حصائد الألسن


الحلقة مفرغة

الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحدٌ في ربوبيته، فهو الخالق المدبر الرازق، المحيي والمميت والمعز والمذل، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو على كل شيءٍ قدير، لا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحدٌ في ربوبيته فالتوكل عليه والاستعانة به، والطمع في ثوابه، والرغبة في جنانه، والخوف والرهبة من عذابه، الحلف به، والذبح له، والطواف له، والسجود له، والركوع له، وكل دقيقٍ وجليلٍ من أمر العبادة يصرف له وحده لا شريك له، ولا يُصرف لغيره.

فهو أغنى الشركاء عن الشرك، واحدٌ في أسمائه وفي صفاته، فله الأسماء الحسنى، والصفات العلى وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أنكم ملاقوا الله بكل أعمالكم، بنظراتكم وأسماعكم وخطواتكم وما اجترحته أيديكم، وبكل كلمةٍ نطقتم بها وتكلمتم بها، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلمو أن الله جل وعلا، يبسط لعبده الصحائف، فيرى العبد ما قدم من حسناته وسيئاته:

فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].. وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] والله لن تضل الموازين والصُحف عن سيئةٍ من سيئاتنا، أو حسنةٍ من حسناتنا، أو ذرةٍ من خيرٍ أو شرٍ اقترفناها.

فيا معاشر المؤمنين! اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

أيها الأحبة في الله! إن كثيراً من الناس يظن أن انتصاره على أعدائه في الخارج هو دليل التحكم والسيطرة، وليس هذا بقولٍ سديد على إطلاقه، فإن للعبد أعداءً من داخل بدنه، وإن للعبد أعداء من داخل نفسه، إذا استطاع أن ينتصر عليهم، فهو على ما سواهم أقدر بإذن الله جل وعلا.

أيها الأحبة في الله! إن كل واحدٍ منا فيه نقاط ضعفٍ لا يدري هل ينتصر عليها، أو يزيلها، أو يتحكم بها، حتى لا تؤدي -والعياذ بالله- إلى سوء خاتمته، وضلال سعيه، وعاقبته الوخيمة فيما يأتي ويذر.

أيها الأحبة! إن الإنسان لا يدري من أين يؤتى، إن هامان أتي من وزارته، وقارون أتي من ماله، وفرعون أتي من ملكه وتجبره، وكل واحدٍ على خطرٍ أن يؤتى من داخل نفسه، ونحن يا عباد الله، فينا وفي بدننا -هذا الجسم الذي نتحرك به- تارةً نقول ضعيفاً مسكيناً، وتارةً ترى فيه من العجائب ما الله به عليم:

دواؤك فيك وما تبصر     وداؤك منك وما تشعر

وتحسب أنك جسمٌ صغيرٌ     وفيك انطوى العالم الأكبرُ

نحن يا معاشر المؤمنين! فينا من نقاط الضعف ما يُمكن أن يكون سبباً لسوء الخاتمة، وفينا من جوانب الخير ما نرجو أن يكون سبباً لحسن العاقبة، ولن نستطيع أن نتكلم عن كل الجوانب التي تكون سبباً لسوء الخاتمة للإنسان من داخل نفسه، ألا وإن منها: جارحة صغيرة جداً، تكمن في مكانٍ خفي، تظهر تارةً فتلدغ، وربما التوت تارةً فتلسع، وربما صمتت فأُجرت، وربما نطقت فذكرت، آلا وهي اللسان!!

هذا اللسان، القطعة الصغيرة، من عصبٍ وشُعيراتٍ ولحمٍ لا تراها بارزةً في وجه الإنسان، أو في جسمه، بل هي كامنة، ولكن تارةً تخرج فتلدغ صاحبها قبل أن تلدغ الآخرين، وآفات اللسان كثيرة، وكما قال معاذ رضي الله عنه: (أونحن مؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا يا رسول الله؟! فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس على مناخرهم يوم القيامة في جهنم، إلا حصائد ألسنتهم!).

اللسان ذلك الثعبان، أو ذلك الذي ينطق بذكر الرحمن، إما نعمةٌ أو نقمة:

احذر لسانك أيها الإنسانُ     لا يلدغنّك إنه ثعبانُ

ربما عثر الرجل بقدمه أو سقط به جواده، أو زل به درج بيته، أو هوى من أعلى طابقٍ في منزله، وربما قام صحيحاً سليماً معافى، وربما زل زلةً لم ير منها ورماً، ولم ينسكب منها دماً، ولكنها تهوي به في النار سبعين خريفاً، في الحديث: (إن الرجل ليلفظ بالكلمة، لا يُلقي لها بالاً، تبلغ به من سخط الله أن يهوي في النار سبعين خريفاً، فهو يجلجل في النار إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليلفظ بالكلمة من رضوان الله، لا يُلقي لها بالاً، تبلغ به أعلى الدرجات في مرضات الله جل وعلا).

