تاج الوقار


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأشكر الإخوة المنظمين لمثل هذا المشروع المبارك، والقائمين عليه، والمشاركين فيه، ثم أشكر الإخوة الحضور الذين تكبدوا العناء، وقطعوا كثيراً من أوقاتهم، وفرطوا في أعمالهم؛ لأجل أن يحضروا لمثل هذا الدرس المبارك إن شاء الله.

وأنا أنتظر موعد حديثي لهذه المحاضرة تذكرت حفلاً آخر وموعداً آخر لتكريم حفظة كتاب الله، وإن كان هذا الحفل قد أثلج صدورنا، وأصاب كل واحد منا بنشوة وفرح، وأظن ما من شخص في هذا المجلس إلا وفيه حسرة لما ضيع من حفظ كتاب الله مما فرط من الأوقات؛ لأنه لم يحفظ كتاب الله كاملاً، فأي حفل أقصد؟ إنه الحفل الذي سوف يجمع الناس يوم القيامة، ويبدأ الله جل وعلا في فصل القضاء وحساب الناس، فيخرج الله جل وعلا حفظة كتابه، فيأمرهم جل وعلا بالقراءة .

أرأيتم إلى الشاب الذي قرأ؟ ألم يثر رغبتكم في حفظ كتاب الله؟! ألم يجعلكم تتحسرون لما ضاع من العمر الذي لم نحفظ فيه كتاب الله؟! حتى إذا كان يوم القيامة، يقال لقارئ القرآن وصاحبه الذي حفظه في الدنيا: اقرأ، ويبدأ يقرأ أمام الناس، وأمام الخلق، والرب جل وعلا يسمعه وهو أعلم به، وكلما قرأ آية ارتفع درجة، قل لي بربك: من حفظ البقرة كلها كم سيرتفع؟ ومن حفظ القرآن كاملاً أين منزلته؟ الله أكبر! إنه الحفل العظيم الكبير عند الله جل وعلا يوم القيامة.

أيها الإخوة الكرام: حديثنا عن القرآن، ومن أنا حتى أتكلم عن القرآن؟! يكفيه شرفاً أنه كلام الله جل وعلا، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهَُ [التوبة:6] يكفيه شرفاً أنه تكلم به الرب جل وعلا من فوق سبع سموات، نقله جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام إلى هذه الأمة .. إنه القرآن العظيم الذي أخبر الله عنه فقال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر:23] أحسن حديث، مهما تكلمت الآن لو تكلمت ساعات طوال لا يعادل كلامي آية من كتاب الله جل وعلا، فإنها تشتمل على معانٍ عظيمة وحكم وأحكام وشرائع، وآية من كتاب الله توازي كلام البشر وأعظم .. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً [الزمر:23] إذا سمعته ماذا يحصل لك؟ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم [الزمر:23] لو كنا حقاً نخشى من الله حق خشيته، لاقشعرت جلودنا عند سماعه.

وصدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته فما استطاعوا له، فنادوا أبلغ العرب وأفصحهم وأكثرهم جرأة وهو الوليد بن المغيرة ، وقالوا له: اذهب فاهجه يا وليد ، وقل له كلاماً تنقله العرب عنك. فإنه إذا تكلم بالشعر حفظه الناس ورددوه .. قل كلاماً فيما يقوله هذا الرجل -يعنون محمداً عليه الصلاة والسلام- فذهب الوليد بن المغيرة إلى رسول الله، وقال: هات ما عندك يا محمد؟ فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم .. وأخذ يقرأ، والوليد بن المغيرة شاعر عربي فصيح بليغ يعرف معاني هذه الكلمات التي لا نعرف نحن بعضها، فهو شاعر عربي من أقحاح العرب، يعرف كل كلمة ومدلولها وما الذي جعل هذه الكلمة بعد هذه الكلمة .. فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله جل وعلا: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13] فقال: حسبك حسبك، أنشدك الله والرحم. ثم فر وهرب، وأتى إليهم وقد تغير وجهه، فقالوا: لقد صبأ صاحبكم، لقد سحره محمد، ثم قالوا: ما الذي جرى لك؟ هل صبأت؟ هل سحرك محمد؟ فقال: لقد سمعت قوله، والله إن فيه لحلاوة -يقول عن القرآن- وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحكم ما تحته! قالوا: ماذا تقول؟ قل فيه قولاً، قال: إن قلت شعراً فهو ليس بشعر، وإن قلت كذا فهو ليس بكذا، ماذا أقول لكم؟ فأخذ ينظر وأخذ يفكر ويقدر ثم التفت إليهم وقال: قولوا فيه: سحر يؤثر. قال الله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ [المدثر:11-18] من الذي فكر وقدر؟ إنه الوليد بن المغيرة ، انظر وصف القرآن الدقيق له! إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ [المدثر:18-21] أخذ يفكر ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:22-26] أرأيت إلى المشركين كيف تأثروا بالقرآن؟ إنه قرآن عظيم!

