خطب ومحاضرات
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [17]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم عملنا ما ينفعنا وانفعنا بما عملتنا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، أما بعد:
فقد سألني أحد الموسوسين أنه إذا دخل الحمام وسوس له الشيطان فنصحته ألا يلتفت إلى الوسوسة، وقلت له:
أول ما تدخل الحمام تفعل هذا الأمر وتخرج, واترك إبليس يوسوس فقال: بس, قلت: هذه بس هي إبليس. إبليس يقول لك: أنا كذاب, وألعب عليك, لكنك ناسي, ثم يفتح لك باباً للأعذار, ويقول: تذكر يوم صليت وتركت كلامي وتبين أن فيه بقعة نجاسة، فلا تكرر مرة ثانية, وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله عن بعض السلف قوله: أتظن أنك تسلم من وساوس إبليس وخطواته, وعنده خبرة من أول ما خلق الله آدم, فلا تظنن أن أمره هيناً، ولابد أن تعرف أن كيد الشيطان عظيم إذا لم تعتصم بالله, فإذا اعتصمت بالله كان كيد الشيطان ضعيفاً, إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42], وعباد الله هم الذين يتخذون الشيطان عدواً: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6], ونحن إذا أطعنا العدو, فإنه يدل على غفلتنا فلا ينبغي أن نطيع الشيطان حتى ولو خيل إلينا أنه صادق, فلا نقبله, فكذلك في هذا الباب يجب أن تقفل عليه الباب, وخلال يوم أو يومين أو ثلاثة أو أسبوع, أسبوعين بإذن الله سوف يذهب؛ لأنه يطرق الباب, فإذا وجد الباب مقفلاً ذهب إلى غيرك, وإذا أقفل كل واحد بابه ذهب للكفرة, يلعب بهم.
ولهذا عندما جاء الصحابة إلى ابن عباس حينما قال اليهود: نحن أفضل منكم, لا يأتينا الشيطان في صلاتنا وفي صوامعنا ويأتيكم أنتم, فقال ابن عباس : وما يصنع الشيطان في قلب خرب, فلا بد أن يكون عندك صرامة في هذا الباب.
هذا الحديث علاج جيد, لكن في سنده ضعف, وهو حديث أبي سعيد , الذي قال فيه المؤلف: [ وللحاكم من حديث أبي سعيد : ( وإذا جاء أحدكم الشيطان فقال: أحدثت, فليقل: كذبت ), وأخرجه ابن حبان بلفظ: ( فليقل في نفسه: كذبت ) ].
هذا الحديث يرويه الحاكم و ابن حبان , من طريق يحيى بن أبي كثير عن عياض بن هلال عن أبي سعيد , والحديث في سنده عياض بن هلال وقد اختلف فيه, وهو مجهول لم يرو عنه إلا يحيى , فمرة قيل: إن اسمه عياض بن هلال , ومرة قيل: هلال بن عياض , ومرة قيل: عياض بن أبي زهير الأنصاري , والحديث -كما قلت- في سنده عياض هذا وهو مجهول, والحديث رواه مسلم من حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد وفيه: ( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى, أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ), والحديث ذكره الحافظ ابن حجر مختصراً, وإلا فالحديث في أوله: ( إذا شك أحدكم في صلاته ثلاثاً أم أربعا, وإذا وجد أحدكم في صلاته شيئاً فليقل: كذبت ), فهذا الحديث أصله عند مسلم , والحديث منكر, لكنه جيد, ولهذا إذا وسوس لك إبليس في الصلاة فالتفت على يسارك ولو كنت في الصلاة؛ لأنه التفات لمصلحة الصلاة, وقل: أعوذ بالله منك, أعوذ بالله منك, أعوذ بالله منك, آمنت بالله ورسله, آمنت بالله ورسله, آمنت بالله ورسله, وانفث على يسارك, ثم انته، فهذا يجعل إبليس يغار, ويقول: ( أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة, وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ), كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ، فكلما عصيت إبليس كلما اقتربت من الجبار, وكلما أطعت إبليس كلما ابتعدت من القهار, سبحانه جل جلاله وتقدست أسماؤه.
