خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/37"> الشيخ علي بن عبد الخالق القرني . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/37?sub=63647"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
صفحات مطوية
الحلقة مفرغة
الحمد لله قَدَّم من شاء بفضله، وأخر من شاء بعدله، لا يعترض عليه ذو عقل بعقله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله. هو الكريم الوهاب، هازم الأحزاب، ومنشئ السحاب، ومنزل الكتاب، ومسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب. الواحد الأحد العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد والتمجيد، ليس له مثل ولا نديد، هو المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، جل عن اتخاذ الصاحبة والولد، ولم يكن له كفواً أحد.
لم يزل حكيماً قديراً، عليماً خبيراً، سبق الأشياءَ علمُه، ونفذت فيها إرادته، ولا يعزب عنه مثقال ذرة سبحانه وبحمده.
لم يلحقه في خلق شيء مما خلق كلال ولا تعب، وما مسه لغوب ولا نصب، خلق الأشياء بقدرته، ودبرها بمشيئته، وقهرها بجبروته، وذللها بعزته، فذلت له الرقاب، وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب، وقامت بكلمته السماوات السبع والأرض المهاد، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جو السماء السحاب، وقامت البحار، وهو الله الواحد القهار، مغشي الليل النهار، خضع لعظمته المتعززون المتكبرون، وخشع له المترفعون، واستكان لربوبيته المتعظمون، ودان طوعاً وكرًها له الخلق أجمعون.
نحمده على حَزن الأمر وسهله، ونحمده كما حمد نفسه، وكما حمده الحامدون من جميع خلقه.
ونستعينه استعانة من فوَّض أمره إليه، وأقر أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
ونستغفره استغفار مقرٍّ بذنبه، معترف بخطيئته.
ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. شهادة عبده، وابن عبده وابن أَمَته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته؛ إقراراً بوحدانيته، وإخلاصاً لربوبيته، فهو العالم بما تبطنه الضمائر، وما تنطوي عليه السرائر، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شئ عنده بمقدار، لا يوارى عنه كلمة، ولا يغيب عنه غائبة.
وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59] ونشهد أن محمداً عبده ونبيه ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، وجاهد في الله حق الجهاد، وقاتل أهل البغي والزيغ والعناد والفساد؛ حتى تمت كلمة الله، وقطع دابر الفساد، صلوات الله عليه وسلامه -من قائد إلى الهدى- وعلى آل بيته الطاهرين، وعلى أصحابه المنتخبين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، ومن سار على نهجهم واقتدى بهديهم من الفقهاء والزهاد والدعاة العاملين المشمرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها مليون آمينا |
أما بعــد:
أحبتي في الله: لقاؤنا الليلة معكم يتجدد بعد زمن في هذه الكلمات القلائل المُعَنْوَنِ لها كما رأيتم وسمعتم: (بصفحات مطوية) أودعتها طرفاً من حياة بعض العلماء الأفذاذ، ونتفاً من حرص طلاب العلم على العلم، ونادراً من ثبات أكثر أهل الملة، ونبذاً من نصح الأمة لدينها، وشذراً من زهد العلية الأجِلَّة، وطيفاً من قوة البرهان والحجة مع السير على المحجة.
هي باقة من مكارم الآباء تهدى إلى الأبناء، وطاقات علمية نادرة، وعبقريات فذة مدهشة، هي لأهل العلم تذكرة، وللعامة والخاصة تبصرة، نرجو أن ينعش بها العليل، ويشحذ بها الكليل، ويُبعث الوسنان، ويُوقظ الهاجع، ويُنشر المطوي، ويُفتح المغلق، وينهض المقعد، ويمشي الكسيح.
أضعها بين أيديكم كالمائدة تختلف عليها أصناف الأطعمة لاختلاف شهوات الآكلين، وأنا لا أدعي -معاذ الله- أني أتيت فيها بجديد، ولا أدعي أني أتيت بخفي أو دقيق، فهي أشهر من أن تذكر، ما أظن أحداً منكم إلا وقد سمعها. جمعتها من كتب السير والتراجم، مجتهداً -فقط- باختيار اللفظ المناسب للموقف؛ فجاءت مشكلة المباني، مختلفة المعاني، راجياً أن تنبع من بين الجوانح لتصل إلى الجوانح وتظهر على الجوارح، فإذا مر بك -يا أخي- ما لا يعجبك فلا تصعِّر خدك، ولا تعرض بوجهك، ولا تسُلّ لسَانَكَ، ولا تجلب بخيلك وَرَجِلَك، وخذ من المائدة ما يعجبك واتهم فهمك.
