شرح سنن أبي داود [049]


الحلقة مفرغة

شرح حديث: (بعث رسول الله أسيد بن حضير وأناساً معه ...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب التيمم.

حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي أخبرنا أبو معاوية ح ، وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا عبدة -المعنى واحد- عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيد بن حضير وأناساً معه في طلب قلادة أضلتها عائشة ، فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فأنزلت آية التيمم، زاد ابن نفيل فقال لها أسيد بن حضير : يرحمك الله! ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجاً) ].

أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: باب التيمم بعد أن فرغ مما يتعلق بالوضوء والغسل من الجنابة، والغسل من الحيض، وذكر الأبواب المتعلقة بالتيمم بعد الوضوء وبعد الغسل من الجنابة ومن المحيض في غاية المناسبة وفي غاية الحسن؛ لأن الوضوء والاغتسال من الجنابة والاغتسال من الحيض يكون بالماء، وإذا فقد الماء أو تعذر استعماله بسبب مضرة عظيمة فإنه ينتقل إلى التيمم.

وهذا الترتيب أنسب من جعل التيمم قبل الحيض كما في بعض الكتب؛ لأن التيمم طهارة تحل محل ما يتطهر له بالماء.

أورد أبو داود رحمه الله تحت هذه الترجمة أحاديث تدل على مشروعية التيمم وأصل فرضيته، وصفته، وبدأ بحديث عائشة رضي الله عنها في مشروعية التيمم وأصل فرض التيمم، وأن أصل ذلك أنها كانت في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، وفي ليلة من الليالي أرادوا أن يرتحلوا، فذكرت عائشة رضي الله عنها أنها فقدت عقداً لها استعارته من أختها أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، فالرسول عليه الصلاة والسلام مكث وأرسل من يبحث عن ذلك العقد، وكان فيهم أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه، فكانوا يبحثون ويفتشون عنه، ونفد الماء الذي كان معهم، وكان مما حصل أن أبا بكر غضب على عائشة ؛ لأنها تسببت في حبس الناس بسبب ذلك العقد الذي فقدته، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ذهبوا للبحث عنه لما جاء وقت الصلاة وليس معهم ماء صلوا بدون وضوء، وهذا فيه دليل على أن الصلاة لا تسقط بأي حال من الأحوال؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما فقدوا الماء ولم يكن التيمم قد شرع؛ علموا أن الصلاة لا تترك ولا تؤخر، فصلوا بدون وضوء، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم، ولكن بعد أن شرع التيمم إذا لم يوجد الماء فينتقل الإنسان إلى التيمم، وكذلك إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يتوضأ ولا يتيمم فيصلي على حسب حاله، مثل الإنسان الذي تكون يداه مربوطتين ولا يستطيع أن يتحرك، فالصلاة لا تسقط عنه، بل عليه أن يصلي على حسب حاله.

فنزلت آية التيمم، فتيمموا وصلوا، وقال أسيد بن حضير رضي الله عنه لـعائشة : (يرحمك الله! ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجاً ومخرجاً)، يعني: أن الذي حصل من حبس الناس بسبب عقدها، وكان في نفس أبي بكر عليها شيء بسبب ذلك، وكانت تألمت وتأثرت لما حصل من أبيها في حقها؛ فشاء الله عز وجل أن يجيء وقت صلاة الفجر وليس معهم ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، وعند ذلك أثنى أسيد بن حضير رضي الله عنه على أم المؤمنين عائشة .

وفي بحثهم عن العقد دليل على أن المال لا يستهان به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث من أجل البحث عن هذا العقد، وبعث جماعة يبحثون عن هذا العقد، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).

وبعد أن نزلت آية التيمم وتيمموا وصلوا، عزموا على الارتحال، وأيسوا من العقد، ولما أثاروا البعير وجدوا العقد تحت الجمل الذي كانت تركب عليه عائشة رضي الله عنها.

