنه كان من أعلم الصحابة بالأحكام، فاكتفى بمعرفته، واكتفى بعلمه.

حكمة الزكاة وحق الفقير فيها

كذلك بعد الصلوات أمره بالزكاة، وأخبره بأنها صدقة، وذلك لأنها تدل على صدق من بذلها وتصديقه، فإذا قام بها وأداها اعتبر من المصدقين.

واسمها في الحقيقة زكاة، فسماها هنا صدقة، وذكر أهلها وذكر من تجب عليه فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، والأغنياء: هم الذين يملكون من المال نصاباً كما في حديث أبي سعيد ، والفقراء: هم الذين لا يملكون إلا أقل من قوتهم الكافي. فجعل هؤلاء هم أهلها الذين يستحقونها.

فتؤخذ من أغنيائهم، يعني: اقبضها من هؤلاء وفرقها على هؤلاء، وليس القصد من الزكاة أن تجبى إلى بيت المال، وأن يستكثر منها، وليس القصد من الزكاة أن يأخذها الأغنياء ويستبدوا بها، بل القصد منها أن تكون مخففة لفقر أولئك الفقراء، وذلك لأن الله تعالى لم يسوِ بين خلقه، بل جعل فيهم غنياً وفقيراً ومتوسطاً، فهذا الفقير الذي لا يجد القوت، أو لا يجد إلا بعض القوت، أو لا يجد إلا قوت بعض السنة أو بعض الشهر يشاهد أصحاب الأموال الذين يكون عندهم فضل أموال، ويكون عندهم زيادة كثيرة عن أقواتهم، فيبقى محروماً ليس له حق في ذلك، وهذا لا يأتي به الإسلام، ولا تأتي به شريعة سمحاء.

فجعل الله في أموال الأغنياء حقاً لهؤلاء المساكين والفقراء حتى يخفف ما هم فيه وما أصابهم من الفقر والفاقة وشدة المئونة، وحتى يسدوا بذلك جوعتهم وجوعة أطفالهم، ويكسوا بذلك عوراتهم، ولا يبقوا متضررين طوال حياتهم، فهذه هي الحكمة في قوله: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم).

وهذا هو العدل، ليس كما تفعل الرأسمالية الذين ليس لأحدهم هم إلا أن يجمع المال وأن يمسكه، ولا يرى فيه حقاً لله، ولا يرى فيه حقاً لأي إنسان، بل يجمع الأموال ويكدسها كعادة هؤلاء المستبدين، وليس كغير ذلك من الشرائع، بل الشريعة جعلت في هذا المال جزءاً يسيراً، فجعلت فيه -مثلاً- ربع العشر إذا كان من الفضة والذهب، أو أقل من ربع العشر إذا كان من الغنم، ففي الأربعين واحدة، وهي ربع العشر، وقد يكون فيه أقل من ربع العشر، كما إذا كان عند الإنسان مائة من الغنم، فليس فيها إلا شاة واحدة، وهذا جزء يسير من هذا المال لا يضر بصاحبه، فهذا حق للفقراء يعطونه من أموال الأغنياء، ليخفف الفقر عنهم ويوسع عليهم، وذلك أن الله ابتلى الأغنياء بالفقراء.

ولو كان الناس كلهم متساوين في الغنى لما وجد هؤلاء الأغنياء مصرفاً لأموال زكواتهم، ولكن الله من حكمته أن فاوت بين الناس في المكاسب وفي الحيل وفي جمع المال، حتى يجمع بعض الناس أموالاً يكون فيها حق، ويكونون بذلك أغنياء، فتؤخذ منهم وتعطى للفقراء.

وجوب إخراج الزكاة ولو لم يطلبها الحاكم

وفي قوله: (تؤخذ من أغنيائهم) دليل على أنهم يعطونها من طلبها ممن بعث لذلك، وإذا لم يأتهم من يطلبها أخرجوها بأنفسهم.

فقد لا يأتيهم من يطلبها من العمال والجباة، كزكاة الأموال الخفية، وزكاة النقود، وزكاة التجارات وما أشبهها، فالزكاة فيها واجبة، ولكن إذا لم يأتهم من يطلبها ممن يبعثهم السلطان لجبايتها أخرجوها هم، فحسبوا ما عندهم وعزلوها، وأعطوها لمستحقيها من ذوي الفاقة والفقر الذين جعلهم الله أهلاً لها.

