قوم صالح


الحلقة مفرغة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد:

أيها الإخوة الكرام!

لقد أعطى الله عز وجل قوم صالح من الخيرات العظيمة والأمن والنعيم والرفاهية ما لم يؤت أحداً من العالمين في ذلك العصر؛ لكنهم كفروا بالله، وجحدوا أمره، وعبدوا غيره، ولم يشكروه جل وعلا، فأرسل إليهم صالحاً نذيراً.

تذكير صالح لقومه بالله وتكذيبهم له

إنه صالح عليه السلام، نبي عربي أرسله الله جل وعلا لينذر قوماً هو منهم وفيهم، ينذرهم عذاب الله جل وعلا، فجاءهم صالح فقال: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] وهي دعوة الرسل والأنبياء، بل هي بداية الدعوات، هي نبذ الشرك، وتوحيد الله جل وعلا: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] جاءوا لصالح عليه السلام قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا [هود:62] كنا نظن أن فيك عقلاً قبل هذه الكلمات، كنا نحسن فيك الظن بأنك حكيم قبل هذه الدعوة، أما الآن فأنت مجنون، قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [هود:62] أتنهانا عن عبادة ما عبد الآباء والأجداد والقبيلة وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود:62]؟!

وجاءوا مرة أخرى وقالوا له: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء:153] أي: سحرك الجن، أو سحرك بعض الناس فجئت بهذه الدعوة.

انظروا السب! انظروا الشتم! انظروا الاتهام! ما رد عليهم إلا بكلمات فيها الشفقة والرحمة، قال: يا قوم! -انظروا إلى الخطاب!- أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ [الشعراء:146] يا قوم! أتظنون أن الأمن يستمر؟! يا قوم! أتظنون أن نعمة الأمن والطمأنينة تستمر عليكم أبد الدهر؟! أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [الشعراء:146-148] أتظنون كل هذه النعمة دائمة وباقية وأنتم تكفرون بالله؟! لا تحكمون فيما بينكم بشرع الله؟! ولا تتحاكمون إلى الله؟! وهذه الكلمات إن دلت فإنما تدل على الشفقة.

ثم ذكَّرهم بالبيوت: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُون [الشعراء:149-150] أي: خافوا الله واخشوه.

انظروا إلى الكلمات كيف خرجت من هذا القلب الرحيم! ولكنها سرعان ما تقابَل بالاتهام وبالشتم: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء:153].

قوم صالح يطلبون معجزة ثم يكفرونها

جاءهم في يوم من الأيام وكانوا جلوساً في نادٍ من نواديهم، فأمرهم بعبادة الله، فخرج أحدهم فقال: يا صالح! تريد منا الإيمان؟ قال: نعم. آمنوا بالله وحده: لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الأنعام:90] لا أريد المال ولا المنصب، ولا الزوجة ولا البيت، ولا أريد شيئاً منكم، أريد منكم أن تنقذوا أنفسكم من النار.

قالوا: يا صالح! نؤمن لك بشرط واحد.

قال: وما هو؟

قالوا له: أخـرِج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء، أي: ناقة في بطنها جنين.

ثم ماذا؟ وفيها لبن يكفي القرية كلها، وكان في القرية ما يقارب خمسة آلاف بيت، وفي كل بيت مجموعة من الأفراد.

قالوا: وتؤمنوا؟

قالوا: نعم.. نؤمن.

قال: وعد بينكم وبين الله؟

قالوا: نعم.. وعد بيننا وبين الله.

فقام صالح عليه السلام يصلي، ويرفع يديه إلى الله، ويدعو ربه جل وعلا، فإذا بالناقة تخرج أمام أعينهم مبصرة، فخرجت هذه الناقة من الصخرة، وفي بطنها جنين، وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59] أي: أمام الأعين والناس ينظرون، فانبهروا، وآمن كثير من الناس، ولكن الأكثر منهم كفر، وغالبهم ظلموا أنفسهم: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [الإسراء:59].

قال: يا قوم! آمنوا، هذا وعد بينكم وبين الله.