فكَمْ مِنْ عائبٍ قوْلا صَحِيحاً وآفَتُهُ منَ الفَهْمِ السَّقِيمِ |
ولا يصدنك عن الحكمة قائلها؛ فقد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير الرامي، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفْقَهُ.
اعْمَلْ بعلمِي وغُضِّ الطَّرْفَ عَنْ زَلَلَي يَنفَعْكَ قَوْلِي ولا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي |
لقد خففت وإن كنت أكثرت، واختصرت وإن كنت أطلت، وتوقيت ما يتوقاه من رضي من الغنيمة فيها بالسلامة، ومن بعد الشقة بالإياب، لكني لم أجد بداً من الوقوف على ما أودعته هذه الصفحات؛ إذ لا يسع الصمت؛ ففي الصمت عِيٌ كعي الكَلِم، فأسأل الله بعزته وقدرته أن يمحو ببعض بعضاً، ويغفر بخير شراً، وبجد هزلاً، ثم يعود علينا بفضله، ويتغمدنا بعفوه، ويعيذنا بعد طول الأمل فيه، وحسن الظن به من الخيبة والحرمان.
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول والعمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن، ونعوذ بك من العُجْب لما نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر، ونعوذ بك من العي والحصر.
فالقولُ ذُو خَطَل إذَا مَا لَمْ يَكُنْ ربِّي مُعِينِي |
أعذني ربِّ مِنْ حَصَرٍ وَعِيٍّ ومن نفسٍ أُعَالِجُهَا عِلَاجاً |
اللهم إنا نستعينك ونتوكل عليك، ونفر من حولنا وقوتنا إلى حولك وقوتك، لا إله إلا أنت، لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.
فيم يختصمون؟
قال عمر: لا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيمَ يختصمون؟ ففيمَ يختصمون؟ هنيئاً، ثم هنيئاً، ثم هنيئاً لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك الجمع.
اللهم كما حرمناه في هذه الحياة فأقر أعيننا برؤيتهم في جنات النعيم، إخواناً على سرر متقابلين.
أولئك النَّاسُ إنْ عُدُّوا وإنْ ذُكِرُوا وما سِوَاهُم فَلَغْوٌ غَيْرُ مَعْدُودِ |
واحرَّ شَوقِي إليهِم كُلَّمَا هَجَست نفسِي فنفسي بهمْ مجنونة الكَلَفِ |
إنِّي سَئِمْتُ هَوَى الدُّنْيَا وزَهْرَتَهَا وملَّ قَلبِي ذُرَا رَوْضَاتِها الأُنَفِ |
وقد بلوتُ لياليهَا وأَنهُرَها فَتَىً وحُزْت لآليها منَ الصَّدَفِ |
فلم أجدْ غيرَ دربِ اللهِ دربَ هُدَى وغيرَ ينبوعِهِم نبعاً لمُغترِفِ |
كَرِّرْ عَليَّ حدِيثَهُم يَا حادِي فحدِيثُهُم يَجْلُو الفؤادَ الصَّادِي |
شامة في جبين التاريخ
روى أهل السير: كـالذهبي وابن حجر وغيرهم: أن عمر رضي الله عنه وجه في السنة التاسعة عشرة للهجرة جيشاً لحرب الروم، وفتح بلادهم للإسلام، وقد علم قيصر الروم من أخبار جند المسلمين، وما يتحلون به من صدق إيمان، ورسوخ عقيدة، واسترخاص للنفوس في سبيل الله، وصبر وبذل للمُهَج والأرواح في سبيل الله ما علم.
علم ما أذهله وما أدهشه وما أشدهَهُ! فأمر رجالاته أن إذا ظفروا بأسير من المسلمين أن يبقوا عليه حياً ويأتوه به، وشاء الله جل وعلا أن يقع في الأسر عدد من المسلمين من بينهم صحابي جليل قد أدرك معنى العبودية لله عز وجل فتخلص من رقِّ المخلوقين، فلا تراه إلا وهو يصوم النهار، ويتلو القرآن، يقوم في جنح الليل، ويستغفر بالأسحار، فقليلاً ما يهجع، راقبوه، فرأوا من تقاه وصلاحه وصلابته ورجولته وعقله ورزانته ما أدهشهم، ورأوا إن كسبوه لدينهم أنهم حققوا نصراً عظيماً، وكسباً عظيما، فذكروه لقيصرهم.