صفة ما يؤخذ للزكاة

ثم نهاه عن الظلم بقوله: (وإياك كرائم أموالهم)، وكرائم الأموال نفائسها وخيارها، فإذا كانت أموالهم من المواشي -مثلاً- فلا تأخذ خيار المال، ولا تأخذ أنفسها فتكون ظالماً لهم، ولكن خذ من الوسط، ولا تأخذ من الرديء فتظلم بذلك الفقراء وتعطيهم دون ما يستحقون، ولا تأخذ من خيارها وجيدها ونفيسها فتظلم ذلك الغني وتأخذ منه غير ما يجب عليه، ولكن خذ من الوسط (إن الله لم يكلفكم خيار أموالكم، ولا يقبل منكم شرارها، ولكن الوسط).

وقد ذكر العلماء من الخيار -مثلاً- السمينة التي هي الغاية في السمن، أو اللبون التي هي الغاية في ذلك، وكذلك الربع التي تربي ولدها أو أولادها، وكذلك فحل الغنم الذي يحتاجون إليه وهو عندهم نفيس، وما أشبه ذلك.

وذكروا من الرديء أنه لا يقبل تيس؛ لأنه قد يكون رديئاً، ولا تقبل هزيلة ضعيفة ليس فيها -مثلاً- مخ، أو ليس فيها ما يرغب فيها، بل يأخذ من وسط المال لا من خياره ولا من شراره.

وإذا أخذ من شراره ظلم الفقراء كما قلنا، فلم يعطهم إلا أقل من حقهم، ويقال كذلك -أيضاً- في الإنسان الذي يدفع زكاة ماله من نفسه، فإذا كان عنده مال فيه جيد ورديء، مثل التمور التي يجنيها أو يجزها من نخله فيها جيد وفيها رديء وفيها متوسط، فلا يعطي الفقراء من خيار ماله، أي: لا يلزم بأن يدفع من خيار ماله؛ لأن في ذلك ظالماً له، ولا يدفع من شرار التمر ورديئه وحشفه وما لا رغبة فيه، فيكون بذلك ظالماً للفقراء، ولكن من وسطه وأغلبه، هذا هو الأصل.

فإذا أخذ الجابي خيار المال ظلم ذلك الغني وأخذ منه ما لا يستحق، فيخشى عليه من دعوة صاحب الغنم أو صاحب الإبل الذي أخذ منه شيئاً زائداً، وإذا دعا فإنه يعتبر مظلوماً، فلذلك قال: (واتق دعوة المظلوم)، فإذا أخذت منه ما لا يستحق فأنت ظالم له وهو مظلوم، فربما يدعو عليك فتجاب دعوته، فدعوته ليس بينها وبين الله حجاب، أي أنها لا تحجب عن الله، بل يرفعها فوق الغمام، ويقول: (وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) أي: لأنصرنك أيها المظلوم، فتقبل دعوته ولو بعد حين، فليتقِ الإنسان الظلم، والحديث عام في أن المظلوم تجاب دعوته، سواء أكان الظلم بأخذ ما لا يجب عليه في الزكاة، أم بغير ذلك من أنواع الظلم.

أنصبة النقدين والإبل والزروع

أما حديث أبي سعيد فيتعلق بمقدار النصاب، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجمل في حديث معاذ فقال: (تؤخذ من أغنيائهم)، فمن هو الغني؟ الغني حدده النبي عليه الصلاة والسلام، فذكر أنه الذي يملك من الدراهم مائتي درهم، والدرهم قطعة من الفضة كان يتعامل بها، وهي معروفة الوزن، وأيضاً من الذهب عشرين مثقالاً أو عشرين ديناراً، والدينار قطعة من الذهب معروفة كانت ومتداولة، ومعروف قدرها، وقدرت الفضة بأنها ستة وخمسون ريالاً سعودياً بالريال الفضي المعروف قديماً الذي صنع في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله، وكان مرسوماً عليه (ريال عربي سعودي واحد)، أما بعد اختفائه وقيام هذه الأوراق النقدية فتعتبر قيمته، أي قيمة الستة والخمسين من الأوراق، فما دام أن الريال الفضي موجود فينظر إلى قيمته، فإذا طلب الريال الفضي فكم يبذل فيه من الريال الورقي؟ هل يبذل فيه عشرة أو عشرون أو ثلاثون، وتضرب في ستة وخمسين، فما بلغ فهو نصاب الفضة.

وأما نصاب الذهب فإنه عشرون مثقالاً، وقدرت بأنها من الجنيه المعروف أحد عشر جنيهاً ونصفاً.

والرسول عليه السلام ذكر الفضة فقال: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة)، والأواق: جمع أوقية من الفضة، والأوقية أربعون درهماً، والخمس الأواقي مائتا درهم، فيخبر بأن من كان عنده أقل من خمس أواق -أي: أقل من مائتي درهم- فلا زكاة عليه؛ لأنه فقير، وليس عنده إلا ما يسد حاجته، ولا يصدق عليه أنه غني.