إذاً هذا الحديث يرويه عياض بن هلال عن أبي سعيد , ولم يرو عن عياض إلا يحيى بن أبي كثير فيكون مجهولاً, وقد تقبل رواية المجهول بشروط:
أولاً: إذا روى عنه اثنان من الثقات فأكثر.
ثانياً: إذا روى عنه أحد من الأئمة محتجاً به.
ثالثاً: أن يكون من الراوين عن الصحابة من الطبقة الأولى.
رابعاً: ألا يأتي بما ينكر. وقد أشار إلى بعضه الإمام الذهبي رحمه الله, وهذا فيه علتان مما ذكرناه.
العلة الأولى: أنه لم يرو عنه إلا يحيى .
الثانية: اختلافه؛ لأنه قال: (كذبت) وليس فيه هذه الرواية, فقد خالف عطاء بن يسار رحمهم الله.
الحديث الذي بعده في باب قضاء الحاجة, يعني بذلك: باب التبول والتغوط وما يخرج من السبيلين, يقول الخطابي في معالم السنن: ومن عادة العرب التعفف في ألفاظها, واستعمال الكناية في كلامها, وصون الألسنة عما تصان الأسماع والأبصار عنه, ويعبر العلماء بقضاء الحاجة أو بتعابير أخر, منها: الاستطابة, هكذا سماها الطحاوي وغيره, فيسمي الطحاوي الاستنجاء والاستجمار -وهو إزالة النجاسات وطلب التطيب منها- بالاستطابة, وفيه حديث عند الإمام أحمد من حديث عائشة : ( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار, يستطيب بهن, فإنها تجزئ عنه ).
وقال الزيلعي في تبيين الحقائق عند الحنفية: والاستطابة: عبارة عن إزالة الخارج من السبيلين, فسماها الكرخي بالاستنجاء, وسماه الطحاوي بالاستطابة.
ويعبر عنه -أي: الباب- بالخلاء, والخلاء: هو المكان الخالي, وإنما ذكر ذلك لأن المسلم أو المرء يختلي بنفسه وينفرد.
والمقصود في هذا الباب هو فعل الواجبات والمستحبات في الاستطابة، وما يشرع فيها, يقول الحافظ رحمه الله: [ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ), أخرجه الأربعة وهو معلول ].
تخريج حديث: (كان رسول الله إذا دخل الخلاء وضع خاتمه)
وقد ذكر ذلك غير واحد من المتأخرين, والصحيح: أن الأئمة يحكمون أحياناً على راوٍ معروف في الرواية, بأنه تفرد بهذا الحديث عن شيخه، في حين أن هناك رواة ضعافاً رووا مثل هذا الإمام لكنهم لم يعبئوا بهم, فيرون أن هذه الرواية خطأ, فتجد بعض المتأخرين يقولون: وما ذكره النسائي و أبو داود من تفرد همام لم يصب فيه, والصحيح أنه رواه يحيى بن المتوكل عن ابن جريج عن الزهري , وهذا خطأ؛ لأن طريقة الأئمة حينما يقولون: تفرد به همام يقولون: لأن هذه رواية مشهورة, وأما الرواية الأخرى فإنها خطأ قطعاً ولا يعول عليها, ومن ذلك طريقة الإمام أحمد و أبي داود , وكذلك البخاري حينما حكم على رواية عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة : ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه, ومن استقاء عمداً فليقض ), قال الإمام أحمد : تفرد به عيسى بن يونس عن هشام , وكذلك قال أبو داود .
