خطب ومحاضرات
تفسير سورة القيامة [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، تنزه عن الزوجة والولد، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، وأشهد أن نبينا ورسولنا سيدنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
فنعيش مع ختام سورة القيامة، من قول الله ربنا سبحانه: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ * كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:20-40] سبحانك فبلى، روى أبو داود في سننه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: سبحانك فبلى) ، وفي سورة التين أيضاً إذا قرأ قول الله سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8] قال: (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين).
وقوله: كَلَّا [القيامة:20]، للزجر والردع، وهذا من سمت القرآن المكي، وحرف ( كلا ) لا يأتي إلا في القرآن المكي في الغالب.
قال عز وجل: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ [القيامة:20-21] قال الحافظ ابن كثير : ما دفع هؤلاء لتكذيبهم بالبعث ولإنكارهم للقيامة ولتجرئهم على المعاصي إلا أنهم كذبوا بالآخرة، وأحبوا العاجلة، والعاجلة هي الدنيا.
فقوله: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ) الحب من أعمال القلوب، فهناك قلب يتعلق بالدنيا فيحبها، وهناك قلب يحب الآخرة فيعمل لها، ولذلك جسد النبي صلى الله عليه وسلم مرض الأمة التي تحياه اليوم في كلمة واحدة في حديثه: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)، والناظر في حياة الأمة يجد أن الجميع ينهش في القصعة في أعراضها، وفي حرماتها، وفي مقدساتها، وفي ثوابتها الشرعية، وفي أمور مستقرة لا يختلف عليها أحد من الناس، فهل تصدق أن امرأة تخرج علينا وتقول: إن الإسلام قد ظلم المرأة حينما أعطاها نصف نصيب الرجل في الميراث؟ وتقول: لابد من إعادة النظر في هذه الآية، ومساواة المرأة بالرجل في الميراث، وتقول: إن فريضة الحج من مظاهر الوثنية وعبادة الأصنام، وإن تقبيل الحجر الأسود لا يقبله عقل!
وهذه أمور إن دلت على شيء فإنما تدل على الخبل الفكري، ويسمون هذا: حرية إبداع، وحرية فكر، وهي في الثوابت الشرعية الثابتة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا، وكراهية الموت)، فهذا هو الداء: تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ [القيامة:20-21]، ولذلك يوم أن يتعلق العبد بالدنيا فإنه يتعلق بخيوط العنكبوت، والدنيا راحلة فإما أن تزال أنت عنها، وإما أن تزول هي عنك، ففي الحالتين هي زائلة، والقرآن قد ضرب لها مثلاً بماء ينزل من السماء، قال عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45]، فالإنسان يكون طفلاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، وقد يبلغ من العمر عتياً، حتى ينحني ظهره، ويتبول على نفسه، وبعد ذلك يحمل إلى مصيره ومآله، هذا هو الطريق لكل إنسان.
قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]، اللهم نضر وجوهنا يا رب العالمين، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فبلغها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)، فهل تريد لوجهك نضارة في الدنيا والآخرة؟ بلغ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]، من الحسن والنضارة والبهاء والسرور، وفي سورة عبس: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38-39].
وفي سورة الغاشية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [الغاشية:8-9].
وفي سورة آل عمران: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدع والأهواء، تبيض وجوه أهل السنة وأهل التوحيد، وتسود وجوه الفرق الضالة من المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والروافض، والجماعات الحزبية الضالة.
فيوم القيامة تبيض وجوه الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
قال تعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، وهذا الآية فاصلة في إثبات عقيدة أهل السنة في أن الله عز وجل يرى في الآخرة، والخوارج والمعتزلة أنكروا الرؤية.
