الواقع والأمل


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه، جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى، وآلائه التي لا تنسى، خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى فهي وصية الله لكم وللأمم قبلكم: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].

معاشر المؤمنين: إن من المسلمين -هداهم الله- من إذا رأى أحدهم منكراً يرتكب، أو حرمة تنتهك، أو حقاً يضيَّع، أو رأى فتنة حلت، أو مصيبة نزلت، أصابه ذلك باليأس والقنوط، ونزل به من الجزع، وحل به من سوء الظن وكثرة التشاؤم وانعدام التفاؤل ما لا يعلمه إلا الله، وربما أصابه بعد ذلك إحباط وقعود عن الدعوة إلى الله عز وجل ظناً أن الدنيا مدبرة، وأن الناس لا ينفع فيهم وعظ ولا إرشاد، وأن القيامة قد دنت، واقتربت الساعة وانشق القمر، وأن الناس لا ينفع فيهم وعظ ولا زجر، ولا نهي ولا أمر، إن هذا مما يحل ببعض النفوس عند بعض إخواننا هداهم الله.

وينبغي أن نعلم أيها الأحبة: أن الدعوة إلى الله عز وجل عبادة وسنة وشريعة ربانية ماضية، لا يضرها أن يقبل الناس على الطاعة أو يدبروا عنها، أو أن يصيب الناس مد وجزر في إقبال أو إدبار عن دين الله جل وعلا، إذ إن وصية الله للأنبياء ولورثة الأنبياء وهم العلماء، ولمن ولاهم الله أمور المسلمين أن يقوموا على هذه الدعوة، عبادة، وحسبة، وامتثالاً لأمر الله عز وجل، وليسوا بمحاسبين ولا مسئولين عن النتائج المترتبة، إذ الهداية إلى الله عز وجل ليس للبشر منها إلا هداية الدلالة، وأما هداية التوفيق فمن الله وحده: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

فإذا رأيت مسلماً أصابه من الكآبة ما خيم على قسمات وجهه، وحل به من خيبة الأمل ما ظهر على سلوكه وتصرفاته، فرأيته عاجزاً في الدعوة بعد أن كان نشيطاً، ورأيته ضعيفاً في الحسبة بعد أن كان قوياً، ورأيته متشائماً بعد أن كان متفائلاً، ورأيت الأمر الذي في نفسه؛ من الغيرة على دين الله، وإنكار المنكر، ودعوة الضالين، وغشيان أهل المعاصي في مجالسهم ودعوتهم إلى الله عز وجل قد تبدلت وتحولت في نفسه إلى عزلةٍ وتقوقعٍ وبعدٍ عن غشيان الناس ونصيحتهم، فاعلم أن قد أصابه من هذا الأمر ما أصابه، وربما يعود ذلك إلى جهله بسنة الله في الكون، وعدم علمه بسنن الله في حياة البشر أو عدم فقهه وفهمه لنصوص الكتاب والسنة.

ولكنا يا عباد الله! إذا عدنا ورجعنا إلى المعين الذي لا ينضب ولا يتغير ولا يتكدر، إذا عدنا إلى الشريعة الغراء التي علمتنا أدق أمور حياتنا، في معاملاتنا ودخولنا وخروجنا، فلن نعدم أن نجد في هذه الشريعة ما يرشدنا ويبعث في نفوسنا الأمل والعمل حيال ما نرى ونسمع من إدبار الناس، أو ضعفهم، أو تهاونهم وجهلهم، أو قعودهم عن طاعة الله، أو حدوث التشاؤم والقعود عن الدعوة حال مصيبة أو فتنة أو نازلة.

إن كلام الله عز وجل مليء في إرشادنا بالتفاؤل، وذلك الأمر الذي لم يفارق أنبياء الله في دعوتهم أممهم، لقد لازم التفاؤل أنبياء الله في طريقهم ودعوتهم وتعاملهم مع قومهم، وحينما نستعرض صوراً من هذا، نجد أن هذا التفاؤل إما جاء ابتداءً وإما جاء انتهاءً، وإما جاء لازماً أو ثمرة كرجاء وأمل، وترقب للفرج بعد الشدة.

