خطب ومحاضرات
وجاء الصيف
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
فيا أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
هذا الدرس الأسبوعي وعنوانه اليوم: (وجاء الصيف)، وهو الدرس التاسع والعشرون، وكلنا يعلم أن التغيرات الاجتماعية تلقى تجاوباً وتغيراً في أحوال الناس أو ممارساتهم؛ لأن هذه القضايا تعم وتشمل الناس والمجتمع، إذ حينما تنتهي الدراسة أو يبدأ العمل أو تمنح فرص الإجازة تكون هناك من الأعمال والمناسبات ما لا يكون في غيرها، وموسم الصيف أيضاً فيه كثير من القضايا التي تحتاج إلى لفت النظر والتنبيه؛ لعل الفائدة تتم من خلال ذلك بعون الله جل وعلا، وسنذكر جملة من الموضوعات تحت هذه العناوين الرئيسة الخمسة:
أولها: مفاهيم خاطئة.
الثاني: ممارسات خاطئة.
والثالث: ميادين الخير.
والرابع: مشاريع مقترحة.
والخامس: تتمات مما يتصل بالموضوع.
مفهوم العطلة
وتتغير المفاهيم أيضاً بالاختلاط والامتزاج بمجتمعات وثقافات وديانات مغايرة لما نحن عليه، تهب علينا منها بعض الأفكار وبعض التصورات، ويميل إليها بعض الناس وتتبدل حينئذ المقاييس والموازين.
ووقفتنا في هذه المفاهيم مع ما يتعلق بالصيف، سيما في قطاع عريض وهو قطاع الطلاب، ويتبعه قطاع الأسرة والمجتمع؛ فهناك مفهوم العطلة أو الإجازة، والحقيقة أن بعض الألفاظ تلقي ظلالاً من المفاهيم الخاطئة، فإن كلمة (العطلة) من حيث الاشتقاق تلقي ظلالاً من المفهوم الخاطئ الذي ينتشر عند بعض الناس، ففي لسان العرب يقول: تعطل الرجل، إذا بقي لا عمل له. والاسم (العطلة) مشتق من الفعل (عطل) الذي هو البقاء بلا عمل، قال: والمعطل: الموات من الأرض، وإذا ترك الثغر من ثغور المسلمين مهملاً بلا حماية من الجند والجيش سمي ثغراً معطلاً، والمواشي إذا أهملت بلا راع عطلت، وكذلك الرعية إذا لم يكن لها وال يسوسها، وقد عطلوا، أي أهملوا. وإبل معطلة، أي لا راعي لها.
ثم قال: والتعطيل التفريغ. قال: وقد يستعمل العطل في الخلو من الشيء، وإن كان أصله في اللغة في الحلي.
أصل الكلمة يقال: امرأة عطلة أو عطلاء. أي لا حلي لها، يعني: أنها مجردة من الزينة، خالية منها.
قال: وقد يستعمل العطل في الخلو من الشيء وإن كان أصله في الحلي، فيقال: عطل الرجل من المال والأدب، فهو عطل ومعطل، يعني: لا مال عنده ولا أدب.
فإذا تأملنا هذه الكلمات واشتقاقها، فإننا نرى أن الظاهر في معنى العطلة أنه البطالة والفراغ والخلو من العمل، والركون إلى الكسل وعدم الجد أو النشاط أو الاكتساب أو الزيادة في أي أمر من الأمور التحصيلية التي يعتادها الناس.
فرجل عطل أو عنده عطلة، يعني: أنه خال من كل شيء.
ومن خلال الواقع نجد أن مفهوم هذه الكلمة ينطبق على هذا المعنى عند كثير من الناس، فتجد أن قطاعاً من الطلاب ومن المجتمع يقولون: العطلة تعني الفراغ، وكأننا نعتبر هذا الوقت الطويل بما فيه من الساعات والأيام والأسابيع والشهور عطالة وبطالة من العمل والجد والإنتاج، ولك أن تستغرب بل أن تستنكر أن يكون هذا المدى من الزمن الذي يبلغ نحو ربع العام، عطلة، ولو مد الإنسان في الحساب فإنه بالنسبة للطالب أو من يرتبط بترك العمل والتفرغ بنفس منهج وزمن الطلاب؛ فإن ربع عمره عطلة.
فإذا قال القائل: العطلة شهر.. شهران.. شهران ونصف، ولا بأس أن تكون فراغاً وبطالة ما دام أن هناك جداً، لكن المعلوم أن الباقي ليس فيه جد، بل هو مخلوط في أكثره بكسل وخور.
أقول من لطائف ما ذكرت بعض الصحف في قراءة قديمة: أنهم حسبوا بعض الأوقات اليسيرة في اليوم، ثم في الأسبوع، ثم بعد ذلك في وقت طويل؛ فإذا بها زمن.
ذكرت بعض الصحف عن حلاقة الذقن عند غير المسلمين، وحتى عند المفرطين من المسلمين، فقالت: يستغرق زمن الحلاقة ما بين عشر دقائق إلى ربع ساعة، فإذا بها في أربعة أيام ساعة وإذا بها في الأسبوع تبلغ ساعتين إلا ربع ساعة، ثم حسبها في العام فإذا بها أيام، ثم إذا حسبتها في عدة سنوات إذا بها تبلغ مبلغ الشهور، فيتعجب الإنسان يقول: هل يعقل، لو قلت لإنسان ما: إن رجلاً يصرف شهرين أو ثلاثة من وقته في حلاقة ذقنه لما صدق، لكن في الواقع يقع مثل هذا كثيراً.
فالمعنى المفهوم الخاطئ هو أن يتصور الناس أن هناك عطلة.
مفهوم الإجازة
أيضاً جاء في لسان العرب يقول: جزت الطريق جوزاً وجوازاً، وجاز به وجاوزه وأجازه وأجاز غيره، وجازه أي سار فيه وسلكه.
فمعنى: جزت الطريق أو أجزت الطريق: سرت فيه وسلكته، قال: وأجازه خلفه وقطعه، يعني: خلفه وراءه، وقطع الطريق أي: انتهى من مرحلة ويستقبل مرحلة أخرى جديدة، ولذلك قال أيضاً: الاجتياز هو السلوك، فمعنى: اجتاز الشيء سلك فيه حتى يتجاوزه.
نحن نقول في الدعاء: اللهم تجاوز عنا، يعني: اغفر لنا، وبمعنى أن يكون هناك انتقال من المؤاخذة على هذا العمل إلى غيره.
ثم قال: والجواز صك المسافر، أي: الذي يجوز به المراحل وينتقل به من منطقة إلى منطقة أو من مرحلة إلى مرحلة، ولا أعلم فيما اطلعت أو قرأت من التاريخ أن هناك جوازات كانت فيما مضى، لكن ربما يكون هناك جواز عند الاحتياج، مثل السفير أو مثل الذي يبلغ رسالة، فيفيد أنه يسمح له بالدخول إلى مكان ونحو ذلك.
قال: والجواز صك المسافر، وأجاز البيع أي: أمضاه، وفي الحديث: (أجيزوا الوفد) أي: أعطوهم الجائزة، والجائزة: العطية، وتكون العطية والجائزة في مقابل ما قطع من المرحلة، وفي هذا المعنى أيضاً: الإجازة في العلم، يقولون مثلاً: أجازه الشيخ إذا ختم الكتاب وقطع مرحلة، أي: أعطاه الجائزة المعنوية بأنه قد نال هذا العلم وشهد له به، أو الإجازة بمعنى الشهادة كما أشرت، فمعنى الإجازة على هذا المفهوم أنه اجتاز مرحلة وأجيز بها، يعني: قطعها وشهد له بقطعها، والذي ينتهي من مرحلة في غالب الأمر هل انتهى من مراحله كلها؟ إذا كان انتهى من المراحل كلها فله أن يرتاح وأن يركن وأن يسكن، ولكن نعلم أن المسلم ليست عنده مرحلة ينتهي فيها إلى حد حتى يلقى الله جل وعلا، ويلفظ آخر أنفاسه، كما قال الله جل وعلا: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] .