وهل الله يرى في الدنيا؟ الجواب: لا، وهل تمكن؟ الجواب: نعم، لكن مع عدم تحققها؛ لأن موسى عليه السلام طلبها فقال: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، يقول علماء السلف: لن يطلب موسى ما هو غير ممكن، ولا يطلب إلا ممكناً، لكنه ما وقع، قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، و(لَنْ) هنا للتأبيد الدنيوي وليس التأبيد على الدوام، وقد وقع أقوام في فهم خاطئ لهذه الآية فقالوا: (لَنْ) تفيد عدم الإمكانية في الدنيا والآخرة، فأجاب عليهم الشيخ خليل هراس في شرحه للواسطية رحمه الله، فقال: ولو تأملوا القرآن لوجدوا أن (لن) تفيد التأبيد الدنيوي أحياناً، كما في قوله تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة:95] أي: الموت، وفي الآخرة قال: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77].
إذاً: في الآخرة يتمنون الموت، والآية تقول: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ [البقرة:95] فالنفي هنا للدنيا وليس للآخرة، وقد جاءت الأحاديث المتواترة في إثبات الرؤية، يقول علماؤنا:
مما تواتر حديث من كـذب ومن بنى لله بيتاً واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ومسح خفين وهذي بعض
أي: مما تواتر من الأحاديث حديث: (من كذب علي متعمداً..).
وحديث: (من بنى لله بيتاً ولو كمفحص قطاة..).
و(رؤية) يعني: رؤية الله في الآخرة، فإن أحاديثها بلغت حد التواتر، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم عياناً، كما ترون القمر ليلة البدر، لا يحول بينكم وبين رؤيته سحاب، لا تضامون في رؤيته)، يعني: هذا تشبيه الرؤية بالرؤية، كما ترون القمر لا يحول بينكم وبينه شيء، وهو قد اكتمل في ليلة البدر، فسترون ربكم عز وجل، وهذا هو أفضل نعيم لأهل الجنة، ففي حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي ربنا إلى أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: يا ربنا! ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ فيكشف رب العالمين الحجاب عن وجهه فينظرون إلى وجهه في يوم المزيد، ثم تلا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26])، وفسر الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله عز وجل.
واسمع إلى استنباط الإمام الشافعي في قوله تعالى في سورة المطففين: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، قال: حجب قوماً بمعصيتهم، وسيراه قوم بطاعتهم.
ولذلك الرؤيا ثابتة في الآخرة، وهي أعظم نعيم أهل الجنة.
وانظروا إلى التأويل الفاسد، وماذا صنع بالأمة، فما ضاعت الأمة إلا بسبب التأويل، فمثلاً: بعض الناس الآن يقولون: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] واليقين ليس الموت، وإنما عندهم اليقين رفع التكاليف الشرعية، فيدخل الواحد منهم إلى حجرته فلا يصلي جمعة ولا جماعة، ولا يصوم؛ لأنه أتاه اليقين، وهذا تأويل فاسد، فانظروا إلى التأويل الفاسد ماذا صنع بالأمة؟!
ويقول أحدهم وهو مسئول لجامعة، ينبغي أن تكون هي الجامعة العلمية التي تصدر العلم إلى الدنيا، يقول: ذهب سيدي أحمد الرفاعي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم له يده، فقبله سيدي أحمد ثم أعاد النبي صلى الله عليه وسلم يده إلى القبر.
يقول هذا الكلام رئيس جامعة! فأي خبل في العقول؟ فهل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يده لسيدك أحمد حتى يقبلها، وما أخرجها لـأبي بكر وعمر ؟!
ولذلك قال قائلهم:
رأيت المصطفى كالبدر يأتي يزور حسينه حيناً وحينا
يعني: يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من قبره، ويذهب إلى بغداد أو القاهرة ليزور الحسين ثم يعود إلى المدينة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله العفو والعافية، فهذا هو الذي يستقي الناس منه العلم، ولذلك ما ضلت الأمة إلا بسبب التأويل الفاسد.
