كتاب الطهارة [31]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

المسألة الثانية: وجود الماء ينقض التيمم، يعني إذا تيمم الإنسان لفقد الماء، ثم وجد الماء فبمجرد وجود الماء انتهت مفعولية التيمم، فعليه أن يستعمل الماء، فيكون معنى هذا أن رفع التيمم للحدث رفعاً مؤقتاً إلى وجود الماء، فلا بد من رفع ذلك الحدث، فهم يقولون: إن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً، أو يقولون: يستباح به الصلاة وهو لا يزال محدثاً.

أما من يقول: يرفعه رفعاً مؤقتاً فإنه يستدل بحديث: ( فإذا وجدت الما فأمسسه بشرتك ).

وأما من يقول: أنه يستبيح به الصلاة، وهو لا يزال على حدثه، فيستدل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن العاص : ( صليت بأصحابك وأنت جنب )، فأثبت عليه الجنابة.

وهناك من يقول: إن التيمم يرفع الحدث كالماء، وعلى هذا فلو أنه تيمم ثم وجد الماء ولم يحدث، فليس له أن يمسه بشرته، بل لا يزال يزاول الصلاة حتى يأتيه حدث جديد أو جنابة أو حدث أصغر، فعند ذلك يتيمم لهذا الحدث الجديد، أما ما دام لم يحدث فيستمر ولا يباشر الماء، وهذه هي الأقوال التي سيذكرها هنا، فقال المصنف رحمه الله: [ فإن الجمهور ذهبوا إلى أن وجود الماء ينقضها.

وذهب قوم إلى أن الناقض لها هو الحدث، وأصل هذا الخلاف: هل وجود الماء يرفع استصحاب الطهارة التي كانت بالتراب، أو يرفع ابتداء الطهارة به؟ فمن رأى أنه يرفع ابتداء الطهارة به قال: لا ينقضها إلا الحدث.

ومن رأى أنه يرفع استصحاب الطهارة قال: إنه ينقضها، فإن حد الناقض هو الرافع للاستصحاب ]، فهو يصلي بالتيمم ما لم يجد الماء فينتهي.

أدلة الجمهور على أن وجود الماء ينقض التيمم

قال المصنف رحمه الله: [ وقد احتج الجمهور لمذهبهم بالحديث الثابت.. ] من حديث حذيفة [ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ما لم يجد الماء ).. ]، فهنا إذا وجد الماء فإنه ليس له أن يتيمم بالتراب، وهذا الحديث الذي استىدل به الجمهور، كما يقول المؤلف: محتمل لكلا المذهبين (مالم يجد الماء) فلا يستصحب التيمم، (ما لم يجد الماء) فلا يبتدئ الطهارة بالتيمم مرة أخرى.

[ والحديث محتمل، فإنه يمكن أن يقال: إن قوله: (ما لم يجد الماء)، يمكن أن يفهم منه: فإذا وجد الماء انقطعت هذه الطهارة وارتفعت، ويمكن أن يفهم منه: فإذا وجد الماء لم تصح ابتداء هذه الطهارة. .] فهو محتمل للأمرين [ والأقوى في عضد الجمهور هو حديث أبي سعيد الخدري ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك )، فإن الأمر محمول عند جمهور المتكلمين على الفور، وإن كان أيضاً قد يتطرق إليه الاحتمال المتقدم فتأمل هذا ].

رأي الشوكاني في مسألة نقض التيمم بوجود الماء

ويميل الشوكاني إلى أن التيمم يرفع الحدث رفعاً دائماً، وأنه إذا وجد الماء بعد التيمم فلا يمسه بشرته، لا في أكبر ولا في أصغر، بل يستمر على تيممه، فيصلي الصلوات وهو يحمل الماء معه، إلى أن يحدث حدثاً جديداً.

وهذا نص الشوكاني قال في صفحة مائة وسبع وثلاثين في كتابه السيل: (إن التيمم لا ينقض مطلقاً بوجود الماء، وأنه إذا وجد الماء فليس عليه إعادة الغسل والوضوء، وإنما يجبا عليه لحدث جديد).

ولهذا لما صعب على الشوكاني حمل الحديث الذي في الصحيحين وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( عليك بالصعيد فإنه يكفيك، ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وجد الماء أعطى الرجل الذي أصابته الجنابة إناءً من ماء، وقال: اذهب، فأفرغه عليك ).