قال أبو العباس بن تيمية في مجموع الفتاوى: وإذا كان علة تضعيف أحمد لهذا الحديث بأن عيسى تفرد, فالصحيح أن عيسى لم يتفرد, فقد رواه أبو داود من طريق حفص بن غياث عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ؛ فلذا حكم ابن تيمية بأن الحديث حسن, فنقول: لا؛ لأن أبا داود الذي حكم بأن هذا الإسناد رواه عيسى بن يونس عن هشام وحكم أبو داود بأنه تفرد به هو الذي روى بعد ذلك حديث حفص بن غياث عن هشام بن حسان ؛ وذلك يدل على أن رواية حفص لا يعول عليها عند المحدثين. وهذا مهم جداً, لأجل أن نعرف طريقة الأئمة في التصحيح والتضعيف؛ لأنه لا يصلح لطالب العلم الفقيه ألا يعرف طريقة بمناهج الأئمة في الحديث, أو محدث لا يعرف طريقة الفقهاء في الترجيح, فمن جمع الله له بين هذين العلمين فقد جمع له خيراً كثيراً وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
إذاً تفرد همام هو الصحيح, ورواية يحيى بن المتوكل وغيره لا تصح, هذه العلة الأولى.
العلة الثانية: قالوا: إن هماماً مع أنه أخطأ في الإسناد فقد أخطأ في المتن؛ وذلك أنه رواه بلفظ: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ), والمعروف في رواية هؤلاء الأربعة ولقد كان السلف يهتمون بالحفظ.
يقول الشعبي عندما قال له أحدهم وهو يحدث: يا إمام أعد! قال: أعيد؟! والله ما كتبت سوداء في بيضاء قط, أي أنه كان يحفظ, ثم قال: ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه جاهل لكان به عالماً, وهذا دليل أن علمنا قليل أما علم الأولين رحمهم الله رحمة واسعة.
وكان سفيان الثوري إذا دخل السوق وضع كرسفاً على أذنيه حتى لا يحفظ لغة الأعاجم؛ هردقه بردقه ورقا.
وتعرفون قصة البخاري وهذا من حفظ الله سبحانه لدينه، وصدق الفاروق عمر حينما قال: إن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم, واليوم إذا وجد منكر أو منكران جاء الناس إلى طلبة العلم أو إلى العلماء وقالوا: الدين سوف يضيع وأنتم قاعدون، فأقول: الدين لن يضيع, لكن هل ننال شرف حمايته, والذود والذب عن حياضه أم لا؟ وهذا مهم جداً لطالب العلم؛ أن يعرف أن الله لم يكن ليضيع دينه, وانظر إلى الاتحاد السوفيتي فإنه لا يكاد يوجد تنقلب الأمور بين عشية وضحاها في سنوات قليلة في عمر البشر, وينقلب الآن هذا الاتحاد إلى أناس يحفظون القرآن كاملاً، ويفهمون تفسيره، ويفتون في الأحكام الشرعية, ويخرجون من أصلابهم من يأتي إلى هذا البلد الطيب الطاهر المبارك فيتعلم العلم الشرعي على أصوله, وما كنا نصدق هذا ولكنكم تستعجلون.
أقول: إن الرواة هم عبد الله بن الحارث المخزومي ، و أبو عاصم الضحاك بن مخلد ، و هاشم بن سليمان، و موسى بن طارق , كلهم رووه عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس , أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( اتخذ خاتماً من ذهب فاتخذ الناس الخواتيم -يعني: بدءوا يفعلون- فألقاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا ألبسه أبداً ), فهذا حديث مستقل, لكن مع ذلك أخطأ فيه همام ؛ ولأجل هذا حكم النسائي بأنه حديث غير محفوظ, وكذلك الدارقطني والبيهقي وأبو داود , وقد أطال العلامة ابن القيم في تهذيب السنن بيان شذوذ هذه الرواية وضعفها, في حين أن بعض الأئمة قد صحح الحديث, فممن صححه الحاكم , وابن حبان , وقال: لا مانع من أن يكون الحديث روي من طريقين: من طريق ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري بهذا اللفظ الذي يرويه الدارقطني , وهو في الصحيحين, أو يكون همام رواه وهو ثقة ولا يخطأ الثقة إلا عن يقين, ولا يقين.