أما سمعت يا أخي العزيز! كم من الناس أسلموا لما سمعوا آيات من القرآن، فهذا الصحابي الجليل جبير بن مطعم ، وقبل أن يسلم هذا الصحابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي المغرب في الكعبة، يقول: وما في قلبه رجل أبغض إليه من هذا الرجل -يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام- كان يكرهه ويبغضه، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ في الصلاة سورة الطور التي يحفظها أكثر الشباب الآن، يستمع إليها وقد كان مشركاً كافراً بالله .. وماذا نقول لبعض الناس من المسلمين الذين إذا قرئ القرآن لا يستمعون؟ حتى وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قول الله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:35] ففكر جبير: هل أنت خُلقت من غير شيء؟ مستحيل! لا بد أن هناك شيئاً قبلي، إذاً من الذي خلقني؟ لا بد أن هناك خالقاً خلقني .. إذاً من الخالق؟ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] انظر إلى التدرج في القرآن، يخاطب النفس ويخاطب الفطرة .. أنت خلقت نفسك يا جبير؟ مستحيل! أنا لم أعرف نفسي قبل أن أولد، إذاً من الذي خلقني؟ هناك خالق ولست أنا، هناك شيء أعظم منك يا جبير ، هناك سموات سبع عظام، هناك أراضين، هناك ما بين السماء والأرض أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] قال جبير بن مطعم: فكاد قلبي أن يطير، وما إن انتهت الصلاة إلا وسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وكلمه بعض الكلمات ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك محمداً رسول الله.

ألم تسمعوا عن قوم ما سمعوا شيئاً إلا كلام الله فإذا بهم يشهدون الشهادتين؟ ليسوا ببشر إنهم من الجن، سمعوا بعض الآيات من كلام الله جل وعلا، قال الله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً [الجـن:1] الجن الذين عرف عنهم العتو وسفك الدماء والكذب والخداع والكفر إلا من رحم الله منهم يقولون: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً [الجن:1-2] إنه كتاب الله.

هذا هو القرآن الذي هجره بعضنا فلم يختمه إلا في رمضان وينتظر رمضان القادم!

هذا هو القرآن العظيم الذي كان الصحابة يجادلون الرسول في قراءته (يأتي رجل فيقول: أريد أن أختم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأه في شهر قال: إني أطيق أكثر من هذا قال: اقرأه في سبع قال: إني أطيق أكثر من هذا قال: اقرأه في ثلاث - أي: اختم القرآن في ثلاث ليال، كل يوم عشرة أجزاء -قال: إني أطيق أكثر من هذا قال: لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث). يجادلون الرسول عليه الصلاة والسلام في قراءة القرآن ويريدون أن يختموه في أقل من ثلاثة أيام، وأنا أسألكم وكل منا يسأل نفسه: منذ رمضان الماضي إلى هذه اللحظات وقد مضت أشهر عديدة من منا ختم القرآن؟ ثم نبكي حالنا ونردد قول الله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].

