مواقف من الصدق


الحلقة مفرغة

الحمد لله العزيز الغفار، مقلب القلوب والأبصار، أحمده سبحانه وأشكره، ومن مساوئ عملي أستغفره، نعمه تترى، وفضله مدرار.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رفع الأغلال والآصار، وكشف -بإذن ربه- الغشاوة عن البصائر والأبصار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه المصطفَيْن الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.

أما بعد:

يقول الحق تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِه وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد:31].

عباد الله: إن البلايا والمِحَن محكٌّ يكشف عما في القلوب، ويُظهر مكنونات الصدور، ينتفي بالابتلاء الزيف والرياء، وتنكشف الحقيقة والصدق معه بجلاء.

إنها تطهير ليس معه زيف ولا دَخَل، وتصحيح لا يبقى فيه غبَش ولا خلل.

إنها تفتح في القلوب منافذَ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه إلا حين تتعرض للابتلاء، وعند الابتلاء يتميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط.

إن الابتلاء محكٌّ لا يخطئ، وميزان لا يظلم، والرخاء في ذلك كالشدة، والمؤمن الصادق ثابت في السراء والضراء.

قد يظن الإنسان في نفسه قبل البلاء القدرة والتجرد والنزاهة؛ فإذا نزل البلاء، ووقعت الواقعة تبيَّن من بكى ممن تباكى، وأدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، ومن الخير له أن يعتبر ويتَّعِظ، ويستدرك قبل أن يكون عبرة، ويقع ضحية: وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران:145].

بالابتلاء تستيقظ النفوس، وترقُّ القلوب بعد طول غفلة؛ فيتوجَّهُ العبد لربه، ويتضرع إليه، ويطلب رحمته وعفْوَه، ويُعلن تمام العبودية له وحده، والتسليم الكامل لله رب العالمين لا سواه، وكفى بالتضرُّع دليلاً على الرجوع إلى الله ولجوءاً إليه وأملاً في الفرج من عنده، وحِرْزاً واقياً من الغفلة.

فلا يُرجَى في الشدائد إلا الله، ولا يُقصَد في المُلمِّات سواه، لا ملاذ إلا بجانبه، ولا تُطلَب الحوائج إلا من بابه؛ المَفْزَع إليه، لا سند إلا سنده، ولا حول ولا قوة إلا به، لا ملجأ منه إلا إليه، ما شاء كان، وما لم يَشَأْ لم يكن، هو المتصرف في الملك، لا معقِّب لحكمه، لا إله إلا هو.

ومن تصفَّح الكتب وجد فيها من الابتلاءات وصدق الصادقين خبراً، ووجد من تدليس المنافقين والمُلْتَوِين في السِيَر عِبَراً.

اقرءوا التاريخ إذ فيه العِبَر     ضلَّ قوم ليس يدرون الخبر

عباد الله: ما أجمل الحديث عن القِيَم! وما أعظم الكلام عن المُثُل! وأروع من ذلك أن ترى المُثُل رجالاً، والأخلاق فعالاً.

ألا فلنقف معكم دقائق موقف صدق من مواقف الصحب البرَرَة.

إن قلم الكاتب ولسان الخطيب -مهما أوتيَ من براعة وبلاغة- عاجزان عن وصف تلك الحادثة، عن وصفها في مِحنتها وابتلاءاتها، عن وصفها في صدق رجالها وإيمان أصحابها.

فيها ابتلاء بهجر الأقربين، وبلاء بتزلُّف المناوئين والكافرين.

قصة كلها عِبَر وعَبَرات، وفكر ونظرات، ودموع حرَّاء وحسرات.

قصة تحكي مواقف الصدق والصبر في صحب محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم مثال المتانة في البناء، وأنموذج الصدق في اللهجة، والإخلاص في الطاعة، والقدوة في الصبر على البلاء، والشكر على السراء.

إنها قصة الثلاثة الذين خُلِّفُوا في غزوة تبوك ، يوم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم.

فلا إله إلا الله! من آيات وأحداث تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب. هاهو الإمام أحمد شيخ أهل السنة ، وإمام هذه الأمة، كان لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات.