فقال: ائتوني به، فجاءوا به فكان الخُبْر أعظم من الخَبَر، وجاوزت المعاينة الخبر، (وما راءٍ كمن سمع) كما قيل.
نظر إليه قيصرهم فرأى فيه عزة واستعلاء المؤمن، ونجابة الأبطال، فبادره قائلا: إني أعرض عليك أمراً، قال: ما هو؟ قال: أن تَتَنَصَّر، فإن فعلت خلَّيت سبيلك وأكرمت مثواك، فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات هيهات! إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني إليه.
هيهات! أنَّى لقلوب خالطتها بشاشة الإيمان أن تعود إلى ظلمات الكفر والضلال مهما كانت الإغراءات، أنَّى لقلوب عرفت النور بحق أن تتدثر بالظلام مرة أخرى مهما كانت المغريات، يفشل العرض الأول من هذا القيصر ويتحطم على صخرة الإيمان؛ لأن هذا الرجل امتلأ قلبه بعبودية الله، فلم يبقَ في قلبه متسعٌ لغير تلك العبودية.
بدأ بالإغراءات، فقال قيصرهم: لو تنصرت شاطرتك ملكي، وقاسمتك سلطاني.
يريدون أن يبيع دينه بعرض من الدنيا، يريدون أن يُصرف عن عبودية الله إلى رق المركز الذي طالما سال له لعاب كثير من الناس، فضيعوا حقوق الله في سبيل نيله، وباعوا دينهم بعرض من الدنيا.
هربوا من الرقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفسِ والشَّيطانِ |
فقال رضي الله عنه مبتسما في قيده: اخسأ عدو الله، والذي لا إله إلا هو! لو أعطيتني جميع ما تملك وما تملكه العرب والعجم على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما قبلت. الله أكبر! يتحطم الإغراء بالمركز على صخور الإيمان الشُّمِّ في نفس ذلك الصحابي، لماذا؟ لأنه طالب جنة، ولا يمكن أن يغرى بما هو دون الجنة، وليس بأيديهم ما هو أعلى من الجنة ليغروه به، فأنى لهم أن يصلوا إليه، إنها سلعة الله، غالية جد غالية، مهرها بذل النفس والنفيس لمالكها الذي اشتراها من المؤمنين، وايم الله! ما هزلت حتى يستامها المفلسون المعرضون الجبناء، وايم الله! ما كسدت حتى يبتاعها نسيئة وتأجيلاً المعسرون المفلسون، لقد أقيمت للعرض في السوق لمن يريد، وقيل: هل من مزيد؟ فلم يرضَ لها بثمن دون حبل الوريد.
عندها قال قيصرهم: ردوه إلى الأسْرِ، فردوه، وطلب من حاشيته وبطانته الاجتماع فوراً لتداول الرأي في طريق يكسب به هذا الفتى ليكون من جند النصارى -وحقاً إنه كسب-
وبعد المداولة استقر الرأي على أن الشهوة طريق مجرب ناجح صُرِفَ به الكثير عن دينه ومبادئه وثوابته، فلكم رأوا ولكم رأينا ولكم نرى من أناس يعبدون الشهوة، فينفقون أموالهم في الشهوة المحرَّمة؛ لتكون عليهم حسرة وبئس الإنفاق. يسافرون وراء الشهوة المحرمة وبئس السفر والركب، يبيعون دينهم في سبيل الشهوة المحرمة وخسر البيع، والنار حفت بالشهوات وهم يتهافتون إليها وساء التهافت، عبَّاد شهوة وبئس العبيد.
