بلوغ المرام - كتاب الطهارة [11]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه! وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه! ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل! اللهم انفعنا بما علمتنا! وعلمنا ما ينفعنا! وزدنا علماً وعملاً يا كريم! اللهم إنا نسألك الهدى والسداد في القول والعمل، وبعد:

فنسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى أن ييسر لنا إتمام هذا الشرح بما كنا قد بدأنا به من العناية بالأسانيد والرجال وفقه أحاديث أئمة السلف، ونسأله سبحانه وتعالى ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين! ولا إلى أحد من خلقه! إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وبعد:

فقد وصلنا إلى قريب من نهاية باب إزالة النجاسة، وهو حديث عائشة ، فقد شرحنا حديث عمرو بن خارجة ثم وقفنا عند حديث عائشة ، وإن شاء الله سوف نشرح جميع الأحاديث الواردة في هذا الباب حتى ننتهي.

ولعلنا نخفف من العناية بجمع الطرق المبالغة في ذلك؛ لأن البعض ربما لا يتحمل ولم يتعود؛ لكن كل حديث سوف نذكر مداره وعلته ومن ضعفه من أهل العلم، وليس على سبيل التوسع والإسهاب كما كنا في السابق.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: [ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه ) متفق عليه.

ولـمسلم : ( لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه )، وفي لفظ له: ( لقد كنت أحكه يابساً بظفري من ثوبه ) ].

تخريج حديث: (كان رسول الله يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب ..)

الحديث الأول: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه )، الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري و مسلم من طريق عمرو بن ميمون قال: ( سألت سليمان بن يسار عن المني يصيب الثوب أيغسله أم يغسل الثوب؟ فقال: أخبرتني عائشة رضي الله عنها فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه ). وقد ادعى بعضهم أن سليمان بن يسار لم يسمع من عائشة ، وهذا الحديث رد على من قال ذلك؛ كما نقل عن البزار رضي الله عنه ورحمه صاحب التصانيف المعروفة، فقال: لم يسمع سليمان بن يسار من عائشة ، ورواية البخاري تؤكد صحة السماع.

وقد ذكر الإمام الشافعي في الأم عن بعض الحفاظ أنه أنكر سماع سليمان بن يسار من عائشة وقال: إنما هي فتوى من سليمان بن يسار ، ولكن الراجح والله أعلم أن الحديث صحيح بهذا الإسناد: أن عمرو بن ميمون سأل سليمان بن يسار و سليمان أخبرته عائشة ، وهذا لا يضير أن يكون عمرو بن ميمون سأل سليمان بن يسار ، وأن يكون سليمان بن يسار سأل عائشة ، وعلى هذا فربما سليمان بن يسار في بعض الأحاديث قال ذلك من عنده، وربما قال ذلك مرة من عائشة ، وهذا يدل على أن الراوي -كما قلنا- أحياناً ينشط فيذكر الحديث موصولاً، وأحياناً لا ينشط فيذكره مرسلاً، وهذه طريقة الأئمة، وعلى هذا فينبغي لطالب العلم ألا يضعف هذا الحديث بدعوى أنه اختلف في وصله وإرساله، فربما يكون الراوي من عادته أنه ينشط فيذكره موصولاً، وربما لا ينشط، فيذكره مرسلاً كما عرف ذلك عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى.

وجاء في بعض الروايات: أن الذي يغسل المني عائشة ، وهذا أيضاً لا يضير، فقد جاء عند ابن خزيمة -كما سوف يأتي إن شاء الله- ( أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي )؛ ولأجل هذا احتج ابن خزيمة في مصنفه على صحة القول بأن المني طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي و عائشة تغسله أو تحكه، وهذا يدل على صحة طهارة المني، كما هو معلوم وسوف يأتي إن شاء الله.

تخريج حديث: (لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله)

أما الحديث الذي بعده قال الحافظ : (ولـمسلم : ( لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه ) ).

الحديث رواه مسلم من طريق إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد أن رجلاً نزل على عائشة رضي الله عنها، فسأل عائشة رضي الله عنها، فقالت عائشة رضي الله عنها: ( إنما كان يجزيك إن رأيته أن تغسل مكانه، وإن لم تره نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه )، فهذا يدل على أن رواية الفرك جاءت حينما رأت عائشة رجلاً غسل الثوب كاملاً، حينما رأى في المنام ما يرى النائم.

