شرح سنن أبي داود [536]


الحلقة مفرغة

شرح حديث جابر في إثبات صفة الكلام

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في القرآن.

حدثنا محمد بن كثير أخبرنا إسرائيل حدثنا عثمان بن المغيرة عن سالم عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف، فقال: (ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي) ].

القرآن هو من كلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل لا ينحصر ولا يتناهى؛ لأن الله عز وجل لا بداية له فلا بداية لكلامه، ولا نهاية له فلا نهاية لكلامه.

وقد جاء في القرآن ما يبين ذلك في آيتين من سورة الكهف وسورة لقمان، ففي سورة الكهف قوله الله عز وجل: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، وفي سورة لقمان: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27].

فهاتان الآيتان تدلان على أن كلام الله تعالى لا يتناهى ولا ينحصر؛ لأن المتكلم لا بداية له ولا نهاية له فإذاً لا حصر لكلامه، وقد أوضح الله عز وجل في هاتين الآيتين ما يبين عدم تناهي كلامه، بكون البحور الزاخرة والمحيطات الواسعة لو أنها كانت حِبراً ومداداً يكتب به كلام الله، ثم ضوعفت أضعافاً مضاعفة؛ فإن ذلك المداد سينفد وينتهي دون أن تنتهي كلمات الله، فقوله: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي أي: مداداً يكتب به، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ يعني: ولا تنفد، لأن كلام الله عز وجل لا ينفد، وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ، والآية الثانية: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يعني: يضاعفه أضعافاً مضاعفة، مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ يعني: لو كتب كلام الله عز وجل بهذه البحور المضاعفة والأقلام، ما نفدت كلمات الله، ونفدت الأقلام والبحور!

والقرآن هو من كلامه، والكتب التي أنزلها على المرسلين هي من كلامه، والقرآن من أوله إلى آخره -من الفاتحة إلى الناس- يكتب بمحبرة صغيرة، لكن البحور كلها لو كانت حبراً لنفدت ولا ينفد كلام الله عز وجل؛ لأنه لا حصر له ولا نهاية.

ثم إن الله عز وجل متكلم بلا بداية، لم يكن غير متكلم ثم تكلم، بل كلامه متعلق بمشيئته وإرادته، فهو يتكلم إذا شاء، متى شاء، كيف شاء، يقول العلماء: إن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، بمعنى أنه متكلم في الأزل بلا ابتداء، ولكن لا يقال إن كلامه كله في الأزل، وإنه لا يتعلق بالمشيئة والإرادة، بل هو متعلق بالمشيئة والإرادة، والله عز وجل كلم موسى في زمانه، وقد سمع موسى كلام الله من الله، فطمع في الرؤية فسألها، وأخبر بأنها لا تحصل في الحياة الدنيا، ولهذا يقال له: كليم الرحمن، والله عز وجل يقول: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164].

وكلم الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء في زمانه، ويكلم الله أهل الجنة إذا دخلوا الجنة، فإذاً كلامه لموسى هو من آحاد كلامه الذي لا حصر له ولا نهاية، وكلامه لمحمد صلى الله عليه وسلم هو من آحاد كلامه.

ومعنى حادث الآحاد أنه يحصل وفقاً لمشيئته وإرادته في أي زمن. وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ، فهم يثبتون أن الله تعالى يتكلم، وكلامه الألفاظ والمعاني، ليس كلام الله الألفاظ دون المعاني، ولا المعاني دون الألفاظ، بل هو مجموع الأمرين؛ ولهذا فالقرآن معجز بلفظه ومعناه.

ولا يقال: إنه مخلوق خلقه الله في مكان وخرج من ذلك المكان كما تقول المعتزلة ، بل الكلام بدأ من الله وظهر من الله، وقد سمعه جبريل من الله عز وجل، وسمعه موسى من الله عز وجل، وسمعه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل، وأهل الجنة يسمعون كلام الله عز جل إذا دخلوا الجنة.