قال قيصرهم: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي، فجيء بملكة جمال البلاد -كما يقولون- وأغراها بالأموال العظيمة إن استطاعت أن توقعه في الفاحشة؛ لأن الفاحشة طريق إلى ترك دينه، ولك أن تتصور -أخي الحبيب- ما حال هذا الرجل، شاب في كامل فتوته ورجولته وشبابه وقوته وفوق ذلك غائب عن أهله منذ شهور، وهذا عامل يجعلهم يتفاءلون، فأدخلوها عليه، فتجردت من ملابسها بعد تجردها من الحياء المترتب على التجرد من الإيمان، ولا ذنب بعد كفر، فقامت تعرض نفسها أمامه، ثم ترتمي في أحضانه، فيهرب منها قائلا: معاذ الله، معاذ الله، فتطارده ويتجنبها، ويغمض عينيه؛ خشية أن يُفتن بها، ويقرأ القرآن ويستعيذ بالرحمن ولسان حاله ومقاله: رب القتل أحب إليَّ مما تدعوني إليه، وإلا تصرف عني كيدها أصْبُ إليها وأكن من الجاهلين.
تتابعه من جهة إلى جهة، وهو يستعيذ بالله الذي ما امتلأ قلبه إلا بعبوديته حتى يئست منه، نَقَلَة الأخبار على الباب من شياطين الإنس ينتظرون خبر فتنة ذلك الصحابي ووقوعه في الفاحشة لينقلوه إلى الآفاق شماتة في الإسلام وأهله، وإعلاناً لانتصارهم في صرفه عن دينه، ولعل غيره يتبعه في ذلك: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُم إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] وإذا بها تصيح: أخرجوني أخرجوني، فأخرجوها قد تغير لونها، إذ قد فشلت مهمتها، كرتها خاسرة عاهرة فاجرة، سألها مَن عند الباب من نقلة الأخبار:ما الذي حدث؟ هاتِ البشرى، يريدون أن يطيروا بالخبر.
قالت: والله ما يدري أأنثى أنا أم ذكر، ووالله ما أدري أأدخلتموني على بشر أم على حجر.
الله أكبر! الإغراء بالشهوة يفشل أمام عبودية الله التي ما تركت متسعاً لغيرها في قلبه. كيف يرضى طالب الحور العين بعاهرة فاجرة، ولذة قد يعقبها الهاوية؟!
كيف يرضى وقد وُعِدَ بمن لو اطلعت إحداهن إلى أهل الأرض لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً ولأضاءت ما بينهما؟!
كيف ونصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها؟!
كيف وقد وعد بمن ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة؟!
كيف وقد وعد بمن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب؟!
كيف وقد وعد بمن يكون عليها سبعون ثوباً ينفذ البصر حتى يرى مخَّ ساقها من وراء اللحم والدم والعصب والعظم؟!
كيف وقد وعد بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟!
خاب من باع باقياً بفانٍ، خاب من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة.
هنا يقول قيصرهم: إذاً أقتلك.
انتقل الأمر إلى التهديد وأنى لمؤمن امتلأ قلبه بعبودية الله أن يخشى تهديداً دون نار جهنم؟! إنه هارب من النار وما هناك تهديد بما هو أعظم من النار؛ فكل تهديد دونها ولا شك. قال رضي الله عنه: أنت وما تريد.
افعل ما بدا لك، فأمر بصلبه، ثم أمر برميه بالسهام قرب يديه ورجليه وهو يعرض عليه أثناء ذلك أن يرتد عن دينه فيأبى.
فيطلب منهم قيصرهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب لينوع التهديد عليه؛ علّه أن يلين، فيدعو بقِدْرٍ عظيم ويصب فيه الزيت، ويوقد تحته النار حتى أصبح الزيت يغلي، ثم يأتي بأسيرين من أسرى المسلمين فيلقيهما في القدر أمام عينيه، فإذا بلحمهما يتفتت وعظامهما تبدو عارية، منظر فظيع بشع وحشي، ظنوا أنهم به وصلوا إلى قلب هذا الصحابي وإلى بغيتهم منه.
التفت القيصر إلى الصحابي وعرض عليه النصرانية ؛ فكان أشد إباء من ذي قبل، فلما يئس منه أمر به أن يلقى في القدر مع صاحبيه، فلما ذهب به دمعت عيناه، فظنوا أنه قد جزع وسيرتد عن دينه، فعرضوا عليه النصرانية مرة أخرى فأبى، قال: ويحك فما أبكاك؟ قال: أبكاني أن قلت في نفسي إنما هي نفس تلقى الآن في هذا القدر فتذهب،
وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله.
لا إله إلا الله! والله أكبر! ويا لها من قلوب امتلأت بخشية الله! وعبودية الله! لم يترك فيها فراغاً لوعد أو وعيد دون الجنة أو الجحيم.