ثم قال الشوكاني : (وهذا ظاهر في أن الغسل للجنابة التي تيمم لها)، إلا أنه بعد هذا الكلام تكلف، بعدما أورد هذا الحديث فقال: هذا الحديث ظاهر على أنه يغسل للجنابة التي تيمم لها لكن رد ذلك وقال: نجمع بين الأحاديث، ونحمل هذا على أن المراد به غسل المني من أعضائه.

والحاصل أنه -رحمه الله- بعد ذلك تكلف، وحمل الحديث وما في معناه إلى أن الغسل لما تلوث من بدنه من المني، والمتأمل في هذا يرى بعد ما ذهب إليه الشوكاني ، وأنه لو كان الغسل للمني لأمره بغسله فقط، ولم يأمره بإفاضة الماء على جميع بدنه.

الراجح في مسألة الاغتسال عند وجود الماء لمن تيمم من الجنابة

فالراجح ما ذهب إليه الجمهور من أنه إذا وجد الماء وجب عليه إمساسه جلده، وأن التيمم يرفع الحدثين الأكبر والأصغر رفعاً مؤقتاً إلى وجود الماء، وهذا الذي رجحناه. وهو كما قيل في المثل: إذا وجد الماء بطل التيمم.

[ وقد حمل الشافعي تسلميه أن وجود الماء يرفع هذه الطهارة، أن قال: أن التيمم ليس رافعاً للحدث.. ]، لا يكون رافع للحدث، وإنما قال: يستباح به الصلاة، دليله قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن العاص : ( أصليت بأصحابك وأنت جنب؟! ) فأطلق عليه أنه جنب.

[ أي: ليس مفيداً للمتيمم الطهارة الرافعة للحدث وإنما هو مبيح للطهارة فقط ]، ليس مفيد للرفع وإنما مفيد الاستباحة؛ ولهذا يقول فقهاء الشافعية: التلفظ بها سنة، لا تقول: نويت رفع الحدث الأصغر بالتيمم، بل قل: نويت استباحة الصلاة بالتيمم، وكذلك تنوي في قلبك أنك تبيح الصلاة بالتيمم، ولا تنوي أن حدثك ارتفع.

[ وإنما هو مبيح للصلاة فقط مع بقاء الحدث، وهذا لا معنى له، فإن الله قد سماه طهارة، وقد ذهب قوم من أصحاب مالك هذا المذهب.. ] فوافقوا الشافعي [ وقالوا: إن التيمم لا يرفع الحدث؛ لأنه لو رفعه لم ينقضه إلا الحدث.. ] كمذهب الشوكاني [ والجواب: أن هذه الطهارة وجود الماء في حقها هو حدث خاص بها على القول بأن الماء ينقضها ]، لا نقول: حدث قاطع لها، فهو ليس حدثاً وإنما هو رافع لها.

[ واتفق القائلون بأن وجود الماء ينقضها على أنه ينقضها قبل الشروع فيها وبعد الصلاة ]، إذا وجد الماء ولم يشرع في الصلاة، فإنه يتوضأ قبل الشروع فيها. وبعده كذلك أما بعد الصلاة فالصلاة صحيحة لأنها أديت بطهارة.. بتيمم صحيح مع عدم وجود الماء، وهذا اتفقوا عليه.

طرد الماء أثناء صلاة المتيمم لها

قال المصنف رحمه الله: [ واختلفوا هل ينقضها طروه في الصلاة ] يعني: إذا جاء الماء وقد أحرم بالصلاة..

فهل تترك الصلاة أو لا تتركها؟

هذا اختلفوا فيه، فذهب غير الشافعي أنه يبطل الصلاة، ويبتدئ التيمم، وذهب الشافعي إلى أنه لا يبطلها، بل يستمر فيها، والأفضل أن يبطلها؛ ولهذا يقول ابن رسلان من الشافعية وهو محدث وفقيه وصوفي، لكن صوفية معتدلة، يعني ورع، وكانت تنسب إلى الحسن البصري وغيره.

فقال:

أبطل وإلا لا ولكن أفضل إبطالها كي بالوضوء تفعل.

فجاء بمسألة طويلة في بيت واحد! وهذا مما يدل على أن هذا الرجل كان متمكناً في الفقه وفي الشعر؛ ولهذا هناك اثنان أحدهما تمكن في الفقه والشعر، والثاني تمكن في النحو والشعر وهو ابن مالك ، فترى ابن مالك يأتي بالمعاني الكثير في شطر بيت أو نصف بيت، وهذا يأتي بالمعاني الكثيرة في بيت أو في شطر بيت.