ومما يدل على ذلك الرواية الأخرى الثالثة، قال: (وفي لفظ له: ( لقد كنت أحكه يابساً بظفري من ثوبه ) )، وهذا الحديث يرويه مسلم في صحيحه من طريق عبد الله بن شهاب الخولاني قال: ( كنت نازلاً على عائشة فرأيت ما يرى النائم، فغمست ثوبي بالماء، فرأتني جارية لـعائشة فبعثت إليّ عائشة ، فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟ قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه، قالت: وهل رأيت شيئاً؟ قال: لا، قالت: لو رأيته غسلته، لقد كنت أحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري ). وهذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها أنكرت على هذا التابعي الغسل حينما غسل ثوبه كله، فأنكرت فقالت: (لو رأيته غسلته)، يعني: غسلت الموضع الذي فيه، ولم تغسل كامل الثوب، ثم قالت: ( لقد رأيتني وإني لأحكه يابساً بظفري من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

صفة مني الرجل ومني المرأة

والحديث له ألفاظ: قوله: (المني)، المني يختلف من الرجل والمرأة، أما الرجل فمعروف مشاهد، وذلك أن الرجل منيه: ماء أبيض ثخين له رائحة كرائحة طلع النخل، يخرج من الرجل حال اليقظة دفقاً دفقاً، كما قال الله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق:1-7]، فسماه سبحانه وتعالى ماء دافقاً، هذا حال اليقظة. وأما حال المنام فربما استشعر الإنسان دفقه وربما لم يستشعر ذلك، فهذا هو ماء الرجل. ويزيد ثخانة إذا تأخر الإنزال، ويزيد خفة إذا أكثر الإنزال، يعني: إذا كان يأتي أهله كثيراً فإنه يخف كما ذكر ذلك أهل العلم، وهذا معروف مشاهد.

أما ماء المرأة، فقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين فقال: ( إذا علا ماء المرأة ماء الرجل ) فدل على أن المرأة لها ماء، ولكن بعض الفقهاء قال: إن ماء المرأة ماء أصفر، ومن المعلوم أن بعض النساء ربما تنزل، وبعض النساء ربما لا تعلم بالإنزال، وبعض النساء ربما تنزل فتخرجه من الخارج، وبعض النساء تنزل من داخل فرجها.

وعلى هذا فإن كثيراً من الناس لا يعلم صفة ماء المرأة، والذي تراه المرأة غالباً إنما ذاك المذي؛ لأنه لزج ويخرج عند أول الشهوة؛ لكن كثيراً من النساء ربما لا تعلم أنها تنزل، ومما يدل على ذلك أن أم سليم حينما أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كما في الصحيحين: ( يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: فضحتي النساء يا أم سليم ! تربت يمينك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت تربت يمينك، نعم فلتغتسل يا أم سليم! إذا رأت ذلك )، يعني: إذا رأت الماء، ثم قالت أم سلمة : ( أو تحتلم المرأة يا رسول الله؟ قال: نعم، فمن أين يكون الشبه؟! )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( فمن أين يكون الشبه؟! ) دليل على أن للمرأة ماء وأن للرجل ماء؛ لكن بعض الفقهاء يقول: ماء المرأة ماء أصفر، كما ذكر ذلك النووي في شرح مسلم ، والواقع أن كثيراً من النساء لا تعلم ذلك، وعلى هذا فإذا لم تعلم المرأة ذلك، فإنه يعرف ذلك بالإيلاج أو بوجود الارتخاء الشديد منها، فإن المرأة والعياذ بالله ربما استمنت بيدها فلم تعلم هل أنزلت أم لا؟ بخلاف الرجل فإن الرجل يعلم، أما المرأة فربما لم تعلم، فنحن نقول لها إذا لم تعلم: إذا كان من العادة أن المرأة إذا فعلت مثل ذلك والعياذ بالله -والاستمناء كما تعلمون مذهب جمهور أهل العلم في حرمة ذلك- فإنها إذا استرخت وحست باسترخاء بعد ذلك فإن هذا يكون هو الإنزال، والواقع أن المسألة تحتاج إلى تفصيل أكثر؛ لكن هذا ليس هو موضعها، والله أعلم.

