شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [5]


الحلقة مفرغة

تابع الشرط الخامس: استقبال القبلة

تقدم الكلام على أن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، وذكرنا أن الاستقبال يسقط في مواضع:

الموضع الأول: في النافلة في السفر سواء كان الإنسان راكباً أو راجلاً, فإنه يسقط الاستقبال.

الموضع الثاني: في حال الضرورة، فإذا كان الإنسان مضطراً إلى ترك الاستقبال فلا بأس، كما لو كان هارباً من سبع أو هارباً من نار أو من عدو أو في حال القتال فإنه يصلي حيث كان وجهه؛ لقول الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، قال ابن عمر : مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.

الموضع الثالث: في حال المشقة الظاهرة فلا بأس، فإذا كان الإنسان لا يتمكن من الاستقبال إلا بمشقة ظاهرة فإن الاستقبال يسقط عنه؛ لقول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

وأيضاً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ).

وأيضاً لقول الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .

وقوله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

فإذا كان هناك مشقة ظاهرة فإنه يسقط عنه الاستقبال.

قال المؤلف رحمه الله: [ ومن عداهما لا تصح صلاته إلا مستقبل الكعبة ].

يعني: ما عدا ما تقدم استثناؤه ممن يسقط عنه الاستقبال شرعاً لا تصح صلاته إلا مع الاستقبال؛ لما تقدم من الدليل على ذلك في قول الله عز وجل: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

ولحديث أبي هريرة السابق في المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ).

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: (لا تصح صلاته إلا مستقبل القبلة) أنه سواء صلى إلى غير القبلة عالماً أو جاهلاً أو ناسياً، فلو صلى إلى غير القبلة عالماً فالأمر في ذلك ظاهر، وكذلك أيضاً لو نسي وصلى إلى غير قبلة، أو جهل وصلى إلى غير قبلة، فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا تصح صلاته؛ لقوله: ومن عداهما لا تصح صلاته إلا مستقبل القبلة؛ لأن الاستقبال شرط من شروط صحة الصلاة, لا يعذر فيه بالجهل والنسيان ما دام أنه يمكنه أن يستدرك.

استقبال عين الكعبة

قال المؤلف رحمه الله: [ فإن كان قريباً منها لزمته الصلاة إلى عينها ].

يعني: إذا كان قريباً من الكعبة، وحّد العلماء رحمهم الله القرب بأن يكون في المسجد، فإذا كان في المسجد الحرام فإنه لا بد أن يصيب عين الكعبة، يعني: أن يكون بدنه إلى عين الكعبة، فلو صلى إلى الجهة فإن صلاته لا تصح، يعني: لو كان الآن جالساً في المسجد واستقبل الكعبة ثم انحرف عنها وصلى إلى الجهة فإنها لا تصح، وذكر العلماء رحمهم الله حد القرب بأن يكون في المسجد، وحينئذ لا بد أن يصيب عين الكعبة، فلو انحرف يميناً أو يساراً فإن صلاته لا تصح، يعني: لا يكتفى بالجهة.

وكذلك أيضاً لو أنه خرج شيء من بدنه عن عين الكعبة لا تصح صلاته، فلا بد أن يكون جسمه إلى عين الكعبة، فلو أنه انحرف عنها يميناً أو انحرف عنها شمالاً أو خرج شيء من بدنه عن الكعبة فإنها لا تصح صلاته.

قال: (فإن كان قريباً منها لزمته الصلاة إلى عينها)؛ لقول الله عز وجل: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

وأيضاً ما تقدم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ).

والنبي عليه الصلاة والسلام صلى داخل الكعبة ثم خرج وقال: ( هذه القبلة )، أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة.

قال: [ وإن كان بعيداً فإلى جهتها ].