إذاً: هذان المفهومان الخاطئان يمكن أن نصوغهما في معنيين، نحتاج إلى التنبيه عليهما بشيء من التذكير والقصص والحوادث.
يتبين من خلال هذه الكلمات والمقدمة: أن هناك فترة نبحث فيها عن الراحة والبطالة، ونصرف كل صورة من صور الجد والعمل، وأن هناك فراغاً يحتاج الإنسان فيه إلى تضييع الوقت.
هذان مفهومان عند الناس: أن هذا الوقت ينبغي أن يكون للراحة والسكون والخلود والكسل، أو إذا كان هناك من حركة فإنها حركة في تضييع الوقت ومحاولة الاستمتاع، دون النظر إلى ما سيترتب على هذه الممارسة من فائدة، ولذلك نقف عند هذين المفهومين من خلال هذه التعليقات اليسيرة.
ونبدأ بالمفاهيم الخاطئة، إذ إن كثيراً من الأعراف والممارسات تنطلق أصلاً من المفهوم الذي يستقر في أذهان الناس، والمفاهيم تنحرف وتتبدل وتتغير إذا لم يكن هناك ارتباط بالثوابت وأصالة مع المنهج الإسلامي، ووضوح فيما يجب وما لا يجب، وما يجوز وما لا يجوز ونحو ذلك.
وتتغير المفاهيم أيضاً بالاختلاط والامتزاج بمجتمعات وثقافات وديانات مغايرة لما نحن عليه، تهب علينا منها بعض الأفكار وبعض التصورات، ويميل إليها بعض الناس وتتبدل حينئذ المقاييس والموازين.
ووقفتنا في هذه المفاهيم مع ما يتعلق بالصيف، سيما في قطاع عريض وهو قطاع الطلاب، ويتبعه قطاع الأسرة والمجتمع؛ فهناك مفهوم العطلة أو الإجازة، والحقيقة أن بعض الألفاظ تلقي ظلالاً من المفاهيم الخاطئة، فإن كلمة (العطلة) من حيث الاشتقاق تلقي ظلالاً من المفهوم الخاطئ الذي ينتشر عند بعض الناس، ففي لسان العرب يقول: تعطل الرجل، إذا بقي لا عمل له. والاسم (العطلة) مشتق من الفعل (عطل) الذي هو البقاء بلا عمل، قال: والمعطل: الموات من الأرض، وإذا ترك الثغر من ثغور المسلمين مهملاً بلا حماية من الجند والجيش سمي ثغراً معطلاً، والمواشي إذا أهملت بلا راع عطلت، وكذلك الرعية إذا لم يكن لها وال يسوسها، وقد عطلوا، أي أهملوا. وإبل معطلة، أي لا راعي لها.
ثم قال: والتعطيل التفريغ. قال: وقد يستعمل العطل في الخلو من الشيء، وإن كان أصله في اللغة في الحلي.
أصل الكلمة يقال: امرأة عطلة أو عطلاء. أي لا حلي لها، يعني: أنها مجردة من الزينة، خالية منها.
قال: وقد يستعمل العطل في الخلو من الشيء وإن كان أصله في الحلي، فيقال: عطل الرجل من المال والأدب، فهو عطل ومعطل، يعني: لا مال عنده ولا أدب.
فإذا تأملنا هذه الكلمات واشتقاقها، فإننا نرى أن الظاهر في معنى العطلة أنه البطالة والفراغ والخلو من العمل، والركون إلى الكسل وعدم الجد أو النشاط أو الاكتساب أو الزيادة في أي أمر من الأمور التحصيلية التي يعتادها الناس.
فرجل عطل أو عنده عطلة، يعني: أنه خال من كل شيء.
ومن خلال الواقع نجد أن مفهوم هذه الكلمة ينطبق على هذا المعنى عند كثير من الناس، فتجد أن قطاعاً من الطلاب ومن المجتمع يقولون: العطلة تعني الفراغ، وكأننا نعتبر هذا الوقت الطويل بما فيه من الساعات والأيام والأسابيع والشهور عطالة وبطالة من العمل والجد والإنتاج، ولك أن تستغرب بل أن تستنكر أن يكون هذا المدى من الزمن الذي يبلغ نحو ربع العام، عطلة، ولو مد الإنسان في الحساب فإنه بالنسبة للطالب أو من يرتبط بترك العمل والتفرغ بنفس منهج وزمن الطلاب؛ فإن ربع عمره عطلة.
فإذا قال القائل: العطلة شهر.. شهران.. شهران ونصف، ولا بأس أن تكون فراغاً وبطالة ما دام أن هناك جداً، لكن المعلوم أن الباقي ليس فيه جد، بل هو مخلوط في أكثره بكسل وخور.
أقول من لطائف ما ذكرت بعض الصحف في قراءة قديمة: أنهم حسبوا بعض الأوقات اليسيرة في اليوم، ثم في الأسبوع، ثم بعد ذلك في وقت طويل؛ فإذا بها زمن.
ذكرت بعض الصحف عن حلاقة الذقن عند غير المسلمين، وحتى عند المفرطين من المسلمين، فقالت: يستغرق زمن الحلاقة ما بين عشر دقائق إلى ربع ساعة، فإذا بها في أربعة أيام ساعة وإذا بها في الأسبوع تبلغ ساعتين إلا ربع ساعة، ثم حسبها في العام فإذا بها أيام، ثم إذا حسبتها في عدة سنوات إذا بها تبلغ مبلغ الشهور، فيتعجب الإنسان يقول: هل يعقل، لو قلت لإنسان ما: إن رجلاً يصرف شهرين أو ثلاثة من وقته في حلاقة ذقنه لما صدق، لكن في الواقع يقع مثل هذا كثيراً.
فالمعنى المفهوم الخاطئ هو أن يتصور الناس أن هناك عطلة.
وآتي أيضاً بالكلمة الأخرى وهي كلمة (الإجازة) التي تستخدم أيضاً في التعبير عن هذه الفترة من الزمن فيقولون: العطلة الصيفية، وكذا الإجازة الصيفية.
أيضاً جاء في لسان العرب يقول: جزت الطريق جوزاً وجوازاً، وجاز به وجاوزه وأجازه وأجاز غيره، وجازه أي سار فيه وسلكه.
فمعنى: جزت الطريق أو أجزت الطريق: سرت فيه وسلكته، قال: وأجازه خلفه وقطعه، يعني: خلفه وراءه، وقطع الطريق أي: انتهى من مرحلة ويستقبل مرحلة أخرى جديدة، ولذلك قال أيضاً: الاجتياز هو السلوك، فمعنى: اجتاز الشيء سلك فيه حتى يتجاوزه.
نحن نقول في الدعاء: اللهم تجاوز عنا، يعني: اغفر لنا، وبمعنى أن يكون هناك انتقال من المؤاخذة على هذا العمل إلى غيره.
ثم قال: والجواز صك المسافر، أي: الذي يجوز به المراحل وينتقل به من منطقة إلى منطقة أو من مرحلة إلى مرحلة، ولا أعلم فيما اطلعت أو قرأت من التاريخ أن هناك جوازات كانت فيما مضى، لكن ربما يكون هناك جواز عند الاحتياج، مثل السفير أو مثل الذي يبلغ رسالة، فيفيد أنه يسمح له بالدخول إلى مكان ونحو ذلك.
