عمدة الأحكام - كتاب البيوع [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا بما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم.

وبعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قال المصنف رحمه الله: [ باب الشروط في البيع:

عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ( جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق, في كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم, وولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها, فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقالت: إني عرضت ذلك عليهم فأبوا، إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق ، ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس, فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق ) ].

الشروط في البيع وأقسامها

يقول المؤلف: (باب الشروط في البيع)، ذكرنا أن الشروط في البيع: هي الشروط التي يجعلها المتعاقدان أو أحدهما، وأنه يجوز عقد البيع مع فقدانها، واعلم أن الشروط في البيع تنقسم إلى قسمين: شروط صحيحة، وشروط فاسدة.

أما الشروط الصحيحة فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: شروط هي من مقتضى العقد، مثاله: أن أشتري السيارة من زيد فأقول: على أن تسلمني السلعة، فهذا الشرط لا يفيد فائدة جديدة؛ لأنه من مقتضى العقد، فصار هذا الشرط تأكيداً لا تأسيساً؛ لأن العقد من مقتضاه أن تسلمني الثمن وأسلمك المثمن، هذا القسم الأول.

القسم الثاني: شروط هي من مصلحة العقد، فإن من مصلحة العقد وجود الرهن، أو الضمان، أو الكفالة، أو الأجل، فإذا اشترطت أن أسلمك الثمن بعد سنة، فهذا شرط من مصلحة العقد لا من مقتضاه؛ لأنه ليس من مقتضى العقد التأجيل، بل من مقتضى العقد تنجيز الثمن، فصار هذا من مصلحة العقد، فلو ابتعت من أحد فقلت: بشرط أن تأتيني بكفيل، فهذا من مصلحة العقد ولا حرج فيه.

القسم الثالث: كل شرط فيه منفعة للمتعاقدين أو أحدهما في المعقود عليه، فلو أني اشتريت منك حطباً بشرط أن تنقله، فنقله منفعة لي، وهذه المنفعة في المعقود عليه، ولو اشترطت أن أشتري منك سيارة نوعها جيب بشرط أن يكون لونه أسود، فإذا كان من منفعة المعقود عليه جاز، وهذا هو مذهب الحنابلة، واختيار ابن تيمية ، إلا أن الحنابلة في المشهور عندهم قالوا: لا يجوز زيادة شرطين في هذه الصورة، والراجح أنه يجوز، فلو قلت: بشرط أن تكسره، وأن تنقله، وأن أعطيك الأجل مقسطاً جاز، والله تبارك وتعالى أعلم. هذه ثلاثة أقسام للعقد الصحيح.

وأما الشروط الفاسدة فهي تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: شروط فاسدة مفسدة للعقد، عند الجمهور مثل: أن أبيعك السيارة، على ألا تبيعها لأحد، فهذا الشرط يخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى العقد أن المشتري يتصرف بها كيفما شاء، فإذا قلت: بشرط ألا تبيعها لأحد، صار هذا تحجيراً على مقتضى العقد، فكل شرط يعود على أصل العقد ومقتضاه ومقصوده بالإبطال، فهو شرط فاسد مفسد للعقد، وكذلك الشروط الربوية فاسدة مفسدة للعقد.

القسم الثاني: شروط فاسدة يصح معها العقد، وهي كل شرط لا يعود على أصل العقد ومقصوده بالإبطال، مثاله: حديث عائشة في قصة عتق بريرة حيث كانت أمة فقالت لأهلها: أريد أن أعتق نفسي، أعطيكم تسع أواق، في كل سنة أوقية، يعني: تعتق بعد تسع سنين، فذهبت إلى عائشة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق، في كل سنة أوقية، فإن شئت أن تعينيني فأعينيني، قالت عائشة من باب الكرم رضي الله عنها: إن شاء أهلك أن أعد لهم عدة واحدة فعلت، يعني: أنا أعطيهم تسع أواق دفعة واحدة، ويكون الولاء لي، هذا شرط من مقتضى العقد؛ لأن الولاء لمن أعتق، فذهبت إلى أهلها فقالوا: لا، إلا أن يكون الولاء لنا، فهذا الشرط لا يخالف مقصود العقد؛ لأن الأصل أن العتق حاصل، ومسألة الولاء لا دخل لها في مسألة وجود العتق على بريرة ، فلأجل هذا ذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أن هذه شروط فاسدة لكنها لا تفسد العقد؛ لأنها لا تعود على أصله بالإبطال.

