شرح القواعد النورانية الفقهية [6]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [فصل: في بيان ما أمر الله به ورسوله من إقامة الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها.. إلخ].

مراد الشيخ رحمه الله بإقامة الصلاة: إتمامها بإتيان أركانها وواجباتها وشروطها، أن يأتي بها مستقيمة كما أمر الله عز وجل, وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم, وذلك أنها لا تكون مستقيمة إلا إذا قام العبد بما أوجب الله عز وجل عليه في هذه الفريضة العظيمة من الأركان والشروط والواجبات, وتمام الإقامة أن يأتي بالمستحبات, فالإقامة قسمان:

إقامة واجبة: وهي أن يأتي بكل ما يشترط لصحتها من الأركان والشروط والواجبات.

إقامة مستحبة: وهي أن يأتي بالإضافة إلى ما تقدم بالسنن والمستحبات.

قال المؤلف رحمه الله: [(ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً...)]

الطمأنينة ركن من أركان الصلاة, وهذا ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله تعالى, ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل الذي أخلّ بالطمأنينة أن يعيد صلاته, وللعلماء رحمهم الله في ضابطها قولان:

القول الأول: أنها بقدر الذكر الواجب, فتركع بقدر قول: سبحان ربي العظيم, وتسجد بقدر قول: سبحان ربي الأعلى, وقيل: إن ضابط الطمأنينة هي السكون وإن قل, والصواب في ضابطها: أنها بقدر الذكر الواجب كما هو الرأي الأول.

قال المؤلف رحمه الله: [وأيضاً قال له: (فإنك لم تصل) فنفى أن يكون عمله الأول صلاة، والعمل لا يكون منفياً إلا إذا انتفى شيء من واجباته.. إلخ].

هذه قاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهي: النفي الوارد على المسميات الشرعية مثل: لا صلاة لا أمانة لا إسلام إلخ, هل يحمل هذا النفي على الكمال أو أنه نفي لكمال الوجوب؟

الشيخ ابن تيمية رحمه الله كما هنا وفي غيره من كتبه يقرر أن هذا النفي الوارد على المسميات الشرعية ليس نفياً للكمال المستحب, وإنما هو نفي للكمال الواجب, وهذا القول هو الصواب إلا إذا دل الدليل على خلافه كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة في حضرة الطعام), فهو هنا نفي للكمال المستحب, إلا إذا أخل بالطمأنينة, فإنه يبقى على الأصل, ويكون نفياً للكمال الواجب, فالنفي الوارد على المسميات الشرعية نفي لكمال الوجوب وليس لكمال الاستحباب.

قال المؤلف رحمه الله: [وعلى هذا فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب والسنة فإنما هو لانتفاء بعض واجباته.. إلخ].

هذه كلها أدلة تدل لما ذكر الشيخ رحمه الله من أنها لنفي الكمال الواجب, فقوله: ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ), هذا نفي لصحة الصلاة, الصلاة الكاملة التي لم يختل شيء من واجباتها هي الصلاة التي قرئت فيها الفاتحة, والتي لم يٌقرأ فيها الفاتحة اختل فيها شيء من واجباتها.

وكذلك وجوب الأمانة، فيؤخذ من هذا، ووجوب الفاتحة، ووجوب الوضوء, ووجوب تحكيم شرع الله عز وجل, وأن تحكيم غير شرع الله نقص في الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله: [وأما قوله: ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) فهذا اللفظ قد قيل: إنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عبد الحق الإشبيلي أنه رواه بإسناد كلهم ثقات، وبكل حال فهو مأثور عن علي رضي الله عنه].

هذا اللفظ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, لكنه ثابت عن علي رضي الله تعالى عنه.

قال المؤلف رحمه الله عن ترك الصلاة في جماعة: [لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه، ويثاب على ما فعله من الصلاة، أم يقال: إن الصلاة باطلة، عليه إعادتها كأنه لم يفعلها؟].

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما تقدم لنا يرى أنه يعذر بالجهل في باب المأمورات, ولهذا إذا نقص شيئاً من الواجبات جهلاً, فإنه يرى أن صلاته صحيحة, وهذا النقص يُثاب على ما فعله منها والصلاة صحيحة ويكمل هذا النقص من التطوعات.

ولهذا قال: والثاني أظهر, بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوعات, وتكون صلاته صحيحة مبرئة للذمة.