رسول الله لا يعلم الغيب

في هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وأنه لا يعلم من الغيوب إلا ما أطلعه الله عليه، وعلم الغيب على الإطلاق من خصائص الله عز وجل، قال الله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، والله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب، قال الله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50]، وقال: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188]، وكل هذا يدل على أن علم الغيب على الإطلاق إنما هو من خصائص الله سبحانه وتعالى، ولا يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيء من خصائص الله سبحانه وتعالى.

والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام قد أطلعه الله على الكثير من الغيوب، سواءً كانت ماضية أو مستقبلة أو موجودة ولكنها لا تشاهد ولا تعاين، ولكن ليس كل غيب يطلع عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة فرض التيمم من أمثلة ذلك، والأمثلة كثيرة ومنها أيضاً: قصة الإفك عندما رميت عائشة بالفاحشة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم الحقيقة، وأذن لها أن تذهب إلى أهلها، وبقيت مدة متألمة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي متألماً متأثراً، وكان يأتي إلى عائشة رضي الله عنها ويقول لها: (يا عائشة ! إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفري الله) ولو كان يعلم الغيب ما قال هذا الكلام، ولم يبق مدة وهو متألم متأثر، وأهله وزوجته كذلك، وأصهاره أبو بكر وأهله كذلك كلهم متألمون ومتأثرون، فلو كان يعلم الغيب فبمجرد ما رميت بالإفك سيقول لهم: هي بريئة، فأنا أعلم الغيب، لكن ما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام هذا.

وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام صلى مرة وفي نعليه نجاسة، ولم يعلم بذلك حتى جاءه جبريل وأخبره في أثناء الصلاة، فخلع نعليه وهو في الصلاة عليه الصلاة والسلام.

وكذلك يوم البعث والنشور عندما يكون عليه الصلاة والسلام على الحوض ويذاد عنه أناس يعرفهم من أصحابه، ولكنهم ارتدوا وقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه والصحابة على ردتهم، وماتوا على الردة، فإنهم يذادون عن الحوض، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أصحابي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فلو كان يعلم الغيب عليه الصلاة والسلام لما قيل له هذا الكلام، ولم يقل: (أصحابي) إذ كان يعرف أنهم منعوا من الحوض لكونهم ماتوا على الردة، لكنه ما كان يعلم ذلك عليه الصلاة والسلام.

النهي عن الغلو في النبي عليه الصلاة والسلام

الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أطلعه الله على كثير من الغيوب الماضية والمستقبلة والحاضرة التي لا تشاهد ولا تعاين كأخبار السماوات، وأخبار الجنة والنار وما فيهما، وما إلى ذلك من أمور غيبية لا تشاهد ولا تعاين، ولكن الله أطلع نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم عليها.

والواجب أن يعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل المنزلة التي أنزله الله إياها بدون غلو وزيادة ومجاوزة للحد، بحيث يضاف إليه ما يضاف إلى الله، ويوصف بما يوصف به الله، ومن ذلك وصفه أنه يعلم الغيب مطلقاً، قال البوصيري في البردة:

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

وقوله:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حصول الحادث العمم

وهذا لا يليق ولا يصلح إلا لله عز وجل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ليس كل ما في اللوح المحفوظ؛ وليس كل غيب يعلمه عليه الصلاة والسلام، فالواجب هو محبة النبي صلى الله عليه وسلم المحبة التي تفوق محبة كل مخلوق حتى الأب والأم والولد والبنت والقريب والبعيد، وكل من تربط الإنسان به رابطة، وكل من له به علاقة، فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن تفوق محبة كل محبوب من الخلق، ولكن لا يغلى فيه ولا يطرى ولا يتجاوز به الحد، وإنما يمدح ويثنى عليه في حدود ما هو سائغ من غير إفراط ومن غير مجاوزة للحد.

تابع شرح حديث: (بعث رسول الله أسيد بن حضير وأناساً معه...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قالت عائشة رضي الله عنها : (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيد بن حضير وأناساً معه في طلب قلادة) ].