قال: والجواز صك المسافر، وأجاز البيع أي: أمضاه، وفي الحديث: (أجيزوا الوفد) أي: أعطوهم الجائزة، والجائزة: العطية، وتكون العطية والجائزة في مقابل ما قطع من المرحلة، وفي هذا المعنى أيضاً: الإجازة في العلم، يقولون مثلاً: أجازه الشيخ إذا ختم الكتاب وقطع مرحلة، أي: أعطاه الجائزة المعنوية بأنه قد نال هذا العلم وشهد له به، أو الإجازة بمعنى الشهادة كما أشرت، فمعنى الإجازة على هذا المفهوم أنه اجتاز مرحلة وأجيز بها، يعني: قطعها وشهد له بقطعها، والذي ينتهي من مرحلة في غالب الأمر هل انتهى من مراحله كلها؟ إذا كان انتهى من المراحل كلها فله أن يرتاح وأن يركن وأن يسكن، ولكن نعلم أن المسلم ليست عنده مرحلة ينتهي فيها إلى حد حتى يلقى الله جل وعلا، ويلفظ آخر أنفاسه، كما قال الله جل وعلا: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] .
إذاً: هذان المفهومان الخاطئان يمكن أن نصوغهما في معنيين، نحتاج إلى التنبيه عليهما بشيء من التذكير والقصص والحوادث.
يتبين من خلال هذه الكلمات والمقدمة: أن هناك فترة نبحث فيها عن الراحة والبطالة، ونصرف كل صورة من صور الجد والعمل، وأن هناك فراغاً يحتاج الإنسان فيه إلى تضييع الوقت.
هذان مفهومان عند الناس: أن هذا الوقت ينبغي أن يكون للراحة والسكون والخلود والكسل، أو إذا كان هناك من حركة فإنها حركة في تضييع الوقت ومحاولة الاستمتاع، دون النظر إلى ما سيترتب على هذه الممارسة من فائدة، ولذلك نقف عند هذين المفهومين من خلال هذه التعليقات اليسيرة.
بالنسبة للراحة والبطالة والوقوف عن العمل، هو أمر لا يليق بالإنسان المسلم، وليس في تصور المنهج الإسلامي، قيل لبعض السلف: علام تتعب نفسك؟ قال: راحتها أريد.
فإنما تكون الراحة في العمل والجد والطاعة، وبذل كل ما من شأنه أن يحصل للإنسان منفعة دنيوية أو أخروية ما دامت في إطار الشرع، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لكل نفس شرة وفترة)، (شرة): جد وعزم في الطاعة، (وفترة) ضعف.
قال: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) يعني: لا يخرج في حال الضعف عن السنة وعن أعمال الخير والطاعة إلى أن يكون خلواً من العمل، فضلاً عن أن يمارس المعصية والمخالفة الشرعية.
وعندما نتأمل في ضم المفهومين معاً، فإن حياة المسلم ليس فيها فراغ، وتأمل قول الله جل وعلا في خطابه لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7] قال ابن كثير رحمة الله عليه: إذا فرغت من شأن الدنيا وأحوال العباد فانصب لعبادة ربك.
فليس هناك فراغ أصلاً في حياة الإنسان المسلم، بل كل وقت وكل لحظة ينبغي أن يشغلها بعمل وجد يكتسب فيه من أمر الدنيا ويغتنم فيه من أجر الآخرة ما شاء الله له أن يغتنم، ولذلك حس يتجاوب الإنسان المسلم مع المهمة والغاية التي خلق لها، ومع التصور الإسلامي الذي يدور معه:
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وفي صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، أي أن هذا الفراغ سمي فراغاً من حيث إن فيه فرصة للعمل والاكتساب، لكن القعود والنكوص والتخلف يجعل الإنسان في صفقة غبن؛ لأنه لم يأخذ بقدر ما أعطى، فهو قد صرف الوقت لكنه لم يجن من ورائه منفعة دنيوية مشروعة، ولا أجراً أخروياً هو مفتقر إليه؛ لذلك إذا تأمل الإنسان المسلم هذا المعنى وجده مرتبطاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس -وذكر منها-: الحياة قبل الموت، والفراغ قبل الشغل، والشباب قبل الهرم، والصحة قبل السقم).
كل هذه المعاني لو تأملناها سنجد أنها تتركز في معنى أن المسلم لا يليق به أن يفرط في الوقت ولا أن يفرط في الجد والعمل، ولذلك لم يجعل النبي عليه الصلاة والسلام الانبعاث للعمل أمراً هيناً بأن يقول: اعملوا أو استغلوا، بل جاء النداء النبوي الكريم فيه نوع من الحض؛ إذ قال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً، أو
إذاً: هذا التصوير منه عليه الصلاة والسلام يدل على أن الأمر لا يحتمل التواني والكسل والخلو من العمل، بل العكس هو الصحيح، والله عز وجل يقول: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] وقال جل وعلا: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21]، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، وقال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] وسيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم شاهد عظيم على أن مفهوم الراحة والخلود وترك العمل وتبديد الوقت في المتع والأعمال الفارغة السخيفة التافهة، ليس وارداً في حس الإنسان المسلم، ولم يكن في سيرة أسلافنا رضوان الله عليهم.
ورد في ترجمة الشافعي رحمة الله عليه كما في سير أعلام النبلاء أنه قسم الليل أثلاثاً: ثلثاً يكتب، وثلثاً يصلي، وثلثاً ينام، قال الذهبي: قلت: أفعاله الثلاثة عبادة بالنية، حتى النوم وحتى الكتابة للعلم تعتبر عبادة لما نوى فيها من الخير، فإذا كان هذا في الليل الذي هو موضع الراحة، فكيف بالنهار الذي هو موضع العمل، والله عز وجل ما خلق الليل والنهار ولا تتابعهما إلا ليكونا محل عمل وجهد في الطاعة، كما قال سبحانه وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:61-62]، (خلفة): يخلف بعضهما بعضاً، (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)، أي: أن يغتنم هذا الوقت، وقد ورد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ الستين) أي: قد مد له في العمر وانقطعت حجته وفرط في عمره فلم يكن له حينئذ من عذر له إذا كان مواجهاً بالعقاب من الله سبحانه وتعالى.
أبو الوليد الباجي وهو من علماء المالكية يخاطب نفسه في مسألة استغلال الوقت فيقول:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنيناً بها وأجعلها في صلاح وطاعه
العمر مثل غمضة عين يمر كأنه أحلام، وتمر الأيام كأنها لحظات، فلماذا ألا يكون المرء ضنيناً بوقته كما كان شأن السلف الصالح.
وهذا أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي يقول عن نفسه: قد عصمني الله في شبابي بنوع من العصمة، وقصر محبتي على العلم، وما خالطت لعباً قط.
أي: لم يكن هناك وقت للعب، ولو تجاوزنا وقلنا: إن هناك وقتاً للعب فإنه يكون وقتاً بين عملين ليخفف من الأول وينشط للثاني، أما أن يكون اللعب والتفريط في الأوقات هو الغاية فهذا ما لا ينبغي أن يكون.
يقول: وما خالطت لعباً قط ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم، وأنا في عشر الثمانين -يعني: في العشر الثامنة من عمره- أجد من الحرص على العلم أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين.
ويخاطب نفسه ويقول: لا أجد حلاً وجوازاً في أن أفرط في وقتي، ثم يقول: فإن تعبت عيني من نظر وكلت يدي من كتابة، فلا أقل من أن أنطرح وأشغل فكري في أمر أو مسألة من الخير.
كان أبو عبيد القاسم بن سلام -كما في وفيات الأعيان- يفكر في المسألة من مسائل العلم، فإذا فتحت عليه قفز من شدة الفرح، وربما مضى ليلة كاملة يفكر في بعض مسائل العلم حتى يفتح عليه فيها.
وأبو بكر محمد بن عبد الباقي وهو من سلالة كعب بن مالك رضي الله عنه يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وما من علم إلا وقد نظرت فيه وحصلت منه الكل أو البعض إلا هذا النحو فإني قليل البضاعة فيه، ثم قال: وما علمت أني ضيعت ساعة من عمري في لهو أو لعب!