يعني: إذا كان غير قريب بأن لم يكن داخل المسجد فإنه يصلي إلى الجهة، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، يقوله النبي عليه الصلاة والسلام لأهل المدينة؛ لأن أهل المدينة قبلتهم إلى جهة الجنوب، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ), كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أخرجه الترمذي وغيره، وصححه الترمذي .

وعلى هذا لا يضر التيامن اليسير، العلماء يقولون: لا يضر التيامن اليسير, ولا التياسر اليسير، فعندنا الآن القبلة في هذا البلد إلى جهة الغرب، هنا الشمال وهنا الجنوب، ما بين الشمال والجنوب هذا كله قبلة، إذا صليت هكذا فصلاتك صحيحة، وإذا انحرفت يميناً فما دمت في الجهة فصلاتك صحيحة، أيضاً لو تياسرت فصلاتك صحيحة، يعني: إذا صليت إلى ما بين الركنين بين الركن الشمالي الغربي والركن الجنوبي الغربي كان هذا كله قبلة، لكن الآن إذا انحرفت إلى الركن الشمالي نقول: خرجت عن مساماة الجهة، أو انحرفت إلى الركن الجنوبي نقول: انحرفت عن مساماة الجهة، ما دمت في الجهة فصلاتك صحيحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) يعني: كل جهة الجنوب هذه قبلة لأهل المدينة، في مثل هذا البلد نقول: كل جهة الغرب قبلة لهذا البلد، فعندنا الآن كل هذه الجهة والحمد لله قبلة، ولا يضر التيامن والتياسر, ما دمت أنك ما جعلت بدنك إلى الجهة الشمالية أو إلى الجهة الجنوبية، فهذا كله يكون لك قبلة.

ودليل ذلك كما أوردنا: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ).

وقوله: (وإن كان بعيداً إلى جهتها) هذا يشمل حتى من كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض أهل العلم قال: بأن مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لا بد فيه من إصابة عين الكعبة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي في مسجده، وكان ينزل عليه الوحي، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام منحرفاً عن عين الكعبة يميناً أو يساراً لجاء الوحي بتنبيه النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، لكن الظاهر في ذلك ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله, من أن الذي يلزمه العين هو من كان قريباً من الكعبة فقط بأن يكون في المسجد، ما عدا ذلك فالجهة؛ لأن بعض أهل العلم كما قلنا استثنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا بد فيه من العين.

وأيضاً بعض أهل العلم استثنى من كان ناشئاً في مكة, قال: لا بد من العين، والصواب في ذلك: أن من كان ناشئاً في مكة أو كان ناشئاً في المدينة أو صلى في المسجد أنه تكفي في ذلك الجهة، ولا يشترط إصابة العين، نشترط إصابة العين على من كان قريباً منها بحيث يتمكن, وذلك مثل من كان في داخل المسجد يتمكن أن ينظر إلى عين الكعبة ويصيب عين الكعبة.

الاجتهاد في القبلة في الحضر والسفر

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن خفيت القبلة في الحضر سأل, واستدل بمحاريب المسلمين، فإن أخطأ فعليه الإعادة، وإن خفيت في السفر اجتهد وصلى, ولا إعادة ].

بالنسبة لما يستدل به على القبلة، ذكر المؤلف رحمه الله ما يستدل به على القبلة: أولاً المحاريب الإسلامية هذه يستدل بها على القبلة، فإذا دخلت بلداً ورأيت محراب مسجده إلى هذه الجهة فهذا تستدل به على جهة القبلة؛ لأن كون المسلمين يضعونه إلى هذه الجهة إنما وضعوه عن علم. هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني: الخبر، خبر الثقة، فإذا أخبرك ثقة بأن جهة القبلة إلى كذا وكذا فإنك تأخذ بخبره، ويدل لذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يبعث الرسل ويبعث الدعاة يبعثهم وحداناً، ومع ذلك يؤخذ خبرهم، كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في بعث معاذ إلى اليمن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ), إلى آخر الحديث.