قال المؤلف رحمه الله: [فهذا صريح في أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع، وينتصب من السجود، فهذا يدل على إيجاب الاعتدال في الركوع والسجود].

مراد الشيخ رحمه الله في هذا: الاعتدال من الركوع , والاعتدال من السجود, فهل هذا الاعتدال هو الطمأنينة، أو أنه ركن آخر غير الطمأنينة؟

الحنفية رحمهم الله تعالى لا يرون وجوب الاعتدال من الركوع والسجود, ويرون أن هذا الاعتدال سنة, وعلى هذا لو أنه هوى من الركوع مباشرة إلى السجود, فصلاته صحيحه, ولو أنه رفع رأسه من السجدة الأولى، ثم خفضه إلى السجدة الثانية فيرون أن صلاته صحيحة, ولا شك أن ما أورده الشيخ رحمه الله من الأدلة يؤيد ما ذهب إليه جماهير العلماء رحمهم الله من وجوب هذين الاعتدالين, ومسألة أخرى وهي أن هذين الاعتدالين خلاف الطمأنينة, فيجب على المصلي أن يعتدل ويجب عليه الركن الآخر وهو الطمأنينة, فحديث أبي هريرة في قصة الذي أخلّ بالصلاة يدل على الطمأنينة, وحديث حذيفة رضي الله تعالى عنهما يدل على وجوب هذين الاعتدالين.

قال المؤلف رحمه الله: [فالسفر يبيح قصر العدد فقط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ).. إلخ].

القصر ينقسم إلى قسمين: قصر في العدد, وهذا يكون في السفر خاصة, ولم يُحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في الحضر, وإنما المحفوظ في السفر قصر العدد, والقسم الثاني: قصر الصفة وهذا يكون في صلاة الخوف, فيترك المصلي من صفة الصلاة ما لا يكون في صلاة الأمن, ومن ذلك أن المأموم ينفرد, فيترك متابعة الإمام, ومتابعة الإمام واجبة, لكنه ينفرد عنه ويذهب إلى مواجهة العدو, وهذا من اختلال صفة الصلاة, وكذلك أيضاً ما يتعلق بالحركة, في الصفة الثانية من صلاة الخوف, النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعة واحدة, ثم بعد ذلك ذهبوا وهم في صلاتهم, وواجهوا العدو، ثم بعد ذلك أتموا لأنفسهم ركعة, فهذا كله من قصر الصفة, فالواجب متابعة الإمام وعدم الحركة, فما حصل من الحركة وحصل من الانفراد هو المراد بقصر الصفة.

قال المؤلف رحمه الله: [وفي هذه الصلاة تفريق المأمومين ومفارقة الأولين للإمام، وقيام الآخرين قبل سلام الإمام، ويتمون لأنفسهم ركعة.. إلخ].

قصر الصفة كما ذكر الشيخ, تفريق المأمومين ومفارقة الأولين للإمام وقيام الآخرين قبل سلام الإمام ويتمون لأنفسهم ركعة, هذا هو قصر الصفة الذي أشار إليه الشيخ.

قال المؤلف رحمه الله: [ومن المعلوم أن ذكر القيام -الذي هو القراءة- أفضل من ذكر الركوع والسجود، ولكن نفس عمل الركوع والسجود أفضل من عمل القيام، ولهذا كان عبادة بنفسه.. إلخ].

المسألة السابقة أشار إليها الشيخ رحمه الله, هل الأفضل القيام، أو الركوع، أو السجود؟ فالشيخ رحمه الله يرى التوسط في هذه المسألة, وأن القيام أفضل بذكره، وأن الركوع والسجود أفضل بهيئته, لأن ذكر القيام هو كلام الله عز وجل، وأما هيئة الركوع والسجود فهي الذل لله سبحانه وتعالى بتعفير الوجه في الأرض.

وما ذكره من حد السجود والركوع والقيام, هذه لها صفتان كاملة, وجزئية, فحد القيام الكامل: أن يكون أقرب إلى الاعتدال منه إلى الركوع, من رآه يقول: إنه قائم, والركوع المجزئ: أن يكون أقرب إلى الركوع منه إلى القيام, والسجود المجزئ: أن يسجد على الأعضاء السبعة التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسجد عليها.