وكان ابن عساكر -كما في السير- مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، وقيل في وصفه: وكان يحاسب نفسه على لحظة واحدة تذهب في غير طاعة.
قال تلميذه: كان يشتغل منذ أربعين سنة بالجمع والتصنيف والتسميع حتى في نزهته وخلواته فهو حتى النزهة لا يخليها من الفائدة؛ لأنه ليس هناك وقت للفراغ وللبطالة.
وهذا الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة.
ثم ذكر الذهبي جدوله اليومي، وهو جدول عجيب ليس فيه إلا الصلاة والتحديث والقرآن والمذاكرة في العلم بلا انقطاع وبلا ضياع وقت.
ولذلك كانت هذه الصور وغيرها مما سيأتي ذكرها تتنافى مع مثل هذه المفاهيم التي تروج، وربما روجها بيننا أعداؤنا لنخلد إلى الراحة ونترك الجد والعمل، وما من سبب من أسباب البطالة والعطالة يمكن أن تأخذ به الأمة أو أن يسري في صفوفها إلا نجد من يعيننا عليه من أعدائنا، فإذا كان الفراغ يحتاج إلى لعب فعندهم من الألعاب ما يكفي الإنسان ليضيع عمره كله، ولو أضيف إلى عمره عمر آخر لضاع معه.
فهناك للفراغ أفلام وتمثيليات، ولماذا يصنعون لنا هذا؟ إنما هو لتمرير هذه المفاهيم وتخليدها وتطبيقها عملياً؛ لتنصرف الأمة عن الجد والعمل، ولا يكون عندها مراجعة ولا وقفة مع الذات يخاطب فيها الإنسان نفسه، ويستحضر قصر عمره وإقباله على ربه كما قال القائل:
أيا نفس ويحك جاء المشيب فما ذا التصابي وما ذا الغزل
تولى شبابي كأن لم يكن وجاء مشيبي كأن لم يزل
كأني بنفسي على غرة وخطب المنون بها قد نزل
فيا ليت شعري ممن أكون وما قدر الله لي في الأزل
فلا بد أن نقاوم مثل هذه المفاهيم الضعيفة التي تفت في العضد، وتضعف العزيمة، وتميل بالإنسان إلى الهامشية في الحياة وإلى الانسياق وراء مخططات الأعداء بصورة أو بأخرى.
وكان سفيان الثوري رحمة الله عليه كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين فيقول:
أطريف إن العيش كدر صفوه ذكر المنية والقبور الهول
دنيا تداولها العباد ذميمة شيبت بأكره من نقيع الحنظل
وذلك ليذكر نفسه أن الحياة قصيرة.
وابن القيم يبين لنا عظمة الوقت وعظمة الجريمة المرتكبة في تبذيره وتضييعه، حينما يقول: إضاعة القلب وإضاعة الوقت: إضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد في اتباع الهوى وطول الأمل.
ولذلك يقول رحمة الله عليه: لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، أي: على حسب همة الإنسان وقدره وشرفه يكون اهتمامه واستغلاله للوقت.
قال: فأشرف الناس نفساً وأعظمهم همة وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إلى ما يحبه ويرضاه.
ويقول ابن كثير عن الحافظ أبي الحجاج المزي وكان قد أصهر منه: وقذتني كلمة سمعتها من أبي الحجاج المزي الحافظ، سمعته يقول على هذه الأعواد -يعني: على أعواد المنبر-: إن امرأً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليه حسرته يوم القيامة.
خرج شريح يوماً فوجد قوماً من الحاكة يلعبون، فقال لهم: ما لكم تلعبون؟! قالوا: إنا تفرغنا، قال: أوبهذا أُمر الفارغ؟! اقرءوا قول الله جل وعلا: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7] .
ولذلك لا بد للإنسان المسلم أن يعلم أنه ليس هناك وقت يسمى وقت فراغ، ولا وقت يسمى وقت خلو وبطالة من العمل، ولذلك قال ابن الجوزي : ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، وليس فقط لا يضيع بل يقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور، ولربما يعجز عنه البدن من العمل.
فإذاً ليس فقط مجرد استغلال الوقت، بل لا بد أن يقدم الأفضل فالأفضل، فلا يقنع بما هو أقل إذا كان يستطيع ما هو أعلى وأشرف.
وقال الشاعر:
إن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده
وكما قال أحدهم: الفراغ والصحة والمال ثالوث مدمر، ما لم يوجه التوجيه السليم.
وهذه المعاني كما أشرت تصحح ذلك المفهوم الخاطئ الذي يتلازم مع مقدم الصيف.
ممارسات خاطئة فيما يتعلق بالسفر إلى ديار الكفار
أولهما: ما يتعلق بالسفر إلى الخارج وإلى ديار الكفر على وجه الخصوص.
وثانيهما: ما يقع من العطالة والبطالة للشباب على وجه الخصوص في الداخل.
كثيراً ما يتزامن السفر مع هذه الإجازات والعطل كما درج على الألسن، فأريد أن أبين مخاطر السفر إلى الخارج في نقاط محددة.
أولاً: الخطر العقائدي: ونعني بهذا السفر -كما أشرت- إلى بلاد الكفر، أو إلى بلاد العلمنة التي هي أقرب في ممارساتها إلى بلاد الكفار، وإن كانت متسمية ببلاد إسلامية.
ويتمثل الخطر العقائدي في إلقاءات لا تظهر أو قد ينفيها صاحبها، لكنها في الحقيقة تتراكم شيئاً فشيئاً، منها: حب الكفار والميل نحوهم وتعظيمهم والانبهار بهم، وكم نرى ممن يكثرون السفر من يعظمون أهل الكفر ويميلون إليهم ويخلصون لهم الحب ويكنون لهم التقدير ويشابهونهم في الأفعال، وهذا يسبب ضعف البراء من الكفار، وهي عقيدة أصيلة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، وليس المجال مجال إطناب، إذ سيأتي من القول لأهل العلم ما يشمل هذا أيضاً.
الخطر الثاني: هو الخطر الأخلاقي، إذ يترتب على ذلك انفراط عقد المروءة، فبالنسبة للرجال ينطبع في نفوسهم وقلوبهم ذهاب الغيرة والحفظ للأعراض، وفي النساء يقل الحياء ويأتي التبرج، إضافة إلى ما يقع من انحلال في ممارسة المحرمات، مثل ممارسة الزنا والفواحش والمخدرات والمسكرات، وغير ذلك مما يقع فيه كثير من الناس.
الخطر الثالث: الخطر الاجتماعي الذي ينطبع في كثير من الصور، منها: الميوعة في الشباب، والتبرج والفتنة في البنات والشابات، هذا ينعكس على الأوضاع الاجتماعية، إضافة إلى ما ينعكس أيضاً من العادات والتقاليد، وكما يسمونها: (الإتكيت) والنظم حتى أصبحنا نشابه القوم في كثير من التصرفات التي فيها حرمة ومخالفة شرعية من مثل أعياد الميلاد ورأس السنة والمناسبات الأخرى وغير ذلك.
قبل فترة من الزمن لم يكن شيء من ذلك، لكن هذه الخلطة وهذا السفر أدى إلى انعكاس في مثل هذا الأمر، إضافة إلى أن هناك مشكلات اجتماعية واقعية تقع من خلال هذا، فكم يقع نزاع بين الأسر في السفر، المرأة تقول: لا بد أن نسافر، والرجل يقول: ليس هناك مال، تقول له: لا بد أن تدبر المال، والأولاد يقول أحدهم: لا، نسافر إلى الشرق، والآخر يقول: إلى الغرب، بل ويحصل طلاق وتتفكك للأسرة وتحصل نزاعات كثيرة، من خلال هذه القضية، وكأن الاختلاف في أمر واجب أو فرض عيني.
