سورة النور - الآية [27]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء الثامن والخمسين في الآية السابعة والعشرين من سورة النور؛ قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27].

القراءات الواردة في الآية

قول الله عز وجل: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً[النور:27] قرأها حفص و ورش و أبو عمرو بن العلاء و أبو جعفر ويعقوب بضم الباء: (بُيوتاً)، وقرأها الآخرون: بكسر الباء اتباعاً للياء: (لا تدخلوا بِيوتاً غير بيوتكم).

سبب نزول الآية

وسبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير وغيره، عن عدي بن ثابت رضي الله عنه: أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله! إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل عليّ، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت الآية: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27].

فقال أبو بكر رضي الله عنه: ( يا رسول الله! أفرأيت الخانات والمساكن في طريق الشام ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29] ).

معاني مفردات الآية

يقول الله عز وجل: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، الاستئناس هو: الاستعلام والاستخبار، أي: حتى تستعلموا من في البيت، والمعنى: حتى تعلموا أن صاحب البيت قد علم بكم وأذن لكم ورغب في دخولكم، فالأنس معناه: العلم، ومنه قول الله عز وجل: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء:6]، أي: علمتم، وقول الله عز وجل على لسان موسى: إِنِّي آنَسْتُ نَاراً [طه:10]، أي: أبصرت.

قال قتادة رحمه الله: هو الاستئذان ثلاثاً.

وقال بعض أهل التفسير ومنهم العلامة ابن عاشور ، والأستاذ سيد قطب : الاستئناس هاهنا من الأُنس الذي هو ضد الوحشة، أي: حتى تطلبوا أن يأنس بكم صاحب البيت وتنتفي الوحشة والكراهية لدخولكم.

وقوله: وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، بأن تقولوا: السلام عليكم.

وقوله: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:27]، (ذلكم) أي: الاستئناس والاستئذان.

وقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27]، أي: لعلكم تذكرون أن الاستئذان خير لكم فتتعظوا وتعتبروا.

المعنى الإجمالي للآية

هذه الآية المباركة معناها الإجمالي: أن الله عز وجل جعل هذه البيوت سكناً، كما قال سبحانه في سورة الامتنان؛ في سورة النحل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ [النحل:80].

فلما كانت البيوت سكناً يجد المرء فيها راحته، ويتخفف من ثيابه، وينبسط إلى أهله، وتسكن روحه، وتطمئن نفسه، ويأمن على عورته في بيته أمر الله عز وجل عباده بأن يرعوا حرمة تلك البيوت، فناداهم: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا، وذلك بأن يقول أحدكم: السلام عليكم، أأدخل؟ السلام ثم الاستئذان، والواو في الآية ليست للترتيب، ومعناها: حتى تسلموا وتستأذنوا، فيقول أحدكم: السلام عليكم، أأدخل؟ وقد ثبتت بذلك الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ[النور:27]؛ لأنكم لا تدرون ربما تقع أعينكم على ما لا يحب رب البيت أن يراه أحد، وكما يقول سيد قطب رحمه الله: ليست العورات عورات الجسد وحدها؛ بل هناك عورات الطعام وعورات الأثاث وعورات المشاعر النفسية، ربما يكون الرجل مغاضباً لأهله، مغاضباً لأولاده ويكون جو البيت غير مناسب لزيارة فلان من الناس، فمن أجل هذا كله شرع الله الاستئذان؛ من أجل أن يؤدي بعضنا حق بعض.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الاستئذان من أجل البصر )، أي: لئلا يقع بصر الزائر على ما لا يحب المزور أن يراه، فإن البيت للإنسان بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده.

تطبيق رسول الله وصحابته لهذه الآية

المسلمون الذين نزلت عليهم هذه الآية طبقوها وعملوا بها، وعلى رأس هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة ، فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ) -يعني: رد بصوت خافت بحيث إن النبي عليه الصلاة والسلام لا يسمع- ( حتى سلم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، ورد سعد ثلاثاً دون أن يسمعه، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه سعد فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا وهي بأذني ولقد رددت عليك ولم أُسمِعك أردت أن أستكثر من سلامك وبركتك، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيباً فأكل نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ قال: أكل طعامكم الأبرار، وأفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة )، قال الحافظ رحمه الله: وقصة سعد هذه قد أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد بن عبادة مطولة بمعناه.

أيها الإخوة الكرام! من تطبيقات هذه الآية: أن أبا موسى رضي الله عنه استأذن على عمر ثلاثاً فلم يؤذن له فانصرف، ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن ائذنوا له، فطلبوه فلم يجدوه، فلما جاء بعد ذلك قال له عمر : ما أرجعك؟ ما الذي حملك على الرجوع؟ قال: إني استأذنت ثلاثاً فلم يؤذني لي، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف )، فقال عمر لتأتيني على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضرباً، فذهب أبو موسى رضي الله عنه إلى ملأ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر ، فقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا، قم يا أبا سعيد ! فقام أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فشهد عند عمر بذلك، فقال عمر : ألهاني عنه الصفق بالأسواق.

إذاً: الاستئذان ثلاث فإن أذن لأحدكم وإلا فليرجع، وقد بلغ إحساس المسلمين بعظم هذه الآية وبركة تطبيقها مبلغه.

أيها الفضلاء! هذه الآية المباركة تضمن حفظ الأعراض، وسلامة القلوب في مجتمع المسلمين، وهي في سورة النور التي عنيت بحفظ الأعراض من أولها إلى آخرها، ففي أولها: الكلام عن الزنا وحد الزنا، ثم الكلام عن القذف وقصة الإفك، ثم يأتي الكلام عن الاستئذان، ثم يأتي الكلام عن غض البصر، وحفظ الفرج، وأمر النساء بالحجاب، ثم في ختام السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ [النور:58]، فالسورة معنية ببيان كيف نحفظ أعراضنا، وكيف نستر عوراتنا، وكيف تسلم قلوبنا.

قول الله عز وجل: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً[النور:27] قرأها حفص و ورش و أبو عمرو بن العلاء و أبو جعفر ويعقوب بضم الباء: (بُيوتاً)، وقرأها الآخرون: بكسر الباء اتباعاً للياء: (لا تدخلوا بِيوتاً غير بيوتكم).

وسبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير وغيره، عن عدي بن ثابت رضي الله عنه: أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله! إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل عليّ، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت الآية: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27].

فقال أبو بكر رضي الله عنه: ( يا رسول الله! أفرأيت الخانات والمساكن في طريق الشام ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29] ).