فاللسان أيها الأحبة! ذلك الذي نتزين به في المجالس، ونتنافس به في الفصاحة، وكل يُظهر نفسه منطقياً فصيحاً، وقد نسي قول الله جل وعلا: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

وربما غفل الإنسان عن الحافظين الذين يكتبون كل دقيقٍ وجليلٍ مما ينطق: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11].

معاشر الأحبة! آفات اللسان كثيرة، والباعث على كثيرٍ منها أن يُظهر الإنسان نفسه، أو أن يبرز بين العامة، أو أن يتصدر المجالس، أو أن يُشار إليه بالبنان، أو أن يُلحظ بالعيان، وكلها آفاتٌ وظلمات بعضها فوق بعض.

فأولها: ربما استساغ الرجل الكذب رغبةً في التصدر في المجلس، وربما تحدث وتكلم ليلتفت إليه، ونصيحتي قبل هذا، إذا كُنت في مجلسٍ ورأيت من الحاضرين من يكفيك الكلام فيما تريد أن تقوله، فاحمد الله جل وعلا، أن وكل بالكلام الذي في قلبك رجلاً يقوله بدلاً منك، أي كرامةٍ أعظم من هذه، لا تحرص أن تكون متكلماً في كل حال، إلا إذا تعين المقام، أو خشية أن يضيع المجلس في الباطل، أو يقوم الناس عن مجلسٍ لم يذكروا الله تعالى فيه، فربما تعين عليك الكلام ابتداءً، وأنت المسئول عن ذلك.

لكن إذا كنتَ في مجلسٍ وفي قلبك كلامٌ ورأيت من تكلم به بدلاً منك، فاحمد الله أن وكل بكلامك رجلاً ينطق به غيرك.

آفة الكذب

من آفات اللسان: الكذب، تلك الخصلة القبيحة الذميمة، قال صلى الله عليه وسلم: (يطبع الرجل على الخصال كلها، ليس الكذب والخيانة) أي سوى الكذب والخيانة، وسئل صلى الله عليه وسلم: (أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، قالوا: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم، قالوا: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: لا) لأن الكذب خصلةٌ قبيحةٌ ذميمةٌ جداً.

وحسبكم أن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال: (إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يُكتب عند الله كذاباً) وأنتم تعرفون الوعيد الشديد للكاذبين.

والكذب -أيها الأخوة- أصبح في هذا الزمان من أهون ما تساهل الناس به، حتى بدأ المنظرون، وبدأ المتفلسفون والمتفيهقون يُفصلون الكذب في غير ما فُصل في شرع الله جل وعلا، فمنهم من سمى (كذبة إبريل) ومنهم سمى الكذبة البيضاء، ومنهم من سمى كذبةً حمراء، إلى غير ذلك.

وكل هذا مرفوضٌ في دين الله جل وعلا، (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً وينمي خيراً) الكذب هنا جائز، أن تعرف أن فلان بن فلان، في قلبه عداوة، وفي نفسه إحن على فلان بن فلان؛ فتأتي إليه، وتقول للأول: عجبتُ من كلامٍ قاله صاحبك فلان في مجلسٍ من المجالس، لقد أثنى عليك، وذكر فيك خصالاً حميدة، وتقول شيئاً من هذا، فليس هذا من الكذب الحرام، بل هو من عين ذات الإصلاح الذي تؤجر به عند الله جل وعلا: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114].

(والكذب في الحرب) والحرب خُدعة، ثلاثيةٌ في الشكل: (وحديث الرجل امرأته) إذا تحدث الرجل بكلامٍ وخرج فيه عن الحقيقة؛ لكي يكسر من ضعف المرأة وما قد يؤدي إلى شرٍ أكبر، وليتق الله في هذا، وليكن ما خرج به عن الحقيقة في حديث أهله بقدر حاجة الإنسان إلى الدواء، لا أن يُصبح دائماً منذُ أن يدخل إلى أن يخرج، وهو يروي الأحاديث المكذوبة الموضوعة، رأى ولم ير، سمعَ ولم يسمع، قيلَ ولم يُقل، فُعل ولم يُفعل، ويظن أن الحديث مع المرأة من أوله إلى آخره ينبغي أن يكون كذباً في كذب، لا.