وأيضاً أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس فجاءهم رجل فأخبرهم أن القبلة حولت من بيت المقدس إلى الكعبة, فتحولوا وهم في الصلاة.

فنقول: خبر الثقة، ما دام أنه ثقة يوثق بقوله، وهل تشترط عدالته أو لا تشترط عدالته.

هذه تكلم عليها العلماء رحمهم الله، والصواب: أن ذلك ليس شرطاً، المهم أننا نثق بقوله؛ لقول الله عز وجل: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، فإذا كان صادقاً عرف عليه الصدق أو ظننت فيه الصدق ولم يعرف بالتساهل والكذب فإنه يقبل خبره، وسواء ذكراً أو أنثى، حراً أو رقيقاً, إلى آخره.

الأمر الثالث: العلامات الأفقية والعلامات الأرضية، يعني: مما يستدل على القبلة العلامات الأفقية والعلامات الأرضية، فيستدل بالشمس والقمر، وأيضاً بالنجوم، وأيضاً العلماء يطيلون في مثل هذه المسائل، فالعلامات الأفقية كما ذكرنا الشمس والقمر والنجوم هذه يستدل بها وبمنازلها على القبلة، وكذلك أيضاً ذكر العلماء رحمهم الله أنه يستدل أيضاً على القبلة بالعلامات الأرضية, مثل الجبال الكبيرة ووجوهها ومصاب الأنهار الكبيرة, وأيضاً الرياح, هذه تكلم عليها العلماء رحمهم الله، وتكلموا على كيفية الاستفادة بهذه الأشياء بمعرفة جهة القبلة.

الأمر الرابع مما يستدل به على القبلة: الآلات، فالآلات الآن تضبط لك جهة القبلة، فهذا أيضاً مما يستدل به على جهة القبلة.

فعندنا أربعة أشياء:

الشيء الأول: المحاريب الإسلامية.

والشيء الثاني: خبر الثقة.

والشيء الثالث: العلامات الأفقية لمن يستطيع ويعرف أن ينظر فيها، وأيضاً العلامات الأرضية.

والشيء الرابع: الآلات الآن توجد الآلات الحديثة تستطيع أن تضبط لك جهة القبلة.

قال: (فإن أخطأ فعليه الإعادة).

يعني: إذا أخطأ القبلة فعليه الإعادة، يعني: لو أن إنساناً صلى بلا اجتهاد وليس من أهل اجتهاد وصلى إلى غير جهة القبلة في الحضر فإنه يلزمه الإعادة. لكن إذا اجتهد في الحضر هذا سيأتينا إن شاء الله بيان حكمه.

قال: (وإن خفيت في السفر اجتهد وصلى, ولا إعادة عليه).

إذا خفيت القبلة في السفر اجتهد، والمجتهد في كل باب بحسبه، فالمجتهد في باب القبلة هو: الذي يعلم أدلة القبلة, وكيفية الاستدلال بهذه الأدلة على القبلة.

المؤلف رحمه الله قال: (وإن خفيت في السفر اجتهد) أي لا يجتهد إلا من كان عالماً بأدلة القبلة، وكيف يستدل بهذه الأدلة على القبلة، وعلى هذا إذا اجتهد الإنسان وأخطأ فإنه لا إعادة عليه، ولهذا قال: وإن خفيت في السفر اجتهد وصلى, ولا إعادة عليه.

ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا اجتهاد في الحضر، يعني: لو أن إنساناً سكن في بيت جديد وهو يعرف العلامات الأفقية، يعرف القطب ويعرف الشمس ويعرف القمر.. إلى آخره وقال: أجتهد أصعد إلى السطح وأنظر في العلامات الأفقية وأحاذي القبلة وأصلي.. هل الحضر مكان للاجتهاد أو ليس مكاناً للاجتهاد؟ يفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن الحضر ليس مكاناً للاجتهاد، يعني: ليس لأحد أن ينظر في العلامات الأفقية في الحضر ويجتهد ويحاذي القبلة ويصلي؛ لأن بإمكانه أن يعلم القبلة بلا اجتهاد، بإمكانه أن ينظر إلى المحاريب أو يسأل, فهناك دليل أقوى من الاجتهاد، الاجتهاد قد يعتريه الخطأ، لكن كونه ينظر إلى المحاريب هذا لا يعتريه الخطأ، وكونه يسأل هذا أيضاً أقوى.