والخوارج خرجوا على الأمة بتأويلهم للآيات، والمرتدون الذين منعوا الزكاة منعوها بالتأويل، وقالوا: إن الله يقول: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مات النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد حق في أن يأخذ الزكاة بعده؛ فإن الأمر له باعتباره ولي أمر وحاكم للأمة، فمن خلف بعده لا يأخذها، ولا نعطيها لأحد بعده، فأولوا تأويلاً فاسداً، وبعض الناس يقول: سمعت أن هذه الصلاة ليس كما تفهمونها أنتم يا أهل السلف، إنما يكفي أن أدعو ولا أصلي الفروض الخمس؛ لأن الصلاة لغة: هي الدعاء، وهذا من التأويل المذموم الذي أطاح بالأمة.
فأي مصيبة وقعت في الأمة ستجد أن سببها هو التأويل الفاسد، وأساتذة التأويل هم اليهود، فقد قال الله لهم: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، فدخلوا الباب على مقاعدهم، ولم يدخلوه سجداً، فحرفوا في الفعل، وحرفوا في القول، وقالوا: حنطة، ففي الفعل يحرفون، وفي القول يحرفون، وهذا هو دأبهم في أي اتفاقية.
وهكذا خرجت علينا مفكرة في عصر الإبداع والتنوير، تقول: أنتم فهمتم آية الحجاب في القرآن خطأ، إن الآية تعني أنه ينبغي على المرأة أن تغطي فتحة الصدر فقط، وما سوى ذلك تظهر ما شاءت؛ لأن الآية جاءت تحدد المكان الذي تغطيه المرأة، ولها أن تظهر القدمين وكل شيء، فأنتم يا معشر الإسلاميين ما فهمتم! وهذه عودة إلى عصور الظلام. نقول: هذا تأويل فاسد.
ومثل هؤلاء تماماً الذين أنكروا الرؤية، وأولوا قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] قالوا: لنعمة ربها منتظرة، فحرفوا حرف الجر الذي هو (إلى) فجعلوه بمعنى نعمة، وهذا تأويل فاسد.
قال الله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ [القيامة:24] كالحة سوداء، وفي الآية الأخرى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس:40-42].
قال تعالى: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [القيامة:25] أي: تتيقن أن العذاب واقع بها، وتتيقن أنها لاقت العذاب الذي توعدها الله به، فالظن هنا بمعنى اليقين، كما في قوله تعالى: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20] أي: تيقنت، ولذلك الظن يأتي بمعنى اليقين في أحوال، وهو من الألفاظ المشتركة في القرآن.
قال تعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26] الترقوة هي مكان الحشرجة، مكان نزع الروح من الجسد بين العاتقين والرقبة، والروح تسكن في سائر الجسد، كما قال شيخ الإسلام : وحال الروح مع الجسد كحال الماء مع الإسفنجة، فهي في كل أنحاء الجسد، ينزعها ملك الموت وأعوانه من الساقين إلى الفخذين إلى البطن إلى الصدر حتى تصل إلى التراقي، إلى الحلقوم، عند ذلك الروح تأبى أن تفارق الجسد، أما روح المؤمن فينزعونها في رفق وسهولة، كما تنزل القطرة من في السقاء، أما روح الكافر العاصي المنافق فيضربون الدبر والوجه حتى تخرج؛ لأنها لا تريد الخروج.
والأهل يستعدون بالكفن للجسم، والملائكة يستعدون بالكفن للروح، فتخرج الروح وعند ذلك تتعالى الأصوات: وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27]، أي: هل من أحد يرقيك؟ هل من طبيب معالج؟ استدعوا الطب والعلاج، لكن هيهات هيهات.
وفي تفسير آخر أن ملك الموت يسأل الأعوان: من سيرقى بها؟ يعني: من سيحملها إلى السماء؟
قال تعالى: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] أي: الفراق من الدنيا والإقبال على الآخرة، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] الساقان اللذان كانا يحملان العبد في الدنيا فيسير عليهما متبختراً متكبراً، تلتوي ساق على ساق في آخر أيامه في الدنيا.