من منا -أيها الإخوة الكرام- جعل في البيت جائزة ومكافأة لمن يحفظ كتاب الله جل وعلا في هذا الصيف، أو لمن يحفظ الجزء الثلاثين أو جزء تبارك أو أي جزء من القرآن؟ من منا فكر أن يحيي القرآن في بيته ويحيي أهله بالقرآن؟ أتعلمون أن من الناس من إذا دخل البيت ضاق صدره؟ يشتكي لي بعض الناس ويقول: إذا دخلت البيت ضاق صدري، وأحس بوحشة، وأتمنى الخروج من البيت، أقول له: إن بيتك لا تدخله الملائكة، بيتك عششت فيه الشياطين، هل تقرأ فيه القرآن؟ قال: كلا. هل تصلي فيه السنن؟ قال: كلا. هل يسمع فيه ذكر الله؟ قال: كلا، قلت: إذاً ما الذي يكون في بيتك؟ قال: التلفاز، والمسلسلات، والأغاني، قلت: ولا تريد أن تصاب بضيق الصدر!

بيوت الصحابة كانت في الليل لا يُسمع فيها إلا البكاء، وقراء القرآن .. يمر عليه الصلاة والسلام يوماً ببيوت الصحابة في الليل -انظر إلى قائد الأمة في الليل يطمئن على شئون الأمة- فإذا به يجد بيتاً قديماً فيه امرأة عجوز، والمرأة تقرأ القرآن وصوتها يخرج من البيت، وهي تقرأ وتبكي، ويسمعها المصطفى عليه الصلاة والسلام وهي تقرأ قول الله: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فتبكي وتقول: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فيسمعها المصطفى، فيبكي معها وهو يقول: (نعم أتاني، نعم أتاني) أرأيت كيف يعيشون مع القرآن؟ بيوتهم امتلأت بالقرآن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم، اقرءوا القرآن، انشروا كلام الله جل وعلا، وأنا أعلم أن من الأطفال من عمره أربع سنوات ويحفظ عدة سور من القرآن بل من هو أصغر من أربع سنوات ويحفظ بعض السور، بل في بعض الدول غير العربية لا يعرفون اللغة العربية، ومن الصعب عليهم أن يحفظوا كلام الله .. أرسل رجل ابنه إلى مدرسة ليدرس فيها ثلاث سنوات يحفظ كتاب الله عن ظهر قلب، فرجع الابن الصغير بعد ستة أشهر وخرج من المدرسة، فقال له الأب: يا بني لم خرجت من المدرسة؟ بقي لك سنتان ونصف. فقال الابن الصغير لأبيه: يا أبي! ومن قال لك أنني خرجت هكذا؟ قال: لم خرجت؟ قال: لقد ختمت القرآن. خلال ستة أشهر، أتعرف لماذا؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] نعم. إن الطفل الصغير عنده حافظة قوية جبارة، بل يقولون: إن أقوى الناس استخداماً لعقله هو الطفل، وهناك من المفكرين والعلماء والعباقرة من لا يستخدم من عقله إلا اثنان بالمائة فقط. إذاً الطفل طاقة جبارة في الحفظ، فإما أن يحفظ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2] أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2] وإما أن يحفظ تلك الأغاني، والمسلسلات، والأفلام التافهة .. فلابد له من أحد هذين الأمرين.

تدبر القرآن الكريم

كيف نعيش مع القرآن؟ القرآن عظيم، وليس هو للصغار أو الكبار أو للمرضى فقط، بل هو للناس كافة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لـابن مسعود: (اقرأ علي القرآن. قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري ...) فلا تجعل وقتك كله قراءة، بل اجعل بعض الأوقات للسماع، وضع بعض أشرطة القرآن في السيارة وأنت ذاهب إلى العمل وأنت ذاهب إلى المنزل .. (قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) من القارئ؟ إنه ابن مسعود رضي الله عنه، ومن المستمع؟ إنه أفضل الخلق محمد عليه الصلاة والسلام. وما الحديث بينهما؟ إنه كلام الرب جل وعلا، فإذ بالمجلس يعقد، وإذا بـابن مسعود يستعيذ بالله ويقرأ (قال: فقرأت من سورة النساء، حتى بلغت قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن. فالتفت فإذا عيناه تذرفان) هذا هو القرآن العظيم، الذي أنار تلك القلوب الخاوية، وتلك الصدور الموحشة، وتلك الأفئدة المظلمة.

كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه يقرأ القرآن في الصلاة وكان إماماً، حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6] فانفجر بالبكاء، حتى ما استطاع أن يكمل القراءة، فكبر وركع وأكمل صلاته.

يقرءون القرآن بقلوب حية وجلة قال الله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] هذه صفة المؤمنين، انظر هل أنت منهم أم لا؟ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] هل إذا سمعت كلام الله يوجل القلب ويرتجف؟ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً [الأنفال:2] هل أنت منهم؟ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].

وهذا عمر بن الخطاب الذي كان قبل الإسلام ذا قلب شديد .. صلى بالناس صلاة الفجر، فقرأ سورة يوسف حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] فأخذ يبكي حتى سمع نشيجه وراء الصفوف .. أرأيت كيف يعيشون مع كتاب الله؟

قد تسألني وتقول: هناك هم في صدري. أقول لك: اقرأ كلام الله تقول: هناك ضيق في الصدر. أقول لك: اقرأ كلام الله. تقول: أحس بعض الأحيان بالوحشة. أقول لك: ارجع إلى كلام الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

انظروا إلى بيت الفضيل بن عياض الذي كان يسمى عابد الحرمين؛ رجل بلغ القمة في العبادة والزهد، هذا الرجل كان عنده ولد اسمه علي، وكان أعبد منه وأزهد؛ لأن رب الأسرة إذا كان صالحاً يخرج أولاداً صالحين هذا في الغالب والعموم:

إذا كان رب البيت بالدف ضارباً     فشيمة أهل البيت الغناء والرقص

هذا الرجل دخل إلى البيت يوماً فرأى ولده علي بن الفضيل كأنه متضايق يجول في البيت وكأن شيئاً أصابه، فقال له: ما بالك يا بني؟ ما الذي جرى؟ قال: يا أبي تفكرت في النار كيف الخلاص منها؟ -انظر بماذا يهتم الابن ويفكر، أسألكم أيها الآباء: هل دخلتم إلى المنزل يوماً واشتكى الابن من شيء من أمور دينه؟- قال: يا أبي تفكرت في النار كيف الخلاص منها؟ ثم قال: يا أبي أسألك أن تسأل الذي وهبك إياي في الدنيا أن يهبك إياي في الآخرة، ثم بكى، يقول الفضيل: فأحزنني فأخذت أبكي.

علي بن الفضيل كان ليله قيام ونهاره صيام، يقولون: ما كان يطيق أن يقرأ سورة القارعة .. سورة القارعة التي نرددها صباح مساء ونقرؤها ولا نتدبرها، علي بن الفضيل كان لا يستطيع قراءتها كلها، بل كان ما يطيق أن يسمعها من غيره.

وكان سفيان الثوري يحدث الناس في المسجد، فإذا به يسمع شاباً يبكي بكاء شديداً، فقال: من هذا الذي يبكي؟ قالوا: هذا علي بن الفضيل بن عياض، فقال لهم: والله لو علمت أنه في المجلس ما حدثتكم عن النار.

سألتني امرأة بالهاتف يوماً فقالت: يا شيخ أريد أن أنتحر. لا إله إلا الله! في بلاد المسلمين ومن أب وأم مسلمين! لِمَ تريدين الانتحار؟ تقول: جربت كل أنواع المعاصي والفساد، والآن إذا لم تكلمني وتردني عن الانتحار فسوف أنتحر. الله أكبر! أتعرف لماذا؟ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [طـه:124] أي قرآن في جوفها؟ أي ذكر لله؟ أي صلاة؟ أي عبادة؟ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].

أيها الآباء: حرضوا أبناءكم على حفظ كتاب الله، وأتوا بهم إلى حلقات القرآن.

أيها الشباب: استغلوا أعماركم في حفظ كتاب الله فأيما إهاب -جلد- خالطه كلام الله فقد حرمه الله على النار، (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).