وكذلك ذكره ابن دقيق العيد في الاقتراح في كتب المصطلح في آخر الكتاب, وصححه أيضاً وحكم عليه المنذري بأنه قريب من الحسن, ومن المتأخرين شيخنا عبد العزيز بن باز , والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم هي طريقة المتقدمين وأن الحديث ضعيف؛ وذلك لأن هماماً أخطأ في إسناده, وأخطأ في متنه, والثالثة وهي علة واضحة: أن رواية ابن جريج عن الزهري فيها تحفظ؛ وذلك لأن ابن جريج يقول: لم أسمع من الزهري شيئاً, وإنما أخذت ذلك عن كتاب فأذن لي بالرواية, إذاً رواية ابن جريج عن الزهري تسمى مناولة, يقول: الإمام الذهبي في كلام مكين: وكان ابن جريج يرى الرواية بالإجازة وبالمناولة, ويتوسع في ذلك, ومن ثم دخل عليه الداخل في رواياته عن الزهري ؛ لأنه حمل عنه مناولة, وهذه الأشياء يدخلها التصحيف ولا سيما في ذلك العصر, فإنه لم يكن حدث في الخط بعد شكل ولا نقط, يعني: فيحدث خطأ, انتهى كلام الحافظ الذهبي ؛ ولهذا قال ابن معين : ابن جريج ليس بشيء عن الزهري , وعلى هذا فلا يقبل رواية ابن جريج عن الزهري إلا إذا وافق أصحاب الزهري , ومن المعلوم أن محمد بن يحيى الذهلي جعل أصحاب الزهري أربع طبقات:
الطبقة الأولى: طبقة مالك بن أنس , وشعيب بن أبي حمزة و عقيل بن أبي عبد الرحمن بن أبي خالد .
والطبقة الثانية: طبقة معمر بن راشد وغيره.
والطبقة الثالثة: طبقة ابن جريج .
والطبقة الرابعة: طبقة من هو ثقة في نفسه, ضعيف في روايته عن الزهري كـسفيان بن حسين , أو هو ضعيف عن الزهري كـسليمان بن الأرقم وشبهه, هذه أربع طبقات لأصحاب الزهري , وقد اعتنى الإمام محمد بن يحيى الذهلي في رواياته عن الإمام الزهري .
ولهذا فالصحيح أن الحديث ضعيف والله أعلم, وإذا ثبت هذا فإن في الرواية: ( إذا دخل الخلاء ), وقد قلت: إن الخلاء: هو المكان الخالي لقضاء الحاجة؛ لأن الإنسان يخلو فيه بنفسه وينفرد, ولهذا لو كان الإنسان في الفضاء فمكان الخلاء: هو وقت مكان قضاء الحاجة, وعلى هذا إذا ذهب في البر ورأى أن المكان مناسب لقضاء حاجته فإنه يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
علة وضع رسول الله خاتمه إذا دخل الخلاء
وهذا الحديث يستدل به أهل العلم على كراهية الدخول بشيء فيه ذكر الله تعالى إلى الخلاء, وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: هو مذهب الجماهير, وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي و أحمد , وقول لأصحاب مالك أنه يكره للإنسان أن يدخل في أي شيء فيه ذكر الله تعالى, مثل: حصن المسلم أو بعض الكتب التي فيها بعض الأحاديث أو بعض الآيات, لا المصحف, واستدلوا بحديث الباب, ولا يستدل لهم؛ لأن الحديث ضعيف.
قالوا: ولأنه جاء من حديث ابن عمر : ( أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقضي حاجته فلم يسلم عليه، وقال: إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر ), قالوا: فإذا كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر الله حال قضاء الحاجة, فلأن يدخل في ما فيه ذكر الله من باب أولى.
فقياس الأولى أو قياس المساوي يسمى فحوى الخطاب, وقياس المخالف يسمى دليل الخطاب.