[ فذهب مالك و الشافعي و داود إلى أنه لا ينقض الطهارة في الصلاة ]، يعني أن الطهارة لا تنتقض إذا كان في الصلاة.

[ وذهب أبو حنيفة و أحمد وغيرهما إلى أنه ينقض الطهارة في الصلاة ]، إلى أن الماء ينقض الطهارة في الصلاة.

والمؤلف سينصر مذهب أحمد وسيأتي بكلام ويهول به مذهب الشافعي و مالك ، ويستدل بأشياء على غير وجهها، يقول [ وهم أحفظ للأصل ]، يعني والذين قالوا: ينقضها أحفظ للأصل؛ لأنه إذا كان ينقضها خارج الصلاة فينقضها داخل الصلاة، وليس عندنا حدث ينقض في وقت ولا ينقض في وقت.

ولهذا قال: [ لأنه أمر غير مناسب الشرع أن يوجد شيء واحد لا ينقض الطهارة في الصلاة وينقضها في غير الصلاة ].

والجمهور في هذه المسألة شابهوا الحنفية في قولهم: إن الضحك خارج الصلاة لا يبطل الوضوء، وفي الصلاة يبطله، واستدلوا بحديث ضعيف.

والشافعية والمالكية قد أنكروا على الحنفية هذا السلوك ثم سلكوه في وجود الماء للمتيمم، فقالوا: إن وجود للمتيمم ينقض خارج الصلاة ولا ينقض داخل الصلاة، وكلامه يظهر وكأنه وجيه لكن سنبين أنه بخلاف ذلك.

قال: [ وبمثل هذا شنعوا على مذهب أبي حنيفة فيما يراه من أن الضحك في الصلاة ينقض الوضوء، مع أنه مستند في ذلك إلى الأثر.. ]، يعني أثره ضعيف، والشافعية و مالك ليس لهم أثر، [ فتأمل هذه المسألة فإنها بينة، ولا حجة في الظواهر التي يرام الاحتجاج بها لهذا المذهب من قوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، فإن هذا لم يبطل الصلاة بإرادته وإنما أبطلها طرو الماء كما لو أحدث ].

الرد على ابن رشد في تشنيعه على الشافعية والمالكية في مسألة طرو الماء في صلاة المتيمم لها

أولاً: إن الشافعية والمالكية قالوا: إن وجود الماء خارج الصلاة يرفع ابتداء الطهارة، أما وجود الماء في الصلاة فإنه لا يبطل الصلاة، ولديهم دليل من الأصول، وهو: استصحاب حال الإجماع، فإنه لما بدأ الصلاة كانت صحيحة بالإجماع فهم استصحبوا حال الإجماع في كمال الصلاة؛ لأنه يغفر في الدوام ما لا يغفر في الابتداء.

وأما قياس المؤلف له على مسألة الحنفية، فمسألة الحنفية عكس هذا، فالحنفية عكسوا الإجماع؛ لأن الإجماع منعقد على أن الضحك لا يبطل الوضوء خارجها، فهم عكسوا المسألة وقالوا: بأنه يبطل الوضوء في الصلاة، أما هؤلاء فاستصحبوا حال الإجماع.

فلا يصح من المؤلف - رحمه الله - أن يشبه مذهب الشافعية بمذهب الحنفية.

فالحاصل أن فيما أورده المؤلف نظر؛ وذلك أن لـمالك و الشافعي و داود دليلاً يذكره أهل الأصول، وهو: استصحاب حال الإجماع في محل النزاع في محل الخلاف، وبيان هذا الكلام:

أن الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامه فيها قبل وجود الماء، فنحن نستصحب ذلك إلى أن يرد الدليل الصارف عنه، ولا دليل هنا واضح يدل على بطلان صلاته بوجود الماء؛ لأن الماء ليس بحدث والأمر بإمساس الجلد لا يقتضي هنا الفورية للقاعدة من أنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، يعني يغتفر في أن أداوم على الصلاة واستمر فيها ما لا يغتفر في أن أبتدئ صلاة بعد وجود الماء.