قال المؤلف رحمه الله: [فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعل هذين التسبيحين في الركوع والسجود، وأمره على الوجوب وذلك يقتضي وجوب الركوع والسجود تبعا لهذا التسبيح، وذلك هو الطمأنينة.. إلخ].

الواجبات في الصلاة ثمانية, وهذا من مفردات مذهب الحنابلة, فالحنابلة يرون أن هذه الثمانية واجبة.

وجمهور أهل العلم يرون أنها مستحبة: تسبيحة الركوع, وتسبيحة السجود, وتكبيرة الانتقال, والتسبيح والتحميد, والتشهد الأول والجلوس له إلخ.

والشيخ رحمه الله يرى أنها واجبة, ويدل للوجوب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول وقام عنه جبره بسجود السهو.

وكذلك أيضاً الحديث الذي أورده حديث عقبة, وإن كان فيه ضعف: ( اجعلوها في سجودكم, اجعلوها في ركوعكم), لكن فيه حديث معاوية بن الحكم في صحيح مسلم: ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس, وإنما هو التكبير والتسبيح وقراءة القرآن ).

فحصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في هذه الأمور الثلاثة: التكبير، والتسبيح، وقراءة القرآن, ولأنه أيضاً ينافي أن تكون هذه الأركان العظيمة من الركوع والسجود بدون ذكر.

وكذلك أيضاً ما جاء في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أخل بصلاته بتكبيرة الانتقال, (ثم كبر ثم كبر) إلخ, وهذا مما يدل على الوجوب, ومما يدل على الوجوب أيضاً حديث عائشة وحديث أبي هريرة: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده, فقولوا: ربنا ولك الحمد).

فقوله: (فقولوا ربنا ولك الحمد) هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.

فهذه الأدلة تشهد لما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله أن هذه الأفعال الثمانية واجبة, وهو ما أشار إليه الشيخ رحمه الله.

قال المؤلف رحمه الله: [وإذا كان الله عز وجل قد سمى الصلاة تسبيحاً فقد دل ذلك على وجوب التسبيح، كما أنه لما سماها قياماً في قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:2] دل على وجوب القيام.. إلخ].

هذه قاعدة أيضاً: وهي أن التعبير عن الشيء ببعض أجزائه يدل عل وجوب هذا الجزء فيه, فإذا عبر الله عز وجل عن الصلاة بالتسبيح, فإن هذا يدل على وجوب التسبيح في الصلاة, أو عبر بالقراءة عن الصلاة, فإنه يدل على وجوب القراءة فيها وعلى هذا فقس.

قال المؤلف رحمه الله: [ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضاً قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].. إلخ].

الخشوع: هو حضور القلب في الصلاة, واختلف فيه العلماء رحمهم الله, هل هو واجب أو ليس واجباً؟

جماهير العلماء رحمهم الله يرون أن الخشوع سنة وليس واجباً, يدل لذلك حديث أبي هريرة في صحيح البخاري , ( وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط, فإذا ثوب بالصلاة أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه, يقول: اذكر كذا, اذكر كذا, فيظل الرجل يصلي لا يدري كم صلى ), فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره كما في نهاية الحديث أن يسجد للسهو, ولم يأمره أن يعيد الصلاة, فدل ذلك على أن الخشوع ليس واجباً, وهذا ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله.

الرأي الثاني: ذهب إليه بعض الحنابلة وهو قول الغزالي من الشافعية: أن الخشوع واجب, ويشهد له ما ذكره الشيخ رحمه الله. والأثر الذي أورده: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ليس عن عمر.

قال المؤلف رحمه الله: [ومن ذلك خشوع الأصوات؛ كقوله تعالى: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ [طه:108]، وهو انخفاضها وسكونها.. إلخ].

هذا استطراد من الشيخ رحمه الله, وما ذكره من الأدلة من القرآن والسنة والآثار, هذا كله يتعلق بإقامة الصلاة.

وقد تقدم لنا أن إقامة الصلاة تنقسم إلى قسمين: إقامة واجبة، وإقامة مستحبة, وركز الشيخ رحمه الله تعالى على ما يتعلق بالطمأنينة والاعتدال من الركوع والسجود؛ لأن الحنفية يخالفون في هذين, فيرون أنهما سنة, وركز الشيخ رحمه الله وأطال في هاتين المسألتين, وذكر أدلتهم, وذكر وجوب الخشوع, وأن مقتضى وجوب الخشوع أن تجب الطمأنينة.