والقول الثاني في المسألة: هو مذهب الإمام مالك رحمه الله, وهو مذهب الحسن البصري و محمد بن سيرين كما صح ذلك عنهم عند ابن أبي شيبة و سعيد بن المسيب وهو رواية عند الإمام أحمد نقلها ابن مفلح , أن ذلك ليس بمكروه, ولهذا قال ابن مفلح : وعنه عدم الكراهة, ولا كراهة هنا, ولم أجد للكراهة دليلاً سوى هذا, يعني: حديث الباب, وهي تفتقر إلى دليل والأصل عدمه, وقد ذكر ابن مفلح عن بعض الحنابلة أنه قال: إن إزالة ذلك أفضل, قال: وهذا قول ثالث ولعله أقرب, إذاً: هناك ثلاث روايات: يكره, ولا يكره, والثالث: الأفضل تركه؛ لأن ترك السنة لا يلزم منه الوقوع في الكراهة, إلا في العبادة, مثل: الصلاة فلو ترك سنن الصلاة وقع في الكراهة.
لكن إذا قام الإنسان وصلى وقال: سمع الله لمن حمده ورفع يديه, وثاني لم يرفع يديه, فإنه يدل على أن ترك السنة ترك للأفضل, لكنه لو ترك سنة يلزم من تركها الوقوع في غير المشروع قلنا: إنه يلزم منها الكراهة, والله تبارك وتعالى أعلم.
ولهذا شيخنا عبد العزيز بن باز عندما قاله له رجل: عندي كتيب فيه بعض ذكر الله تعالى, فهل يجوز أن أدخله؟ قال: الأفضل عدم الدخول به, وقد ذكر جماعة من العلماء كراهة ذلك, فهذا يدل على أن الأفضل تركه, ولكن لا يلزم منه الكراهة؛ لأن الكراهة حكم شرعي, لا تثبت إلا بدليل شرعي, أما القرآن فقد ذكر النووي رحمه الله إجماع أهل العلم على وجوب صيانة المصحف واحترامه, وهذا بلا شك, لكن هل دخوله يدل على عدم احترامه؟ قال المرداوي في الإنصاف: وأما دخول الخلاء بالمصحف من غير حاجة, فلا شك في تحريمه قطعاً, ولا يتوقف في هذا عاقل, فحكم المرداوي أنه إن كان من غير حاجة حرام, والحاجة هي أنه لو وضعه في رفوف دورات المياه, ربما يسرق وربما يهان, وربما سقط في الحمام وابتل, أو يخاف من سرقته, فإذا وضعه في كمه أو في جيبه وغلفه في ثيابه فإني أرى أن ذلك لا حرج فيه إذا كان في حاجة؛ لأن غالب الناس يخلون ومعهم المصحف, وأما المصحف الذي يكون في الجهاز الإلكتروني فإن ذلك لا بأس به, فإن مثله مثل الذي يكون في قلب الإنسان والله تبارك وتعالى أعلم, ولعل هذا تفصيل حسن.
ولعلنا نقف عند هذا, نسأل الله التوفيق والتسديد, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الحديث أخرجه أبو داود و النسائي و الترمذي و ابن ماجة , كلهم من طريق همام بن يحيى عن ابن جريج وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عن الزهري عن أنس , وهذا الحديث أعله جماعة من الحفاظ, منهم أبو داود فإنه حينما روى هذا الحديث أعله بأن همام بن يحيى أخطأ في إسناده, فرواه عن ابن جريج عن الزهري عن أنس , والمعروف من أصحاب ابن جريج أنهم رووه عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس , ولأجل هذا قال الدارقطني في العلل: رواه عبد الله بن الحارث المخزومي و أبو عاصم و هاشم بن سليمان و موسى بن طارق , يعني: كلهم عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس قال: وهذا هو المحفوظ وهو الصحيح عن ابن جريج , فهذا يدل على أن همام بن يحيى وإن كان هو ثقة حافظاً إلا أنه أخطأ في هذا الإسناد, وبعضهم يقول: إن هماماً لم يخطئ فلم يتفرد بذلك, فقد رواه يحيى بن المتوكل البصري عن ابن جريج عن الزهري عن أنس بمثل هذا الإسناد.