معنى الحك والفرك

أما قولها: (إن كنت لأحكه)، الحك هو: التقشير، والقشر، ومثله الفرك، والفرك هو دلك الشيء حتى يتقشع، وعلى هذا فالفرك والحك بمعنى واحد، وإن كان الفرك أشد من الحك، فإن الحك هو القشر، وأما الفرك فربما كان فيه استعمال الإبهام مع السبابة، وأما الحك فربما يكون بالأصبع كما ذكر ذلك الأخفش رحمه الله في مسألة القصع، فالقصع والفرك قريب من بعض.

مني الآدمي بين القول بطهارته والقول بنجاسته

أما الحديث ففيه مسألة معروفة؛ وهي طهارة مني الرجل أم نجاسته، والمسألة فيها خلاف عند أهل العلم معروف مشهور؛ لكن ابتداءً نحن نقول: أجمع أهل العلم على أن بول الآدمي نجس، وهذا محل إجماع عند أهل العلم، وإن كان ابن حزم رحمه الله يخفف في بول الذكر بالنضح، كما سوف يأتي بيان ذلك إن شاء الله، ولكن الراجح أنه بول الذكر والأنثى نجس إذا كانا بالغين، ولا عبرة بقول داود الظاهري رحمه الله تعالى.

وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يغسل المني، وهذا من باب الاستطابة والتنظف، إلا أن أهل العلم اختلفوا في حكم المني، هل هو طاهر أم نجس؟

القول الأول في المسألة: نجاسة مني الآدمي، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، وهي رواية عند الإمام أحمد نصرها الإمام الشوكاني كما في السيل الجرار، وفي نيل الأوطار، إلا أن الحنفية قالوا: إن كان رطباً فيجب غسله، وإن كان يابساً فيجوز فركه، فقالوا: إن الفرك نوع من الإزالة؛ لأن الحنفية كما تعلمون يرون أن النجاسة: عين خبيثة لا يلزم إزالتها بالماء كما مر معنا، فيقولون: إن النجاسة: عين خبيثة متى ما زالت زال أثرها، فلهذا يرون إزالة النجاسة: بالماء، والريح، والشمس، هذا القول الأول.

واستدلوا بأدلة منها: حديث الباب، والشاهد فيه: قول عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني من ثوبه فيخرج إلى الصلاة وإني لأرى أثر المني فيه )، قالوا: وجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغسله، قالوا: وأما الفرك فقالوا: إن الفرك معناه: الإزالة، فالإزالة على مذهب أبي حنيفة يكفي فيها الفرك، وعلى مذهب مالك رحمه الله قال: الفرك هو الفرك جداً حتى يزول، فهو نوع من إزالة النجاسة، وبعضهم ضعفوا هذا، وقالوا: إن الفرك الموجود في الثوب إنما هو في ثوب النوم وليس في ثوب الصلاة، وهذا فيه تكلف واضح؛ ويرده قول عائشة في رواية ابن خزيمة : ( إن كنت لأحكه يابساً بظفري، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه )، فهذا تكلف معروف.

واستدلوا أيضاً قالوا: إن الفرك -لو صح- دليل على تسامح الشارع فيما عمت به البلوى، فإن القاعدة فيما تعم به البلوى التخفيف، فإن الشارع خفف وجود بعض القاذورات تحت الظفر إذا لم يعلمها الإنسان، وخفف الشارع في رذاذ البول إذا وقع في ثوب الإنسان، وخفف الشارع في الاستجمار، فإذا استجمر الإنسان فإنه قطعاً لم يتيقن نقاء المحل، فكل ذلك مما عمت به البلوى فخفف الشارع في ذلك.