عندها ردوه إلى الأسر ووضعوا معه خمراً ولحم خنزير، ومنعوا عنه الطعام والشراب، وبقي ثلاثة أيام يُراقَب علَّه أن يأكل لحم الخنزير، أو يشرب من الخمر فلم يفعل، وانثنت عنقه رضي الله عنه وأرضاه -مالت عنقه- من شدة الجوع والعطش وأشرف على الهلاك، فأخرجوه وقالوا له: ما منعك أن تأكل أو تشرب؟ فقال: أما إن الضرورة قد أحلت لي ذلك، ولكن -والذي لا إله إلا هو- لقد كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله.
لسان حاله:
فَيَا أيُّها الكونُ منِّي اسْتَمِعْ ويا أُذُنَ الدَّهرِ عنِّي افهمِي |
فَإِنِّي صريحٌ كَمَا تَعْلَمِين حريصٌ عَلَى مَبدأ قِيِّم |
ومَهْما تعدَدَتِ الواجهاتُ فَلَستُ إلَى وِجْهَةٍ أنْتَمِي |
سِوَى قِبلة المُصطَفَى والمَقامِ لأَرْوِى الحُشَاشَةَ مِنْ زَمْزَمِ |
وأُشهدُ مَنْ دبَّ فوقَ الثَرَى وتحتَ السَّمَا عزةَ المُسْلِمِ |
يا لها من كلمة! كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله.
هذه الكلمة أهديها إلى أحبتنا الذين يخجلون من مواجهة الناس بالتزامهم، تجده يوم تلاحقه أعين السفهاء بالهمز والغمز واللمز يمشي على خجل وعلى استحياء، يتوارى من القوم ليشمت غيره به، إن حامل الحق يجبر غيره على أن يخجل منه أو يموت بغيظه، فلينتبه لذلك وليكن لسان الحال:
أنَا مُسْلمٌ وأقولُها مِلءَ الوَرَى وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وَسُؤْدُدِي |
كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله.
فقال له القيصر معجباً بثباته ورشده وقوة عقله ولبِّه: هل لك أن تقبل رأسي فأخلي عنك -وكانوا لا يعيشون لأنفسهم- فقال: وعن جميع أسرى المسلمين؟ قال: وعن جميعهم. فقال يُسائل نفسه: عدو من أعداء الله أقبل رأسه ليخلي عن أسرى المسلمين لئلا يقتلوا، لا ضير في ذلك، فقبله فأطلق له الأسرى وأجازه بثلاثين ألف دينار وثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفة كما روى ابن عائذ في السير للذهبي، وقدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بأسرى المسلمين ثابتاً كالطود الشامخ، يطأ بأخمصه الثرى، وهامه توازي الثريَّا، وأخبر عمر الخبر، فسُرَّ أعظم سرور، ثم قام فقبَّل رأسه وقال: [[حق على كل مسلم أن يقبل رأسك]]، رأس مَنْ؟ لا أظن أحداً يجهل مثل هذا الرجل إنه عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه وأرضاه، شامة في جبين التاريخ، وغرة في جبين الزمن.
أحبتي في الله: لا يملك الإنسان أمام هذه المواقف التي تقف لها الهام إلا أن يقول: إنها النفوس المؤمنة يوم تجاهد في سبيل الله، لا في سبيل قول، ولا في سبيل نفس، ولا في سبيل وطن، بل في سبيل الله؛ لتحقيق منهج الله في أرض الله في سبيل الله؛ لتنفيذ شرع الله على عباد الله، ليس لها لنفسها حظ، بل كلها لله الواحد القهار، لا يخافون لومة لائم، وفيم الخوف من لوم الناس وقد ضمنوا حب وعبودية رب الناس؟ إنما يخشى الناس ولومهم من يستمد حركاته وسكناته ومقاييسه من أهواء الناس، فهو أرضيٌّ طينيٌّ دونيٌّ.
أما من يعود إلى موازين الله ليجعلها فوق كل الموازين فما يبالي بأهواء البشر وشهواتهم وقيمهم، ولا يبالي بما يقولون، ولا بما يفعلون، ولا بما يتوعدون، إنها سمة المؤمنين المحبين لله ورسوله، الاطمئنان إلى الله يملأ قلوبهم، فهلا أعددت نفسك لتكون من أمثال هؤلاء؟!