وعلى هذا: فما يوجد في الإجارة المنتهية بالتمليك، بأن يضع صاحب الشركة شرطاً يقول: كل حادث في السيارة ولو لم يكن بسبب المستأجر فإنه يدفع ألف ريال -مثلاً-، فهذا شرط فاسد، لكنه ليس مفسداً للعقد؛ لأنه ليس داخلاً في أصل العقد، فنحن لا نخالف أصل الإجارة، وإذا قال المستأجر: كل ما لا تضمنه شركة التأمين فإنه يتحمله المستأجر، صار شرطاً فاسدة، لكنه ليس مفسداً للعقد؛ لأن الإجارة حقه ثابتة، وإن كان بعضهم يعد هذا شرطاً فاسداً مفسداً العقد، والله تبارك وتعالى أعلم.

شرح ألفاظ حديث: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)

وأما شرح الحديث: تقول: (إن أهلي كاتبوني) الكتابة: معناها أن يكون ثمة عقد بين السيد ومولاه أو مولاته، بحيث يصير حراً مقابل مال يتفقان عليه كل سنة، فتعمل هذه الأمة أو هذا الخادم فمتى حصل على شيء من المال أعطاه سيده، وهذا عقد لازم، لا يجوز للسيد أن يبطله، لكن إذا عجز المكاتب عن التسديد فإنه يبقى رقيقاً، والله تبارك وتعالى أعلم.

تقول: (كاتبت أهلي على تسع أواق)، الأوقية: اثنا عشر درهماً ونشاً، والنش تقريباً كله: خمسمائة درهم، والدرهم الآن يقدر تقريباً بريال ونصف، فصارت خمسمائة.

قولها: (فأعينيني)، يعني: ساعديني، (قالت عائشة : إن أحب أهلك أن أعدها لهم)، وفي رواية: (أن نعد لهم عدة واحدة)، يعني: في مدة تسع سنين يحصلون على التسع الأواقي، لكنني سوف أعطيهم تسع أوقيات مباشرة بلا أجل، هذه منفعة لهم، وكرم من عائشة، وقد استدل به العلماء على أن للأجل وقعاً في الثمن، فإذا قلت: هذه السيارة أبيعها حالة بمائة ألف، أو أبيعها مؤجلة بمائة وخمسين ألفاً، فإذا تفرقنا على أحد السعرين فهو جائز، وهذا قول الأئمة الأربعة خلافاً للشيخ الألباني رحمه الله، وبعض العلماء المعاصرين، وهو الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ، حيث منعا من ذلك، وهذا مخالف لإجماع العلماء، كما قرر ذلك أبو العباس بن تيمية والإمام الصنعاني ، وغير واحد من أهل العلم، وذكروا أن الأجل له وقع في الثمن، ولكن المحرم في الأجل هو ألا يكون له عوض، مثل: مائة بمائة وخمسين، فهذا محرم؛ لأنه مال بمال، والله تبارك وتعالى أعلم.

فقالت: (إن أحب أهلك أن أعد لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت)، الأصل أن الولاء لمن أعتق، والذي أعتق بريرة هي عائشة؛ لأن أهل بريرة لم يكن منهم شيء، إنما أذنوا لـبريرة أن تعمل لتعتق نفسها، (فذهبت بريرة إلى أهلها، فأبوا) وقالوا: لا، إلا أن يكون الولاء لنا، لا يجوز لأهل بريرة أن يلغوا عقد المكاتبة باتفاق العلماء، وهل لهم أن يلغوا فعل عائشة ؟ لم يستطيعوا أن يلغوا فعل عائشة عند بعض العلماء، قالوا: لأن بريرة هي التي أعتقت نفسها، فهم لا يستطيعون أن ينفكوا من العتق، فلما أبوا أن ينفكوا من العتق قالوا: ويكون الولاء لنا، وهذا شرط مخالف لمصلحة العقد، أو لمنفعة في المعقود عليه، والمعقود عليه هي بريرة ، وكل شرط فاسد في المعقود عليه فإنه لا يفسد العقد، والله أعلم.

فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: ( خذيها -يعني: افعلي الشراء- واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق ).

قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( واشترطي لهم الولاء ) اختلف العلماء في تفسيرها: فبعضهم قال: إن هذا شرط من مقتضى العقد، وبعضهم قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك من باب التوبيخ عليهم، يعني: اشترطي لهم الولاء أو لا تشترطي فإن الولاء لمن أعتق، وهذا هو تفسير ابن تيمية رحمه الله.

فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قام وخطب الناس، وبين لهم أن الشروط الفاسدة لا تجوز، ثم قال: ( ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق ).

اختلف العلماء في تفسير معنى: ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )، هل المقصود أن ينص الشارع في الكتاب والسنة على وجود هذا الشرط، وحينئذ فكل شرط ليس موجوداً فهو باطل، وهذا هو اختيار ابن حزم رحمه الله، فإنه قال: كل شرط ليس موجوداً في القرآن ولا في السنة فهو شرط باطل، فلو قلت لك: أبيعك هذه السيارة بشرط أن لي الخيار أسبوعاً، أو ثلاثة أيام، فهذا عند الأئمة الأربعة جائز، ولكنه ممنوع عند ابن حزم ؛ لأنه يقول: هذا شرط ليس موجوداً في كتاب الله، والذي وجد في سنة رسول الله أن تقول: ( لا خلابة ) كما في حديث حبان بن منقذ ، وهذا قول باطل بلا شك، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم كـأبي العباس بن تيمية و ابن القيم .

والصحيح أن معنى قوله: ( كل شرط ليس في كتاب الله ) أي: كل شرط مخالف لكتاب الله، وعلى هذا: فالقسمة في القول الراجح: كل شروط مخالفة لشروط الشارع فهي باطلة، وكل شروط موافقة لشروط الشارع فهي صحيحة، وكل شروط لا تخالف مقصود الشارع فهي أيضاً جائزة، هذا هو المقصود في الحديث. والله أعلم.

إذاً: الرسول ذكر الشروط التي تخالف شروط الشارع، وأما الشروط المسكوت عنها فالأصل فيها الجواز، والله أعلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ليس في كتاب الله -يعني: مخالفاً لكتاب الله- وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق )، يعني: أن العتيق إذا أعتق فإن ولاءه لمعتقه، بمعنى: لو كان عنده مال، ثم مات وليس عنده ورثة، فإن ماله لمعتقه؛ لأن الولاء لمن أعتق. ثم ذكر المؤلف حديث جابر بن عبد الله ليبين الشروط الصحيحة.

يقول المؤلف: (باب الشروط في البيع)، ذكرنا أن الشروط في البيع: هي الشروط التي يجعلها المتعاقدان أو أحدهما، وأنه يجوز عقد البيع مع فقدانها، واعلم أن الشروط في البيع تنقسم إلى قسمين: شروط صحيحة، وشروط فاسدة.

أما الشروط الصحيحة فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: شروط هي من مقتضى العقد، مثاله: أن أشتري السيارة من زيد فأقول: على أن تسلمني السلعة، فهذا الشرط لا يفيد فائدة جديدة؛ لأنه من مقتضى العقد، فصار هذا الشرط تأكيداً لا تأسيساً؛ لأن العقد من مقتضاه أن تسلمني الثمن وأسلمك المثمن، هذا القسم الأول.

القسم الثاني: شروط هي من مصلحة العقد، فإن من مصلحة العقد وجود الرهن، أو الضمان، أو الكفالة، أو الأجل، فإذا اشترطت أن أسلمك الثمن بعد سنة، فهذا شرط من مصلحة العقد لا من مقتضاه؛ لأنه ليس من مقتضى العقد التأجيل، بل من مقتضى العقد تنجيز الثمن، فصار هذا من مصلحة العقد، فلو ابتعت من أحد فقلت: بشرط أن تأتيني بكفيل، فهذا من مصلحة العقد ولا حرج فيه.

القسم الثالث: كل شرط فيه منفعة للمتعاقدين أو أحدهما في المعقود عليه، فلو أني اشتريت منك حطباً بشرط أن تنقله، فنقله منفعة لي، وهذه المنفعة في المعقود عليه، ولو اشترطت أن أشتري منك سيارة نوعها جيب بشرط أن يكون لونه أسود، فإذا كان من منفعة المعقود عليه جاز، وهذا هو مذهب الحنابلة، واختيار ابن تيمية ، إلا أن الحنابلة في المشهور عندهم قالوا: لا يجوز زيادة شرطين في هذه الصورة، والراجح أنه يجوز، فلو قلت: بشرط أن تكسره، وأن تنقله، وأن أعطيك الأجل مقسطاً جاز، والله تبارك وتعالى أعلم. هذه ثلاثة أقسام للعقد الصحيح.