وقالوا: مما يدل على النجاسة -وانظروا لهذا القياس لأجل نعرف أن استدلالات السلف وقياسهم لا يلزم أن تكون موافقة لأقوال واستدلالات المتأخرين، قالوا وهذا يسميه العلماء القياس المنطقي- أن المني موجب للغسل وهو الطهارة، هذه المقدمة الأولى، وهذا لا إشكال فيه، ثم المقدمة الثانية قالوا: وكل ما أوجب حدثاً فهو نجس، هذه المقدمة الثانية، ثم شطبوا آخر المقدمة الأولى مع أول المقدمة الثانية فقالوا: وعلى هذا فكل مني نجس، وهذه يسمونها العلماء: قياس المناطقة، كما تقول: كل حمار أبيض، وكل أبيض له صوت، وعلى هذا فيكون الحمار له صوت، وهذه المقدمة يمكن أن تكون صحيحة ويمكن أن تكون خاطئة، وعلى هذا فهذا الاستدلال لم يكن معروفاً عند المتقدمين من الصحابة، ولا من التابعين، وهذا قياس أدخله بعض المناطقة وبعض علماء الأصول في الاستدلال، وليس صحيحاً؛ لأننا نقول: إن قولكم: إن المني موجب للحدث صحيح، وقولكم: كل ما أوجب حدثاً فهو نجس ليس صحيحاً مطلقاً، والدليل: الريح والضراط، أوجب حدثاً ولكنه ليس بنجس، كذلك على الراجح أن بعض الأشياء تخرج من فم الإنسان وهي طاهرة مثل البصاق، وبعضها يخرج من فم الإنسان وهو نجس عند قول الجمهور مثل القيء، أو الدم الكثير، مع أن المخرج واحد، ولأجل هذا نقول: لا يلزم أن يكون مخرج الشيء يلزم منه النجاسة مطلقاً أو الطهارة مطلقاً، كذلك لا يلزم كل ما أوجب حدثاً أن يكون طاهراً أو أن يكون نجساً، والله تبارك وتعالى أعلم.

وأحسن شيء يستدل به ما رواه أبو داود والإمام أحمد من حديث معاوية بن خديج عن معاوية بن أبي سفيان أنه سأل أخته أم حبيبة : ( هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي جامعك فيه؟ قالت: نعم إذا لم ير فيه الأذى )، وهذا الحديث بوب البخاري في صحيحه ما يؤتيه معنى هذا الحديث، قال: باب وجوب الصلاة في الثياب، ومن صلى في الثوب الذي يجامع فيه أهله إذا لم ير فيه أذى. قال الحافظ ابن حجر : وفي هذا دلالة أن البخاري أخذ هذه العبارة من حديث معاوية بن أبي سفيان ، وحديث معاوية بن أبي سفيان أخرجه أبو داود و النسائي و ابن خزيمة و ابن حبان ، وصححه ابن خزيمة و ابن حبان ، والحديث إلى الحسن أقرب، فإن معاوية بن خديج قد رواه عنه سويد بن قيس ، و سويد بن قيس قد رواه عنه يزيد بن أبي حبيب ، و يزيد بن أبي حبيب قد رواه عنه الليث بن سعد ، والحديث على هذا إسناده جيد؛ الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن خديج عن معاوية بن أبي سفيان ، وهذا الحديث حسن؛ لكن أهل العلم قالوا: إن قوله: (إذا لم ير فيه أذى) دليل على أن هذا المني أذى، وهو نجس؛ لأن الله يقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، هذا دليل الحنفية.

والأقرب والله أعلم أن هذا الحديث لا يلزم منه النجاسة؛ لأن الأذى يطلق على النجس ويطلق على القذر، فإن المخاط يطلق عليه أذى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم ) إشارة إلى الثوم والبصل، والثوم والبصل ليسا بنجس، فدل على أن إطلاق الأذى لا يلزم منه النجاسة.

القول الثاني في المسألة: هو مذهب الشافعية والحنابلة في المذهب عندهم، وهو الذي نصره ابن حزم في المحلى وهو قول داود الظاهري وغيرهم، وهو قول جمع من الصحابة، وهو قول عائشة وقول ابن عباس وقول أبي هريرة وغيرهم.