فإن الينبوع واحد، وإن المورد واحد، وإن النهر واحد، ما أخذوا منه أنت تأخذ منه، ثبات على المبادئ، وصدق مع الباري، وإخلاص في الظاهر والخافي، سماويون لا أرضيون، لا دونيون، لا طينيون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فيا ضعيف العزم! ويا دنيء الهمَّة! أين أنت؟ لا تستطل الطريق، الطريق طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأفجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد بكاء داود، وعالج الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنكم تستعجلون.
إنما يقطع الطريق ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد السائر عن الطريق أو استطاله ونام الليل فمتى يصل إلى المقصود؟ متى؟ أفيقوا استيقظوا.
وخُذُوا منَ الأَسْلافِ مِمَنْ قبلكُم عظةٌ تُنِيرُ قلوبكم وتبصروا |
رُومانَ في جَبروتِها وغُرورِهَا رضخت لمنْ حَمَلوا الضياءَ وحرَّرُوا |
دُحر البغاةَ بظلمِهِم وشُرُورِهِم فخذوا دروساً منهم واستعبروا |
إنما هي نفس واحدة
إجابة حازمة وجازمة للدعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها: (إنما هي نفس لا يغرر بها).
إجابة لمن لا يملك تقوى أهل الإسلام، ولا عقول أهل الجاهلية: (إنما هي نفس لا أغرر بها).
إجابة حاسمة جازمة لمن يريد أن تجعل دينك دونه: (إنما هي نفس واحدة لا أغرر بها).
يا من باع كل شيء بلا شيء! واشترى لا شيء بكل شيء: (إنما هي نفس واحدة).
إلى عباد الأهواء والشهوات: (إنما هي نفس واحدة) إلى المتاجرين ببث الشبهات: (إنما هي نفس واحدة).
مَنْ كانَ حينَ تصيبُ الشمسُ جبهتَهُ أو الغبارُ يخافُ الشَينَ والشَّعثَا |
ويَأْلفُ الظِّلَ كيْ تبقَى بَشَاشَتُهُ فسوفَ يسكنُ يَوماً راغماً جَدَثَا |
في قعْرِ مظلمةٍ غبراءَ موحشةٍ يُطيلُ فِي قَعْرِهَا تحتَ الثَّرَى اللَّبثا |
تَجَهزِي بجهازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثاً |
إنما هي نفس يا عبد الله! فلا تغرر بها، اشترها اليوم فإن السوق قائمة، والثمن موجود وخطير، والبضائع رخيصة وفي ذات الوقت نفيسة، وسيأتي على السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير: ذَلِكَ يَومُ التَّغَابُنِ [التغابن:9].. ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا [الفرقان:27] يوم الحساب.
إنَّ يومَ الحسابِ يومٌ عَسِيرٌ ليسَ فيه للظاَّلمينَ نَصِيرُ |
من استطاع منكم أن يؤثر الله في كل مقام فليفعل
في تهذيب الكمال ، وفي صور من حياة التابعين أن ابن هبيرة كان والياً على العراقين ؛ والمقصود بـالعراقين البصرة والكوفة في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك ، وكان يزيد يرسل إليه بالكتاب تلو الكتاب ويأمره بإنفاذ ما في تلك الكتب ولو كان مجافياً للحق أحيانا، فدعا ابن هبيرة عالميْن؛ هما الحسن البصري ، وعامر الشعبي يستفتيهما في ذلك، هل له مخرج في دين الله أن ينفذ تلك الكتب؟
فأجاب الشعبي جواباً فيه ملاطفة ومسايرة والحسن ساكت، فالتفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول يا أبا سعيد ؟ فقال: يـابن هبيرة! خَف الله في يزيد ، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد ، وأن يزيد لا يمنعك من الله.
يـابن هبيرة ! إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره، فيزيلك عن سريرك، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد ، وإنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد .
يـابن هبيرة ! إنك إن تكن مع الله وفي طاعته يكفك بائقة يزيد ، وإن تكن مع يزيد في معصية الله فإن الله يكلك إلى يزيد.
فبكى ابن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته، ومال عن الشعبي إلى الحسن وبالغ في إعظامه وإكرامه.