وحديث كعب في تفصيل أخبارها وأحداثها مُبكٍ مُحزِن مُوجِد لمن كان له قلب.

هاهو صلى الله عليه وسلم يستنفر المسلمين لملاقاة الروم يوم بلغه إعدادهم للعدوان على أهل الإسلام، يوم أحسُّوا بعلوِّ شأن الإسلام في الجزيرة منبثقاً من بين جبالها، منطلقاً من صحاريها.

يوم فُتِحَت مكة فأخذت الأفواج تِلْوَ الأفواج تدخل في دين الله، فتحرك الروم بعسكرهم وفكرهم ودسائسهم، وعندها استنفر صلى الله عليه وسلم أصحابه؛ فكان التهيؤ في أيام قائظة، وظروف قاسية، وجهد مضنٍ، ونفقات باهظة؛ إنه جيش العسرة، وإنها لغزوة العسرة. وما أدراكم ما ذاك الجيش، وما تلك الغزوة!

وصْفُها في كتاب الله استغرق آيات طوالاً، استغرق في أنباء الطائعين والمثبِّطين، والمخلصين والقاعدين.

يجيء فيها المُعذِّرون ليؤذَن لهم، ويتولى البكاءون بفيض دموعهم حَزَناً ألا يجدوا ما ينفقون.

تخلف كعب عن غزوة تبوك

ألا فاسمعوا -رحمكم الله- إلى وصفٍ صادقٍ لقصة الخطيئة والتوبة من كعب .

اسمعوا لوصفٍ صادقٍ لقصة الخطيئة من كعب أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا -رضوان الله عليهم وعلى الصحابة أجمعين-: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111].

والقصة في الصحيحين مثبتة، وراويها كعب بنفسه؛ فها هو كعب يقول: {وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن -قط- أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله! ما جمعت قبلها راحلتيْن -قط- حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلى عندها للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أُهبة غزوهم، أخبرهم بوجهتهم التي يريد، والمسلمون يومها مع رسول الله كثير، فقلما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله.

غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة يوم طابت الثمار، ويوم طاب الظلال. فها هو يتجهز والمسلمون معه.

يقول كعب : وطفقت أغدو لكي أتجهَّز معه، فأرجع، ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرع الجيش، وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل، فأُدركُهم فيا ليتني فعلت}. ويأخذ ذلك من كعب مأخذه، ويبلغ الحزن مبلغه، وتبلغ المحاسبة مبلغها. لسان حاله يقول:

ندمت ندامة لو أن نفسي تُطاوِعني     إذاً لقطعت خمسي

ولسان مقاله يقول: {فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني وآلَمني ألا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء والذين لا يجدون ما ينفقون، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال -وهو جالس بين صحبه-: ما فعل كعب ؟ فقال رجل من بني سلمة -من عشيرة كعب -: يا رسول الله! حبسه برداه، ونظرُه في عِطفيْه، ويذبُّ عن عرضه معاذ -رضي الله عنه- فيقول: بئس ما قلت، والله يا رسول الله! ما علمنا عنه إلا خيراً؛ فسكت صلى الله عليه وسلم.

يقول كعب : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك ، حضرني بثِّي وحزني وغمي وهمي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بِمَ أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي؛ فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً راح عني الباطل وانزاح، حتى عرفت أني لن أنجوَ منه بشيء إلا بالصدق، فأجمعت صدقه صلى الله عليه وسلم، وجاء المُخلَّفون بأعذارهم، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم ظاهرهم، ووكَل سرائرهم إلى من لا تخفى عليه خافية}.

سبب تخلف كعب عن غزوة تبوك

يقول كعب : {فجئت وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتبسم تبسُّم المغضب، ثم قال: تعال. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلَّفك يا كعب ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهراً؟ -أي اشتريت مركوباً- قال: قلت: يا رسول الله! والله! لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أُعْطيتُ -والله- جدلاً، لكني -والله- قد علمت لَئِنَّ حدثتك -اليوم- حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله أن يُسخطَك عليَّ، وإن حدثتك حديث صدق تَجِد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، والله! ما كان لي من عذر، والله! ما كنت -قط- أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك}.