وأما الشروط الفاسدة فهي تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: شروط فاسدة مفسدة للعقد، عند الجمهور مثل: أن أبيعك السيارة، على ألا تبيعها لأحد، فهذا الشرط يخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى العقد أن المشتري يتصرف بها كيفما شاء، فإذا قلت: بشرط ألا تبيعها لأحد، صار هذا تحجيراً على مقتضى العقد، فكل شرط يعود على أصل العقد ومقتضاه ومقصوده بالإبطال، فهو شرط فاسد مفسد للعقد، وكذلك الشروط الربوية فاسدة مفسدة للعقد.

القسم الثاني: شروط فاسدة يصح معها العقد، وهي كل شرط لا يعود على أصل العقد ومقصوده بالإبطال، مثاله: حديث عائشة في قصة عتق بريرة حيث كانت أمة فقالت لأهلها: أريد أن أعتق نفسي، أعطيكم تسع أواق، في كل سنة أوقية، يعني: تعتق بعد تسع سنين، فذهبت إلى عائشة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق، في كل سنة أوقية، فإن شئت أن تعينيني فأعينيني، قالت عائشة من باب الكرم رضي الله عنها: إن شاء أهلك أن أعد لهم عدة واحدة فعلت، يعني: أنا أعطيهم تسع أواق دفعة واحدة، ويكون الولاء لي، هذا شرط من مقتضى العقد؛ لأن الولاء لمن أعتق، فذهبت إلى أهلها فقالوا: لا، إلا أن يكون الولاء لنا، فهذا الشرط لا يخالف مقصود العقد؛ لأن الأصل أن العتق حاصل، ومسألة الولاء لا دخل لها في مسألة وجود العتق على بريرة ، فلأجل هذا ذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أن هذه شروط فاسدة لكنها لا تفسد العقد؛ لأنها لا تعود على أصله بالإبطال.

وعلى هذا: فما يوجد في الإجارة المنتهية بالتمليك، بأن يضع صاحب الشركة شرطاً يقول: كل حادث في السيارة ولو لم يكن بسبب المستأجر فإنه يدفع ألف ريال -مثلاً-، فهذا شرط فاسد، لكنه ليس مفسداً للعقد؛ لأنه ليس داخلاً في أصل العقد، فنحن لا نخالف أصل الإجارة، وإذا قال المستأجر: كل ما لا تضمنه شركة التأمين فإنه يتحمله المستأجر، صار شرطاً فاسدة، لكنه ليس مفسداً للعقد؛ لأن الإجارة حقه ثابتة، وإن كان بعضهم يعد هذا شرطاً فاسداً مفسداً العقد، والله تبارك وتعالى أعلم.

وأما شرح الحديث: تقول: (إن أهلي كاتبوني) الكتابة: معناها أن يكون ثمة عقد بين السيد ومولاه أو مولاته، بحيث يصير حراً مقابل مال يتفقان عليه كل سنة، فتعمل هذه الأمة أو هذا الخادم فمتى حصل على شيء من المال أعطاه سيده، وهذا عقد لازم، لا يجوز للسيد أن يبطله، لكن إذا عجز المكاتب عن التسديد فإنه يبقى رقيقاً، والله تبارك وتعالى أعلم.

تقول: (كاتبت أهلي على تسع أواق)، الأوقية: اثنا عشر درهماً ونشاً، والنش تقريباً كله: خمسمائة درهم، والدرهم الآن يقدر تقريباً بريال ونصف، فصارت خمسمائة.