وقد ذكر ذلك غير واحد من المتأخرين, والصحيح: أن الأئمة يحكمون أحياناً على راوٍ معروف في الرواية, بأنه تفرد بهذا الحديث عن شيخه، في حين أن هناك رواة ضعافاً رووا مثل هذا الإمام لكنهم لم يعبئوا بهم, فيرون أن هذه الرواية خطأ, فتجد بعض المتأخرين يقولون: وما ذكره النسائي و أبو داود من تفرد همام لم يصب فيه, والصحيح أنه رواه يحيى بن المتوكل عن ابن جريج عن الزهري , وهذا خطأ؛ لأن طريقة الأئمة حينما يقولون: تفرد به همام يقولون: لأن هذه رواية مشهورة, وأما الرواية الأخرى فإنها خطأ قطعاً ولا يعول عليها, ومن ذلك طريقة الإمام أحمد و أبي داود , وكذلك البخاري حينما حكم على رواية عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة : ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه, ومن استقاء عمداً فليقض ), قال الإمام أحمد : تفرد به عيسى بن يونس عن هشام , وكذلك قال أبو داود .
قال أبو العباس بن تيمية في مجموع الفتاوى: وإذا كان علة تضعيف أحمد لهذا الحديث بأن عيسى تفرد, فالصحيح أن عيسى لم يتفرد, فقد رواه أبو داود من طريق حفص بن غياث عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ؛ فلذا حكم ابن تيمية بأن الحديث حسن, فنقول: لا؛ لأن أبا داود الذي حكم بأن هذا الإسناد رواه عيسى بن يونس عن هشام وحكم أبو داود بأنه تفرد به هو الذي روى بعد ذلك حديث حفص بن غياث عن هشام بن حسان ؛ وذلك يدل على أن رواية حفص لا يعول عليها عند المحدثين. وهذا مهم جداً, لأجل أن نعرف طريقة الأئمة في التصحيح والتضعيف؛ لأنه لا يصلح لطالب العلم الفقيه ألا يعرف طريقة بمناهج الأئمة في الحديث, أو محدث لا يعرف طريقة الفقهاء في الترجيح, فمن جمع الله له بين هذين العلمين فقد جمع له خيراً كثيراً وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
إذاً تفرد همام هو الصحيح, ورواية يحيى بن المتوكل وغيره لا تصح, هذه العلة الأولى.
العلة الثانية: قالوا: إن هماماً مع أنه أخطأ في الإسناد فقد أخطأ في المتن؛ وذلك أنه رواه بلفظ: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ), والمعروف في رواية هؤلاء الأربعة ولقد كان السلف يهتمون بالحفظ.
يقول الشعبي عندما قال له أحدهم وهو يحدث: يا إمام أعد! قال: أعيد؟! والله ما كتبت سوداء في بيضاء قط, أي أنه كان يحفظ, ثم قال: ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه جاهل لكان به عالماً, وهذا دليل أن علمنا قليل أما علم الأولين رحمهم الله رحمة واسعة.
وكان سفيان الثوري إذا دخل السوق وضع كرسفاً على أذنيه حتى لا يحفظ لغة الأعاجم؛ هردقه بردقه ورقا.
وتعرفون قصة البخاري وهذا من حفظ الله سبحانه لدينه، وصدق الفاروق عمر حينما قال: إن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم, واليوم إذا وجد منكر أو منكران جاء الناس إلى طلبة العلم أو إلى العلماء وقالوا: الدين سوف يضيع وأنتم قاعدون، فأقول: الدين لن يضيع, لكن هل ننال شرف حمايته, والذود والذب عن حياضه أم لا؟ وهذا مهم جداً لطالب العلم؛ أن يعرف أن الله لم يكن ليضيع دينه, وانظر إلى الاتحاد السوفيتي فإنه لا يكاد يوجد تنقلب الأمور بين عشية وضحاها في سنوات قليلة في عمر البشر, وينقلب الآن هذا الاتحاد إلى أناس يحفظون القرآن كاملاً، ويفهمون تفسيره، ويفتون في الأحكام الشرعية, ويخرجون من أصلابهم من يأتي إلى هذا البلد الطيب الطاهر المبارك فيتعلم العلم الشرعي على أصوله, وما كنا نصدق هذا ولكنكم تستعجلون.