هذا فيه اختصار، والقصة أنهم كانوا في سفر وكانت معهم عائشة رضي الله عنها، فلما أرادوا أن يرتحلوا أخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها فقدت عقداً لها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يبقوا، وأرسل أسيد بن حضير ومن معه ليبحثوا عن العقد، لاحتمال أنها فقدته عندما ذهبت تقضي حاجة، فأرسلهم يبحثون عنه ويفتشون.

قوله: [ (فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله سلم فذكروا ذلك له، فأنزلت آية التيمم) ].

يعني: لم يأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالإعادة، فدل هذا على أن الإنسان إذا لم يتمكن من الوضوء ولا من التيمم فإنه يصلي على حسب حاله، والصلاة لا تسقط بأي حال من الأحوال ما دامت الروح في الجسد، وما دام الإنسان فيه حياة، فإن عليه أن يصلي على حسب حاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر هؤلاء الذين صلوا بدون وضوء، فدل هذا على أنه بعد فرض التيمم إذا لم يتمكن الإنسان لا من هذا ولا من هذا فإنه يصلي على حسب حاله ولا تسقط عنه الصلاة.

قوله: [ زاد ابن نفيل : (فقال لها أسيد بن حضير : يرحمك الله! ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجاً) ].

قول أسيد بن حضير رضي الله عنه لها هو من رواية ابن نفيل أحد شيخي أبي داود ، والمعنى أنه حصل خير كثير وشيء عظيم بسبب هذا الانحباس، وهو أنه شرع لهم التيمم الذي يتطهر به المسلمون عند فقد الماء أو عند عدم القدرة على استعماله.

تراجم رجال إسناد حديث: (بعث رسول الله أسيد بن حضير وأناساً معه...)

قوله: [ حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ].

هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل النفيلي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ أخبرنا أبو معاوية ].

هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ].

ح هي للتحول من إسناد إلى إسناد، وعثمان بن أبي شيبة قد مر ذكره.

[ أخبرنا عبدة ].

هو عبدة بن سليمان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

قوله: [ والمعنى واحد ].

يعني: أن رواية شيخه النفيلي ورواية شيخه عثمان بن أبي شيبة معناهما واحد، وهذه طريقة أبي داود رحمه الله أنه عندما يذكر اثنين من شيوخه أو أكثر يقول: المعنى، وأحياناً يقول: المعنى واحد، كما هنا، يعني: أن هؤلاء الشيوخ الذين ذكرهم ليسوا متفقين في الألفاظ ولكنهم متفقون في المعنى.

[ عن هشام بن عروة ].

هشام بن عروة ثقة ربما دلّس، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبيه ].

هو عروة بن الزبير بن العوام وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن أم المؤمنين عائشة ].

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقد مر ذكرها.

شرح حديث: (تمسحوا مع رسول الله بالصعيد لصلاة الفجر...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حدثه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه كان يحدث: (أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم) ].

أورد أبو داود رحمه الله هذه الأحاديث التي فيها صفة المسح، وكيفية المسح، وهل هو ضربتان أو ضربة واحدة؟ وهل مسح اليدين يكون إلى الكفين فقط أو إلى المرافق أو إلى الآباط والمناكب؟ منها ما هو للوجه والكفين فقط وهذا هو الذي في الصحيحين، ومنها ما هو إلى المرافق وإلى نصف الساعد، ومنها ما هو إلى الآباط، وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: إن الذي في الصحيحين للكفين، والأحاديث التي فيها إلى نصف الساعد وإلى المرافق فيها مقال، وأما الأحاديث التي فيها إلى الآباط فوردت عن الصحابة، فإن كان فعلهم بأمره صلى الله عليه وسلم فالأحاديث التي جاءت بعد ذلك وصحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون ناسخة له، وإن كانت باجتهاد من الصحابة وأنهم فهموا أن المراد باليد إلى المناكب؛ لأن اليد في القرآن مطلقة في قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] فيكون هذا اجتهاد منهم والعبرة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم وثبت في الصحيحين هو أنه للكفين فقط ولا يتجاوز ذلك إلى غيره.

