خطب ومحاضرات
الاحتساب فضله وأهميته
الحلقة مفرغة
الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من دعاه، له الحمد سبحانه وتعالى، منه الرزق والنعمة، وله الفضل والمنة، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمد عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أقام الدين والملة، ونصح الأمة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! في بيت من البيوت أراد أحد الأبناء أن يشعل النار لغرض من الأغراض، لكنه جعلها تشتعل في شيء من الأثاث وجانب من البيت، فبادر آخر ليطفئ تلك النار بالماء وقت اشتعالها، فزجره ثالث بدعوى ألا يتلوث الأثاث بالماء، وأحسب أن مثل هذا لا يتصور وقوعه على النحو الذي ذكرته، لكنه يحكي صورةً تشبه واقعنا الذي نعيشه سواء كان ذلك في بيوتنا كآحاد وأفراد، أو كان في مجتمعنا كمجتمع وأمة.
وأبلغ من مثالي هذا، وأعمق منه دلالة، وأظهر تأثيراً ما قاله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد ضرب لنا المثل الذي يستحق منا كل تدبر وتأمل، وهو حديث مشهور محفوظ عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
سفينة الحياة والمجتمع كلنا ركاب فيها.. كلنا نلتمس بها الوصول إلى شاطئ الأمان .. كلنا يدرك أن أي أثر سلبي أو إيجابي في هذه السفينة يلمسه مباشرة، فإن تعرضت لخطر الغرق فهو قطعاً سيكون واحداً من الغرقى، وإن نجت وأسرعت فهو من السالمين الغانمين بإذن الله عز وجل.
ابن النحاس من علماء أمتنا يوضح لنا هذا التشبيه ويقول: الدين سفينة النجاة إلى الآخرة، وسفينة هذه الدنيا كسفينة من ضرب فيهم المثل عليه الصلاة والسلام، فالذين يخرقون في السفينة يسببون الهلاك لجميع السفينة، ومثلهم الذين يخرقون في سفينة نجتنا في دنيانا إلى أخرانا. أي: الذين يخرقون في الدين، وهذه شركة واضحة، فالجميع على حد سواء، المسلمون مشتركون في الدين الذي هو النجاة في الآخرة كاشتراك أهل الدنيا في السفينة التي هي نجاتهم في الدنيا، وكما أن السكوت على شركاء السفينة إذا أفسدوا فيها يكون سبب هلاكهم، فكذلك المسلمون عند تركهم الإنكار على الفاسق يكون سبب الهلاك لهم، فإن أخذوا على يده -أي: أخذ بعضهم على يده- حققوا سبب النجاح، وذلك مثل ظاهر في فرض الكفاية، إذا قام به البعض قياماً يفي بالغرض لم يكن في ذلك عتب أو حاجة في دور الآخرين، ثم قال: لا يعترض على من ينكر المنكر إلا من عظم حمقه، وقل عقله، وجهل المعصية وشؤمها. عندما يأتي خارق السفينة ليخرقها هل تظنون أحداً يثني على فعله، أو يقول ما نسمعه اليوم: ذلك حرية شخصية، وهو إنما يفعل شيئاً يخصه حتى ولو كان في دينه وخلقه أو في أهله وزوجه أو في بيته وخاصة نفسه؟ وهل ترون أحداً في هذه السفينة ينظر إليه وهو يخرق الخرق في نصيبه ويتأمل متعجباً أو ينظر إليه متبسماً أم أنه لا يملك إلا أن يمنعه؛ لأن الضرر لا يخصه بل يتعداه إلى غيره، ولا يقدم من الشركاء على خرق السفينة إلا من هو أحمق يستحسن ما هو في الحقيقة قبيح، ويجهل عاقبة فعله الشنيع؟
وكذلك العاصي المقترف لما حرم الله سبحانه وتعالى، والحديث ظاهر في دلالته، وأزيد في إيضاحه ببعض رواياته التي تبين المزيد من معانيه، فقد ورد في الحديث روايات أخرى منها رواية عند الإمام أحمد في مسنده قال: (مثل أولئك مثل ثلاثة ركبوا في سفينة، وعندما قام أحدهم يخرق في نصيبه، قال الآخرون: لا، فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا جميعاً، وإن تركوه هلك وهلكوا جميعاً).
وفي رواية ثالثة (مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، والمداهن فيها).
فهنا أقسام ثلاثة: الواقع أي: المرتكب للمحرم والواقع في المنكر، والمداهن فيها أي: المجامل الساكت المضيع للحقوق، التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما القائم على حدود الله فهو المستقيم على أمر الله فعلاً لأمره وتركاً لنهيه، ومن ذلك قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأقسام الثلاثة ظاهرة بينة في واقع حياتنا.