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها     فرجت وكنت أظنها لا تفرج

ولرب نازلةٍ يضيق بها الفتى     ذرعاً وعند الله منها المخرج

ليس للأنبياء، وليس للعلماء، وليس لكل مسلم يهتدي بهدى الله، ليس له في أيام الرخاء أنفع من الشكر والثناء، وليس له في أيام البلاء أنجع من الصبر والدعاء، وإن ذلك مما يجعل المسلم ينطلق نشيطاً قوياً مهما تتابعت الفتن أو تواترت المصائب من بين يديه أو من خلفه، أوليس ربنا عز وجل يقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6] أوليس الله عز وجل يقول: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7] إن الأمور إلى الله، وإن المقادير بيد الله عز وجل، وإذا علمت أن كل ما يجري مما تحب وتكره هو بقضاء الله وقدره، وأن الله لا يقدر عبثاً، وأن الله لا يقدر ظلماً، وأن الله لا يقدر إلا بتمام رحمته التي سبقت غضبه ووسعت كل شيء، أصابك بعد ذلك من الطمأنينة ما كان معدوماً عندك قبل ذلك، ففي الحديث عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال لي: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً).

قال ابن رجب رحمه الله في هذا الحديث: في قوله صلى الله عليه وسلم: (وأن الفرج مع الكرب) يدل على أن العبد متعبد بالصبر في انتظار الفرج من عند الله عز وجل.

أيها الأحبة: وإذا تأملنا حال الأنبياء مع أقوامهم وقد مرت سنون ودهور في دعوة الأنبياء لقومهم، ولم يستجب من القوم إلا قليل، ومع ذلك لم ييئسوا، بل ما دعوا على قومهم بالهلاك ابتداءً، وما دعا من دعا منهم إلا من بعد أن بين الله له وأوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن.

نبي الله نوح

فهذا نوح عليه السلام ما دعا على قومه إلا بعد أن أوحى الله إليه: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36] حينئذٍ دعا على قومه وقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:26-27] نعم، لم يدع عليهم إلا بعد أن بلغه الوحي بيقين الغيب من عند الله عز وجل أن هؤلاء لن يؤمن منهم أكثر ممن آمن، فحينما نرى متشائماً ينظر إلى مجتمعه وواقعه، مدبراً، مفضلاً عزلةً على خلطةٍ لدعوة، ومفضلاً قوقعةً على مشاركةٍ بحسبة، نقول له: هل عندك وحي من الله أن قومك هؤلاء قد يئست من دعوتهم، وما عاد فيهم أمل في الهداية ولا انزجار عن الهوى والغواية؟ إننا ليس عندنا وحي بذلك.

إذاً فلماذا القنوط؟ ولماذا اليأس من الدعوة؟ ولماذا القعود عند أو أمام حادثة صغيرة أو كبيرة؟ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87].

نبي الله يونس

لقد بعث الله يونس إلى أهل نينوى من أرض الموصل فدعاهم، ثم دعاهم، ثم دعاهم فكذبوه، ثم دعاهم فتمردوا على كفرهم، ثم دعاهم فأصروا على عنادهم، فلما طال ذلك عليه من بعد أمرهم ونهيهم ودعوتهم، خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب الذي توعدهم الله به بعد ثلاث، فلما خرج وتجافى عنهم، ورأى قومه تحقق نزول العذاب بهم، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة والندم في آخر لحظة، بعد سنين طويلة من الدعوة، ومن الأمر والإرشاد، والقيام عليهم وأمرهم ونهيهم، ووعظهم وزجرهم، وبدأت أيام العذاب اليوم الأول، ثم اليوم الثاني، فلما دنت لحظات الحسم وساعة الصفر، وأوشكت نقطة البداية أن تقوم فيهم ليحل فيهم عذاب الله وسخطه، أنزل وقذف في قلوبهم أرحم الراحمين توبةً وإنابةً ورجوعاً، فقذفت هذه التوبة في قلوبهم، فما كان منهم إلا أن ندموا وبادروا وتأسفوا على ما كان منهم حيال نبيهم بعد سؤالهم ربهم المغفرة، فلبسوا المسوح وخرجوا يجأرون، فرَّقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله وصرخوا، وتضرعوا وتمسكنوا، وبكى الرجال والنساء، والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فراغت الإبل، وخارت البقر، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة، فكشف الله بحوله وقوته، وكشف عنهم برحمته ورأفته العذاب الذي بدأ أسباب اتصاله بهم.