فلما خرجا من عنده توجها إلى المسجد فاجتمع عليهما الناس وجعلوا يسألونهما عن خبرهما مع ابن هبيرة ، فالتفت الشعبي إليهم وقال: أيها الناس! من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل؛ فوالذي نفسي بيده! ما قال الحسن لـابن هبيرة قولاً أجهله، ولكني أردت فيما قلته وجه ابن هبيرة ، وأراد الحسن وجه الله فأقصاني الله منه، وأدنى الحسن وحببه إليه.
أيها الأحبة: إن القلب هو محل التأثر من الإنسان، والقلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، ومن راءى بعلمه ونصحه فقد قطع ما بينه وبين الله، وأنى له أن يمنحه الله إقبالاً من الناس أو تأثيراً فيهم! لذا تراه إن تكلم لم يُسْمع، وإن عمل لم يحرك ويظن أنه قد أحسن، ولكن كم من مسيء يرى أنه محسن، وجاهل يرى أنه عالم، وبخيل يرى أنه كريم، وأحمق يرى أنه عاقل، وظالم يرى أنه مظلوم، وآكل للحرام يرى أنه متورع، وفاسق يعتقد أنه عدل، وطالب علم للدنيا يرى أنه لله، والأجل قصير، والأمل طويل، والمرد إلى الله، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، من آثر الله دله الله على الطريق، وإنا لله من بُعْدٍ عن الطريق.
وفي السير -أيضاً- أن الحسن قد خرج من عند ابن هبيرة فإذا هو بالقراء على الباب، فقال: [[ما يجلسكم هنا؟! تريدون الدخول؟! أتجالسونه مجالسة الأبرار؟ تفرقوا فرَّق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد فَرْطَحْتُم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، فضحتم القراء فضحكم الله، والله! لو زهدتم لرغبوا فيما عندكم من العلم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم. أبعد الله من أبعد، أبعد الله من أبعد، أبعد الله من أبعد. أهينوا الدنيا؛ فوالله لأهنأ ما تكونون إذا أهنتموها
أيها الأحبة: إننا نفوس لا ألفاظ، والكلمة من قائلها بمعناها في نفسه، لا بمعناها في نفسها، فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده عليه الشرع، ولو نافق طالب العلم لكان كل منافق أشرف منه، ولطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود.
والدينار إذا كان صحيحاً في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعض فهو زائف كله، فمن ترك واجباً مخافة أحد نزعت منه هيبة الله حتى لو أمر بعض ولده أو مواليه لاستخف به.
يقول الفضيل : إنما يهابك الخلق على قدر هيبتك لله عز وجل.
فاجعلْ رِضَا اللهِ كلَّ القَصدِ تنْجُ فَمَا يُغني رِضَا الخَلْق والخَلاقُ قد سخطا |
هل يبسطون لِمَا القهارُ قابضهُ أوْ يَقْبضونَ إذا الرّحمنُ قد بَسَطَا |
لا والله.
من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه
في ذيل طبقات الحنابلة ذكر ابن رجب في ترجمة القاضي أبي بكر الأنصاري البزاز أنه قال: كنت مجاوراً في مكة -حرسها الله- فأصابني يوماً من الأيام جوع شديد، ولم أجد شيئاً أدفع به عني ذلك الجوع، وخرجت أبحث عن طعام فلم أجد، فوجدت كيساً من حرير مشدوداً برباط من حرير أيضاً، قال: فأخذته وجئت به إلى بيتي، وحللته فوجدت فيه عقداً من لؤلؤ لم أرَ مثله قط، قال: فربطته وأعدته كما كان، ثم خرجت أبحث عن طعام فوجدت شيخاً ينادي ويقول: من وجد لنا كيساً صفته كذا وكذا فله خمسمائة دينار من الذهب.
قال: فقلت في نفسي إني محتاج وجائع أفآخذ هذه الدنانير لأنتفع بها وأرد عليه كيسه؟ لا ضير، فقلت له: تعال إليَّ فأخذته، وذهبت به إلى بيتي، وسألته عن علامة الكيس، وعلامة اللؤلؤ، وعدد اللؤلؤ، والخيط المشدود به، فإذا هو كما قال، قال: فأخرجته ودفعته إليه، فسلم إليَّ خمسمائة دينار -الجائزة التي ذكرها- قال: فقلت له: يجب علي أن أعيده لك ولا آخذ له جزاءً، قال: لابد أن تأخذ، وألحَّ عليَّ كثيراً، وأنا أحوج ما أكون، قال: فقلت: والذي لا إله إلا هو! ما آخذ عليه جزاءً من أحد سوى الله، فلم يقبل الدنانير، قال: فتركني ومضى.