هذا ما قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري تحت ترجمة: باب التيمم للوجه والكفين.

أورد أبو داود رحمه الله حديث عمار (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وتمسحوا)، أي: تيمموا بالصعيد، ومسحوا على وجوهم وأيديهم منه، وفيه ذكر ضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين، وجاء في بعض الأحاديث أنها ضربة واحدة، وأنها كافية، وإن ضرب الإنسان ضربتين فقد جاء ما يدل على ذلك وهو هذا الحديث، ويكتفى بمسح الكفين فقط، والذين قالوا: يمسح إلى المرافق استدلوا ببعض الروايات التي وردت وفيها المسح إلى المرافق، لكن تلك الروايات لا تسلم من مقال، وأيضاً استدلوا بالقياس على الوضوء، وذلك أن الوضوء يكون غسل اليدين فيه إلى المرفقين، ولكن ما دام أن السنة قد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على مسح الكفين فقط فالاقتصار على ذلك هو المتعين، فإن السنة بينت المراد بالإجمال الذي في الآية، وحددت ذلك بالكفين، فإن اليد في الآية مطلقة، فإذا جاء ما يقيدها من السنة صير إليه، كما أنه جاء ذكر الأيدي بالنسبة للسرقة مطلقة، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن القطع يكون من المفصل الذي يكون بين الكف والساعد، وكذلك أيضاً جاء في السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وفي غيرهما أن التيمم للكفين فقط، فتكون السنة مبينة للمراد من الآية.

تراجم رجال إسناد حديث: (تمسحوا مع رسول الله بالصعيد لصلاة الفجر....)

[ حدثنا أحمد بن صالح ].

هو أحمد بن صالح المصري وهو ثقة، أخرج أحاديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.

[ حدثنا عبد الله بن وهب ].

هو عبد الله بن وهب المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرني يونس ].

هو يونس بن يزيد الأيلي ثم المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ].

هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمار بن ياسر ].

عمار بن ياسر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

قيل: إن عبيد الله لم يسمع من عمار وإنما روى عنه بواسطة، وقد جاء في بعض الأحاديث ذكر الواسطة بينهما، وأنه ابن عباس .

شرح حديث: (تمسحوا مع رسول الله بالصعيد لصلاة الفجر...) من طريق ثانية

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا سليمان بن داود المهري وعبد الملك بن شعيب عن ابن وهب نحو هذا الحديث قال: (قام المسلمون فضربوا بأكفهم التراب ولم يقبضوا من التراب شيئاً، فذكر نحوه، ولم يذكر المناكب والآباط، قال ابن الليث : إلى ما فوق المرفقين) ].

أورد أبو داود رحمه الله حديث عمار من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، إلا أن فيه أنه قال: (لم يقبضوا شيئاً من التراب) ومعناه: أنهم لما ضربوا لم يأخذوا شيئاً من التراب بأيديهم، وإنما الذي علق باليدين عند الضرب هو الذي تيمموا به، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه نفخ يديه حتى يخفف الغبار الكثير الذي علق باليد.

إذاً: قوله: (لم يقبضوا)، يبين أن قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] أن قوله: مِنْهُ يعني: ما يعلق باليد، وليس المقصود به ما يقبض باليد وما يمسك باليد، وإنما ما يعلق باليد من الصعيد مما يتصاعد ويتطاير عند الضرب في الأرض، فهذا هو الذي يمسح به، وإذا كان كثيراً ينفض؛ لأنه جاء في بعض الروايات الصحيحة في البخاري وغيره: (أنه نفخ يديه حتى يخفف التراب).

قوله: [ وقال ابن الليث ].

ابن الليث هو عبد الملك بن شعيب بن الليث أحد شيخي أبي داود في هذا الحديث، وهو الشيخ الثاني.