ننتقل نقلة قصيرة إلى آية تبين المعنى الذي جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية قصة وعبرة، ومثل وحكمة، قصها الله عز وجل لنا في شأن بني إسرائيل: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163].
ثم جاء الوصف من بعد فيما كان من أثر لبقية أهل القرية إزاء الموقف الذي اعتدى فيه المعتدون على ما حرم الله عز وجل: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164].
ماذا كانت النتيجة والعاقبة؟
أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165].
نهى الله بني إسرائيل عن الصيد في يوم السبت، وجعله خاصاً بالتفرغ لطاعة الله، والعبادة والانقطاع لها، وترك العمل، وابتلاهم بسبب فسقهم -كما قال جل وعلا- بأن جعل الأسماك تظهر في يوم السبت كأنما تقول: من يصيدني؟ آمنة ظاهرة على سطح الماء، سهلة ميسورة، قريبة مغرية، فلم يستطع نفر منهم أن يمتنع من ذلك، وأراد الصيد، وأخذ بالحيل الإبليسية الشيطانية، فجعلوا يحفرون الأخاديد، ويضعون الشباك في يوم الجمعة، فتدخل فيها الأسماك وينحدر الماء وتقع الأسماك الأخرى في الشباك، فلا يأخذونها ولا يلمسونها في السبت، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، زاعمين أنهم مبرءون من المعصية، مجانبين لارتكاب المحرم والاعتداء على حدود الله، فجاءت الغيرة الإيمانية، والانتصار لحرمات الله من قوم مؤمنين صادقين، يعلمون أن الضرر سيعم ولا يخص، وأن الأثر سيحيق بهم كما يحيق بغيرهم، فجاءوا ناهين، وجاءوا معترضين، وجاءوا مذكرين.
فجاءت فئة ثالثة فقالت: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ [الأعراف:164] لا فائدة من وعظ أولئك، فهم قوم لا ينفع فيهم الوعظ، ولا يثمر فيهم التذكير، ولا يرعوون ولا يرتجعون عن مثل هذا، فجاء الجواب: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164] نقوم بما أوجب الله علينا.. نؤدي فريضة الله عز وجل فينا.. نحقق حقيقة إيماننا.. نترجم صورة مشاعرنا.. نبين ونعلن كلمة الله عز وجل وحكمه حتى لا يلتبس الأمر على الناس، ولا يختلط الحق بالباطل، ولا ينقلب المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.
(لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) لسنا معنيين ولا مكلفين بأن يتغيروا وأن يتركوا المنكر، فذلك أمره إلى الله، إنك لا تهدي من أحببت، حسبك أن تؤدي الأمر.. أن تقول الذكرى.. أن تحذر بالنهي.. أن توبخ بما يستطاع، وبكل وسيلة يمكن أن يكون فيها أثر نافع مشروع، فانتهت النتيجة إلى ما سمعنا: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:165].
في وضوح وجلاء بأن الذين قاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعلنوا حكم الله، وأظهروا الغيرة على حرمات الله كانوا من الناجين: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأعراف:165] أي: الذين اعتدوا وارتكبوا المنكر بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165].
ثم بقي السؤال ما شأن أولئك الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ)؟! هل نجوا أم عذبوا؟!
قال ابن كثير رحمه الله: لم يذكر؛ لأنهم ساكتون، فليس هناك فعل لهم يوجب مدحهم، ولم يرتكبوا المنكر فيوجب ذمهم، وإن كان أهل التفسير ذكروا فيما ذكروا أنهم من الناجين في الجملة لأسباب ظاهرة، وهو أن النص لم يتناولهم، ولم يكونوا ظالمين أي: فاعلين للمنكر، ولأمر آخر، وهو أنهم إنما قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ).
للدلالة على أنهم قد نهوا من قبل فلم يستجب لهم، فقالوا مثل هذا، أو أنهم في ظاهر قولهم أبدوا إنكارهم بلسانهم وبما يعتمر في قلوبهم، لكن الأمر حينئذ أصبح ظاهراً في أن الجميع ينالهم الأثر في آخر الأمر، حتى وإن برئت ذممهم عند الله في الآخرة إلا أن عقوبة الدنيا وما يحصل من البلاء هو من سنة الله سبحانه وتعالى.
هكذا قال ابن حجر إقامة الحدود -أي: في الدنيا- يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية، والساكت بالرضا بها، وفي الحديث استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف، والأمر في هذا ظاهر بين، وثمة أمور لا بد أن نقف معها هنا لأنها تحكي واقعنا.