والقرآن يطلق ويراد به القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويطلق ويراد به القراءة، كما في قول الله عز وجل: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18] أي اتبع قراءته، يعني: إذا قرأه جبريل عليك فاستمع، ولا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، فإنه سيكون محفوظاً عندك، ولن يفوتك منه شيء، فما عليك إلا أن تصغي وتسمع ولا تحرك لسانك به استعجالاً من أجل أن تحفظه، فكان عليه الصلاة والسلام بعد ذلك ينصت إلى جبريل عندما يلقي عليه القرآن، ثم يكون قد حفظه، ولم يفته منه شيء.

وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم) أي: زينوا القراءة بأصواتكم، لأن هذا هو الذي يملكه الناس، وهو تحسين الصوت، ومن المعلوم أن الصوت فعل القارئ والكلام كلام البارئ، فإذا قرأ الإنسان من القرآن، فهناك ملفوظ وهناك تلفظ، فالملفوظ هو كلام الله عز وجل وهو غير مخلوق، والتلفظ هو فعل العبد وكسبه وقراءته وفعله وهو المخلوق؛ لأن حركات الإنسان في القراءة مخلوقة، لأنها فعل المخلوق، والله عز وجل خلق الخلق وخلق أفعالهم، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، فهو خالق الذوات، وخالق الصفات التي تكون بالذوات، وخالق الأفعال.

إذاً: قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (زينوا القرآن بأصواتكم) يعني زينوا القراءة، لا القرآن، فإنه في غاية الزين، وفي غاية الكمال، وفي غاية الحسن، وفي غاية الوضوح، ولكنك تزين القراءة التي هي فعلك وكسبك.

فالمعتزلة يقولون: إن الله خلق القرآن في محل وبدأ كلامه من ذلك المحل.

وأما الأشاعرة فإنهم يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس لا يسمع منه، وما يوجد في المصاحف إنما هو عبارة عن كلام الله وليس كلام الله.

وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: القرآن المحفوظ في الصدور، والمحفوظ في السطور، أي محفوظ في المصاحف بالكتابة، هو كلام الله عز وجل لفظه ومعناه، والله تعالى تكلم به، وسمعه جبريل من الله، ونزل به على محمد رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم بلغه للناس، وقد حفظه الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

والمعتزلة استدلوا بأدلة من القرآن، وهي شبه وليست أدلة في الحقيقة، مثل قول الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، قالوا: والقرآن شيء فيكون مخلوقاً.

وهذا كلام باطل؛ لأن عموم كل شيء إنما هو بحسبه، فالله عز وجل خالق كل شيء مخلوق، والقرآن ليس مخلوقاً حتى يكون من جملة المخلوقات، لأن صفات الله عز وجل يقال لها شيء، وليست مخلوقة، وإنما الخلق هو نتيجة الصفة كما قال الله: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، فكن كلام، والذي يكون هو المخلوق، ورحمة الله عز وجل صفة قائمة بذاته، والجنة هي من آثار تلك الصفة وهي مخلوقة، والمطر من آثار الرحمة وهو مخلوق، فإذاً هناك صفة وهناك آثار للصفة، فالصفة قائمة بالله، ولا يصح أن يقال: مخلوقة، وأما آثارها فإنها من خلق الله سبحانه وتعالى.

أورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله الله عز وجل كان يعرض نفسه في الموقف، أي في الحج وفي مجامع الناس، وكذلك في غير ذلك، ويقول: (ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)، ومحل الشاهد أنه قال: (كلام ربي) الذي هو القرآن، فالقرآن هو من كلام الله عز وجل، فهو يريد أن يبلغه وقريش قد منعته من تبليغه.

و أبو داود رحمه الله أورد بعض الأحاديث التي فيها إضافة الكلام إلى الله، والأصل في الإضافة الحقيقة، وليس المجاز.

وقد قام عليه الصلاة والسلام وهو بـمكة بتبليغ ما أمر به من التبليغ، وأوذي أشد الإيذاء، ولكن الله عز وجل شاء أن يبقى في مكة ، وأن يكون انتقاله من مكة إلى المدينة ، وكان قد عرض عليه أحد الدوسيين قوم أبي هريرة ، وهو الطفيل أن يذهب معه إلى بلاده، وذكر له أن منعة وعندهم قوة، وأنهم سيقومون بنصرته وتأييده، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره بأن يقوم بالدعوة في بلده، وذلك لأن الله تعالى شاء أن تكون هجرته من مكة إلى المدينة، وأن يكون انتقاله إلى المدينة ، وليس إلى بلد آخر.