قوله تعالى: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة:30-31] هذه الآية وما بعدها نزلت في أبي جهل ذلك عندما قابله النبي صلى الله عليه وسلم عند المسجد الحرام فجذبه من قميصه وقال له: (أما آن لك أن تسلم؟ فقال
الأولى: فَلا صَدَّقَ [القيامة:31] بالآخرة ولا بالقرآن.
الثانية: وَلا صَلَّى [القيامة:31] لله عز وجل.
الثالثة: وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:32].
الرابعة: ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى [القيامة:33].
فهذه أربع وسائل للإعراض، فجاءت أربع وسائل للجزاء: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة:34-35] فجاءت الآيات تبين أن الله عز وجل أعد له العذاب.
قال ربنا سبحانه: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] أي: بلا مهمة ولا وظيفة، أتحسب أنك جئت إلى الحياة لغير غاية؟ كما قال أحدهم: جئنا إلى الدنيا لا نعرف لماذا؟! والله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وهذا يقول: أنا جئت لا أدري لماذا جئت؟ أما نحن فندري لماذا جئنا؟ جئنا لعبادة الله عز وجل، وهذا شعر إيليا أبو ماضي :
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت أبصرت أمامي طريقاً فمشيت
وقال آخر:
جئت يا يوم مولدي جئت يا أيها الشقي
فانظروا إلى شقائه فإنا لله وإنا إليه راجعون، قال عز وجل: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، فهم أضل من الأنعام؛ لأنهم ما أدركوا لماذا جاءوا؟ إنما العبد المؤمن يعلم أنه جاء لعبادة ربه، وأن مصيره إلى الله عز وجل.
قال تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:37-40].
وللحديث بقية إن شاء الله.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله.
وبعد:
فهذه الآيات من آيات القرآن الكريم التي تدلل على قضية البعث، وأدلة البعث خمسة:
الدليل الأول: دليل النشأة الأولى، أو الخلق الأول، فقد جاء في أكثر من موضع في كتاب ربنا في سورة مريم: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم:66-67].
وأيضاً في سورة الطارق يقول ربنا سبحانه: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق:5-7]، وصلب الرجل هو العمود الفقري للرجل، وترائب المرأة صدرها، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق:8].
وجاء في سورة (يس) ما يؤكد هذا المعنى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79].
الدليل الثاني: دليل إحياء الأرض بعد موتها، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت:39]، فكما أحيا الأرض بعد موتها، كذلك يبعث الناس بعد موتهم.
الدليل الثالث: الاستيقاظ من النوم، فالنوم موت والاستيقاظ بعث، كما روي: (لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون).
وفي الحديث: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا)، فالنوم موتة صغرى، لذلك يقول لقمان لولده: يا بني إن كنت لا تؤمن بالموت فلا تنم، وإن كنت لا تؤمن بالبعث فلا تستيقظ، فالذي أيقظك من نومك هو الذي يبعثك بعد موتك.
الدليل الرابع: قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا [النازعات:27].
وقال عز وجل: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57].
الدليل الخامس والأخير: القصص القرآني، بين الله فيها أنه بعث أناساً بعد موتهم، يقول الحافظ ابن كثير : في سورة البقرة بمفردها خمس من القصص القرآني:
الأول: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [البقرة:259].
الثاني: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:72-73].
الرابع: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:55-56].
الخامس: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243].
فهذه أدلة واضحة بينة لا تخفى على أحد عنده بصيرة.
أيها الإخوة الكرام! من الأحكام الفقهية الهامة التي غابت عن واقعنا اليوم أحكام الجنائز، فأريد أن أبين بعض أحكام الجنائز التي تخفى على الكثير، وربما أنها بدعة، إذ تحولت السنة إلى بدعة والبدعة إلى سنة في كثير من الأمور؛ لأننا غيبنا السنة عن حياتنا.