ما قص الله علينا القصص عموماً وقصص بني إسرائيل خصوصاً إلا للعظة والعبرة، ألم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عندما تكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربطنا بقصة بني إسرائيل، وأنهم وقع فيهم الهلاك بسبب أنهم كانوا إذا وقع فيهم المنكر لم ينكروه، واستشهد بقوله جل وعلا: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78]؟!
وذكر الله العلة في ذلك بأنهم: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ [المائدة:79].
الحرية الشخصية والوصاية الدينية
ولذلك تأتينا الوجهة الأخرى إذا جئت تنكر، إذا قلت: لا تشعل النار، إذا جئت لتطفئ؛ قالوا: وما الذي يعنيك من هذا؟ وكيف تجترئ على حرية الناس؟ ويقال لك: لماذا تهددنا بالوصاية الدينية؟ ولماذا أنت الذي تريد أن تكون مهيمناً علينا وكأن عندك تفويضاً ربانياً إلهياً بأن تحكم على الخلق؟
نقول: إن ذلك التفويض موجود حقيقة، وهو معني ومقصود به الجميع بلا استثناء: (من رأى منكم -معاشر المؤمنين والمسلمين- منكراً فليغيره، -على صيغة الأمر- بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية أخرى: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) هذه مهمة من الله عز وجل، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن عماد ديننا وعموده، فكيف يقال: إننا نقوم بوصاية دينية؟!
إنها ليست قضية شخصية، إنها قضية الأمة والمجتمع.
استخدام الحيل في إباحة ما حرم الله
فالخمور مشروبات روحية، والربا فوائد اقتصادية، والعري والعهر فنون جميلة أو راقية، وغير ذلك مما قد تستمعون له، ونجد هذا وللأسف يزداد وتتسع دائرته حتى تعم أخياراً من الناس يقعون في مثل تلك المنكرات، وقد تلبس عليهم الأمر حقيقة في بعض الأحوال، فنحن في زمن الاختلاط والالتباس الذي اشتبهت فيه على كثير من الناس حرمة أمور مقطوع بحرمتها، حتى فعلها أناس وهم لا يشكون في حلها وجوازها، وهذه صور كثيرة تزداد كل يوم، وتتسع دائرتها في جوانب من حياتنا العامة في أمتنا المسلمة، لا سيما في قضية المرأة -وما أدراك ما المرأة؟- في اتساع الدوائر التي تأخذ لنا شيئاً من الأمور المختلف فيها عند الفقهاء، لتصل بنا بعد ذلك إلى ما وراءه من أمور محرمة لم يقل بها أحد من العلماء سابقاً ولا لاحقاً، ويكون الاتكاء على ذلك الأمر المختلف فيه كما نرى ونعرف دائماً، وإذا تأملنا فإنا نجد أن هذه الحيل والألاعيب والصور هي التي تصيب الأمة في مقتل من جهات ثلاث:
الجهة الأولى: ارتكاب المحرم والوقوع فيه.
الثانية: تخفيف وقع ارتكابه بهذه الحيل والألاعيب.
الثالثة: العمل على نشره وتطبيعه دون وجود من ينكره، ودون وجود من يرى فيه مخالفة أو غير ذلك، قال ابن القيم رحمه الله: في هذا زجر عظيم لمن يتعاط الحيل على المناهج الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، وليس المتحايل على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه، وهذه مسألة مهمة.
قلة السالكين منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إذاً: فلنبق كلنا كالشياطين الخرس لا تنطق بكلمة حق، لا في حال من أحوال اليسر أو العسر، قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164].
سيسألك الله.. وسيسألني.. وسيسأل كل أحد: ماذا فعلت في تلك المنكرات؟
ستقول: لا فائدة، الواجب عليك: (فليغيره) الواجب عليك: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71].
ذلك واجبك قم به معذرة لله عز وجل، وتأمل، فإنه من الممكن أن تقع الكلمة موقعها، وأن تؤثر في نفس سامعها وقلبه، وما يدريك فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ورب طاغية مجرم أو ظالم معتد أو فاسق فاجر تردعه وترده إلى الحق والهدى والصواب كلمة، فلا تحتقرن شيئاً تقوله لوجه الله، وتتحرك فيه غيرة على دين الله، وتؤدي فيه واجب الله، وتقتدي فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أثر ذلك يكون عظيماً بإذن الله عز وجل ولنتصور أن كلاً منا نطق بمعروف ونهى عن منكر، فكم من منكر سيزول بسبب من يقول لصاحبه: قف! وانتبه! واحذر! وخف الله عز وجل! ولو أن كل واحد سكت لما سمعنا شيئاً من ذلك، تأمل هذا المعنى فإن التقصير والتفريط فيه عظيم وكثير للأسف الشديد.