ولكن طبيعة الناس أنهم يعِدُون الله، فلما يأتيهم بالآيات والبينات يكفرون ويظلمون، ويفجرون ويجحدون وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

فأخذ يدعوهم ويلح عليهم، يقول: هذه ناقة الله، ناقة شريفة، أضيفت إلى الله جل وعلا، لم تخرج كما خرجت النوق، إنما خرجت من صخرة، فهي ناقة مشرفة: لَهَا شِرْبٌ [الشعراء:155] أي: يوم لا تشربون شيئاً من البئر، ولا تشرب ماشيتكم وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155] أي: وأنتم تشربون في اليوم الآخر.

مرت الأيام فجاءت بغيٌّ من بغايا قومه -وانظروا إلى النساء وكيدهن!- أهلك الله هذه القرية بسببها، فجاءت إلى رجل فقالت: أمكنك من نفسي بشرط واحد.

قال: وما هو الشرط؟

قالت له: أن تقتل هذه الناقة، وكان قد قال لهم صالح: وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ [هود:64] أي: لا تعترضوا لها بسوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [هود:64] وقال: أَلِيمٌ [الأعراف:73] وقال: عَظِيمٍ [الشعراء:156] كل هذه الأوصاف أوصاف لذلك اليوم، فجاءت البغي واشترطت على عشيقها أن يقتل هذه الناقة، وجاءت امرأة عجوز كافرة لها أربع بنات قالت: مَن يقتل هذه الناقة فإني أخيره من هذه البنات الأربع.

قتلهم الناقة ونزول العذاب عليهم

فقام كدار المسالك ومعه أشقى القوم، وجمعا سبعة من أصدقائهما في تلك القرية كما قال الله جل وعلا: تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [النمل:48] اثنان ومعهم سبعة، فاجتمعوا على هذه الناقة، فرموها بالنبال، فسالت الدماء، ثم حزوا رأسها وقطعوها، فرغت رغاء سمعه كل من كان بحولها، فسمع ابنُها هذا الرغاءَ فولَّى وهرب، قال بعض المفسرين: دخل في الصخرة التي خرج منها، وقال بعضهم: بل تبعوه وقتلوه كما قتلوا أمه، فرغى ثلاث مرات.

فنظر صالح عليه السلام إلى ناقة الله، نظر إليها ميتة مقتولة، فبكى صالح عليه السلام بكاءً شديداً مراً، وأشفق على قومه فقال لقومه: أدركوا ولدها لعل الله أن يتوب عليكم، أدركوا ولدها، فلحقوا ولدها فإذا هو مقتول كما قتلت أمه، فنظر صالح وبكى، وقال لقومه: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود:65] ثلاثة أيام لا تعيشون بعدها، ويأتيكم عذاب الله جل وعلا.

فنظروا إلى صالح وكانوا يعلمون أنه صادق.

فلما جاءوا اليوم الأول يوم الخميس وأصبحوا فإذا الوجوه كلها مصفرَّة، وجوه القوم كلها قد اصفرَّت وقد جفت العروق، فنظروا إلى بعضهم بعضاً فلما أمسوا قال قائلهم: ألا قد ذهب يوم من الأجل، ألا قد ذهب يوم من الأجل!

فلما أصبحوا في يوم الجمعة إذا وجوههم كلها قد احمرَّت، وعلموا بقرب الموعد، فلما أمسوا قالوا: ألا قد مضى يومان من الأجل، ألا قد مضى يومان من الأجل!

فلما جاء اليوم الثالث أصبحوا وقد اسودَّت الوجوه، فلما أمسوا قال قائلهم: ألا قد مضى الأجل، ألا قد مضى الأجل!

فحفر كل واحد في غرفته قبره، وجلس فيه، وتحنط، وتكفن، وانتظر وعد الله جل وعلا، وقبل الفجر أوحى الله لصالح: اخرج أنت ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل من قومه، قال بعضهم: مائة وعشرون فقط، كل هذه السنين لم يؤمن مع صالح إلا مائة وعشرون نفساً، وبقي خمسة آلاف بيت، كلهم كفروا بالله، قال: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:65].