قولها: (فأعينيني)، يعني: ساعديني، (قالت عائشة : إن أحب أهلك أن أعدها لهم)، وفي رواية: (أن نعد لهم عدة واحدة)، يعني: في مدة تسع سنين يحصلون على التسع الأواقي، لكنني سوف أعطيهم تسع أوقيات مباشرة بلا أجل، هذه منفعة لهم، وكرم من عائشة، وقد استدل به العلماء على أن للأجل وقعاً في الثمن، فإذا قلت: هذه السيارة أبيعها حالة بمائة ألف، أو أبيعها مؤجلة بمائة وخمسين ألفاً، فإذا تفرقنا على أحد السعرين فهو جائز، وهذا قول الأئمة الأربعة خلافاً للشيخ الألباني رحمه الله، وبعض العلماء المعاصرين، وهو الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ، حيث منعا من ذلك، وهذا مخالف لإجماع العلماء، كما قرر ذلك أبو العباس بن تيمية والإمام الصنعاني ، وغير واحد من أهل العلم، وذكروا أن الأجل له وقع في الثمن، ولكن المحرم في الأجل هو ألا يكون له عوض، مثل: مائة بمائة وخمسين، فهذا محرم؛ لأنه مال بمال، والله تبارك وتعالى أعلم.

فقالت: (إن أحب أهلك أن أعد لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت)، الأصل أن الولاء لمن أعتق، والذي أعتق بريرة هي عائشة؛ لأن أهل بريرة لم يكن منهم شيء، إنما أذنوا لـبريرة أن تعمل لتعتق نفسها، (فذهبت بريرة إلى أهلها، فأبوا) وقالوا: لا، إلا أن يكون الولاء لنا، لا يجوز لأهل بريرة أن يلغوا عقد المكاتبة باتفاق العلماء، وهل لهم أن يلغوا فعل عائشة ؟ لم يستطيعوا أن يلغوا فعل عائشة عند بعض العلماء، قالوا: لأن بريرة هي التي أعتقت نفسها، فهم لا يستطيعون أن ينفكوا من العتق، فلما أبوا أن ينفكوا من العتق قالوا: ويكون الولاء لنا، وهذا شرط مخالف لمصلحة العقد، أو لمنفعة في المعقود عليه، والمعقود عليه هي بريرة ، وكل شرط فاسد في المعقود عليه فإنه لا يفسد العقد، والله أعلم.

فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: ( خذيها -يعني: افعلي الشراء- واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق ).

قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( واشترطي لهم الولاء ) اختلف العلماء في تفسيرها: فبعضهم قال: إن هذا شرط من مقتضى العقد، وبعضهم قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك من باب التوبيخ عليهم، يعني: اشترطي لهم الولاء أو لا تشترطي فإن الولاء لمن أعتق، وهذا هو تفسير ابن تيمية رحمه الله.

فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قام وخطب الناس، وبين لهم أن الشروط الفاسدة لا تجوز، ثم قال: ( ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق ).

اختلف العلماء في تفسير معنى: ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )، هل المقصود أن ينص الشارع في الكتاب والسنة على وجود هذا الشرط، وحينئذ فكل شرط ليس موجوداً فهو باطل، وهذا هو اختيار ابن حزم رحمه الله، فإنه قال: كل شرط ليس موجوداً في القرآن ولا في السنة فهو شرط باطل، فلو قلت لك: أبيعك هذه السيارة بشرط أن لي الخيار أسبوعاً، أو ثلاثة أيام، فهذا عند الأئمة الأربعة جائز، ولكنه ممنوع عند ابن حزم ؛ لأنه يقول: هذا شرط ليس موجوداً في كتاب الله، والذي وجد في سنة رسول الله أن تقول: ( لا خلابة ) كما في حديث حبان بن منقذ ، وهذا قول باطل بلا شك، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم كـأبي العباس بن تيمية و ابن القيم .

والصحيح أن معنى قوله: ( كل شرط ليس في كتاب الله ) أي: كل شرط مخالف لكتاب الله، وعلى هذا: فالقسمة في القول الراجح: كل شروط مخالفة لشروط الشارع فهي باطلة، وكل شروط موافقة لشروط الشارع فهي صحيحة، وكل شروط لا تخالف مقصود الشارع فهي أيضاً جائزة، هذا هو المقصود في الحديث. والله أعلم.

إذاً: الرسول ذكر الشروط التي تخالف شروط الشارع، وأما الشروط المسكوت عنها فالأصل فيها الجواز، والله أعلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ليس في كتاب الله -يعني: مخالفاً لكتاب الله- وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق )، يعني: أن العتيق إذا أعتق فإن ولاءه لمعتقه، بمعنى: لو كان عنده مال، ثم مات وليس عنده ورثة، فإن ماله لمعتقه؛ لأن الولاء لمن أعتق. ثم ذكر المؤلف حديث جابر بن عبد الله ليبين الشروط الصحيحة.