انظر متأملاً إلى صور كثيرة في واقعنا من أجلها وأخطرها المفاهيم المغلوطة، إن أموراً كثيرة تقال اليوم هي مما يخالف المفهوم الصحيح في دين الله، ومن ذلك مسألة الحرية الشخصية، والوصاية الدينية، إن الذين يرتكبون المنكر يخرقون في سفينتنا، إنهم لا يعملون شيئاً يخصهم، إنهم لا يتصرفون في ملكهم، إنهم يتصرفون في أمر نشترك فيه، إن الدين ديننا، وإن الإسلام إسلامنا، وإن الأمة أمتنا، وإن المصلحة مصلحتنا، فلا يقال: إن لأحد حرية شخصية، إن تبرجت المرأة وأظهرت نحرها وذراعيها أو كشفت عن فخذها وساقها فهل نقول: حرية شخصية؟ إنها تعتدي على حرمات الله، إنها تسبب الفتنة في المجتمع، إن الذي يعمل بأمر من الأمور المحرمة شاء أم أبى لن يقتصر أثره العملي فضلاً عن أثره الكوني في سنة الله عز وجل عليه وحده، بل سيتعداه إلى غيره قطعاً وجزماً واقعاً مشاهداً حياً، وهذه مسألة مهمة.
ولذلك تأتينا الوجهة الأخرى إذا جئت تنكر، إذا قلت: لا تشعل النار، إذا جئت لتطفئ؛ قالوا: وما الذي يعنيك من هذا؟ وكيف تجترئ على حرية الناس؟ ويقال لك: لماذا تهددنا بالوصاية الدينية؟ ولماذا أنت الذي تريد أن تكون مهيمناً علينا وكأن عندك تفويضاً ربانياً إلهياً بأن تحكم على الخلق؟
نقول: إن ذلك التفويض موجود حقيقة، وهو معني ومقصود به الجميع بلا استثناء: (من رأى منكم -معاشر المؤمنين والمسلمين- منكراً فليغيره، -على صيغة الأمر- بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية أخرى: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) هذه مهمة من الله عز وجل، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن عماد ديننا وعموده، فكيف يقال: إننا نقوم بوصاية دينية؟!
إنها ليست قضية شخصية، إنها قضية الأمة والمجتمع.
صورة ثانية مهمة وخطيرة، وهي: التحايل على دين الله، والحيل التي يستحل بها الناس ما حرم الله كثيرة، فهذه صورة ذكرتها آيات القرآن، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل أن الله لما حرم عليهم الشحوم ماذا فعلوا؟ جملوها وأذابوها، فاستعملوها وهي زيت ولم يستعملوها وهي سمن، وقالوا: هذا حلال وذاك حرام، تركنا الحرام وأخذنا الحلال، وكم هي الصور التي يرتكب بها الحرام مع بعض التغيير في الأسماء!
فالخمور مشروبات روحية، والربا فوائد اقتصادية، والعري والعهر فنون جميلة أو راقية، وغير ذلك مما قد تستمعون له، ونجد هذا وللأسف يزداد وتتسع دائرته حتى تعم أخياراً من الناس يقعون في مثل تلك المنكرات، وقد تلبس عليهم الأمر حقيقة في بعض الأحوال، فنحن في زمن الاختلاط والالتباس الذي اشتبهت فيه على كثير من الناس حرمة أمور مقطوع بحرمتها، حتى فعلها أناس وهم لا يشكون في حلها وجوازها، وهذه صور كثيرة تزداد كل يوم، وتتسع دائرتها في جوانب من حياتنا العامة في أمتنا المسلمة، لا سيما في قضية المرأة -وما أدراك ما المرأة؟- في اتساع الدوائر التي تأخذ لنا شيئاً من الأمور المختلف فيها عند الفقهاء، لتصل بنا بعد ذلك إلى ما وراءه من أمور محرمة لم يقل بها أحد من العلماء سابقاً ولا لاحقاً، ويكون الاتكاء على ذلك الأمر المختلف فيه كما نرى ونعرف دائماً، وإذا تأملنا فإنا نجد أن هذه الحيل والألاعيب والصور هي التي تصيب الأمة في مقتل من جهات ثلاث:
الجهة الأولى: ارتكاب المحرم والوقوع فيه.
الثانية: تخفيف وقع ارتكابه بهذه الحيل والألاعيب.
الثالثة: العمل على نشره وتطبيعه دون وجود من ينكره، ودون وجود من يرى فيه مخالفة أو غير ذلك، قال ابن القيم رحمه الله: في هذا زجر عظيم لمن يتعاط الحيل على المناهج الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، وليس المتحايل على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه، وهذه مسألة مهمة.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2907 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2730 استماع |
فاطمة الزهراء | 2694 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2627 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2541 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2533 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2533 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2486 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2467 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2451 استماع |