تراجم رجال إسناد حديث: (تمسحوا مع رسول الله بالصعيد لصلاة الفجر...) من طريق ثانية

شرح حديث: (فأنزل الله على رسوله رخصة التطهر بالصعيد الطيب...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف ومحمد بن يحيى النيسابوري في آخرين، قالوا: حدثنا يعقوب أخبرنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بذات الجيش ومعه عائشة فانقطع عقد لها من جزع ظفار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء فتغيظ عليها أبو بكر رضي الله عنه وقال: حبست الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط) ، وزاد ابن يحيى في حديثه: قال ابن شهاب في حديثه: ولا يعتبر بهذا الناس ].

قوله: [ولا يعتبر بهذا الناس]، يعني: أن الناس لم يعتدوا ولم يأخذوا بما جاء في هذا الحديث من ذكر الآباط والمناكب، وحديث عمار رضي الله تعالى عنه هذا يرويه عنه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفيه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام عرس بذات الجيش) وهو مكان، والتعريس: هو الاستراحة في آخر الليل، فعندما أرادوا أن يرتحلوا فقدت عائشة عقداً لها، وكان من جزع ظفار، وهي مدينة في اليمن، والجزع هو الخرز، فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام الناس أن يبقوا للبحث عنه، وقد سبق أن أسيد بن حضير في جماعة هم الذين بحثوا عن ذلك العقد.

قوله: (فتغيظ أبو بكر على عائشة وقال: حبست الناس وليس معهم ماء! يعني: أن عائشة رضي الله عنها هي السبب في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالبقاء، فأضاف الحبس إلى عائشة ؛ لأنها هي المتسببة في ذلك، وإلا فإن الحبس إنما هو من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو الذي أمر الناس بأن يبقوا، وبعد ذلك أنزل الله آية التيمم فتيمموا.

وكان مما ذكر في تيممهم أنهم مسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطونها إلى الآباط، فظهور الأيدي يقابلها المناكب، فمسحوا من الظهور إلى المناكب، ومن البطون إلى الآباط، بحيث يبدأ بظهر اليد وينتهي بالمنكب، ويبدأ من بطنها وينتهي بالإبط.

تراجم رجال إسناد حديث: (فأنزل الله على رسوله رخصة التطهر بالصعيد الطيب)

قوله: [ حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف ومحمد بن يحيى النيسابوري ].

محمد بن أحمد بن أبي خلف ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود .

و محمد بن يحيى النيسابوري هو الذهلي ، وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

قوله: [ في آخرين ].

يعني: حدثه جماعة غير هذين الاثنين.

[ حدثنا يعقوب ].

هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا أبي ].

أبوه هو إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن صالح ].

هو صالح بن كيسان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

مر ذكره.

[ عن عبيد الله بن عبد الله ].

مر ذكره.

[ عن عبد الله بن عباس ].

هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

توجيه حديث: (فأنزل الله على رسوله رخصة التطهر بالصعيد الطيب)

هذا الحديث صحيح، لكن الأمر كما قال الحافظ ابن حجر : إن كان التيمم إلى المناكب بأمر النبي عليه الصلاة والسلام فقد جاء ما ينسخه، وإن كان بفعلهم فالعبرة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسح الوجه والكفين فقط.

[ قال ابن شهاب في حديثه: ولا يعتبر بهذا الناس ].

يعني: الناس لم يأخذوا بما جاء فيه من المسح إلى الآباط، وقد جاء عن الزهري أنه يرى المسح إلى الآباط، لكن هذا الذي ذكره هنا يخالف الذي جاء عنه، وابن رشد في بداية المجتهد لما ذكر هذا قال: إنه قول شاذ نسب إلى الزهري القول به وإلى شخص آخر معه، وأما المسح إلى المرفقين فقد جاءت فيه أحاديث فيها كلام، وبعضها شاذ؛ لأنه مخالف للروايات الصحيحة التي فيها ذكر الكفين.

اختلاف الرواة في حديث ضرب الأرض عند التيمم

[ قال أبو داود : وكذلك رواه ابن إسحاق قال فيه: عن ابن عباس ، وذكر ضربتين كما ذكر يونس ].