واستدلوا بحديث الباب حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرك المني من ثوبه ويصلي فيه، فلو كان نجساً لم يكن عليه الصلاة والسلام يسمح بفركه؛ لأن الفرك لا بد معه من أن يبقى شيء عالق في نسيج الثوب.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المني فقال: ( إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكيفك أن تميطه عنك بخرقة أو إذخرة )، الإذخرة: الشجرة المعروفة، فهذا الحديث نص في أن المني إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، ومن المعلوم أن المخاط والبصاق طاهر، ولكن هذا الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، والصواب أن رفعه خطأ؛ لأن المعروف عن عطاء بن أبي رباح أنه رواه عن ابن عباس من قوله، كما روى ذلك الشافعي و ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج -وهو من أوثق الناس في عطاء - رواه عن عطاء عن ابن عباس ، كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية والله أعلم، وقد صححه مرفوعاً المجد أبو البركات ، ولكن الأقرب والله أعلم أن الحديث ضعيف؛ لأن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى رواه عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً، والصواب كما قلنا: إن ابن جريج رواه عن عطاء عن ابن عباس من قوله.

طيب! الحديث الثالث في المسألة مما يقوي هذا القول هو قول ابن خزيمة أن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كانت تحت المني من ثوب النبي صلى الله عليه سلم وهو يصلي )، وهذا يدل على الطهارة، كونه يصلي وهي تحت، فلو كان نجساً لقطع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، والمسألة واضحة ولا داعي لذكر بعض الأحاديث الدالة على ذلك، فالأقرب والله أعلم أن المني طاهر؛ لكن ينبغي للإنسان أن يتنظف منه، والله أعلم.

الحديث الأول: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه )، الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري و مسلم من طريق عمرو بن ميمون قال: ( سألت سليمان بن يسار عن المني يصيب الثوب أيغسله أم يغسل الثوب؟ فقال: أخبرتني عائشة رضي الله عنها فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه ). وقد ادعى بعضهم أن سليمان بن يسار لم يسمع من عائشة ، وهذا الحديث رد على من قال ذلك؛ كما نقل عن البزار رضي الله عنه ورحمه صاحب التصانيف المعروفة، فقال: لم يسمع سليمان بن يسار من عائشة ، ورواية البخاري تؤكد صحة السماع.

وقد ذكر الإمام الشافعي في الأم عن بعض الحفاظ أنه أنكر سماع سليمان بن يسار من عائشة وقال: إنما هي فتوى من سليمان بن يسار ، ولكن الراجح والله أعلم أن الحديث صحيح بهذا الإسناد: أن عمرو بن ميمون سأل سليمان بن يسار و سليمان أخبرته عائشة ، وهذا لا يضير أن يكون عمرو بن ميمون سأل سليمان بن يسار ، وأن يكون سليمان بن يسار سأل عائشة ، وعلى هذا فربما سليمان بن يسار في بعض الأحاديث قال ذلك من عنده، وربما قال ذلك مرة من عائشة ، وهذا يدل على أن الراوي -كما قلنا- أحياناً ينشط فيذكر الحديث موصولاً، وأحياناً لا ينشط فيذكره مرسلاً، وهذه طريقة الأئمة، وعلى هذا فينبغي لطالب العلم ألا يضعف هذا الحديث بدعوى أنه اختلف في وصله وإرساله، فربما يكون الراوي من عادته أنه ينشط فيذكره موصولاً، وربما لا ينشط، فيذكره مرسلاً كما عرف ذلك عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى.

وجاء في بعض الروايات: أن الذي يغسل المني عائشة ، وهذا أيضاً لا يضير، فقد جاء عند ابن خزيمة -كما سوف يأتي إن شاء الله- ( أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي )؛ ولأجل هذا احتج ابن خزيمة في مصنفه على صحة القول بأن المني طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي و عائشة تغسله أو تحكه، وهذا يدل على صحة طهارة المني، كما هو معلوم وسوف يأتي إن شاء الله.

أما الحديث الذي بعده قال الحافظ : (ولـمسلم : ( لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه ) ).

الحديث رواه مسلم من طريق إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد أن رجلاً نزل على عائشة رضي الله عنها، فسأل عائشة رضي الله عنها، فقالت عائشة رضي الله عنها: ( إنما كان يجزيك إن رأيته أن تغسل مكانه، وإن لم تره نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه )، فهذا يدل على أن رواية الفرك جاءت حينما رأت عائشة رجلاً غسل الثوب كاملاً، حينما رأى في المنام ما يرى النائم.