تراجم رجال إسناد حديث جابر في إثبات صفة الكلام

قوله: [ حدثنا محمد بن كثير ].

محمد بن كثير العبدي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا عن إسرائيل ].

هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا عثمان بن المغيرة ].

ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ عن سالم ].

سالم بن عبد الله بن عمر ، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن جابر ].

جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث عائشة في إثبات صفة ا لكلام

قال المصنف رحمه الله تعال: [ حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة رضي الله عنها، وكلٌّ حدثني طائفة من الحديث قالت: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى ].

أورد أبو داود حديث عائشة ، وهو قطعة من حديث طويل في قصة الإفك، فاختصره أبو داود هنا وأشار إلى طوله وإلى كثرته بالرواة الأربعة الذين رووه عن عائشة وأن كل واحد عنده ما ليس عند الآخر، وكلٌّ حدَّث بطائفة منه، ولم يميز الزهري كلام هذا من هذا، ولكن كلهم ثقات، وكلهم خرَّج لهم أصحاب الكتب الستة.

وقد أتى أبو داود بالعبارة التي هي محل الشاهد من ذلك الحديث الطويل، وهو قول عائشة : ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى؛ لأن قولها: (يتكلم الله) إشارة إلى آيات الإفك التي جاءت في سورة النور، فإنها كلام الله عز وجل.

وعبرت بقولها: (يتكلم الله فيّ) أي بهذا الذي نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي فيه براءتها، وكانت رضي الله عنها قد قالت: وكنت أتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئني الله بها، أي: لأن رؤيا الأنبياء وحي.

وقد استعظمت أو استكثرت على نفسها أن الله تعالى يتكلم فيها بكلام يتلى، ولكن نزل قوله: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11]، إلى آخر العشر الآيات، وإنما كانت ترجو وتتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئها الله بها، وهذا من تواضعها، كما هو شأن أولياء الله، حيث يحصل لهم الكمال ومع ذلك يتواضعون لله عز وجل، ولهذا فإن ابن القيم رحمه الله في كتابهجلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ترجم عند ذكر الآل لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، فترجم لكل واحدة بترجمة مختصرة، وأشار إلى شيء من فضائلها ومناقبها، وكان مما ذكره من ترجمة عائشة أن أشار إلى تواضعها لله عز وجل وأنها قالت هذا الكلام الذي ذكره أبو داود ، وقال: أين هذا من بعض الناس يصوم يوماً في الشهر، ثم يقول: أنا كذا وأنا كذا، أو يصلي ركعتين في الليل ويقول: أنا كذا وأنا كذا، يستعظم عمله ويستكثره، وهي تقول هذه المقالة رضي الله عنها لما أكرمها الله عز وجل بنـزول براءتها بآيات تتلى من كتاب الله.

فأولياء الله عز وجل أعطاهم الله تعالى الكمال وأعطاهم ما أعطاهم من الرفعة والمنزلة، ولم يزدهم ذلك إلا تواضعاً لله عز وجل، كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، وهم مع إحسانهم ومع ما أكرمهم الله عز وجل به من توفيق إلى الخير يخشون الله عز وجل، ويرون أن ما عملوه من أعمال لا يعتبر شيئاً، كما جاء عن الفاروق رضي الله عنه لما طعن وكان في مرض موته، وجاءه والناس يزورونه، فجاء إليه شاب، وأثنى عليه وقال: هنيئاً لك يا أمير المؤمنين، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، وولي أبو بكر من بعده فقمت معه، وكنت سنده وعضده، ثم وليت الخلافة وحصل منك كذا وكذا، ثم شهادة في سبيل الله! فقال عمر رضي الله عنه: وددت أن أنجو كفافاً لا عليَّ ولا لي!

ثم إن هذا الغلام لما ولى فإذا ثوبه يمس الأرض، فقال: ردوا عليَّ الغلام، ثم قال له: ارفع ثوبك يا ابن أخي! فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك!