أما الإبل فقدرها بخمس، فقال: (ليس فيما دون خمسٍ ذود صدقة) والذود اسم لا مفرد له، يعرفه أهل البادية بأنه الإبل؛ لأنها تذاد عن الحياض ونحوها، فيقول: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة) أي: إذا لم يكن له إلا أربع من الإبل فلا تجب الزكاة عليه، فإذا بلغت خمساً ففيها الزكاة، وزكاتها من الغنم واحدة.

أما الغنم فأقل نصابها أربعون من الغنم، ففيها شاة، ولم تذكر في هذا الحديث، ولكن ذكرت في حديث غيره.

أما الخارج من الأرض فإن العادة أنه يكال ويقدر، فيقول في هذا الحديث: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، والوسق: ستون صاعاً، والخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع، والصاع النبوي مثل الصاع الموجود عندنا، إلا أنه يمسح مسحاً، فلا يجعل عليه علاوة، إنما يمسحونه مسحاً ثم يفرغونه.

فقدرها العلماء في هذا الزمان بأنها مائتان وسبعون صاعاً بالصاع الموجود الذي له علاوة؛ لأن الناس أصبحوا يكيلون ويجعلون علاوة، فمن كان عنده زرع حصل له منه مائتان وسبعون صاعاً ففيه الزكاة، وما دون ذلك فإنه أقل من نصاب فلا زكاة فيه.

والتمور كذلك أيضاً؛ لأن التمر كان يكال، فيجفف التمر ثم يكال في الصاع كما يكال القمح، فإذا بلغ ثمر النخل خمسة أوسق -أي: ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي- ففيه الزكاة، وما دون ذلك فلا زكاة فيه لكونه قليلاً، فيكون بقدر كفاية صاحبه، فهذا الحديث اشتمل على نصاب الزكوات.

حكم زكاة الخيل والعبيد

أما حديث أبي هريرة فأخبر بأن الأشياء المستعملة لا زكاة فيها إذا لم تكن للتجارة، فيقول: (ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة)، فإذا كان للإنسان خيل يقاتل عليها فلا زكاة فيها، وكذلك إذا كان عنده عبيد يستخدمهم أو يؤجرهم، فليس عليه زكاة فيهم إلا زكاة الفطر التي أمر أن يخرجها بعد الفطر من رمضان، فإنه يخرج عن العبد.

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[كتاب الزكاة.

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) .

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة، وفي لفظ: إلا زكاة الفطر في الرقيق)].

ابتدأ في كتاب الزكاة، والزكاة قرينة الصلاة، وقد ذكرت الزكاة والصلاة في القرآن في مواضع عديدة قد تصل إلى ستين موضعاً أو نحوها، ولا شك أن اقترانها بالصلاة دليل على أهميتها، وذلك لأن الصلاة عبادة بدنية، والزكاة عبادة مالية، فكما أن الله تعبد الإنسان في بدنه بعبادة محضة من قيام وركوع وسجود وذكر ودعاء وقراءة ونحوها فإنه قد تعبده في ماله، فهذا المال الذي رزقه الله إياه ويسر له أسبابه قد فرض عليه فيه حقاً، هذا الحق هو هذا الجزء المعين المعلوم منه الذي أمره الله بإخراجه، وسماه (زكاة).

والزكاة في اللغة: النماء أو الطهارة. يقولون: زكا المال إذا نما وكثر، أو إذا طهر ونقي، وزكيت الشيء: إذا طهرته ونقيته. ومنه تزكية النفس، وهو تطهيرها وإزالة ما علق بها، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14] يعني: طهر نفسه من الأدناس ونحوها، فسميت الزكاة بذلك لأنها تطهر المال وتنميه؛ ولأنها قربة إلى الله وطاعة لأمره، وقد أكد الله تعالى الأمر بها، قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] أي: تطهر أموالهم وتزكي أموالهم. يعني: تنميها بهذه الزكاة، فهذا من الحكمة في شرعيتها.

ومن الحكمة أنها طعمة للفقراء، قال الله تعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].

فجعل الله الزكاة حقاً، والحق هو الواجب، وجعلها في أموالهم، وبين مستحقها وأنه المحروم الذي هو فقير ولكنه لا يسأل، والسائل هو الذي يطلب من الناس ويستجدي، فهذان من جملة أهلها.

وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال من منع الزكاة، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم منع قوم الزكاة، فعند ذلك اجتمع الصحابة مع أبي بكر على قتالهم، وقال أبو بكر : إن الزكاة حق المال. وقال: (لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه). قال عمر : (فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق).