لكن لو شجر بين الرجل وأهله خلاف، أو حصل موقفٌ قد لا تقدره المرأة بضعفها، فاحتاج أن يزوّر عليها شيئاً من الحقيقة، أو يوري فيها فلا حرج، أما أن يكون الإنسان راويةً للكذب من غير حاجة، ويحتج بحديث الرجل لامرأته، فليس هذا مما فهمه أولو الألباب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

آفة المجازفة في إطلاق الكلام

الآفة الثانية: الكلام الذي يُطلق جزافاً، والعبارات البراقة، والكلمات الرنانة، التي يلفظ بها الإنسان، لكي تسجل له في سطور التاريخ، والله إنها تُسجل، ولكن هل يجدها في صحائف حسناته أم في صحائف سيئاته؟

وأقولها وبكل صراحة، وأوجه من هذا المنبر كلمةً إلى كل صحفي من الصحفيين، وكل صاحب عنوانٍ من العناوين، أن يتقي الله في العبارة التي تُنشر عنه، وكل كلمةٍ يكتبها في أسطر مقاله، أقول لنفسي، وأقول لهم، وأقول لكم: اتقوا الله فيما تكتبون، فإن من علم أن كلامه من عمله، لم يسره أن يتكلم إلا بما يطمع أن يراه في موازين حسناته:

وما من كاتب إلا سيفنى     ويُبقي الدهر ما كتبت يداهُ

فلا تكتب بخطك غيـر شيءٍ     يسرك في القيامة أن تراهُ

مما قرأت في عددٍ من المجلات والجرائد، كاتباً تكلم عن أهداف أحد اللاعبين فقال: أهداف اللاعب الفلاني، تلك التي تجعل الأعمى يُبصر، والأبكم يتكلم، عجبتُ لهذا اللاعب!

وعجبتُ في الحقيقة لهذا المتكلم، فقد لا يكون للاعب ذنب!! متى كان هذا اللاعب عيسى بن مريم؟! يبرئ الأكمه والأبرص بأهدافٍ يسجلها! أما يتقي الله هذا الذي يقول هذا الكلام! أهدافٌ تجعل الأعمى يبصر! والأبكم يتكلم! والأصم ينقلب سمعياً! أين تريد أن ترى هذه الكلمة يا عبد الله؟! تريد أن تراها في صفحة الحسنات، أم في صفحة السيئات؟!

اتقوا الله يا معاشر الكتاب! ويا معاشر الصحفيين! وهذه نصيحة ومحبة، هذا نداءٌ من القلب إلى القلب، ومن الروح إلى الروح، حتى لا تُفسر أنها فضيحةٌ أو تشهير.

معاشر المؤمنين! وآخر يقول: من تقرب إلى نادينا شبراً نتقرب إليه ذراعاً!!

عجباً! ولن أجزم بسوء قصد قائله، فإن قصد بهذه العبارة شيئاً من اللفظ والبيان الذي يتكلم به، بعيداً عن قصد الحديث، الذي جاء فيه أن الله جل وعلا، يفرح بتوبة عبده: (فلئن تقرب إليه العبد شبراً تقرب الله إليه ذراعاً) إن كان بعيداً عن قصد الحديث، فنقول: خير لك أن تعبر بشيءٍ بعيدٍ عن النصوص والحروف والرسوم التي جاء فيها البيان الرباني والنبوي والشرعي.

فلنرفع مقام الشريعة، ولنرفع مقام الأحاديث، ولنرفع مقام كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن قصد المتكلم، أنه يُحاكي قول الله: من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، فهي والله من الكلمات التي تهوي بصاحبها، وكم سمعنا فلتاتٍ جرت على الألسنة! والله لو جلستُ مجلساً فقام واحدٌ يضحك، أو يتهكم، أو يستهزئ أو يصوغ شيئاً من عبارات الدعابة والمزاح، بنص مرسومٍ من المراسيم لاعترضت عليه، حتى لا تُصبح النصوص والمقالات عرضة الهزال والعبث!!

فكيف نسكت أن يُتكلم بشيءٍ فيه محاكاةٌ في باب هزلٍ من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟!!

ومما يجري على الألسنة، قول كثيرٍ من الموظفين عن مديره العام حينما يُسأل عن صلاحياته، أو عن تصرفاته، فيقول: فلان لا يُسأل عما يفعل، تعالى الله تعالى الله؛ أن يشبه الضعفاء المساكين في تصرفاتهم بصفات الله وأسمائه جل وعلا، قد يقول قائل: ولماذا التشنج أيها المطاوعة؟ كما يقول بعضهم: لماذا هذا التوتر، كل عبارة تفسرونها.