حتى إن هناك صوراً ومفارقات عجيبة، بعض النساء يغيرن كل شيء بحسب ما يتغير في الأحوال، وكذلك الرجال، فتجد المرأة متحجبة مثلاً هنا في البلد وإذا ركبت في الطيارة أزالت حجابها، وفي طريق العودة قبل هبوط الطيارة بدقائق ترى اللون الأسود يظهر في الطائرة، بينما كان قبل لحظات كأن لم يكن هناك شيء، وهذا نوع من ضعف الإيمان والاستهانة بأمر الله سبحانه وتعالى.
الخطر الرابع: هو الخطر الاقتصادي، وصرف الأموال في غير موضعها، وإنعاش اقتصاد دول الكفر.
أضرب مثالاً ربما الإحصائيات فيه ظاهرة ومنشورة بشكل كبير: بريطانيا تعاني من بطالة شنيعة ومن عجز اقتصادي كبير، وتعول كثيراً على النشاط السياحي، إذ يبلغ عدد السياح الذين يردون على العاصمة أكثر من مليون سائح، نسبة كبيرة منهم من دول الخليج العربي والجزيرة العربية وبعض الدول العربية، وينفقون هناك الأموال في تقويم ودعم هذه البلاد؛ لأنها تعتمد في جزء كبير من دخلها على السياحة، ولا شك أن الإنسان في إقامته يأكل ويشرب ويتنقل ويسكن ويشتري، ويصرف الأموال في تلك الديار، وفي المقابل يكون قد اكتسب هذه الأموال من ديار المسلمين ثم سلمها إلى الكفرة، وهذا لا شك أن له أثراً سلبياً. بعض الناس يقول: الأموال التي سأنفقها عشرة آلاف أو عشرين ألفاً، هل هذه الأموال ستقيم هذه الدولة وتقوي ذلك الاقتصاد؟ نقول: نعم:
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
أنت تصرف عشرة آلاف وهذا عشرة آلاف حتى يبلغ عدد السياح عشرات الآلاف، فتبلغ المصروفات ملايين فيكون لها تأثير واضح، ونحن نعلم أن قوة الاقتصاد تستخدم كثيراً من دول الكفر ضد الإسلام والمسلمين، فأنت بهذا تكون عوناً مع أعداء الله على أولياء الله سبحانه وتعالى وعلى المسلمين.
الخطر الخامس: ضياع الوقت في غير الطاعات، فلو تنزه الإنسان عن مقارفة المعاصي فإنه في غالب الأحوال يعجز ويضعف عن الطاعة ولا يأتي بها على كمالها، فلن يرد المسجد الذي يشهد فيه الجماعات باستمرار، وقد تفوته الجمع، وبحكم أنه مسافر لا بأس أن يفعل كذا وكذا، ولن يجد هناك في الغالب دروس العلم، ولن يجد المحاضن الإسلامية التربوية؛ لأنه في بلد كفري، لا يقابل سمعه ولا نظره ولا فكره إلا أمور كلها انحراف ومخالفات شرعية، ومن أجل ذلك فإنه لا يستطيع أن يستغل الوقت في الطاعات، إلا إن بقي في حجرته مغلقاً بابه يصلي ويصوم، إذاً لماذا يسافر؟! فليبق في بلده.
الخطر السادس: من خلال الممارسات التي يقوم بها بعض الناس يحصل خطر مهم: وهو تشويه صورة الإسلام وتشنيع صورة هذه البلاد وغيرها من بلاد المسلمين.
كثيراً ما يصد بعض الراغبين في الإسلام أو الذين يمكن أن تميل قلوبهم ونفوسهم للإسلام عن الإقبال، بسبب ما يرون من ممارسات منحرفة وسلوكيات بشعة انحلالية يقوم بها ويمارسها المسلمون، بل قد استغل الإعلام الغربي والشرقي صورة هؤلاء المنحرفين، ولبسوها على صورة كل مسلم وعربي، وسمعنا كثيراً من الأفلام والمقالات والتحقيقات التي استغلت هذه التصرفات لتضرب الإسلام ولتشوه سمعة وصورة المسلمين، وأنت داخل في هذا الضرر بصورة أو بأخرى.
الخطر السابع: وهو التعرض للمخاطر المادية المباشرة، وفي السنوات الماضية زادت عمليات القتل والخطف والسرقة والتهديد والابتزاز، فلماذا يعرض الإنسان نفسه لمثل هذا وهو كريم معزز في بلده آمن على نفسه مطمئن على ماله؟
تسافر لتكون هناك عرضة لأن يسرق مالك، وتبقى منقطعاً في بلد لا يكرم كريماً ولا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة؟! ورأينا وسمعنا عن حوادث كثيرة من مثل هذا النوع، وهي من المخاطر التي تتزايد في الفترات الأخيرة، إذ إن العداء يتوجه نحو الإسلام والمسلمين والعرب كذلك واستهداف أموالهم، وأنهم هم الذين يتمتعون بالأموال، وأن عندهم هذه الثروات، وأنهم أغبياء وحمقى يصرفونها في غير ما ينبغي أن تصرف، فإذاً لا بد أن نسرقها منهم وأن نخطفهم وأن نقتلهم، والقتل عندهم أسهل من شرب الماء، وعندهم السرقة أيسر من تنفس الهواء، ليس عندهم هناك أمان ولا ضوابط ولا شيء من هذا القبيل، ومثل هذا يقع كثيراً، والمسلم ينبغي أن يحصن نفسه عن مثل هذه القضايا.
وضمن هذا السفر تقع ممارسات أكثر خطورة بأن يسافر الشاب وحده وهنا كما يقال:
خلا لك الجو فبيضي واصفري.
يعني: لا يكون عنده على الأقل نوع من الحياء من أب أو أم، إن كان هناك حياء أو توقير أو تقدير، وإذا اجتمع بعض الشباب مع بعض ولم يكونوا على خير وصلاح أعان بعضهم بعضاً على المعصية، وجرأ الجريء منهم من ليس جريئاً، وشجع المبادر منهم الذي عنده تردد، وللأسف نجد أن بعض الشباب يزين لغيره ويدفعه وينقل له تجربته وخبرته في مثل هذه القضايا.
والقضية الأخرى أن بعض الرجال يسمحون لعوائلهم أن يسافروا وحدهم، أو يسافر معهم ويتركهم في تلك البلاد ويعود هو، وكأن تلك البلاد فيها أمان وفيها إسلام وفيها دعوة إلى الخير، ما يشعر أنه حينما يترك هؤلاء كأنه ضيعهم ولم يقم بحق الله وبأمر الله سبحانه وتعالى فيهم، وهذه صور واقعة وللأسف وكثيرة في مثل هذا الأمر.
ولعل من استشعار هذه المخاطر أن جاءت بعض النظم الجيدة، مثل منع السفر لمن دون سن الحادية والعشرين من العمر إلا بإذن ولي أمره؛ لأنه دون ذلك غالباً ما يكون في مثل مجتمعاتنا وواقعنا لم يبلغ مبلغ العقل والحزم والحكمة، فيضحك عليه ويقع في كثير من القضايا، وإن كان حتى بعد هذا السن قد يقع منه بعض هذا، وكذلك لما رئي كثرة الفساد والإشكالات الكثيرة في جانب السفر إلى بعض البلاد مثل (تايلاند) وغيرها منع السفر إليها؛ لما فيه من الفساد، ولما فيه أيضاً من التعدي على الحرمات بالقتل وغير ذلك، وكذلك سفر المرأة بدون محرم، وإن كان هناك أسلوب وهو أن المحرم إذا وافق يمكن أن تسافر المرأة وحدها، وهذا فيه خطر كثير وكبير، ويقع وللأسف في بعض الأحايين.