فهو على ما فيه من شدة الوجع لم يمنعه ذلك من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفي أمرٍ من الأمور التي يقول بعض الناس الذين لم يوفقوا فيما يقولون: إن الشريعة لباب وقشور، وهذا من القشور.

ونحن نقول: كلها لباب وليس فيها قشور، ولكنها متفاوتة، فليست الأحكام واحدة، وليست متساوية، لكن لا يجوز أن يوصف شيء منها بأنه قشور، وتقسيمها إلى لباب وقشور من الكلام السيئ، ومن الكلام القبيح!

تراجم رجال إسناد حديث عائشة في إثبات صفة الكلام

قوله: [ حدثنا سليمان بن داود المهري ].

سليمان بن داود المهري المصري وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي .

[ أخبرنا عبد الله بن وهب ].

عبد الله بن وهب المصري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرني يونس بن يزيد ].

يونس بن يزيد الأيلي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال: أخبرني عروة بن الزبير ].

عروة بن الزبير بن العوام ، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ وسعيد بن المسيب ].

وهو أيضاً أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ وعلقمة بن وقاص ].

علقمة بن وقاص الليثي ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ وعبيد الله بن عبد الله ].

عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الثقفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

وقد جاء في هذا الإسناد ثلاثة من الفقهاء السبعة المشهورين في عصر التابعين: عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أما علقمة بن وقاص الليثي فهو ثقة، وهو الذي روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، وقد تفرد بروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ، وتفرد بروايته عن عمر علقمة بن وقاص الليثي ، وهو من كبار التابعين، وتفرد به عن علقمة محمد بن إبراهيم التيمي وهو من أوساط التابعين، وتفرد به عن محمد بن إبراهيم التيمي يحيى بن سعيد الأنصاري ، وهو من صغار التابعين، ثم انتشر بعد يحيى بن سعيد الأنصاري حتى بلغ الذين رووه عنه سبعين راوياً أو ما يقرب من السبعين.

[ عن حديث عائشة ].

عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو سعيد ، وأنس ، وجابر ، وأم المؤمنين عائشة ، ستة رجال وامرأة واحدة، رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.

شرح حديث عامر بن شهر في إثبات صفة الكلام

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا إسماعيل بن عمر أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن أبي زائدة عن مجالد عن عامر -يعني الشعبي - عن عامر بن شهر قال: كنت عند النجاشي فقرأ ابن له آية من الإنجيل، فضحكت، فقال: أتضحك من كلام الله؟!].

هذا يعتبر أثراً لأنه ليس فيه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو كلام النجاشي، والمقصود منه أن الكلام إذا أضيف إلى الله عز وجل فالمقصود به كلامه الذي تكلم به، ومنه التوراة والإنجيل والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، فالكتب التي أنزلها الله هي من جملة كلامه، وكلام الله كما عرفنا لا ينحصر ولا ينتهي.

ومحل الشاهد من هذا أنه قال: أتضحك من كلام الله؟! فهذا أثر من النجاشي أضاف فيه الإنجيل إلى الله.

تراجم رجال إسناد حديث عامر بن شهر في إثبات صفة الكلام

قوله: [ حدثنا إسماعيل بن عمر ].

إسماعيل بن عمر مقبول، أخرج له أبو داود .

[ أخبرنا إبراهيم بن موسى ].

وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا ابن أبي زائدة ].

يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن مجالد ].

مجالد بن سعيد ، وهو ليس بالقوي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.

[ عن عامر -يعني الشعبي - ].

وهو عامر بن شراحيل الشعبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عامر بن شهر ].

عامر بن شهر رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أبو داود .

والشيخ الألباني صحح هذا الأثر؛ لكن الإسناد فيه إسماعيل بن عمر الذي هو مقبول، وفيه مجالد وهو ليس بالقوي.

شرح حديث تعويذ الحسنين بكلمات الله التامة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين : (أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ثم يقول: كان أبوكم يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق).

قال أبو داود : هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق ].

أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ثم يقول: كان أبوكم يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق)، ثم قال أبو داود : [ هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق ].