يعني: كما تقدم في الرواية السابقة التي يروي فيها ابن عباس عن عمار، قال: (فقام المسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط)، فذكر ضربة واحدة، وفي رواية ابن إسحاق ذكر ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ورواه معمر عن الزهري ضربتين ].

يعني: كما جاء عن ابن إسحاق .

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال مالك : عن الزهري عن

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب التيمم.

حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي أخبرنا أبو معاوية ح ، وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا عبدة -المعنى واحد- عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيد بن حضير وأناساً معه في طلب قلادة أضلتها عائشة ، فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فأنزلت آية التيمم، زاد ابن نفيل فقال لها أسيد بن حضير : يرحمك الله! ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجاً) ].

أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: باب التيمم بعد أن فرغ مما يتعلق بالوضوء والغسل من الجنابة، والغسل من الحيض، وذكر الأبواب المتعلقة بالتيمم بعد الوضوء وبعد الغسل من الجنابة ومن المحيض في غاية المناسبة وفي غاية الحسن؛ لأن الوضوء والاغتسال من الجنابة والاغتسال من الحيض يكون بالماء، وإذا فقد الماء أو تعذر استعماله بسبب مضرة عظيمة فإنه ينتقل إلى التيمم.

وهذا الترتيب أنسب من جعل التيمم قبل الحيض كما في بعض الكتب؛ لأن التيمم طهارة تحل محل ما يتطهر له بالماء.

أورد أبو داود رحمه الله تحت هذه الترجمة أحاديث تدل على مشروعية التيمم وأصل فرضيته، وصفته، وبدأ بحديث عائشة رضي الله عنها في مشروعية التيمم وأصل فرض التيمم، وأن أصل ذلك أنها كانت في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، وفي ليلة من الليالي أرادوا أن يرتحلوا، فذكرت عائشة رضي الله عنها أنها فقدت عقداً لها استعارته من أختها أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، فالرسول عليه الصلاة والسلام مكث وأرسل من يبحث عن ذلك العقد، وكان فيهم أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه، فكانوا يبحثون ويفتشون عنه، ونفد الماء الذي كان معهم، وكان مما حصل أن أبا بكر غضب على عائشة ؛ لأنها تسببت في حبس الناس بسبب ذلك العقد الذي فقدته، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ذهبوا للبحث عنه لما جاء وقت الصلاة وليس معهم ماء صلوا بدون وضوء، وهذا فيه دليل على أن الصلاة لا تسقط بأي حال من الأحوال؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما فقدوا الماء ولم يكن التيمم قد شرع؛ علموا أن الصلاة لا تترك ولا تؤخر، فصلوا بدون وضوء، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم، ولكن بعد أن شرع التيمم إذا لم يوجد الماء فينتقل الإنسان إلى التيمم، وكذلك إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يتوضأ ولا يتيمم فيصلي على حسب حاله، مثل الإنسان الذي تكون يداه مربوطتين ولا يستطيع أن يتحرك، فالصلاة لا تسقط عنه، بل عليه أن يصلي على حسب حاله.

فنزلت آية التيمم، فتيمموا وصلوا، وقال أسيد بن حضير رضي الله عنه لـعائشة : (يرحمك الله! ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجاً ومخرجاً)، يعني: أن الذي حصل من حبس الناس بسبب عقدها، وكان في نفس أبي بكر عليها شيء بسبب ذلك، وكانت تألمت وتأثرت لما حصل من أبيها في حقها؛ فشاء الله عز وجل أن يجيء وقت صلاة الفجر وليس معهم ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، وعند ذلك أثنى أسيد بن حضير رضي الله عنه على أم المؤمنين عائشة .

وفي بحثهم عن العقد دليل على أن المال لا يستهان به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث من أجل البحث عن هذا العقد، وبعث جماعة يبحثون عن هذا العقد، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).

وبعد أن نزلت آية التيمم وتيمموا وصلوا، عزموا على الارتحال، وأيسوا من العقد، ولما أثاروا البعير وجدوا العقد تحت الجمل الذي كانت تركب عليه عائشة رضي الله عنها.