ثانياً: وأما قول: ( فأمسسه جلدك )، فنقول: هذا محمول قبل أن أدخل الصلاة؛ لأنه قبل أدخل الصلاة لا يجوز لي أن أبتدئ التيمم إلا على مذهب الشوكاني ، أما بعد الدخول فيها فإنه مداومة، ويغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.

فالحاصل أن قوله: ( فأمسسه جلدك ): يحمل على أن المراد إمساس الجلد به أي: بالماء عند ابتداء الصلاة لا على بطلان الصلاة التي هو متلبس بها، بوجود الماء، وهذه المسألة عكس مسألة الضحك فإن الإجماع منعقد على أن الضحك خارج الصلاة لا ينقض الوضوء، فالقول بنقضه في الصلاة خروج عن استصحاب حال الإجماع، أما ذلك فاستصحاب للإجماع.

فلا يصار إليه إلا بدليل صحيح، وحديث الضحك في الصلاة ضعيف، فلا ينهض إلى الخروج عن استصحاب الأصل المجمع عليه، وبذلك يكون لما قاله الشافعي و مالك و داود : وجه قوي من النظر، لا كما يشعر به كلام المؤلف، ولاسيما إذا كان لم يبق من الوقت ما يسع الصلاة بالوضوء فقد ذهب بعض العلماء إلى أنه إذا وجد الماء وضاق الوقت عن استعماله فله التيمم والصلاة في الوقت من غير إعادة، منهم الأوزاعي وأصحاب الرأي و ابن تيمية ..

قال المصنف رحمه الله: [ وقد احتج الجمهور لمذهبهم بالحديث الثابت.. ] من حديث حذيفة [ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ما لم يجد الماء ).. ]، فهنا إذا وجد الماء فإنه ليس له أن يتيمم بالتراب، وهذا الحديث الذي استىدل به الجمهور، كما يقول المؤلف: محتمل لكلا المذهبين (مالم يجد الماء) فلا يستصحب التيمم، (ما لم يجد الماء) فلا يبتدئ الطهارة بالتيمم مرة أخرى.

[ والحديث محتمل، فإنه يمكن أن يقال: إن قوله: (ما لم يجد الماء)، يمكن أن يفهم منه: فإذا وجد الماء انقطعت هذه الطهارة وارتفعت، ويمكن أن يفهم منه: فإذا وجد الماء لم تصح ابتداء هذه الطهارة. .] فهو محتمل للأمرين [ والأقوى في عضد الجمهور هو حديث أبي سعيد الخدري ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك )، فإن الأمر محمول عند جمهور المتكلمين على الفور، وإن كان أيضاً قد يتطرق إليه الاحتمال المتقدم فتأمل هذا ].

ويميل الشوكاني إلى أن التيمم يرفع الحدث رفعاً دائماً، وأنه إذا وجد الماء بعد التيمم فلا يمسه بشرته، لا في أكبر ولا في أصغر، بل يستمر على تيممه، فيصلي الصلوات وهو يحمل الماء معه، إلى أن يحدث حدثاً جديداً.

وهذا نص الشوكاني قال في صفحة مائة وسبع وثلاثين في كتابه السيل: (إن التيمم لا ينقض مطلقاً بوجود الماء، وأنه إذا وجد الماء فليس عليه إعادة الغسل والوضوء، وإنما يجبا عليه لحدث جديد).

ولهذا لما صعب على الشوكاني حمل الحديث الذي في الصحيحين وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( عليك بالصعيد فإنه يكفيك، ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وجد الماء أعطى الرجل الذي أصابته الجنابة إناءً من ماء، وقال: اذهب، فأفرغه عليك ).

ثم قال الشوكاني : (وهذا ظاهر في أن الغسل للجنابة التي تيمم لها)، إلا أنه بعد هذا الكلام تكلف، بعدما أورد هذا الحديث فقال: هذا الحديث ظاهر على أنه يغسل للجنابة التي تيمم لها لكن رد ذلك وقال: نجمع بين الأحاديث، ونحمل هذا على أن المراد به غسل المني من أعضائه.

والحاصل أنه -رحمه الله- بعد ذلك تكلف، وحمل الحديث وما في معناه إلى أن الغسل لما تلوث من بدنه من المني، والمتأمل في هذا يرى بعد ما ذهب إليه الشوكاني ، وأنه لو كان الغسل للمني لأمره بغسله فقط، ولم يأمره بإفاضة الماء على جميع بدنه.