قال المصنف رحمه الله: [ وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: ( أنه كان يسير على جمل فأعيا, فأراد أن يسيبه، فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي, وضربه، فسار سيراً لم يسر مثله قال: بعنيه بأوقية، قلت: لا، ثم قال: بعنيه. فبعته بأوقية، واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما بلغت: أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك ) ].

رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

هذا الحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرعى أصحابه ويهتم بهم عليه الصلاة والسلام، وكان صاحب جود وكرم، وكان عليه الصلاة والسلام يمزح مع أصحابه، كل هذا موجود في حديث جابر ، ذلك أن جابر بن عبد الله كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات، فلما قفلوا من الغزوة راجعين إلى المدينة، فإذا جابر على جمل كبير السن، فيه عي، لا يمشي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى أحد أفراد القافلة قد تأخر يأتي إليه ويواسيه، وإن كان محتاجاً إلى ظهر أعاره ظهره، وغير ذلك، فلما كانت القافلة تسير، كان جمل جابر ليس بذاك، فقال له كما في بعض الروايات: ( ما بال بعيرك يا جابر ؟ قال: يا رسول الله! أعيا ولا يكاد يسير، قال: فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم من الخلف فنغزه، فسار كأشد ما ترى من الإبل، قال: كيف ترى بعيرك؟ قال: كأحسن ما ترى من البعير يا رسول الله! قال: أتبيعنيه؟ قال: بعنيه بأوقية. قال: لا يا رسول الله! ) فبعضهم يقول: إن جابراً إنما رفض لأجل أسرته، وقد كان أبو جابر قد مات، فكان خال جابر يرعاهم، فخشي من خاله أن يغضب عليه، فقال: ( بعنيه يا جابر ! فقلت: لا، قال: بعنيه )، قال: فاستحييت منه، فبعته إياه، على أن لي فقار ظهره، وفي رواية: ( واستثنيت حملانه على فقار ظهره )، يعني: لي أن أركبه إلى المدينة، والأصل أنه إذا باعه يأخذه المشتري فقال: ( فاستثنيت حملانه إلى المدينة، قال: فلما وصلت المدينة لقيني خالي، فأراد أن يأخذ الجمل، فقلت: إني بعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلامني خالي أشد اللوم، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد لأعطيه بعيره، فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك )، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( بعنيه بأوقية، بعنيه ) هذا يسمى مماكسة، فأتى جابر رضي الله عنه إلى خاله مسروراً، معه الجمل والثمن، وهذا من كرمه عليه الصلاة والسلام.

ضابط الشرط الصحيح في البيع

وقد استدل الحنابلة بهذا الحديث على أن كل شرط في العقد إذا كان ليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته فهو صحيح؛ لأن جابراً اشترط حملانه، وهذا شرط لمنفعة أحد المتعاقدين في المعقود عليه، وأما الشافعية والحنفية فلم يأخذوا بهذا الحديث؛ قالوا: لأن هذا ليس بيعاً حقيقياً، بل هو بيع صوري، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد البيع، ولهذا قال: ( أتراني ماكستك لآخذ جملك، خذ جملك ودراهمك )، فلم يكن البيع حقيقياً، وهذا تأويل من الشافعية والحنفية، والراجح هو مذهب الحنابلة، وهو أن هذا بيع حقيقي، ولو كان الشرط غير جائز لبينه عليه الصلاة والسلام؛ فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يبين بطلان هذا الشرط، فنقول للشافعية والحنفية: هب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد البيع الحقيقي ألم يقصده جابر ؟ فـجابر قصده، فإن قلتم: علم جابر بأن البيع بعد ذلك ليس صحيحاً، قلنا: جابر علم أن البيع ليس صحيحاً، لكنه لم يعلم أن وجود هذا الشرط في هذا العقد ليس صحيحاً، وهذا يدل على أن كل شرط لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم بطلانه فالأصل فيه أنه صحيح؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقوله: ( أتراني ماكستك؟ ) يعني: أتراني أخذت أساومك على هذا الجمل، والله أعلم.