أذكر ختاماً لهذا الموضوع الذي يقع فيه كثير من الناس فتوى سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا، وبعض الفتاوى الأخرى في غير هذا الموضوع، لكنها تدلنا على أن هذا من باب أولى، قال الشيخ في جوابه على سؤال عن السفر إلى الخارج:
أنعم الله عز وجل على هذه الأمة بنعم كثيرة، وخصها بمزايا فريدة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام الذي ارتضاه الله جل وعلا لعباده شريعة ومنهج حياة، وأتم به على عباده النعمة، وأكمل به الدين، قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
لنتأمل إلى نظر وكلام الشيخ في معرفة أن هذا الأمر هو نوع من الغزو ونوع من الحسد ونوع من الإضرار للمسلمين، قال: ولكن أعداء الإسلام قد حسدوا المسلمين على هذه النعمة الكبرى، فامتلأت قلوبهم حقداً وغيظاً، وفاضت نفوسهم بالعداوة والبغضاء لهذا الدين وأهله، وودوا لو يسلبون المسلمين هذه النعمة أو يخرجونهم منها، كما قال تعالى في وصف ما تختلج به نفوسهم: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
هذا بيان الله عز وجل إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118] اعرفوا ما في قلوبهم وما يسيرونكم فيه مما يضركم.
ثم قال: وقال عز وجل: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ [الممتحنة:2] إن قابلوكم كيف إن جئتم إليهم؟ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2] وقال عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] والآيات الدالة على عداوة الكفار للمسلمين كثيرة، والمقصود أنهم لا يألون جهداً ولا يتركون سبيلاً للوصول إلى أغراضهم وتحقيق أهدافهم، من النيل من المسلمين إلا سلكوه، ولهم في ذلك أساليب عديدة ووسائل خفية وظاهرة، فمن ذلك ما ظهر في هذه الأيام من قيام بعض مؤسسات السفر والسياحة بتوزيع نشرات دعائية، تتضمن دعوة لأبناء هذا البلد لقضاء العطلة الصيفية في ربوع أوروبا وأمريكا بحجة تعلم اللغة الإنجليزية، ووضعت لذلك برنامجاً شاملاً لجميع وقت المسافر، وهذا البرنامج يشتمل على فقرات عديدة منها ما يلي:
الأول: اختيار عائلة انجليزية كافرة لإقامة الطالب لديها، مع ما في ذلك من المحاذير الكثيرة.
الثاني: حفلات موسيقية ومسارح وعروض مسرحية في المدينة التي يقيم فيها.
ثلاثة: زيارة أماكن الرقص والترفيه.
أربعة: ممارسة رقصة الدسكو مع فتيات إنجليزيات ومسابقات في الرقص.
خمسة: جاء في ذكر الملاهي الموجودة في إحدى المدن الانجليزية ما يأتي: أندية ليلية، مراقص دسكو، حفلات موسيقية، الموسيقى الحديثة، مسارح، ودور سينما، وحانات.. إلى آخره، وتهدف هذه النشرات إلى تحقيق عدد من الأغراض الخطيرة ومنها ما يلي:
أولاً: العمل على انحراف شباب المسلمين وإضلالهم.
ثانياً: إفساد الأخلاق والوقوع في الرذيلة عن طريق تهيئة أسباب الفساد، وجعلها في متناول اليد.
ثالثاً: تشكيك المسلم في عقيدته.
رابعاً: تنمية روح الإعجاب والانبهار بحضارة الغرب.
خامساً: التخلق بالكثير من تقاليد الغرب وعادته السيئة.
سادساً: التعود على عدم الاكتراث بالدين، وعدم الالتفات لآدابه وأوامره.
سابعاً: تجنيد الشباب ليكونوا من دعاة التغريب في بلادهم بعد عودتهم من هذه الرحلة، وتشبعهم بأفكار الغرب وعاداته وطرق معيشته، إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد الخطيرة التي يعمل أعداء الإسلام على تحقيقها بكل ما أوتوا من قوة، وبشتى الطرق والأساليب الظاهرة والخفية، وقد يستترون ويعملون بأسماء عربية ومؤسسات وطنية، إمعاناً في الكيد وإبعاداً للشبهة وتضليلاً للمسلمين عما يرومونه من الأغراض في بلاد المسلمين، لذلك فإنني أحذر إخواني المسلمين في هذا البلد خاصة، وفي جميع بلاد المسلمين عامة من الانخداع بمثل هذه النشرات والتأثر بها، وأدعوهم إلى أخذ الحيطة والحذر وعدم الاستجابة لشيء منها، فإنها سم زعاف، ومخططات من أعداء الإسلام تفضي إلى إخراج المسلمين من دينهم وتشكيكهم في عقيدتهم، وبث الفتن فيهم، كما ذكر الله عنهم في محكم التنزيل، قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] .
كما أنصح أولياء أمور الطلبة خاصة بالمحافظة على أبنائهم، وعدم الاستجابة لطلبهم إلى السفر إلى الخارج؛ لما في ذلك من الأضرار والمفاسد على دينهم وأخلاقهم وبلادهم كما أسلفنا، وإرشادهم إلى أماكن النزهة والاصطياف في بلادنا وهي كثيرة والاستغناء بها عن غيرها، وتحصل السلامة لشبابنا من الأخطار والمتاعب والعواقب الوخيمة، والصعوبات التي يتعرضون لها في البلاد الأجنبية.
وفي فتاوى أخرى أيضاً أشار الشيخ وغيره إلى مثل هذا لما سئل عن السكن مع العوائل الكافرة في أثناء التعليم يقول: لا يجوز ذلك، قال: وهذا كله على القول بجواز سفر الطالب إلى بلاد الكفر للتعلم، والصواب أنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار للتعلم إلا للضرورة القصوى، وبشرط أن يكون ذا علم وبصيرة، وأن يكون بعيداً عن أسباب الفتنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله من مشرك عملاً بعدما أسلم أو يزايل الشرك) إلى آخر ما قال في مثل هذا المعنى أيضاً.
وهناك أيضاً للشيخ ابن جبرين فتوى في مسألة جواز مصافحة الكفار وابتدائهم بالسلام ونحو ذلك، قال: الكفار والمشركون من يهود ونصارى ووثنيين ودهريين كلهم نجس كما أخبر الله، فلا يجوز إكرامهم ولا احترامهم ولا تقديرهم في المجالس ولا القيام لهم ولا ابتداؤهم بالسلام، أو بكيف أصبحت وأمسيت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه) وإذا سلموا علينا فإنا نقول: وعليكم، ولا تجوز مصافحتهم ولا معانقتهم ولا تقبيل أيديهم، وإن كان هناك فتوى أيضاً تخصص مثل هذا للجنة الفتوى، بأنه بحسب المقصد، إن كان فيه نوع تودد لغرض الانتفاع منه للمسلمين أو لغرض إمالته للإسلام فقد يكون بمثل هذا، أما ما يقع من الناس الذين يذهبون لتلك البلاد وليس هناك غرض كالدعوة وإنما هو نوع من الضعف والانهزام في مثل هذا، فإنه لا يجوز.
ممارسات خاطئة فيما يتعلق بالبطالة والضياع للشباب
بعض الشباب -هدانا الله وإياهم- يقعون في تفاهات وتضييع للأوقات وممارسات خاطئة ومحرمة، فتجد ظواهر مثل: قضاء الوقت في التسكع في الأسواق، المعاكسة في المنتزهات والملاعب، الاجتماع على اللعب بالورق وغير ذلك، وكذا السهر إلى آخر الليل على (الفيديو) والتلفاز وما فيه من المفاسد والفتن والأفلام التي تهيج الغرائز وتدعو إلى الفتنة وتحض على الجريمة في بعض الأحوال، وكذلك قضاء الوقت في النوم والخور والكسل، حتى إن الإنسان يدهش ويعجب من سهرهم وضياع أوقاتهم ثم نومهم الكثير.