فلا إله إلا الله! صِدْقٌ ووضوحٌ وصراحةٌ، وهكذا كان صحب محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون:

والمؤمنون على عناية ربهم يتوكلون     لا خوف يرهبهم ولا هم في الحوادث ييئسون

عندها جاء إليه رجال من بني قومه يريدون منه الاعتذار كما اعتذر المخلفون.

يقول كعب : {فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأُكذِّب نفسي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علمت بخبر الرجليْن الصالحيْن من أهل بدر ، واللذيْن صدقَا، فقلت: لي فيهما أسوة وهما هلال الواقفي ، ومرارة بن الربيع}.

مقاطعة الصحابة للذين خلفوا

وأُعلِنَت المقاطعة؛ بل أُعلِنت التربية المحمدية؛ وأعلن الهجر والتأديب من مربي البشرية صلى الله عليه وسلم.

يقول كعب: {فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثةَ من بين كل من تخلَّف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض؛ فما هي بالأرض التي أعرف، لبثنا على ذلك خمسين ليلة، أما صاحبايَ فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق -فلا والله ما يكلمني أحد- وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فلا والله لا أدري هل حرَّكَ شفتيْه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه صلى الله عليه وسلم وأسارقُه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا الْتفتُّ نحوه أعرض عني}.

طالت على كعب الجفوة، وعظم الابتلاء، وضاقت عليه المسالك، فقصد ابن عم له اسمه أبو قتادة في بستان له، يقول: {وتسوَّرْت جدار حائط أبي قتادة -وهو من أحب الناس إليَّ- فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام. قال: قلت: يا أبا قتادة أنشدُك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت،قال: فكررت المناشدة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فقال: الله ورسوله أعلم. عندها فاضت عيناي، وولَّيت حتى تسورْتُ الجدار، وجعلت أهيم على وجهي حتى دخلت السوق.

وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذ بنبطي من أنباط أهل الشام يسأل أهل السوق: من يدل على كعب ؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من مَلِك غسَّان؛ فإذا فيه: قد بلغني أن صاحبك قد جَفَاك، ولم يجعلك الله بدار هوان؛ فَالْحَقْ بنا نُواسِك. قال: فلما قرأتُها قلت: هذا أيضاً والله من البلاء والامتحان والاختبار، فقصدت التَّنور، فأوقدته بها}.

يا أيها المسلمون: هذا هو ديدن أعداء الله في الغابر والحاضر، يتحسسون الأنباء ويترصدون المداخل، وكم من أقدام في مثل هذا زلَّت، وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت.

أما كعب فَيَمَّمَ بها التنور، فأوقده بها.

ولا يزال البلاء به -رضيَ الله عنه- حتى جاءه رسول من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره باعتزال امرأته.

يقول كعب : { فقلت: أُطلِّقُها أم ماذا أفعل؟ قال: لا. بل اعتزلها فلا تقربها. فقلت لها: الْحقي بأَهلِك حتى يقضي الله في هذا الأمر }.

نزول التوبة على الثلاثة الذين خلفوا

وبعد خمسين ليلة من الهجر والمقاطعة يقول كعب : {بينا أنا أجلس على الحالة التي ذكر الله تعالى في كتابه قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رَحُبَتْ حتى لا أجد من يُكلمني، بل ولا من يردُّ عليَّ السلام، قد صليت صلاة الفجر، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، وإذا بي أسمع صوت صارخ بأعلى صوته على جبل سِلْع : يا كعب بن مالك ! أبشر. يا كعب بن مالك ! أبشر. قال: فوالله ما ملكت إلا أن أخرَّ ساجداً باكياً شكراً لله تعالى، وقلت: قد جاء فرج}.

فَلرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى     ذرعاً وعند الله منها المَخْرَجُ

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها     فُرِجَت وكنت أظنُّها لا تُفرج

وتتنزل التوبة على كعب وعلى صاحبيْه، وتأتي البشرى، وأيُّ بشرى يا عباد الله؟ بشرى بحسن العقبى، بشرى بالعودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون الأوسمة والجوائز.