نبي الله يعقوب

انظر أيها الداعي! انظر أيها الغيور! انظر أيها المحتسب! بعين قلبك، وتعقل كيف تكون الدعوة، هل رأيت من قومك آية بوحي من غيب أنهم لا يستجيبون ولا يرعوون، وعن إثمهم أو إفكهم لا يقلعون؟ فعليك ألا تيئس، وعليك ألا تقنط، واعلم أنك مأمور بالدعوة حتى آخر لحظة من حياتك وآخر لحظة في حياتهم: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] فهو في ساعة الموت، في سكرات الموت، وهو في تلك اللحظة يدعو إلى الله عز وجل، ويقرر قضية التوحيد؛ أصل الدعوة أمام أبنائه: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133].

فهذا نوح عليه السلام ما دعا على قومه إلا بعد أن أوحى الله إليه: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36] حينئذٍ دعا على قومه وقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:26-27] نعم، لم يدع عليهم إلا بعد أن بلغه الوحي بيقين الغيب من عند الله عز وجل أن هؤلاء لن يؤمن منهم أكثر ممن آمن، فحينما نرى متشائماً ينظر إلى مجتمعه وواقعه، مدبراً، مفضلاً عزلةً على خلطةٍ لدعوة، ومفضلاً قوقعةً على مشاركةٍ بحسبة، نقول له: هل عندك وحي من الله أن قومك هؤلاء قد يئست من دعوتهم، وما عاد فيهم أمل في الهداية ولا انزجار عن الهوى والغواية؟ إننا ليس عندنا وحي بذلك.

إذاً فلماذا القنوط؟ ولماذا اليأس من الدعوة؟ ولماذا القعود عند أو أمام حادثة صغيرة أو كبيرة؟ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87].

لقد بعث الله يونس إلى أهل نينوى من أرض الموصل فدعاهم، ثم دعاهم، ثم دعاهم فكذبوه، ثم دعاهم فتمردوا على كفرهم، ثم دعاهم فأصروا على عنادهم، فلما طال ذلك عليه من بعد أمرهم ونهيهم ودعوتهم، خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب الذي توعدهم الله به بعد ثلاث، فلما خرج وتجافى عنهم، ورأى قومه تحقق نزول العذاب بهم، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة والندم في آخر لحظة، بعد سنين طويلة من الدعوة، ومن الأمر والإرشاد، والقيام عليهم وأمرهم ونهيهم، ووعظهم وزجرهم، وبدأت أيام العذاب اليوم الأول، ثم اليوم الثاني، فلما دنت لحظات الحسم وساعة الصفر، وأوشكت نقطة البداية أن تقوم فيهم ليحل فيهم عذاب الله وسخطه، أنزل وقذف في قلوبهم أرحم الراحمين توبةً وإنابةً ورجوعاً، فقذفت هذه التوبة في قلوبهم، فما كان منهم إلا أن ندموا وبادروا وتأسفوا على ما كان منهم حيال نبيهم بعد سؤالهم ربهم المغفرة، فلبسوا المسوح وخرجوا يجأرون، فرَّقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله وصرخوا، وتضرعوا وتمسكنوا، وبكى الرجال والنساء، والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فراغت الإبل، وخارت البقر، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة، فكشف الله بحوله وقوته، وكشف عنهم برحمته ورأفته العذاب الذي بدأ أسباب اتصاله بهم.

انظر أيها الداعي! انظر أيها الغيور! انظر أيها المحتسب! بعين قلبك، وتعقل كيف تكون الدعوة، هل رأيت من قومك آية بوحي من غيب أنهم لا يستجيبون ولا يرعوون، وعن إثمهم أو إفكهم لا يقلعون؟ فعليك ألا تيئس، وعليك ألا تقنط، واعلم أنك مأمور بالدعوة حتى آخر لحظة من حياتك وآخر لحظة في حياتهم: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] فهو في ساعة الموت، في سكرات الموت، وهو في تلك اللحظة يدعو إلى الله عز وجل، ويقرر قضية التوحيد؛ أصل الدعوة أمام أبنائه: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133].