والرأي الثاني: أنه لا بأس أن يجتهد حتى في الحضر، وهذا القول هو الصواب، فإذا كان الإنسان يعرف أدلة القبلة وكيف يستفيد منها واجتهد ونظر في أدلة القبلة فإن هذا جائز ولا بأس به إن شاء الله, وحينئذ إذا صلى فلا إعادة عليه حتى لو اجتهد في الحضر، لكن بشرط أن يكون من أهل الاجتهاد، والذي هو من أهل الاجتهاد هو الذي يعلم أدلة القبلة, وكيف يستدل بها على القبلة.

المؤلف رحمه الله قال: إن خفيت في السفر اجتهد إذا كان من أهل الاجتهاد، إذا لم يكن من أهل الاجتهاد كيف يفعل وهو مسافر؟

فنقول: هذا لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون بعيداً عن المساجد وعن الناس، فهذا يتحرى ويصلي ولا شيء عليه، مثل ما لو كان بعيداً عن الماء هذا يتيمم ويصلي ولا شيء عليه، فإذا كان بعيداً نقول: يتحرى ويصلي ولا شيء عليه.

الحالة الثانية: أن يكون قريباً عرفاً من الناس ومن المساجد فهذا لا بد أن يقصد المساجد، وأن ينظر إلى المحاريب, أو يقصد الناس ويسأل.

وحد البعد والقرب بالعرف، مثل كيلو وكيلوين هذا قريب عرفاً، يذهب ويقصد، لا يتحرى ويصلي، نقول: إن كان من أهل الاجتهاد يجتهد، لكن ليس من أهل الاجتهاد ما دام أنه قريب عرفاً فلا بد أن يقصد المساجد، وأن يسأل, أما إن كان بعيداً عرفاً مثل عشرة، كيلو عشرين كيلو.. إلى آخره فهذا يتحرى ويصلي, ولا إعادة عليه.

تقليد أحد المجتهدين في القبلة للآخر

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن اختلف مجتهدان لم يتبع أحدهما صاحبه ].

إذا اختلف مجتهدان فخلافهما لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون خلافهما جهة، فيقول أحدهما: القبلة إلى هذه الجهة إلى جهة الشمال، والآخر يقول: القبلة إلى جهة الجنوب, هنا الآن اختلفا جهة, فقال المؤلف رحمه الله: بأنه لا يتبع أحدهما الآخر.

والرأي الثاني في المسألة: أنه إذا ظن صواب اجتهاد الآخر فلا بأس أن يتبعه، وهذا القول هو الصواب، إذا ظن أنه قد أصاب في اجتهاده فنقول: لا بأس أن يتبعه، هذا الأمر الأول, وهو ما إذا كان الخلاف جهة.

الأمر الثاني: إذا اختلفا تيامناً أو تياسراً، بمعنى: أنهما يتفقان في الجهة كل منهم يقول: الجهة هذه، لكن قال أحدهما: نتيامن, نأخذ إلى جهة اليمين، وقال الآخر: نأخذ إلى جهة الشمال، فهنا يتبع أحدهما الآخر؛ لأننا ذكرنا أن ما بين الجهتين كله قبلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ).

فتلخص عندنا أن اختلاف المجتهدين ينقسم إلى هذين القسمين.

تقليد الأعمى والعامي لأحد المجتهدين إذا اختلفا في القبلة

قال المؤلف رحمه الله: [ ويتبع الأعمى والعامي أوثقهما في نفسه ].