واستدلوا على ذلك بآيات وبأحاديث، فمن الآيات قول الله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فما أمر بتخلية سبيلهم إلا بالتوبة من الشرك، وبالصلاة، وبالزكاة.

وثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، فهذا دليل من السنة، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم ركناً من أركان الإسلام في قوله: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، جعل هذه أركاناً، وجعل الصلاة والزكاة ركنين مجتمعين لا متفرقين، لا يجوز أن يؤتى بواحد دون الآخر، فمن صلى ولم يزك لم تقبل صلاته، كما أن من لم يصل وزكى لم تقبل زكاته، فعرف بذلك أهمية هذا الحق.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث الجباة الذين هم عمال الزكاة العاملون عليها لجبايتها، ويبعثهم لتفريقها وإعطائها لمستحقيها، ومن ذلك ما في حديث معاذ هذا الذي رواه ابن عباس ، وكان مبعث معاذ إلى اليمن في أول سنة عشر، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشرة وهو باليمن، بعثه يدعوهم إلى الله، ولهذا قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) أي: يدعو إلى الإسلام، وبعثه معلماً وذلك لأنه من أعلم الصحابة بكتاب الله وبأحكام الله كما شهد له بقوله: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل).

وبعثه يفرق الزكاة بعد جبايتها، وقال له في هذا الحديث: (واتق دعوة المظلوم) يعني: لا تأخذ منهم أكثر من الواجب عليهم فوظيفته أنه يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام، وبعد ذلك يعلمهم الأحكام والشرائع، ثم بعد ذلك يقبض منهم الحقوق التي عليهم، يقبض الزكاة ويفرقها، ويقبض الجزية ممن هي عنده ويرسلها إلى المدينة، أو يعطي منها من هو مستحق، وهكذا كان عمله الذي بعث به، ويقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فهذا شخص واحد وصحابي واحد بعث إلى قطر من الأقطار ودولة من الدول مترامية الأطراف، وهو وحده قام بهذه الأعمال كلها، قام بالدعوة إلى الله، وقام بجباية الزكوات وتفريقها، وقام بالقضاء بينهم عند اختلافهم، وقام بتعليمهم ما يخفى عليهم من أحكام الله وشرائعه.

وأوصاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وأخبره بأن فيهم أهل كتاب، أي: من هم من أهل الكتاب يهوداً أو نصارى، وذلك لأن أهل الكتاب معهم شيء من الجدل، ومعهم شيء من الحجج، فلابد أن يلقاهم مستعداً لمخاصمتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن حتى يظهر الحق على باطلهم، وهكذا كان معاذ رضي الله عنه كلما لقي من عنده شيء من الشبهات أزالها وخاصمهم إلى أن يقبلوا الحق وينيبوا إليه.

فأولاً كان يبدأ بالدعوة إلى التوحيد، وذكر في هذا الحديث إحدى الشهادتين؛ وذلك لأن فيها النزاع؛ لأنهم كانوا يقولون: (لا إله إلا الله)، ولكن يجعلون معه آلهة أخرى وإن لم يسموها آلهة، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم يعظمون الأموات، وإذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره وصوروا صورته وعظموها، وذلك تعظيم وتأليه لها وإن لم يسموها آلهة، فقد بطل بذلك توحيدهم، فأمره بأن يجدد لهم التوحيد، وأن يحققوا كلمة لا إله إلا الله.

ولا شك -أيضاً- أنه لابد من الشهادة الثانية، وهي الشهادة بأن محمداً رسول الله، وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الواسطة، وهو الذي أمره بأن يدعو إلى التوحيد، فلابد أن يشهد العبد له بالرسالة حتى يتلقى الشريعة منه، ويتلقى رسالته التي هي هذا الدين.

بعد ذلك أمره بأن يدعوهم إلى الصلاة؛ لأنها عمود الإسلام، فإذا دخلوا في الإسلام بالشهادتين فكأنهم دخلوا في الدين، والدين لابد أن يكون قائماً، والصلاة عماد الدين، فهي بمنزلة عمود الخيمة الذي لا تقوم الخيمة إلا عليه، فأمره بأن يؤكد لهم هذه الصلاة، وأن يخبرهم بأنها فريضة، ويخبرهم بأنها خمس صلوات في كل يوم وليلة، ولم يذكر له النوافل لأنها زائدة، ولأن معاذاً رضي الله عنه سيخبرهم بالنوافل وبالرواتب وبالوتر وبذوات الأسباب من العبادات ونحو ذلك، اكتفاءً بأنه كان من أعلم الصحابة بالأحكام، فاكتفى بمعرفته، واكتفى بعلمه.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2583 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2581 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2518 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2501 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2441 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2369 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2356 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2340 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2331 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2330 استماع