أقول: إن الرواة هم عبد الله بن الحارث المخزومي ، و أبو عاصم الضحاك بن مخلد ، و هاشم بن سليمان، و موسى بن طارق , كلهم رووه عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس , أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( اتخذ خاتماً من ذهب فاتخذ الناس الخواتيم -يعني: بدءوا يفعلون- فألقاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا ألبسه أبداً ), فهذا حديث مستقل, لكن مع ذلك أخطأ فيه همام ؛ ولأجل هذا حكم النسائي بأنه حديث غير محفوظ, وكذلك الدارقطني والبيهقي وأبو داود , وقد أطال العلامة ابن القيم في تهذيب السنن بيان شذوذ هذه الرواية وضعفها, في حين أن بعض الأئمة قد صحح الحديث, فممن صححه الحاكم , وابن حبان , وقال: لا مانع من أن يكون الحديث روي من طريقين: من طريق ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري بهذا اللفظ الذي يرويه الدارقطني , وهو في الصحيحين, أو يكون همام رواه وهو ثقة ولا يخطأ الثقة إلا عن يقين, ولا يقين.
وكذلك ذكره ابن دقيق العيد في الاقتراح في كتب المصطلح في آخر الكتاب, وصححه أيضاً وحكم عليه المنذري بأنه قريب من الحسن, ومن المتأخرين شيخنا عبد العزيز بن باز , والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم هي طريقة المتقدمين وأن الحديث ضعيف؛ وذلك لأن هماماً أخطأ في إسناده, وأخطأ في متنه, والثالثة وهي علة واضحة: أن رواية ابن جريج عن الزهري فيها تحفظ؛ وذلك لأن ابن جريج يقول: لم أسمع من الزهري شيئاً, وإنما أخذت ذلك عن كتاب فأذن لي بالرواية, إذاً رواية ابن جريج عن الزهري تسمى مناولة, يقول: الإمام الذهبي في كلام مكين: وكان ابن جريج يرى الرواية بالإجازة وبالمناولة, ويتوسع في ذلك, ومن ثم دخل عليه الداخل في رواياته عن الزهري ؛ لأنه حمل عنه مناولة, وهذه الأشياء يدخلها التصحيف ولا سيما في ذلك العصر, فإنه لم يكن حدث في الخط بعد شكل ولا نقط, يعني: فيحدث خطأ, انتهى كلام الحافظ الذهبي ؛ ولهذا قال ابن معين : ابن جريج ليس بشيء عن الزهري , وعلى هذا فلا يقبل رواية ابن جريج عن الزهري إلا إذا وافق أصحاب الزهري , ومن المعلوم أن محمد بن يحيى الذهلي جعل أصحاب الزهري أربع طبقات:
الطبقة الأولى: طبقة مالك بن أنس , وشعيب بن أبي حمزة و عقيل بن أبي عبد الرحمن بن أبي خالد .
والطبقة الثانية: طبقة معمر بن راشد وغيره.
والطبقة الثالثة: طبقة ابن جريج .
والطبقة الرابعة: طبقة من هو ثقة في نفسه, ضعيف في روايته عن الزهري كـسفيان بن حسين , أو هو ضعيف عن الزهري كـسليمان بن الأرقم وشبهه, هذه أربع طبقات لأصحاب الزهري , وقد اعتنى الإمام محمد بن يحيى الذهلي في رواياته عن الإمام الزهري .
ولهذا فالصحيح أن الحديث ضعيف والله أعلم, وإذا ثبت هذا فإن في الرواية: ( إذا دخل الخلاء ), وقد قلت: إن الخلاء: هو المكان الخالي لقضاء الحاجة؛ لأن الإنسان يخلو فيه بنفسه وينفرد, ولهذا لو كان الإنسان في الفضاء فمكان الخلاء: هو وقت مكان قضاء الحاجة, وعلى هذا إذا ذهب في البر ورأى أن المكان مناسب لقضاء حاجته فإنه يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [21] | 2515 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [8] | 2428 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [24] | 2328 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [14] | 2132 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [22] | 2118 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [15] | 2099 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [4] | 2095 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [26] | 2035 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [23] | 2025 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [16] | 1827 استماع |