شرح كتاب التوحيد [23]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: [ باب قول الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].

وفي الصحيح عن ابن المسيب ، عن أبيه قال: ( لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له: يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب . وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]. وأنزل الله في أبي طالب : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56] )].

قال رحمه الله تعالى: (باب قول الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]).

مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن هذا الباب فيه رد على عباد القبور والأضرحة والذين يتعلقون بغير الله عز وجل؛ إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الناس عند الله عز وجل وأعظمهم جاهاً لا يملك لغيره نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، فإذا كان هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى، بل من باب أولى هؤلاء الأموات أنهم لا يملكون ضراً ولا نفعاً، فإذا كانوا لا يملكون ضراً ولا نفعاً أدى ذلك أو فهم من ذلك أن دعاءهم والاستغاثة بهم وصرف شيء من أنواع العبادة لهم جهل وضلال، فيجب صرف العبادة والاستغاثة والدعاء لمن يملك ذلك، وهو الله عز وجل.

فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهر: فيه الرد على هؤلاء القبوريين؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لغيره نفعاً ولا ضراً، فغيره من باب أولى، بل من باب أولى هؤلاء الأضرحة، فكيف يعبدون من دون الله عز وجل؟!

ومناسبة هذا الباب لما قبله: أن الباب الذي قبله الشفاعة، فإذا كان لا يملك أحد الشفاعة إلا بإذن الله عز وجل -وتقدم لنا شروط الشفاعة- كذلك لا يمكن أن يهديه إلا بإذن الله، فإذا كان لا يملك الشفاعة ولا يملك الهداية فتصرف العبادة لمن يملك الهداية ويملك أن يأذن بالشفاعة، أما غيره فإنه لا يملك شيئاً ولا ينفع ولا يضر، فكيف يعبد من دون الله عز وجل؟!

فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة، الباب الذي قبله ذكر فيه الشفاعة، وهذا الباب ذكر فيه الهداية.

قال رحمه الله: (باب قول الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: لا تَهْدِي [القصص:56]. أي: لا توفق، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يهدي هداية إرشاد، فالهداية هدايتان: هداية إرشاد، هذه يملكها النبي صلى الله عليه وسلم وغير النبي صلى الله عليه وسلم، أما هداية التوفيق فهذه لا يملكها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي تكون من الله سبحانه وتعالى.

فقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي [القصص:56] المقصود هنا: هداية التوفيق، وهذه بيد الله سبحانه وتعالى، أما هداية الإرشاد فهذه يملكها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقول الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] يعني: من أحببت هدايته.

قال: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] يوفق من يشاء في الدخول في الإسلام.

قوله رحمه الله: وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56] يعني: أعلم سبحانه وتعالى بمن يستحق الهداية من غيره.

مناسبة هذه الآية لما ترجم له المؤلف، في هذا الباب: أن فيها الدلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك الهداية، لا يملك التوفيق إلا بإذن الله عز وجل؛ لأن الذي بيده التوفيق هو الله سبحانه وتعالى، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يملكها، والذي بيده النفع والضر هو الله عز وجل، وإذا كان كذلك ففيه رد على من يتعلقون بغير الله عز وجل؛ لأنه إذا كان هذا في حال النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يملك أن يهدي أحداً، وأن هداية التوفيق بيد الله سبحانه وتعالى، وأن الله هو الذي يوفق فغيره من باب أولى أنه لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، فالأمر كله بيد الله.

وفي هذا أن هداية التوفيق إنما هي بيد الله سبحانه وتعالى، فإذا فهمنا ذلك فهمنا أن التعلق يجب أن يكون بالله سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله: (وفي الصحيح) يعني: صحيح البخاري .

(عن ابن المسيب ). ابن المسيب ، سعيد بن المسيب رحمه الله أحد التابعين الكبار الثقات، وهو إمام جليل من الأئمة، وكان لعلمه أن أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يجلونه ويحترمونه، وكانوا لا يتكلمون حتى يتكلم وهم أبناء المهاجرين والأنصار، وكان من أحفظ الناس لأقضية عمر رضي الله تعالى عنه، حتى إن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يراجعه في أقضية أبيه.

(عن أبيه) أبوه المسيب ، صحابي جليل، توفي في خلافة عثمان .

(قال: ( لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أبو طالب : عم النبي صلى الله عليه وسلم.

( جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له: يا عم! ) يا عم: منادى مضاف حذفت منه الياء وبقيت الكسرة دليلاً عليها.

( يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ).

قل: لا إله إلا الله؛ لأن أبا طالب يعرف معنى هذه الكلمة العظيمة، وأنها نبذ لعبادة الأصنام، وآباؤه كانوا يعبدون الأصنام؛ ولهذا ذكره من عنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ذكراه بما عليه آباؤه، فتعصب هذه العصبية المشينة لما كان عليه آباؤه من التمسك بعبادة الأصنام، وإلا هو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق.

( قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) يعني: إذا قلت هذه الكلمة أذكرها لك حجة عند الله عز وجل، ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة.

( أحاج لك بها عند الله. فقالا له: ) يعني: قال له عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل.

( أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ) يعني: أتترك ملة عبد المطلب، يعني: ديانة عبد المطلب، وعبد المطلب أبوه، وملة عبد المطلب هي الشرك بالله عز وجل وعبادة الأصنام.

( فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب ) يعني: قال: أنا على ملة عبد المطلب .

( وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ) اللام للقسم، والنون مؤكدة، يعني: والله، اللام مواطئة لقسم مقدر، يعني التقدير: والله لأستغفرن لك، يعني: أطلب من الله سبحانه وتعالى وأدعو الله عز وجل أن يغفر لك.

( ما لم أنه عنك ) يعني: ما لم يأتني نهي من الله عز وجل عن ذلك.

( فأنزل الله عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113] ) يعني: ما ينبغي. و(ما كان) إذا جاءت في القرآن بمعنى: أنه لا يمكن أن يحل هذا الشيء، يعني: أنه مستحيل.

( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، وأنزل الله في أبي طالب : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56] ).

الشاهد من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لغيره نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله عز وجل، وأن النفع والضر إنما هو بيد الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يستقل بذلك، وأن هداية التوفيق إنما هي بيد الله سبحانه وتعالى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يوفق أحداً إلا من أذن الله بتوفيقه، وإذا كان كذلك فغير النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى أنه لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، وينتج من هذا: أنه إنما تصرف العبادة لمن بيده النفع والضر، وأما من لا يملك النفع والضر فإنه لا يصرف له شيء من أنواع العبادة، ولا يتعلق به، ولا يسأل قضاء الحاجات وتفريج الكربات كما يفعله عباد القبور والأضرحة.

قال رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين].

مناسبة هذا الباب في كتاب التوحيد: أن المؤلف رحمه الله تعالى ذكر سبباً من أسباب الوقوع في الشرك -يعني في هذا الباب- وسيذكر المؤلف رحمه الله أسباب الوقوع في الشرك.

كذلك من أسباب الوقوع في الشرك: التصوير، وسيذكره المؤلف رحمه الله: (التصوير وتعظيم الصور)، هذا سبب من أسباب الوقوع في الشرك، وسيذكره المؤلف رحمه الله، وسيعقد المؤلف رحمه الله باباً في التصوير، وسيأتينا إن شاء الله متى يكون التصوير شركاً. هذا سيأتي إن شاء الله.

كذلك من أسباب الوقوع في الشرك هو الغلو في القبور، بالبناء عليها ورفعها وتشييدها وتزويقها وتلوينها ونحو ذلك، الغلو في القبور هذا سبب من أسباب الشرك؛ ولهذا الإسلام جاء عدلاً فيما يتعلق بالقبور، لا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا جفاء، نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبور وأن يجلس عليها، يعني: لا تجلس على القبر؛ هذا من الجفاء، ولا تبن على القبر؛ هذا من الغلو، وفي حديث أبي الهياج أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال له: ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدعن صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ). فالصور والغلو في القبور هذا من أسباب الوقوع في الشرك.

أيضاً من أسباب الوقوع في الشرك ما ترجم له المؤلف رحمه الله تعالى وهو: الغلو في الصالحين.

وقوله: (باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم) بنو آدم يشمل الرجال والنساء، (وتركهم دينهم) يعني: إعراضهم عن دينهم ووقوعهم في الشرك سبب ذلك هو الغلو في الصالحين، والغلو: هو مجاوزة الحد والإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد وتعدي ما أمر الله عز وجل به.

والصالحون: جمع صالح، تقدم لنا أن الصالح هو من قام بحق الله وحق عباد الله، فهذا هو الصالح، فالغلو في الصالحين بالإفراط في تعظيمهم بالقول والاعتقاد وتعدي ما أمر الله عز وجل به، فهذا سبب من أسباب تشريكهم بالله عز وجل، وسيأتينا أن المؤلف رحمه الله أورد حديث ابن عمر : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ). فإطراء النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في مديحه هذا ينقله من مرتبة العبودية.

والله أعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب التوحيد [18] 2633 استماع
شرح كتاب التوحيد [22] 2370 استماع
شرح كتاب التوحيد [10] 2286 استماع
شرح كتاب التوحيد [36] 2244 استماع
شرح كتاب التوحيد [8] 2177 استماع
شرح كتاب التوحيد [19] 2166 استماع
شرح كتاب التوحيد [6] 2043 استماع
شرح كتاب التوحيد [29] 2021 استماع
شرح كتاب التوحيد [7] 1877 استماع
شرح كتاب التوحيد [27] 1823 استماع