فأنت أيها الداعية! مأمورٌ أن تدعوهم حتى آخر لحظة في حياتك، ومأمورٌ أن تدعوهم حتى آخر لحظة في حياتهم، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الرءوف الرحيم، عزيز عليه عنت أمته، حريص رءوف بها، يدعو عمه أبا طالب ، يدعوه متى؟ في شبابه؟ أو عنفوان رياسته؟ أو قوة وجاهته؟ جاء يدعوه بعد أن دعاه مئات المرات، يدعوه في آخر لحظة عند تغرغر روحه، وحضور سكراته، وحلول ساعته، ويقول: (يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله) إنها دعوة منذ البداية إلى النهاية: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] أنت مأمورٌ أن تدعوهم من بدايتك حتى آخر لحظة في حياتك، ومأمورٌ أن تدعوهم في عنفوان عصيانهم إلى آخر لحظة عند موتهم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

تأمل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم: فقد كان له جار يهودي، وعلم أن ولد جاره اليهودي قد احتضر، وأنه أوشك أن ينازع وأن تفارق روحه بدنه، فدخل عليه صلى الله عليه وسلم زائراً داعياً، فقال لهذا الغلام اليهودي في آخر لحظة من لحظات عمره: (يا غلام! قل: لا إله إلا الله واشهد أني رسول الله، ففاضت عين الصبي بالدمع، ونظر إلى والده اليهودي، ففهم أبوه أن غلامه يسأله، فقال والده: أطع أبا القاسم، فقال ذلك الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يكبر ووجهه يتهلل، ويقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).

نعم يا عباد الله: إن الدعوة لا تعرف يأساً، ولا تعرف مللاً، ولا تعرف انقطاعاً أياً كان من الأمور ما كان، لقد مات صلى الله عليه وسلم وتلك أعظم فاجعة، فهل ترك الصحابة الأمر من بعده؟ لقد مات أبو بكر، وقتل عمر، وقتل عثمان ظلماً وبغياً وعدواناً، ولقد قتل علي، وحصل لأمة الإسلام ما حصل منذ سنين طويلة، فهل ضاع الإسلام؟ وهل قامت الساعة؟ وهل تغير في الكون ما تغير من سنن الله الجارية الماضية؟ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62] .. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43] فإن الأمور ماضية، ومن ابتلي فأمره إلى الله عز وجل.

أتصبر للبلوى عزاءً وحسبةً     فتؤجر أن تسلو سلو البهائم

خلقنا رجالاً للتجلد والأسـى     وثمّ نساءٌ للبكا والمآتم

إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لتدل على هذه السنة وعلى هذه المفاهيم التي تأمرنا ألا نتردد عن الدعوة إلى الله في كل حال؛ في شتاء وصيف، وفقر وغنى، وأمن وفزع، وطمأنينة وخوف، وشدة وكرب، ورخاء وغيره، نحن مأمورون أن نمضي بالدعوة، أرأيتم الطعام والشراب، هل يستغني أحدٌ عنه في فصل من الفصول، أو ظرف من الظروف؟ لا وألف لا، فكذلك الدعوة نحن مأمورون بها: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104].

حادثة الهجرة

انظروا إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد خرج من مكة ومعه حبيبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلما لاذ النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه بـالغار ، إذ بقريش -يا ويح قريش!- تتبع هذين الكريمين، تتبع نبينا صلى الله عليه وسلم وصاحبه حتى دنوا من الغار وأبو بكر بات يرى نعالهم بعد أن سمع قرعها في مقدمهم باتجاه الغار ، فقال يكلم النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم أناخ برأسه لرآنا، فقال صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف: (ما بالك يا أبا بكر ! باثنين الله ثالثهما؟) .. ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] في أشد الساعات ظلمة وحلكة وعتمة وسواداً ينبثق ذلك الضياء من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيُطَمْئِنَ أبا بكر على الدعوة والأمل يحدوه أن الله ناصره، لم يقلَّ عزمه، ولم تفتر قوته، ولم ييئس من رحمة الله.