المراد بالعامي الذي لا يعرف أدلة القبلة، ولا يعرف كيفية الاستدلال بهذه الأدلة على القبلة، ولو كان من أعلم الناس، لو كان من أحفظ الناس لكتاب الله، وأحفظ الناس لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه في هذا الباب جاهل يكون عامياً، فمن يتبع منهما؟ وكذلك أيضاً الأعمى إذا اختلف المجتهدون.

أما إن كان اختلافهما انحرافاً. فكما تقدم لنا أن أحدهما يتبع الآخر، وإذا كان أحدهما يتبع الآخر فالأعمى والعامي له أن يتبع كلاً منهما؛ لأن الانحراف يميناً ويساراً لا يضر.

أما إذا اختلفا جهةً هذا يقول: إلى جهة الجنوب وهذا إلى جهة الشمال فيقول المؤلف رحمه الله: يتبع أوثقهما في علمه وتقواه، فإن تساويا فإنه يتخير.

الشرط السادس: النية للصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [ الشرط السادس: النية للصلاة بعينها، ويجوز تقديمها على التكبير بالزمن اليسير إذا لم يفسخها ].

هذا الشرط السادس, وهو الشرط الأخير من شروط صحة الصلاة: النية.

والنية في اللغة: العزم، وأما في الاصطلاح: فهو عزم القلب على فعل العبادة.

ويدل على اشتراط النية حديث عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، ولأن الإنسان يصلي ركعتين -مثلاً- يقصد بهما السنة الراتبة، وقد يقصد الفريضة, وقد يقصد بها تطوعاً مطلقاً.. إلى آخره، فلا بد من النية التي تعين هذه العبادة, هل هي السنة أو الفريضة، ولا بد من النية التي تميز بين العبادات.

وقال: (بعينها) يعني: لا بد أن يعين الصلاة بنيته، فإذا أردت أن تصلي المغرب لا بد أن تنوي أنها صلاة المغرب، وإذا أردت أن تصلي العشاء لا بد أن تنوي أنها صلاة العشاء.. وهكذا، فإن لم تعين لا تصح الصلاة، يعني: نية التعيين هذه لا بد منها.

والصواب: أن هذا ليس شرطاً، وأن الإنسان إذا نوى أن يصلي الصلاة الذي حضر وقتها فإن هذه النية كافية، ولا يشترط نية التعيين، وإلا وقع الناس في حرج؛ لأن الإنسان يؤذن عليه المؤذن ثم يخرج إلى الصلاة ويغيب عن ذهنه أنه سيصلي صلاة المغرب, لكنه في ذهنه أنه سيصلي هذه الصلاة التي حضر وقتها وأذن لها، لكن يغيب عن ذهنه أنها المغرب أو أنها العشاء مثلاً.

أما المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: لا بد أن يعين, يعني: لا بد من نية التعيين، مع أنهم قالوا رحمهم الله: لا يشترط أن ينوي نية الأداء، ولا يشترط أن ينوي نية القضاء.

يعني: إذا كانت الصلاة تفعل في وقتها فهي أداء, فلا يشترط أن ينوي نية الأداء.

وإذا كانت تفعل بعد وقتها فلا يشترط أن ينوي نية القضاء.

وإذا كانت الصلاة تفعل في وقتها للمرة الثانية فهي إعادة, لا يشترط أن ينوي الإعادة.

وإذا كانت الصلاة تفعل أيضاً لا يشترط أن ينوي نية الفريضة، ولا يشترط أن ينوي نية النافلة.

إذاً: نية القضاء والأداء والإعادة والفريضة والنفل هذا كله ليس شرطاً، لكن نية التعيين هذا لا بد منه كما ذكر المؤلف رحمه الله، وقلنا: الصواب في ذلك: أنه يكفي أن ينوي الإنسان الصلاة التي حضر وقتها، ولا يشترط أن يعينها.