ومما يدل على ذلك الرواية الأخرى الثالثة، قال: (وفي لفظ له: ( لقد كنت أحكه يابساً بظفري من ثوبه ) )، وهذا الحديث يرويه مسلم في صحيحه من طريق عبد الله بن شهاب الخولاني قال: ( كنت نازلاً على عائشة فرأيت ما يرى النائم، فغمست ثوبي بالماء، فرأتني جارية لـعائشة فبعثت إليّ عائشة ، فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟ قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه، قالت: وهل رأيت شيئاً؟ قال: لا، قالت: لو رأيته غسلته، لقد كنت أحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري ). وهذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها أنكرت على هذا التابعي الغسل حينما غسل ثوبه كله، فأنكرت فقالت: (لو رأيته غسلته)، يعني: غسلت الموضع الذي فيه، ولم تغسل كامل الثوب، ثم قالت: ( لقد رأيتني وإني لأحكه يابساً بظفري من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

والحديث له ألفاظ: قوله: (المني)، المني يختلف من الرجل والمرأة، أما الرجل فمعروف مشاهد، وذلك أن الرجل منيه: ماء أبيض ثخين له رائحة كرائحة طلع النخل، يخرج من الرجل حال اليقظة دفقاً دفقاً، كما قال الله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق:1-7]، فسماه سبحانه وتعالى ماء دافقاً، هذا حال اليقظة. وأما حال المنام فربما استشعر الإنسان دفقه وربما لم يستشعر ذلك، فهذا هو ماء الرجل. ويزيد ثخانة إذا تأخر الإنزال، ويزيد خفة إذا أكثر الإنزال، يعني: إذا كان يأتي أهله كثيراً فإنه يخف كما ذكر ذلك أهل العلم، وهذا معروف مشاهد.

أما ماء المرأة، فقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين فقال: ( إذا علا ماء المرأة ماء الرجل ) فدل على أن المرأة لها ماء، ولكن بعض الفقهاء قال: إن ماء المرأة ماء أصفر، ومن المعلوم أن بعض النساء ربما تنزل، وبعض النساء ربما لا تعلم بالإنزال، وبعض النساء ربما تنزل فتخرجه من الخارج، وبعض النساء تنزل من داخل فرجها.

وعلى هذا فإن كثيراً من الناس لا يعلم صفة ماء المرأة، والذي تراه المرأة غالباً إنما ذاك المذي؛ لأنه لزج ويخرج عند أول الشهوة؛ لكن كثيراً من النساء ربما لا تعلم أنها تنزل، ومما يدل على ذلك أن أم سليم حينما أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كما في الصحيحين: ( يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: فضحتي النساء يا أم سليم ! تربت يمينك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت تربت يمينك، نعم فلتغتسل يا أم سليم! إذا رأت ذلك )، يعني: إذا رأت الماء، ثم قالت أم سلمة : ( أو تحتلم المرأة يا رسول الله؟ قال: نعم، فمن أين يكون الشبه؟! )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( فمن أين يكون الشبه؟! ) دليل على أن للمرأة ماء وأن للرجل ماء؛ لكن بعض الفقهاء يقول: ماء المرأة ماء أصفر، كما ذكر ذلك النووي في شرح مسلم ، والواقع أن كثيراً من النساء لا تعلم ذلك، وعلى هذا فإذا لم تعلم المرأة ذلك، فإنه يعرف ذلك بالإيلاج أو بوجود الارتخاء الشديد منها، فإن المرأة والعياذ بالله ربما استمنت بيدها فلم تعلم هل أنزلت أم لا؟ بخلاف الرجل فإن الرجل يعلم، أما المرأة فربما لم تعلم، فنحن نقول لها إذا لم تعلم: إذا كان من العادة أن المرأة إذا فعلت مثل ذلك والعياذ بالله -والاستمناء كما تعلمون مذهب جمهور أهل العلم في حرمة ذلك- فإنها إذا استرخت وحست باسترخاء بعد ذلك فإن هذا يكون هو الإنزال، والواقع أن المسألة تحتاج إلى تفصيل أكثر؛ لكن هذا ليس هو موضعها، والله أعلم.