أقول: والله يا أخي! لو أردت أن تحاكي في كلامك كلام زعيمٍ أو رئيس لما استطعت أن تنبس ببنت شفة، فاعرف قدر الله جل وعلا، ولا يكن قدر كلام الرؤساء والعظماء في قلبك أعظم من قدر كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم أنقل هذه جزافاً بل بأذني سمعتها، والتفت إلى قائلها، وقلتُ: اتقِ الله، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون هو من يفعل كل فعلٍ ويعمل كل عملٍ وفي فعله وعمله منتهى العدل لا ظلم فيه، ومنتهى الحكمة لا عبث فيه، ومنتهى الرحمة لأن رحمته سبقت غضبه، أما المسكين الحقير المخلوق الضعيف التافه، فأي حكمةٍ وأي عدلٍ وأي صفاتٍ جمعت أحسن الأمور في كلامه؟!! فلننتبه لهذه العبارات، ولننتبه لهذه الكلمات التي يُطلقها بعض الناس جزافاً وهم لا يشعرون والعياذ بالله، إننا لا نجزم أنهم يقصدون محاكاة كلام الله وكلام رسوله، ما شققنا عن القلوب، وخذوها نصيحة: تورع حتى في محاسبة المخطئين، واحسب لهم ألف عذرٍ وألف سبيل، ولكن بيّن إن كان الهدف هذا، فالويل ثم الويل مما قصدوا به، وإن كان الهدف ذاك، فالأولى والأحرى والواجب أن يُتجنب بكلام الله وكلام رسوله عن مقام العبث والهزل أو غير ذلك.

آفة الاستهزاء بالدعاة

ومن آفات اللسان يا معاشر المؤمنين! ما نسمعه كثيراً كثيراً، من الذين يستهزئون بالدعاة إلى الله جل وعلا، من الذين يتهكمون بقناديل الصحوة الإسلامية، ومشاعل النور في دياجير الظلام، ونسيم العبير، في روائح الفتن المنتنة، أولئك الذين يتهكمون بالشباب الصالحين، أو بالدعوة إلى الله جل وعلا، فهم على خطرٍ عظيم، وهي من آفات اللسان، ترى الواحد منهم ربما تصدق بمليون ريال، وربما صلّى الفجر مع الجماعة لا تفوته، وربما قرأ القرآن وربما فعل كثيراً من الحسنات، لكن إذا جلس أطلق لساناً طلقاً حاداً على أولياء الله، فأخذ يستهزئ بهذا، ويتهكم بذاك، ويتكلم بهذا، فيُعطى هذا من صدقاته، وذاك من قراءته، وذاك من صلاته، فما بقي له من حسناته شيء، وهذه من صور الجهل عند كثيرٍ من الناس، أن يعمل عملاً صالحاً ثم يضيعه على الناس أجمع، والله ما رأيت تاجراً إذا أشرقت الشمس ذهب إلى متجره، وإذا غابت الشمس عاد وجيبه مليئاً بالنقود والدنانير والدراهم، فإذا جلس في المجلس أخذ يُوزع على الناس يمنةً ويسرة من غير حسابٍ واحتساب، أتعدون هذا من العقلاء؟! لا والله.

فكذلك من الناس من يجمع الحسنات ولكنه يفرقها في مجلسٍ واحد! لو قدرنا أنه كسب ألف حسنة، لكنها في مجلسٍ بعد المغرب أو العشاء يصرف ألفاً ومائتي حسنة، فيصبح رصيده بالسالب، ويعود مديناً بمائتي حسنة، تُؤخذ من حسناته، أو يطرح من سيئاتهم على سيئاته!

فانتبه لنفسك يا أخي! واحفظوا أعمالكم، ولا تبطلوا أعمالكم، إن المسلم مأمورٌ أن يحفظ عمله، وإن من أخطر ما تُصرف به الأعمال ودرجاتها جُزافاً هباءً: الكلام في المجالس، والغيبة والنميمة التي حصدت الحسنات، ربما ترى الرجل طيباً أو غير طيب، صالحاً أو غير صالح، لكن لا يلتفت إلى مسألة الغيبة والنميمة، قد تجد رجلاً قليل العبادة، لكن عنده من الحسنات أكثر مني ومنك، لماذا؟

قد يكون عنده بعض الذنوب؟! وقد يكون عنده من الحسنات أكثر مني ومنك، لماذا؟!!