قال: (ويجوز تقديمها على التكبير بالزمن اليسير إذا لم يفسخها).

النية لها وقتان: وقت جواز، ووقت استحباب.

وقت الجواز أن تتقدم الصلاة بالزمن اليسير، يعني: إذا تقدمت النية الصلاة فإن كان الزمن كثيراً فإنه لا يصح، وإن كان الزمن قليلاً فإن هذا صحيح ولا بأس به، يعني: إذا تقدمت الصلاة بالزمن اليسير فجائز، وإن كان بالزمن الكثير فلا يكفي، هذا وقت الجواز.

أما بالنسبة لوقت الاستحباب فقالوا: بأن تكون النية مقارنة للتكبير، مع أن بعض أهل العلم قال: إن هذا فيه شيء من العسر.

هناك أحكام بقيت للنية, ما يتعلق بقطع النية والانتقال في الصلاة من صلاة إلى صلاة أخرى، وأيضاً نية الإمام، ونية الإتمام.. إلى آخره، هذه الأحكام إن شاء الله سيأتينا بإذن الله بيانها.

تقدم الكلام على أن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، وذكرنا أن الاستقبال يسقط في مواضع:

الموضع الأول: في النافلة في السفر سواء كان الإنسان راكباً أو راجلاً, فإنه يسقط الاستقبال.

الموضع الثاني: في حال الضرورة، فإذا كان الإنسان مضطراً إلى ترك الاستقبال فلا بأس، كما لو كان هارباً من سبع أو هارباً من نار أو من عدو أو في حال القتال فإنه يصلي حيث كان وجهه؛ لقول الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، قال ابن عمر : مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.

الموضع الثالث: في حال المشقة الظاهرة فلا بأس، فإذا كان الإنسان لا يتمكن من الاستقبال إلا بمشقة ظاهرة فإن الاستقبال يسقط عنه؛ لقول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

وأيضاً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ).

وأيضاً لقول الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .

وقوله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

فإذا كان هناك مشقة ظاهرة فإنه يسقط عنه الاستقبال.

قال المؤلف رحمه الله: [ ومن عداهما لا تصح صلاته إلا مستقبل الكعبة ].

يعني: ما عدا ما تقدم استثناؤه ممن يسقط عنه الاستقبال شرعاً لا تصح صلاته إلا مع الاستقبال؛ لما تقدم من الدليل على ذلك في قول الله عز وجل: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

ولحديث أبي هريرة السابق في المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ).

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: (لا تصح صلاته إلا مستقبل القبلة) أنه سواء صلى إلى غير القبلة عالماً أو جاهلاً أو ناسياً، فلو صلى إلى غير القبلة عالماً فالأمر في ذلك ظاهر، وكذلك أيضاً لو نسي وصلى إلى غير قبلة، أو جهل وصلى إلى غير قبلة، فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا تصح صلاته؛ لقوله: ومن عداهما لا تصح صلاته إلا مستقبل القبلة؛ لأن الاستقبال شرط من شروط صحة الصلاة, لا يعذر فيه بالجهل والنسيان ما دام أنه يمكنه أن يستدرك.

قال المؤلف رحمه الله: [ فإن كان قريباً منها لزمته الصلاة إلى عينها ].

يعني: إذا كان قريباً من الكعبة، وحّد العلماء رحمهم الله القرب بأن يكون في المسجد، فإذا كان في المسجد الحرام فإنه لا بد أن يصيب عين الكعبة، يعني: أن يكون بدنه إلى عين الكعبة، فلو صلى إلى الجهة فإن صلاته لا تصح، يعني: لو كان الآن جالساً في المسجد واستقبل الكعبة ثم انحرف عنها وصلى إلى الجهة فإنها لا تصح، وذكر العلماء رحمهم الله حد القرب بأن يكون في المسجد، وحينئذ لا بد أن يصيب عين الكعبة، فلو انحرف يميناً أو يساراً فإن صلاته لا تصح، يعني: لا يكتفى بالجهة.