ومحل الشاهد من هذا أنه قال: (أعيذكما بكلمات الله التامة)، ومن المعلوم أنه لا يستعاذ بمخلوق؛ لأن الاستعاذة إنما تكون بالخالق بذاته وصفاته، وأما المخلوق فلا يستعاذ به، فكونه استعاذ بالكلمات يدل على أن كلام الله غير مخلوق، وأن القرآن ليس مخلوقاً لأنه من جملة الكلام، ثم إن الاستعاذة عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى.

قوله: (أعيذكما بكلمات الله) كلمات الله تكون كونية وتكون شرعية، وكلمات الله الكونية هي ما قدَّره الله تعالى وقضاه ولابد أن يحصل، وكلمات الله الشرعية منها القرآن الذي أنزله الله على رسوله الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهنا نعلم أن القرآن ليس بمخلوق؛ لأن القرآن من كلمات الله وكلمات الله غير مخلوقة.

وقوله: (بكلمات الله التامة) جاء في القرآن قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115] فهي صدق في الأخبار وعدل في الأوامر والنواهي والأحكام، فكل خبر جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو صدق وحق، فيجب أن تمتثل الأوامر وتجتنب النواهي.

قوله: (ومن كل شيطان وهامة).

يعني أي شيطان وهامة، والمقصود بالهامة ذوات السموم، مثل العقارب والحيات التي فيها شدة الإيذاء، وقد يحصل الموت بسبب سمها.

قوله: [ (ومن كل عين لامة) ].

فسر بأنه يراد بذلك ما يحصل من العين بسبب الحسد الذي يكون من بعض الناس، حيث يحسد فإذا وقعت عينه على شيء جعل الله عز وجل فيها من الشر والضرر ما ينتقل إلى المحسود، فيحصل له الضرر.

قوله: [ (ثم يقول: كان أبوكم يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق) ].

أبوكم هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو أبو العرب؛ لأن العرب من ذرية إسماعيل، وهو يخاطب العرب بقوله: (كان أبوكم).

وإسماعيل هو ابن إبراهيم ، وهو الذي منه العرب، وإسحاق بن إبراهيم هو أبو يعقوب الذي منه اليهود والنصارى، ولذلك يقال لهم: بنو إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وتعويذ الأولاد بمثل هذا سنة.

تراجم رجال إسناد حديث تعويذ الحسنين بكلمات الله التامة

قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ].

عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.

[ حدثنا جرير ].

جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن منصور ].

منصور بن المعتمر الكوفي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن المنهال بن عمرو ].

وهو صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ عن سعيد بن جبير ].

وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عباس ].

عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث ابن مسعود في إثبات صفة الكلام

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي وعلي بن الحسين بن إبراهيم وعلي بن مسلم قالوا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله عليه وسلم: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحق الحق) ].

أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.

قوله: (إذا تكلم الله بالوحي).

هذا هو محل الشاهد، أي أن الوحي من كلام الله عز وجل، وأنه يتكلم به، وأنه يسمع منه، ولذلك قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة).

قوله: (كجر السلسلة على الصفا).

والسلسلة هي الحلقات من الحديد المرتبط بعضها ببعض، والصفا: هو الحجر الأملس، فإنها إذا جرت على الصفا سمع لها صوت متقطع بسبب سحبها عليه، وهو يسمى الصلصلة.

قوله: (فيصعقون) أي: فيصيب أهل السماوات غشي وصعق، ولا يزالون كذلك حتى يأتي جبريل بالوحي من الله عز وجل فيفيقون ويقولون: (ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحق الحق) يعني: أنه قال الحق.

ومحل الشاهد من إيراد الحديث قوله: (إذا تكلم الله بالوحي)، فإن هذا فيه إضافة الكلام إلى الله عز وجل، وأنه يتكلم بالوحي، وأنه يسمعه منه جبريل وينزل به على من أرسله الله إليه؛ سواء كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو من قبله من الرسل؛ لأن جبريل هو الموكل بالوحي.

تراجم رجال إسناد حديث ابن مسعود في إثبات صفة الكلام

قوله: [ حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي ].

وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي .

[ ومحمد بن كثير أخبرنا إسرائيل حدثنا عثمان بن المغيرة عن سالم عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف، فقال: (ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي) ].