ورجع الشيخ بعد موسم الحج إلى بلده، وأما أنا -الإمام البزاز الكلام له- فإني خرجت من مكة وركبت البحر في وسط أمواجه المتلاطمة وأهواله، فانكسر المركب، وغرق الناس، وهلكت الأموال.
قال: وسلمني الله إذ بقيت على قطعة من المركب تذهب بي يمنة ويسرة لا أدري إلى أين تذهب بي، وبقيت مدة في البحر تتقاذفني الأمواج من مكان إلى مكان حتى لفظتني إلى جزيرة فيها قوم أميون لا يقرءون ولا يكتبون.
قال: فجلست في مسجدهم، وكنت أقرأ، قال: فما أن رآني أهل المسجد حتى اجتمعوا عليَّ، فلم يبقَ في الجزيرة أحد إلا قال: علمني القرآن.
قال: فعلمتهم القرآن، وحصل لي خير كثير من جراء ذلك، قال: ثم إني رأيت في ذلك المسجد مصحفاً ممزقاً، فأخذت أوراقه لأقرأ فيها، فقالوا: أتحسن الكتابة؟ قلت: نعم، قالوا: علمنا الخط، قال: قلت: لا بأس، فجاءوا بصبيانهم وشبابهم فكنت أعلمهم، وحصل لي من ذلك خير عظيم.
ثم رغبوا فيه فقالوا له بعد ذلك وهم يريدون أن يبقى معهم: عندنا صبية يتيمة ومعها شيء من الدنيا، ونريد أن نزوجك بها، وتبقى معنا في هذه الجزيرة.
قال: فامتنعت، فألحوا عليَّ وألزموني، فلم أملك أمام إلحاحهم وإصرارهم إلا أن أجبت لطلبهم، فجهَّزوها لي، وزفُّوها إليَّ -زفها محارمها- وجلست معهم، وإذا بي أنظر إليها وإذا ذلك العقد الذي رأيته بـمكة بعينه معلق في عنقها فدهشت، وما كان لي حينئذ من شغل إلا النظر لهذا العقد، فقال محارمها: يا شيخ! كسرت قلب هذه اليتيمة، لم تنظر إليها، وإنما تنظر إلى العقد، قلت لهم: إن لهذا العقد قصة، قالوا: وما هي؟ فقصصتها عليهم فصاحوا وضجوا بالتهليل والتكبير، وصرخوا بالتسبيح حتى بلغ صوتهم أنحاء الجزيرة.
فقلت: سبحان الله! ما بكم؟ قالوا: إن الشيخ الذي أخذ منك العقد في مكة هو أبو هذه الصبية، وكان يقول عند عودته من الحج ويردد دائماً: والله! ما وجدت على وجه الأرض مسلماً كهذا الذي ردَّ عليَّ العقد في مكة ، اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي، وتوفى ذلك الرجل، وحقق الله دعوته وزوَّجك بابنته.
فيقول: فبقيت معها مدة من الزمن فكانت خير امرأة، رزقت منها بولدين، ثم توفيت فعليها رحمة الله، فورثت العقد المعهود أنا وولدي، قال: ثم توفي الولدان واحداً تلو الآخر، فورثت العقد منهما، فبعته بمائة ألف دينار.
ويحدث بعد مدة ويقول: هذا من بقايا ثمن ذلك العقد، فرحمة الله على الجميع.
من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء: وَمَن يَتَّقِِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]
وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].
زد من الضرب وزد من الحديث
ذكر أهل السير أن هشام بن عمار عليه رحمة الله كان شغوفاً بطلب علم النبوة وهو صغير، وكان معاصراً للإمام مالك عليه رحمة الله فجاءه في رحلة شاقة طويلة -فاسمع لها يا طالب العلم وعِهَا فلعل لك فيها عظة وعبرة- عن محمد بن الفيض الغساني قال: سمعت هشام بن عمار يقول: باع أبي بيته بعشرين ديناراً وجهزني للحج وطلب العلم، قال: فتوجهت من دمشق تاركاً أهلي ووطني رغبة في الحج إلى بيت الله ولقاء الأئمة أمثال مالك رحمه الله قال: فلما صرت إلى