وتظهر من وراء ذلك صور مثل: التميع والتشبه بالكفار ونحو ذلك، كل هذه صور وممارسات خاطئة تنشأ عن عدم حصول الفهم والتصور، وللأسف أن الذي يساعد على مثل هذا هو ما يرسم من خلال الإعلام صحافة وتلفازاً، وغير ذلك ما هو تكريس لهذه الظاهرة الخطرة: كيف تقضي وقتك؟ كيف تستمتع؟! كيف ترفه؟! كيف كذا؟! ليس هناك أي إشارات إلى القضايا الجادة والمهمة، فترسخ في نفوس الناس هذه المعاني ويميلون إليها.
نذكر الممارسات الخاطئة أمرين اثنين:
أولهما: ما يتعلق بالسفر إلى الخارج وإلى ديار الكفر على وجه الخصوص.
وثانيهما: ما يقع من العطالة والبطالة للشباب على وجه الخصوص في الداخل.
كثيراً ما يتزامن السفر مع هذه الإجازات والعطل كما درج على الألسن، فأريد أن أبين مخاطر السفر إلى الخارج في نقاط محددة.
أولاً: الخطر العقائدي: ونعني بهذا السفر -كما أشرت- إلى بلاد الكفر، أو إلى بلاد العلمنة التي هي أقرب في ممارساتها إلى بلاد الكفار، وإن كانت متسمية ببلاد إسلامية.
ويتمثل الخطر العقائدي في إلقاءات لا تظهر أو قد ينفيها صاحبها، لكنها في الحقيقة تتراكم شيئاً فشيئاً، منها: حب الكفار والميل نحوهم وتعظيمهم والانبهار بهم، وكم نرى ممن يكثرون السفر من يعظمون أهل الكفر ويميلون إليهم ويخلصون لهم الحب ويكنون لهم التقدير ويشابهونهم في الأفعال، وهذا يسبب ضعف البراء من الكفار، وهي عقيدة أصيلة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، وليس المجال مجال إطناب، إذ سيأتي من القول لأهل العلم ما يشمل هذا أيضاً.
الخطر الثاني: هو الخطر الأخلاقي، إذ يترتب على ذلك انفراط عقد المروءة، فبالنسبة للرجال ينطبع في نفوسهم وقلوبهم ذهاب الغيرة والحفظ للأعراض، وفي النساء يقل الحياء ويأتي التبرج، إضافة إلى ما يقع من انحلال في ممارسة المحرمات، مثل ممارسة الزنا والفواحش والمخدرات والمسكرات، وغير ذلك مما يقع فيه كثير من الناس.
الخطر الثالث: الخطر الاجتماعي الذي ينطبع في كثير من الصور، منها: الميوعة في الشباب، والتبرج والفتنة في البنات والشابات، هذا ينعكس على الأوضاع الاجتماعية، إضافة إلى ما ينعكس أيضاً من العادات والتقاليد، وكما يسمونها: (الإتكيت) والنظم حتى أصبحنا نشابه القوم في كثير من التصرفات التي فيها حرمة ومخالفة شرعية من مثل أعياد الميلاد ورأس السنة والمناسبات الأخرى وغير ذلك.
قبل فترة من الزمن لم يكن شيء من ذلك، لكن هذه الخلطة وهذا السفر أدى إلى انعكاس في مثل هذا الأمر، إضافة إلى أن هناك مشكلات اجتماعية واقعية تقع من خلال هذا، فكم يقع نزاع بين الأسر في السفر، المرأة تقول: لا بد أن نسافر، والرجل يقول: ليس هناك مال، تقول له: لا بد أن تدبر المال، والأولاد يقول أحدهم: لا، نسافر إلى الشرق، والآخر يقول: إلى الغرب، بل ويحصل طلاق وتتفكك للأسرة وتحصل نزاعات كثيرة، من خلال هذه القضية، وكأن الاختلاف في أمر واجب أو فرض عيني.
حتى إن هناك صوراً ومفارقات عجيبة، بعض النساء يغيرن كل شيء بحسب ما يتغير في الأحوال، وكذلك الرجال، فتجد المرأة متحجبة مثلاً هنا في البلد وإذا ركبت في الطيارة أزالت حجابها، وفي طريق العودة قبل هبوط الطيارة بدقائق ترى اللون الأسود يظهر في الطائرة، بينما كان قبل لحظات كأن لم يكن هناك شيء، وهذا نوع من ضعف الإيمان والاستهانة بأمر الله سبحانه وتعالى.
الخطر الرابع: هو الخطر الاقتصادي، وصرف الأموال في غير موضعها، وإنعاش اقتصاد دول الكفر.
أضرب مثالاً ربما الإحصائيات فيه ظاهرة ومنشورة بشكل كبير: بريطانيا تعاني من بطالة شنيعة ومن عجز اقتصادي كبير، وتعول كثيراً على النشاط السياحي، إذ يبلغ عدد السياح الذين يردون على العاصمة أكثر من مليون سائح، نسبة كبيرة منهم من دول الخليج العربي والجزيرة العربية وبعض الدول العربية، وينفقون هناك الأموال في تقويم ودعم هذه البلاد؛ لأنها تعتمد في جزء كبير من دخلها على السياحة، ولا شك أن الإنسان في إقامته يأكل ويشرب ويتنقل ويسكن ويشتري، ويصرف الأموال في تلك الديار، وفي المقابل يكون قد اكتسب هذه الأموال من ديار المسلمين ثم سلمها إلى الكفرة، وهذا لا شك أن له أثراً سلبياً. بعض الناس يقول: الأموال التي سأنفقها عشرة آلاف أو عشرين ألفاً، هل هذه الأموال ستقيم هذه الدولة وتقوي ذلك الاقتصاد؟ نقول: نعم:
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
أنت تصرف عشرة آلاف وهذا عشرة آلاف حتى يبلغ عدد السياح عشرات الآلاف، فتبلغ المصروفات ملايين فيكون لها تأثير واضح، ونحن نعلم أن قوة الاقتصاد تستخدم كثيراً من دول الكفر ضد الإسلام والمسلمين، فأنت بهذا تكون عوناً مع أعداء الله على أولياء الله سبحانه وتعالى وعلى المسلمين.
الخطر الخامس: ضياع الوقت في غير الطاعات، فلو تنزه الإنسان عن مقارفة المعاصي فإنه في غالب الأحوال يعجز ويضعف عن الطاعة ولا يأتي بها على كمالها، فلن يرد المسجد الذي يشهد فيه الجماعات باستمرار، وقد تفوته الجمع، وبحكم أنه مسافر لا بأس أن يفعل كذا وكذا، ولن يجد هناك في الغالب دروس العلم، ولن يجد المحاضن الإسلامية التربوية؛ لأنه في بلد كفري، لا يقابل سمعه ولا نظره ولا فكره إلا أمور كلها انحراف ومخالفات شرعية، ومن أجل ذلك فإنه لا يستطيع أن يستغل الوقت في الطاعات، إلا إن بقي في حجرته مغلقاً بابه يصلي ويصوم، إذاً لماذا يسافر؟! فليبق في بلده.
الخطر السادس: من خلال الممارسات التي يقوم بها بعض الناس يحصل خطر مهم: وهو تشويه صورة الإسلام وتشنيع صورة هذه البلاد وغيرها من بلاد المسلمين.
كثيراً ما يصد بعض الراغبين في الإسلام أو الذين يمكن أن تميل قلوبهم ونفوسهم للإسلام عن الإقبال، بسبب ما يرون من ممارسات منحرفة وسلوكيات بشعة انحلالية يقوم بها ويمارسها المسلمون، بل قد استغل الإعلام الغربي والشرقي صورة هؤلاء المنحرفين، ولبسوها على صورة كل مسلم وعربي، وسمعنا كثيراً من الأفلام والمقالات والتحقيقات التي استغلت هذه التصرفات لتضرب الإسلام ولتشوه سمعة وصورة المسلمين، وأنت داخل في هذا الضرر بصورة أو بأخرى.