فلما جاء اليوم الرابع وقد انتهت المدة ومضى الأجل، أصبحوا وقد وبزغ الفجر، وإذا بهم يسمعون صيحة من السماء، والأرض ترجف تحتهم، فإذا بأنفسهم كلها قد زهقت وخرجت إلى الله، وقد تقطعت القلوب: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ [هود:67-68] عارضوا أمر الله، وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفروا بربهم جل وعلا، ولم يحكموا بينهم بما أنزل الله، بل عبدوا غيره ولم يشكروه جل وعلا.

فإذا بالجنات، وبالعيون، وبالأنهار، وبالبيوت الفارهة، وإذا بالقصور كلها كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [هود:68] تمر على ديارهم -وهي موجودة إلى هذه اللحظة- فترى أثر اللعنة، وأثر الغضب على بيوتهم، بل مر عليه الصلاة والسلام على بيوتهم في غزوة تبوك، فسمع أن بعض الصحابة قد ذهب مسرعاً ليرى قصورهم وبيوتهم قد نحتت في الجبال، فنهاهم عليه الصلاة والسلام وقال: ( لا تدخلوها إلا وأنتم باكون، فإن لم تبكوا فتباكوا؛ أن يصيبكم ما أصابهم ) أي: لعله يصيبكم العذاب الذي أصابهم، فإن اللعنة قد نزلت في ديارهم، وإن غضب الله قد حل بهم.

يقال: إن رجلاً من قبيلتهم قد نجا، تعلمون لِمَ؟

لأنه كان وقتها في حرم الله جل وعلا، كان يعبد الأصنام في بيت الله الحرام، وكرامة لهذا البيت لم تأخذه الصيحة، فلما مرت الأيام -ويقال له: أبو رغال- خرج من حرم الله، فلما خرج أصابته الصاعقة، فإذا به يخر على الأرض صريعاً، حتى مر عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين بثقيف، وثقيف هؤلاء جدهم أبو رغال ، فلما مر بهم قال لهم: ( قبر مَن هذا؟ قالوا: قبر جد من جدودنا، قال: هذا قبر أبي رغال ، هذا الذي نجا من قوم صالح، وعلامته: أن تجدوا في قبرة غصناً من ذهب ) فتناهشه القوم، فأخرجوا ذلك الغصن، صدقاً لنبوته عليه الصلاة والسلام.

عباد الله! هذه القصة فيها من العبر الكثيرة ما سوف نرجئه إلى الخطبة الثانية.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

إنه صالح عليه السلام، نبي عربي أرسله الله جل وعلا لينذر قوماً هو منهم وفيهم، ينذرهم عذاب الله جل وعلا، فجاءهم صالح فقال: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] وهي دعوة الرسل والأنبياء، بل هي بداية الدعوات، هي نبذ الشرك، وتوحيد الله جل وعلا: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] جاءوا لصالح عليه السلام قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا [هود:62] كنا نظن أن فيك عقلاً قبل هذه الكلمات، كنا نحسن فيك الظن بأنك حكيم قبل هذه الدعوة، أما الآن فأنت مجنون، قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [هود:62] أتنهانا عن عبادة ما عبد الآباء والأجداد والقبيلة وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود:62]؟!

وجاءوا مرة أخرى وقالوا له: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء:153] أي: سحرك الجن، أو سحرك بعض الناس فجئت بهذه الدعوة.

انظروا السب! انظروا الشتم! انظروا الاتهام! ما رد عليهم إلا بكلمات فيها الشفقة والرحمة، قال: يا قوم! -انظروا إلى الخطاب!- أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ [الشعراء:146] يا قوم! أتظنون أن الأمن يستمر؟! يا قوم! أتظنون أن نعمة الأمن والطمأنينة تستمر عليكم أبد الدهر؟! أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [الشعراء:146-148] أتظنون كل هذه النعمة دائمة وباقية وأنتم تكفرون بالله؟! لا تحكمون فيما بينكم بشرع الله؟! ولا تتحاكمون إلى الله؟! وهذه الكلمات إن دلت فإنما تدل على الشفقة.

ثم ذكَّرهم بالبيوت: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُون [الشعراء:149-150] أي: خافوا الله واخشوه.

انظروا إلى الكلمات كيف خرجت من هذا القلب الرحيم! ولكنها سرعان ما تقابَل بالاتهام وبالشتم: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء:153].