القرآن هو من كلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل لا ينحصر ولا يتناهى؛ لأن الله عز وجل لا بداية له فلا بداية لكلامه، ولا نهاية له فلا نهاية لكلامه.

وقد جاء في القرآن ما يبين ذلك في آيتين من سورة الكهف وسورة لقمان، ففي سورة الكهف قوله الله عز وجل: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، وفي سورة لقمان: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27].

فهاتان الآيتان تدلان على أن كلام الله تعالى لا يتناهى ولا ينحصر؛ لأن المتكلم لا بداية له ولا نهاية له فإذاً لا حصر لكلامه، وقد أوضح الله عز وجل في هاتين الآيتين ما يبين عدم تناهي كلامه، بكون البحور الزاخرة والمحيطات الواسعة لو أنها كانت حِبراً ومداداً يكتب به كلام الله، ثم ضوعفت أضعافاً مضاعفة؛ فإن ذلك المداد سينفد وينتهي دون أن تنتهي كلمات الله، فقوله: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي أي: مداداً يكتب به، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ يعني: ولا تنفد، لأن كلام الله عز وجل لا ينفد، وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ، والآية الثانية: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يعني: يضاعفه أضعافاً مضاعفة، مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ يعني: لو كتب كلام الله عز وجل بهذه البحور المضاعفة والأقلام، ما نفدت كلمات الله، ونفدت الأقلام والبحور!

والقرآن هو من كلامه، والكتب التي أنزلها على المرسلين هي من كلامه، والقرآن من أوله إلى آخره -من الفاتحة إلى الناس- يكتب بمحبرة صغيرة، لكن البحور كلها لو كانت حبراً لنفدت ولا ينفد كلام الله عز وجل؛ لأنه لا حصر له ولا نهاية.

ثم إن الله عز وجل متكلم بلا بداية، لم يكن غير متكلم ثم تكلم، بل كلامه متعلق بمشيئته وإرادته، فهو يتكلم إذا شاء، متى شاء، كيف شاء، يقول العلماء: إن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، بمعنى أنه متكلم في الأزل بلا ابتداء، ولكن لا يقال إن كلامه كله في الأزل، وإنه لا يتعلق بالمشيئة والإرادة، بل هو متعلق بالمشيئة والإرادة، والله عز وجل كلم موسى في زمانه، وقد سمع موسى كلام الله من الله، فطمع في الرؤية فسألها، وأخبر بأنها لا تحصل في الحياة الدنيا، ولهذا يقال له: كليم الرحمن، والله عز وجل يقول: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164].

وكلم الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء في زمانه، ويكلم الله أهل الجنة إذا دخلوا الجنة، فإذاً كلامه لموسى هو من آحاد كلامه الذي لا حصر له ولا نهاية، وكلامه لمحمد صلى الله عليه وسلم هو من آحاد كلامه.

ومعنى حادث الآحاد أنه يحصل وفقاً لمشيئته وإرادته في أي زمن. وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ، فهم يثبتون أن الله تعالى يتكلم، وكلامه الألفاظ والمعاني، ليس كلام الله الألفاظ دون المعاني، ولا المعاني دون الألفاظ، بل هو مجموع الأمرين؛ ولهذا فالقرآن معجز بلفظه ومعناه.

ولا يقال: إنه مخلوق خلقه الله في مكان وخرج من ذلك المكان كما تقول المعتزلة ، بل الكلام بدأ من الله وظهر من الله، وقد سمعه جبريل من الله عز وجل، وسمعه موسى من الله عز وجل، وسمعه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل، وأهل الجنة يسمعون كلام الله عز جل إذا دخلوا الجنة.

والقرآن يطلق ويراد به القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويطلق ويراد به القراءة، كما في قول الله عز وجل: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18] أي اتبع قراءته، يعني: إذا قرأه جبريل عليك فاستمع، ولا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، فإنه سيكون محفوظاً عندك، ولن يفوتك منه شيء، فما عليك إلا أن تصغي وتسمع ولا تحرك لسانك به استعجالاً من أجل أن تحفظه، فكان عليه الصلاة والسلام بعد ذلك ينصت إلى جبريل عندما يلقي عليه القرآن، ثم يكون قد حفظه، ولم يفته منه شيء.

وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم) أي: زينوا القراءة بأصواتكم، لأن هذا هو الذي يملكه الناس، وهو تحسين الصوت، ومن المعلوم أن الصوت فعل القارئ والكلام كلام البارئ، فإذا قرأ الإنسان من القرآن، فهناك ملفوظ وهناك تلفظ، فالملفوظ هو كلام الله عز وجل وهو غير مخلوق، والتلفظ هو فعل العبد وكسبه وقراءته وفعله وهو المخلوق؛ لأن حركات الإنسان في القراءة مخلوقة، لأنها فعل المخلوق، والله عز وجل خلق الخلق وخلق أفعالهم، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، فهو خالق الذوات، وخالق الصفات التي تكون بالذوات، وخالق الأفعال.

إذاً: قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (زينوا القرآن بأصواتكم) يعني زينوا القراءة، لا القرآن، فإنه في غاية الزين، وفي غاية الكمال، وفي غاية الحسن، وفي غاية الوضوح، ولكنك تزين القراءة التي هي فعلك وكسبك.

فالمعتزلة يقولون: إن الله خلق القرآن في محل وبدأ كلامه من ذلك المحل.

وأما الأشاعرة فإنهم يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس لا يسمع منه، وما يوجد في المصاحف إنما هو عبارة عن كلام الله وليس كلام الله.

وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: القرآن المحفوظ في الصدور، والمحفوظ في السطور، أي محفوظ في المصاحف بالكتابة، هو كلام الله عز وجل لفظه ومعناه، والله تعالى تكلم به، وسمعه جبريل من الله، ونزل به على محمد رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم بلغه للناس، وقد حفظه الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

والمعتزلة استدلوا بأدلة من القرآن، وهي شبه وليست أدلة في الحقيقة، مثل قول الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، قالوا: والقرآن شيء فيكون مخلوقاً.

وهذا كلام باطل؛ لأن عموم كل شيء إنما هو بحسبه، فالله عز وجل خالق كل شيء مخلوق، والقرآن ليس مخلوقاً حتى يكون من جملة المخلوقات، لأن صفات الله عز وجل يقال لها شيء، وليست مخلوقة، وإنما الخلق هو نتيجة الصفة كما قال الله: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، فكن كلام، والذي يكون هو المخلوق، ورحمة الله عز وجل صفة قائمة بذاته، والجنة هي من آثار تلك الصفة وهي مخلوقة، والمطر من آثار الرحمة وهو مخلوق، فإذاً هناك صفة وهناك آثار للصفة، فالصفة قائمة بالله، ولا يصح أن يقال: مخلوقة، وأما آثارها فإنها من خلق الله سبحانه وتعالى.

أورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله الله عز وجل كان يعرض نفسه في الموقف، أي في الحج وفي مجامع الناس، وكذلك في غير ذلك، ويقول: (ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)، ومحل الشاهد أنه قال: (كلام ربي) الذي هو القرآن، فالقرآن هو من كلام الله عز وجل، فهو يريد أن يبلغه وقريش قد منعته من تبليغه.

و أبو داود رحمه الله أورد بعض الأحاديث التي فيها إضافة الكلام إلى الله، والأصل في الإضافة الحقيقة، وليس المجاز.

وقد قام عليه الصلاة والسلام وهو بـمكة بتبليغ ما أمر به من التبليغ، وأوذي أشد الإيذاء، ولكن الله عز وجل شاء أن يبقى في مكة ، وأن يكون انتقاله من مكة إلى المدينة ، وكان قد عرض عليه أحد الدوسيين قوم أبي هريرة ، وهو الطفيل أن يذهب معه إلى بلاده، وذكر له أن منعة وعندهم قوة، وأنهم سيقومون بنصرته وتأييده، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره بأن يقوم بالدعوة في بلده، وذلك لأن الله تعالى شاء أن تكون هجرته من مكة إلى المدينة، وأن يكون انتقاله إلى المدينة ، وليس إلى بلد آخر.




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2887 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2831 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2727 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2695 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2688 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2677 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2674 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2651 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2642 استماع