يقول كعب : { فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبَيَّ فكَسَوْتُهما إياه لبشراه لي، والله ما أملك غير هذيْن الثوبيْن، فاستعرت ثوبيْن ولبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك. قال كعب : فدخلت المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنَّأني، والله! ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، والله! ما أنساها لـطلحة بن عبيد الله . قال: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور، كأنه فلقة قمر: أبشرْ يا كعب ، أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك.

فقلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله عز وجل، ثم تلا قول الله : لَقَد تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ منْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:117-118] }.

وفاز الصادقون بصدقهم، وحبط عمل الكاذبين، واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين.

يا أمة الإسلام: هؤلاء هم رجال الصدق، رجال محمد صلى الله عليه وسلم، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، خُرِّجُوا من مدرسة النبوَّة، صِدْق في الحديث، وصدق في المواقف، وصٌبر عند اللقاء، واعتراف بالخطيئة، قبول في حال الرضا والغضب من غير تنميق عبارات من أجل تلفيق اعتذارات؛ فهل عقمت النساء أن يلدْن في هذا العصر آلافاً من مثل أولئك الصادقين؟

لا. لم تعقُم النساء، لكن الشباب والشيب والنساء في حاجة إلى تربية إسلامية تغرس في نفوسهم الصدق والإخلاص، وتُبعد عنهم النفاق والرياء والالْتواء، وتقول لهم بكل عزة:

قد اختارنا الله في دعوته     وإنا سنمضي على سنته

فمنَّا الذين قضوا نحبهم     ومنا الحفيظ على ذمته.

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم     إن التشبه بالكرام فلاح

اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً صادقين مخلصين يقولون الحق وبه يعدلون.

اللهم انصر من نصر الدين، واجعلنا من أنصاره.

اللهم أقِم دولة الإسلام في كل مكان، وارزقنا اللهم فيها العزة والقوة والمنعة تحت لا إله إلا الله محمد رسول الله.

اللهم انصر دينك وكتابك وأولياءك، إنك سميع مجيب الدعوات.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

ألا فاسمعوا -رحمكم الله- إلى وصفٍ صادقٍ لقصة الخطيئة والتوبة من كعب .

اسمعوا لوصفٍ صادقٍ لقصة الخطيئة من كعب أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا -رضوان الله عليهم وعلى الصحابة أجمعين-: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111].

والقصة في الصحيحين مثبتة، وراويها كعب بنفسه؛ فها هو كعب يقول: {وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن -قط- أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله! ما جمعت قبلها راحلتيْن -قط- حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلى عندها للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أُهبة غزوهم، أخبرهم بوجهتهم التي يريد، والمسلمون يومها مع رسول الله كثير، فقلما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله.

غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة يوم طابت الثمار، ويوم طاب الظلال. فها هو يتجهز والمسلمون معه.

يقول كعب : وطفقت أغدو لكي أتجهَّز معه، فأرجع، ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرع الجيش، وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل، فأُدركُهم فيا ليتني فعلت}. ويأخذ ذلك من كعب مأخذه، ويبلغ الحزن مبلغه، وتبلغ المحاسبة مبلغها. لسان حاله يقول:

ندمت ندامة لو أن نفسي تُطاوِعني     إذاً لقطعت خمسي

ولسان مقاله يقول: {فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني وآلَمني ألا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء والذين لا يجدون ما ينفقون، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال -وهو جالس بين صحبه-: ما فعل كعب ؟ فقال رجل من بني سلمة -من عشيرة كعب -: يا رسول الله! حبسه برداه، ونظرُه في عِطفيْه، ويذبُّ عن عرضه معاذ -رضي الله عنه- فيقول: بئس ما قلت، والله يا رسول الله! ما علمنا عنه إلا خيراً؛ فسكت صلى الله عليه وسلم.

يقول كعب : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك ، حضرني بثِّي وحزني وغمي وهمي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بِمَ أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي؛ فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً راح عني الباطل وانزاح، حتى عرفت أني لن أنجوَ منه بشيء إلا بالصدق، فأجمعت صدقه صلى الله عليه وسلم، وجاء المُخلَّفون بأعذارهم، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم ظاهرهم، ووكَل سرائرهم إلى من لا تخفى عليه خافية}.