واعجب إن شئت عجباً أن ترى سراقة بن مالك الجعشمي وقد خرج يطلب النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه لعله أن ينال جائزة أخرجتها قريش لمن يدل على رسول الله أو يأتي به حياً أو ميتاً، فلما قدم ودنا، وعلم أنه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، إذ لما دنا خطوات، ساخت قدما فرسه في الطين، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا قال له صلى الله عليه وسلم؟ قال: (ما بالك يا سراقة! إذا لبست سواري كسرى بن هرمز؟ ) الله أكبر! نبي يخرج من مكة قد آذاه قومه، نبي تسلط عليه أقرب الناس إليه، يخرج بدعوته مهاجراً بها حيث أمره الله، في مقام شدة وكرب، ووراءه من يطلبه، وعين تلاحقه، فيقول: (ما بالك أو كيف بك إذا لبست سواري كسرى بن هرمز ؟!) نعم إنه الأمل والفأل، وإنها بشارة وسنة نتعلمها من النبي صلى الله عليه وسلم ألا نتشاءم وألا نقنط.

نعم يحزننا أن نرى الناس يعصون الله، ونفرح حينما نراهم يطيعون، يحزننا أن نرى إدبار بعض شبابنا عن الإنابة إلى الله، ونسعد ونفرح إذ نراهم يقبلون على المساجد، ولكن أياً كان الأمر في إقبال أو إدبار، فإننا مأمورون باستمرار ومضي على دعوة صادقة لله عز وجل.

غزوة بدر

وخذ مثالاً آخر أيضاً: في غزوة بدر بعد أن أعد النبي صلى الله عليه وسلم صفوف أصحابه في أول مواجهة تاريخية عسكرية، ليحق الله الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، في مواجهة تاريخية عسكرية، الملائكة تشهدها، وكل ما حول القوم من الأرض ينظرون، والنَّفَس صاعد ومنخفض حتى دنت ساعة الصفر، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن صف القوم وعدلهم إلا أن دخل عريشه ودخل معه خليله وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقام صلى الله عليه وسلم ورفع يديه يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعدها في الأرض) وجعل يهتف بربه، ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك) ويرفع يديه إلى السماء أكثر وأكثر حتى يسقط الرداء عن منكبيه، وجعل أبو بكر يلتزمه من ورائه ويرد رداءه عليه، ويقول مشفقاً على حبيبه، يقول أبو بكر له لما رأى نبيه يكثر الابتهال والمناشدة لربه: (يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك فإنه لا يخذلك، كفاك مناشدتك ربك فإنه منجز ما وعدك، وخفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة -أي: إغفاءة قليلة بعد ذلك- فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع -أي الغبار-).

هكذا علمنا صلى الله عليه وسلم أن نجأر إلى الله، أن نفزع إلى الله، أن نلجأ إلى الله عز وجل، فإن بيده الخير كله، أوله وآخره، وظاهره وباطنه.

صلح الحديبية

وانظر إلى موقفه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية في ذي القعدة في السنة السادسة من الهجرة، عزم صلى الله عليه وسلم على زيارة البيت الحرام، وأحرم هو ومن معه بالعمرة وساروا في طريقهم إلى مكة ، وبلغ قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته خرجوا، وكانوا ألفاً وأربعمائة رجل، وساقوا معهم الهدي، ولما بلغوا عسفان لقيه سفير من قريش اسمه بشر بن سفيان الكعبي، فقال بشر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قريشاً قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العون، يعني: النوق المطافيل، قد لبسوا جلود النمار، وقد نزلوا بـذي طوى يعاهدون الله، قريش تعاهد ربها ألا يدخل محمد وأصحابه عليهم مكة أبداً، وهذا خالد بن الوليد في جنبهم وفي خيلهم، فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم كلام بشر ، قال: (يا ويح قريش، يا ويح قريش، قد أكلتهم الحرب، وماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس -"إن أدوا إلي عباد الله" ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس- فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله، دخلوا في الإسلام وافرين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة)، فهذا قول إمام الدعاة والعلماء صلى الله عليه وسلم، مصمم ماضٍ على دعوته في إدبار قومه وإقبالهم، فهذا واجب كل عالم وداعية أن يدعو إلى الله في كل حال، وألا يتردد يوم أن يرى من الناس إقبالاً وإدباراً، أو إرجافاً وخوفاً وزعزعة.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2805 استماع
حقوق ولاة الأمر 2669 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2654 استماع
توديع العام المنصرم 2649 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2556 استماع
من هنا نبدأ 2497 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2463 استماع
أنواع الجلساء 2462 استماع
إلى الله المشتكى 2438 استماع
الغفلة في حياة الناس 2437 استماع