قد لا يكون من الذين يتكلمون في أعراض الناس البتة، فهذه مسألةٌ مهمةٌ جداً جداً يا عباد الله! أن يتكلم الإنسان إما بالغيبة والنميمة، أو أن يستهزئ بإخوانه في الله، أو أن يتكلم في أعراضهم، أو أن يتكلم بعض الناس في المجالس، ولا هم له إلا هؤلاء الأخيار، من الناس من إذا جلس مجلساً، يقول: رأيتُ مطوعاً وقف هكذا، ورأيتُ معقداً جلس هكذا، ورأيتُ متشدداً قال هكذا!

أما رأيت سكيراً قُبض عليه من قبل الهيئة يوماً ما؟! أما رأيت مرابياً قد أوغل في الربا؟! أما رأيت فاجراً جعل بيته ماخوراً للدعارة؟! ما رأيت مرتشياً مجرماً يسلب أموال المسلمين، ولا يرقب فيهم إلاً ولا ذمة؟! ما رأيت فاجراً يسعى بإفساد ذات البين؟!

هل ضاقت الصور عن كل سيئٍ فما أبصرت إلا هذا المتبع للسنة؟! هذا التقي النقي الورع الزاهد العابد! الذي قصر -في نظرك أو نظر غيرك- ربما في شيءٍ ليس من الواجبات، ربما في المستحبات في باب العلاقة، ولكنه قد أكمل الأمر فيما بينه وبين ربه! أو كاد أن يُكمل الأمر صلاحاً واستقامة، لا زنا ولا خمر ولا رشوة ولا ربا ولا فساد، ولا ملاهي ولا صور محرمة، ولا مجلات ٍخليعة، فما تتسلط إلا على مثل هذا! هذه من آفات اللسان يا معاشر الأحبة.

أسأل الله جل وعلا أن يحفظ لي ولكم أعمالنا، اللهم احفظ لنا أعمالنا، اللهم احفظ لنا أعمالنا، اللهم احفظ لنا أعمالنا، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.

من آفات اللسان: الكذب، تلك الخصلة القبيحة الذميمة، قال صلى الله عليه وسلم: (يطبع الرجل على الخصال كلها، ليس الكذب والخيانة) أي سوى الكذب والخيانة، وسئل صلى الله عليه وسلم: (أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، قالوا: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم، قالوا: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: لا) لأن الكذب خصلةٌ قبيحةٌ ذميمةٌ جداً.

وحسبكم أن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال: (إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يُكتب عند الله كذاباً) وأنتم تعرفون الوعيد الشديد للكاذبين.

والكذب -أيها الأخوة- أصبح في هذا الزمان من أهون ما تساهل الناس به، حتى بدأ المنظرون، وبدأ المتفلسفون والمتفيهقون يُفصلون الكذب في غير ما فُصل في شرع الله جل وعلا، فمنهم من سمى (كذبة إبريل) ومنهم سمى الكذبة البيضاء، ومنهم من سمى كذبةً حمراء، إلى غير ذلك.

وكل هذا مرفوضٌ في دين الله جل وعلا، (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً وينمي خيراً) الكذب هنا جائز، أن تعرف أن فلان بن فلان، في قلبه عداوة، وفي نفسه إحن على فلان بن فلان؛ فتأتي إليه، وتقول للأول: عجبتُ من كلامٍ قاله صاحبك فلان في مجلسٍ من المجالس، لقد أثنى عليك، وذكر فيك خصالاً حميدة، وتقول شيئاً من هذا، فليس هذا من الكذب الحرام، بل هو من عين ذات الإصلاح الذي تؤجر به عند الله جل وعلا: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114].

(والكذب في الحرب) والحرب خُدعة، ثلاثيةٌ في الشكل: (وحديث الرجل امرأته) إذا تحدث الرجل بكلامٍ وخرج فيه عن الحقيقة؛ لكي يكسر من ضعف المرأة وما قد يؤدي إلى شرٍ أكبر، وليتق الله في هذا، وليكن ما خرج به عن الحقيقة في حديث أهله بقدر حاجة الإنسان إلى الدواء، لا أن يُصبح دائماً منذُ أن يدخل إلى أن يخرج، وهو يروي الأحاديث المكذوبة الموضوعة، رأى ولم ير، سمعَ ولم يسمع، قيلَ ولم يُقل، فُعل ولم يُفعل، ويظن أن الحديث مع المرأة من أوله إلى آخره ينبغي أن يكون كذباً في كذب، لا.

لكن لو شجر بين الرجل وأهله خلاف، أو حصل موقفٌ قد لا تقدره المرأة بضعفها، فاحتاج أن يزوّر عليها شيئاً من الحقيقة، أو يوري فيها فلا حرج، أما أن يكون الإنسان راويةً للكذب من غير حاجة، ويحتج بحديث الرجل لامرأته، فليس هذا مما فهمه أولو الألباب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.