يلبس تاج الوقار، ويكرّم أبوه وأمه عند الله جل وعلا يوم القيامة .. فإن أكبر شرف وأكبر عزٍ لك يوم القيامة عندما يأتى ابنك وقد ختم كتاب الله جل وعلا.

هل تريد يا أخي الكريم! أن يكون ابنك حافظاً لكلام الله أو مطرباً؟ اسأل نفسك هذا السؤال: أيهما أشرف لك، وأكثر رفعة وعزة: أن يملأ صدر ابنك كلام الله جل علا، أم يملؤه الغناء والطرب؟ فكر، وكن صادقاً مع نفسك، فإن العبرة ليست في الدنيا، إذا تعلق الابن بأبيه يوم القيامة يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

أخي العزيز: لنرجع مرة أخرى إلى كتاب الله قراءة وحفظاً وتدبراً، يقول تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] فهذا سعيد بن جبير قام ليلة كاملة بآية واحدة يرددها ويبكي، وهو أحد التابعين، ومن أعبد الناس، يقوم ليلة كاملة بقوله تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59].

العمل بالقرآن

كتاب الله عمل.

نقرأ ونتعلم ثم نعمل، فهذا عمر بن الخطاب أغضبه يوماً عبد من عبيده، فكاد أن يضربه، فقرأ قول تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134] فقال عمر: كظمت غيظي قال: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134] فقال: عفوت عنك قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] قال: أنت حر لوجه الله. انظر كيف كانوا يتعاملون مع كتاب الله!! وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] فهم يلتزمون ويحتكمون بكتاب الله جل وعلا.

الحكم بين الناس بالقرآن

إذا اختلف الناس وتنازعوا فعليهم أن يرجعوا إلى كتاب الله، قال تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] فكل من انصرف عن الحكم بكتاب الله فإنه يتبع هواه .. وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49] لو تركت شعيرة من شعائر الإسلام وقلت: أحكم بالكتاب كله إلا هذه، قال الله: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49-50] ويقول صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي).

وأشكركم مرة أخرى أيها الإخوة الكرام على حضوركم وصبركم في هذا المجلس.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

كيف نعيش مع القرآن؟ القرآن عظيم، وليس هو للصغار أو الكبار أو للمرضى فقط، بل هو للناس كافة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لـابن مسعود: (اقرأ علي القرآن. قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري ...) فلا تجعل وقتك كله قراءة، بل اجعل بعض الأوقات للسماع، وضع بعض أشرطة القرآن في السيارة وأنت ذاهب إلى العمل وأنت ذاهب إلى المنزل .. (قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) من القارئ؟ إنه ابن مسعود رضي الله عنه، ومن المستمع؟ إنه أفضل الخلق محمد عليه الصلاة والسلام. وما الحديث بينهما؟ إنه كلام الرب جل وعلا، فإذ بالمجلس يعقد، وإذا بـابن مسعود يستعيذ بالله ويقرأ (قال: فقرأت من سورة النساء، حتى بلغت قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن. فالتفت فإذا عيناه تذرفان) هذا هو القرآن العظيم، الذي أنار تلك القلوب الخاوية، وتلك الصدور الموحشة، وتلك الأفئدة المظلمة.

كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه يقرأ القرآن في الصلاة وكان إماماً، حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6] فانفجر بالبكاء، حتى ما استطاع أن يكمل القراءة، فكبر وركع وأكمل صلاته.

يقرءون القرآن بقلوب حية وجلة قال الله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] هذه صفة المؤمنين، انظر هل أنت منهم أم لا؟ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] هل إذا سمعت كلام الله يوجل القلب ويرتجف؟ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً [الأنفال:2] هل أنت منهم؟ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].