يسن أن يحمل الميت على سرير مكشوف لا يغطى كالتابوت الذي عند أهل الكتاب، ولا بأس أن يستر بشيء لكنه يكشف، ولا يحمل في تابوت مغلق كما يفعل في الأرياف؛ فإنهم يحملونه في صندوق وفوق الصندوق غطاء خشبي، وفوق الغطاء الخشبي غطاء آخر، ثم فوق الاثنين ورد، وهذا كله لم يثبت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، وإنما الميت يحمل على سرير مكشوف.
وواجبنا تجاه الميت: الإسراع بغسله، والغسل لابد أن نعلمه الناس، وتكفينه، ثم الصلاة عليه.
والصلاة على الميت إما أن نصليها في المصلى كصلاة العيد، وهذا ثابت لاشك في ثبوته، وإما أن نصلي عليه داخل المسجد، وقد أنكرت عائشة على من أنكر الصلاة على الميت داخل المسجد، فقالت: صلينا على سهيل بن بيضاء في المسجد. وهذا قول بعض الفقهاء كالحنابلة، والسنة الغائبة الآن هي الصلاة على الميت خارج المسجد، فنحن لا نخالف أو نقول بعدم جواز الصلاة على الميت داخل المسجد، فهذا ثابت، ولكن هل منا أحد يصلى عليه في المصلى؟ إن صلينا على الميت في المصلى فأنا على يقين أن الناس سيقولون: أحدثوا بدعة، والغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على الجنائز خارج المسجد، هذا غالب فعل النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان أحياناً يصلي داخل المسجد، فالأمر فيه سعة، ولا نحجر واسعاً، لكن يوم أن تغيب السنة يستحب أن نفعلها لإعلام الناس بها؛ حتى يعلم الناس جواز هذا الفعل.
ويستحب أيضاً ألا تدخل الجنازة إلى المسجد إلا بعد أن تتم الصلاة، فتدعى الجنازة من خارج المسجد، ثم يصلى عليها.
أسأل الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه أن يرزقنا علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً.
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع.
اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، وجلاء همنا وغمنا.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة.
اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وارزقنا عند الاحتضار شهادة، وارزقنا بعد الموت جنة ونعيماً.
يا رب لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.
اللهم بيض وجوهنا يوم تسود وجوه، اللهم بيض وجوهنا يوم تسود وجوه، اللهم بيض وجوهنا يوم تسود وجوه.
اللهم ثبت أقدامنا على الصراط.
اللهم أمنا عند الفزع الكبر.
اللهم ارحمنا إذا لم يزرنا زائر، ولم يذكرنا ذاكر، اللهم ارحمنا ونحن في القبور فرادى.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا.
اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام وأن تعز المسلمين.
اللهم انصر أهل فلسطين، اللهم اربط على قلوبهم، وسدد رميهم، ووفق يا رب جمعهم.
اللهم اخسف باليهود الأرض، فإنهم لا يعجزونك، اللهم جمد الدم في عروقهم، ويبس الطعام في أفواههم.
اللهم انصر دينك في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم إن اليهود قد بغوا وتجبروا وظلموا وأنت القوي المتين، اللهم أرنا فيهم آية، اللهم أرنا فيهم آية، فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، واخسف بهم الأرض، فأنت القوي المتين.
اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، يا أرحم الرحمين، أنت ربنا ورب المستضعفين، إلى من تكلنا؟ إلى عدو يتجهمنا أم إلى ضعيف ملكته أمرنا؟ إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، ونسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسألك الإخلاص في القول والعمل وفي السر والعلن، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة القلم [2] | 2214 استماع |
تفسير سورة المزمل [2] | 2194 استماع |
تفسير سورة الحاقة [1] | 2128 استماع |
تفسير سورة الحاقة [2] | 2047 استماع |
تفسير سورة المزمل [3] | 2035 استماع |
تفسير سورة القلم [10] | 1990 استماع |
تفسير سورة القلم [3] | 1909 استماع |
تفسير سورة القلم [6] | 1795 استماع |
تفسير سورة الجن [1] | 1616 استماع |
تفسير سورة القلم [1] | 1588 استماع |