وكذلك أيضاً لو أنه خرج شيء من بدنه عن عين الكعبة لا تصح صلاته، فلا بد أن يكون جسمه إلى عين الكعبة، فلو أنه انحرف عنها يميناً أو انحرف عنها شمالاً أو خرج شيء من بدنه عن الكعبة فإنها لا تصح صلاته.

قال: (فإن كان قريباً منها لزمته الصلاة إلى عينها)؛ لقول الله عز وجل: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

وأيضاً ما تقدم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ).

والنبي عليه الصلاة والسلام صلى داخل الكعبة ثم خرج وقال: ( هذه القبلة )، أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة.

قال: [ وإن كان بعيداً فإلى جهتها ].

يعني: إذا كان غير قريب بأن لم يكن داخل المسجد فإنه يصلي إلى الجهة، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، يقوله النبي عليه الصلاة والسلام لأهل المدينة؛ لأن أهل المدينة قبلتهم إلى جهة الجنوب، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ), كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أخرجه الترمذي وغيره، وصححه الترمذي .

وعلى هذا لا يضر التيامن اليسير، العلماء يقولون: لا يضر التيامن اليسير, ولا التياسر اليسير، فعندنا الآن القبلة في هذا البلد إلى جهة الغرب، هنا الشمال وهنا الجنوب، ما بين الشمال والجنوب هذا كله قبلة، إذا صليت هكذا فصلاتك صحيحة، وإذا انحرفت يميناً فما دمت في الجهة فصلاتك صحيحة، أيضاً لو تياسرت فصلاتك صحيحة، يعني: إذا صليت إلى ما بين الركنين بين الركن الشمالي الغربي والركن الجنوبي الغربي كان هذا كله قبلة، لكن الآن إذا انحرفت إلى الركن الشمالي نقول: خرجت عن مساماة الجهة، أو انحرفت إلى الركن الجنوبي نقول: انحرفت عن مساماة الجهة، ما دمت في الجهة فصلاتك صحيحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) يعني: كل جهة الجنوب هذه قبلة لأهل المدينة، في مثل هذا البلد نقول: كل جهة الغرب قبلة لهذا البلد، فعندنا الآن كل هذه الجهة والحمد لله قبلة، ولا يضر التيامن والتياسر, ما دمت أنك ما جعلت بدنك إلى الجهة الشمالية أو إلى الجهة الجنوبية، فهذا كله يكون لك قبلة.

ودليل ذلك كما أوردنا: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ).

وقوله: (وإن كان بعيداً إلى جهتها) هذا يشمل حتى من كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض أهل العلم قال: بأن مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لا بد فيه من إصابة عين الكعبة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي في مسجده، وكان ينزل عليه الوحي، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام منحرفاً عن عين الكعبة يميناً أو يساراً لجاء الوحي بتنبيه النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، لكن الظاهر في ذلك ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله, من أن الذي يلزمه العين هو من كان قريباً من الكعبة فقط بأن يكون في المسجد، ما عدا ذلك فالجهة؛ لأن بعض أهل العلم كما قلنا استثنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا بد فيه من العين.

وأيضاً بعض أهل العلم استثنى من كان ناشئاً في مكة, قال: لا بد من العين، والصواب في ذلك: أن من كان ناشئاً في مكة أو كان ناشئاً في المدينة أو صلى في المسجد أنه تكفي في ذلك الجهة، ولا يشترط إصابة العين، نشترط إصابة العين على من كان قريباً منها بحيث يتمكن, وذلك مثل من كان في داخل المسجد يتمكن أن ينظر إلى عين الكعبة ويصيب عين الكعبة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22] 2513 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [1] 2461 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [4] 2440 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [12] 2420 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [2] 2394 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [14] 2349 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [2] 2348 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب النكاح [1] 2310 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [23] 2304 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [6] 2299 استماع