وهذا عمر بن الخطاب الذي كان قبل الإسلام ذا قلب شديد .. صلى بالناس صلاة الفجر، فقرأ سورة يوسف حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] فأخذ يبكي حتى سمع نشيجه وراء الصفوف .. أرأيت كيف يعيشون مع كتاب الله؟

قد تسألني وتقول: هناك هم في صدري. أقول لك: اقرأ كلام الله تقول: هناك ضيق في الصدر. أقول لك: اقرأ كلام الله. تقول: أحس بعض الأحيان بالوحشة. أقول لك: ارجع إلى كلام الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

انظروا إلى بيت الفضيل بن عياض الذي كان يسمى عابد الحرمين؛ رجل بلغ القمة في العبادة والزهد، هذا الرجل كان عنده ولد اسمه علي، وكان أعبد منه وأزهد؛ لأن رب الأسرة إذا كان صالحاً يخرج أولاداً صالحين هذا في الغالب والعموم:

إذا كان رب البيت بالدف ضارباً     فشيمة أهل البيت الغناء والرقص

هذا الرجل دخل إلى البيت يوماً فرأى ولده علي بن الفضيل كأنه متضايق يجول في البيت وكأن شيئاً أصابه، فقال له: ما بالك يا بني؟ ما الذي جرى؟ قال: يا أبي تفكرت في النار كيف الخلاص منها؟ -انظر بماذا يهتم الابن ويفكر، أسألكم أيها الآباء: هل دخلتم إلى المنزل يوماً واشتكى الابن من شيء من أمور دينه؟- قال: يا أبي تفكرت في النار كيف الخلاص منها؟ ثم قال: يا أبي أسألك أن تسأل الذي وهبك إياي في الدنيا أن يهبك إياي في الآخرة، ثم بكى، يقول الفضيل: فأحزنني فأخذت أبكي.

علي بن الفضيل كان ليله قيام ونهاره صيام، يقولون: ما كان يطيق أن يقرأ سورة القارعة .. سورة القارعة التي نرددها صباح مساء ونقرؤها ولا نتدبرها، علي بن الفضيل كان لا يستطيع قراءتها كلها، بل كان ما يطيق أن يسمعها من غيره.

وكان سفيان الثوري يحدث الناس في المسجد، فإذا به يسمع شاباً يبكي بكاء شديداً، فقال: من هذا الذي يبكي؟ قالوا: هذا علي بن الفضيل بن عياض، فقال لهم: والله لو علمت أنه في المجلس ما حدثتكم عن النار.

سألتني امرأة بالهاتف يوماً فقالت: يا شيخ أريد أن أنتحر. لا إله إلا الله! في بلاد المسلمين ومن أب وأم مسلمين! لِمَ تريدين الانتحار؟ تقول: جربت كل أنواع المعاصي والفساد، والآن إذا لم تكلمني وتردني عن الانتحار فسوف أنتحر. الله أكبر! أتعرف لماذا؟ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [طـه:124] أي قرآن في جوفها؟ أي ذكر لله؟ أي صلاة؟ أي عبادة؟ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].

أيها الآباء: حرضوا أبناءكم على حفظ كتاب الله، وأتوا بهم إلى حلقات القرآن.

أيها الشباب: استغلوا أعماركم في حفظ كتاب الله فأيما إهاب -جلد- خالطه كلام الله فقد حرمه الله على النار، (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).

يلبس تاج الوقار، ويكرّم أبوه وأمه عند الله جل وعلا يوم القيامة .. فإن أكبر شرف وأكبر عزٍ لك يوم القيامة عندما يأتى ابنك وقد ختم كتاب الله جل وعلا.

هل تريد يا أخي الكريم! أن يكون ابنك حافظاً لكلام الله أو مطرباً؟ اسأل نفسك هذا السؤال: أيهما أشرف لك، وأكثر رفعة وعزة: أن يملأ صدر ابنك كلام الله جل علا، أم يملؤه الغناء والطرب؟ فكر، وكن صادقاً مع نفسك، فإن العبرة ليست في الدنيا، إذا تعلق الابن بأبيه يوم القيامة يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

أخي العزيز: لنرجع مرة أخرى إلى كتاب الله قراءة وحفظاً وتدبراً، يقول تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] فهذا سعيد بن جبير قام ليلة كاملة بآية واحدة يرددها ويبكي، وهو أحد التابعين، ومن أعبد الناس، يقوم ليلة كاملة بقوله تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59].