الخطر السابع: وهو التعرض للمخاطر المادية المباشرة، وفي السنوات الماضية زادت عمليات القتل والخطف والسرقة والتهديد والابتزاز، فلماذا يعرض الإنسان نفسه لمثل هذا وهو كريم معزز في بلده آمن على نفسه مطمئن على ماله؟
تسافر لتكون هناك عرضة لأن يسرق مالك، وتبقى منقطعاً في بلد لا يكرم كريماً ولا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة؟! ورأينا وسمعنا عن حوادث كثيرة من مثل هذا النوع، وهي من المخاطر التي تتزايد في الفترات الأخيرة، إذ إن العداء يتوجه نحو الإسلام والمسلمين والعرب كذلك واستهداف أموالهم، وأنهم هم الذين يتمتعون بالأموال، وأن عندهم هذه الثروات، وأنهم أغبياء وحمقى يصرفونها في غير ما ينبغي أن تصرف، فإذاً لا بد أن نسرقها منهم وأن نخطفهم وأن نقتلهم، والقتل عندهم أسهل من شرب الماء، وعندهم السرقة أيسر من تنفس الهواء، ليس عندهم هناك أمان ولا ضوابط ولا شيء من هذا القبيل، ومثل هذا يقع كثيراً، والمسلم ينبغي أن يحصن نفسه عن مثل هذه القضايا.
وضمن هذا السفر تقع ممارسات أكثر خطورة بأن يسافر الشاب وحده وهنا كما يقال:
خلا لك الجو فبيضي واصفري.
يعني: لا يكون عنده على الأقل نوع من الحياء من أب أو أم، إن كان هناك حياء أو توقير أو تقدير، وإذا اجتمع بعض الشباب مع بعض ولم يكونوا على خير وصلاح أعان بعضهم بعضاً على المعصية، وجرأ الجريء منهم من ليس جريئاً، وشجع المبادر منهم الذي عنده تردد، وللأسف نجد أن بعض الشباب يزين لغيره ويدفعه وينقل له تجربته وخبرته في مثل هذه القضايا.
والقضية الأخرى أن بعض الرجال يسمحون لعوائلهم أن يسافروا وحدهم، أو يسافر معهم ويتركهم في تلك البلاد ويعود هو، وكأن تلك البلاد فيها أمان وفيها إسلام وفيها دعوة إلى الخير، ما يشعر أنه حينما يترك هؤلاء كأنه ضيعهم ولم يقم بحق الله وبأمر الله سبحانه وتعالى فيهم، وهذه صور واقعة وللأسف وكثيرة في مثل هذا الأمر.
ولعل من استشعار هذه المخاطر أن جاءت بعض النظم الجيدة، مثل منع السفر لمن دون سن الحادية والعشرين من العمر إلا بإذن ولي أمره؛ لأنه دون ذلك غالباً ما يكون في مثل مجتمعاتنا وواقعنا لم يبلغ مبلغ العقل والحزم والحكمة، فيضحك عليه ويقع في كثير من القضايا، وإن كان حتى بعد هذا السن قد يقع منه بعض هذا، وكذلك لما رئي كثرة الفساد والإشكالات الكثيرة في جانب السفر إلى بعض البلاد مثل (تايلاند) وغيرها منع السفر إليها؛ لما فيه من الفساد، ولما فيه أيضاً من التعدي على الحرمات بالقتل وغير ذلك، وكذلك سفر المرأة بدون محرم، وإن كان هناك أسلوب وهو أن المحرم إذا وافق يمكن أن تسافر المرأة وحدها، وهذا فيه خطر كثير وكبير، ويقع وللأسف في بعض الأحايين.
أذكر ختاماً لهذا الموضوع الذي يقع فيه كثير من الناس فتوى سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا، وبعض الفتاوى الأخرى في غير هذا الموضوع، لكنها تدلنا على أن هذا من باب أولى، قال الشيخ في جوابه على سؤال عن السفر إلى الخارج:
أنعم الله عز وجل على هذه الأمة بنعم كثيرة، وخصها بمزايا فريدة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام الذي ارتضاه الله جل وعلا لعباده شريعة ومنهج حياة، وأتم به على عباده النعمة، وأكمل به الدين، قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
لنتأمل إلى نظر وكلام الشيخ في معرفة أن هذا الأمر هو نوع من الغزو ونوع من الحسد ونوع من الإضرار للمسلمين، قال: ولكن أعداء الإسلام قد حسدوا المسلمين على هذه النعمة الكبرى، فامتلأت قلوبهم حقداً وغيظاً، وفاضت نفوسهم بالعداوة والبغضاء لهذا الدين وأهله، وودوا لو يسلبون المسلمين هذه النعمة أو يخرجونهم منها، كما قال تعالى في وصف ما تختلج به نفوسهم: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
هذا بيان الله عز وجل إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118] اعرفوا ما في قلوبهم وما يسيرونكم فيه مما يضركم.
ثم قال: وقال عز وجل: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ [الممتحنة:2] إن قابلوكم كيف إن جئتم إليهم؟ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2] وقال عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] والآيات الدالة على عداوة الكفار للمسلمين كثيرة، والمقصود أنهم لا يألون جهداً ولا يتركون سبيلاً للوصول إلى أغراضهم وتحقيق أهدافهم، من النيل من المسلمين إلا سلكوه، ولهم في ذلك أساليب عديدة ووسائل خفية وظاهرة، فمن ذلك ما ظهر في هذه الأيام من قيام بعض مؤسسات السفر والسياحة بتوزيع نشرات دعائية، تتضمن دعوة لأبناء هذا البلد لقضاء العطلة الصيفية في ربوع أوروبا وأمريكا بحجة تعلم اللغة الإنجليزية، ووضعت لذلك برنامجاً شاملاً لجميع وقت المسافر، وهذا البرنامج يشتمل على فقرات عديدة منها ما يلي:
الأول: اختيار عائلة انجليزية كافرة لإقامة الطالب لديها، مع ما في ذلك من المحاذير الكثيرة.
الثاني: حفلات موسيقية ومسارح وعروض مسرحية في المدينة التي يقيم فيها.
ثلاثة: زيارة أماكن الرقص والترفيه.
أربعة: ممارسة رقصة الدسكو مع فتيات إنجليزيات ومسابقات في الرقص.
خمسة: جاء في ذكر الملاهي الموجودة في إحدى المدن الانجليزية ما يأتي: أندية ليلية، مراقص دسكو، حفلات موسيقية، الموسيقى الحديثة، مسارح، ودور سينما، وحانات.. إلى آخره، وتهدف هذه النشرات إلى تحقيق عدد من الأغراض الخطيرة ومنها ما يلي:
أولاً: العمل على انحراف شباب المسلمين وإضلالهم.
ثانياً: إفساد الأخلاق والوقوع في الرذيلة عن طريق تهيئة أسباب الفساد، وجعلها في متناول اليد.
ثالثاً: تشكيك المسلم في عقيدته.
رابعاً: تنمية روح الإعجاب والانبهار بحضارة الغرب.
خامساً: التخلق بالكثير من تقاليد الغرب وعادته السيئة.
سادساً: التعود على عدم الاكتراث بالدين، وعدم الالتفات لآدابه وأوامره.
سابعاً: تجنيد الشباب ليكونوا من دعاة التغريب في بلادهم بعد عودتهم من هذه الرحلة، وتشبعهم بأفكار الغرب وعاداته وطرق معيشته، إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد الخطيرة التي يعمل أعداء الإسلام على تحقيقها بكل ما أوتوا من قوة، وبشتى الطرق والأساليب الظاهرة والخفية، وقد يستترون ويعملون بأسماء عربية ومؤسسات وطنية، إمعاناً في الكيد وإبعاداً للشبهة وتضليلاً للمسلمين عما يرومونه من الأغراض في بلاد المسلمين، لذلك فإنني أحذر إخواني المسلمين في هذا البلد خاصة، وفي جميع بلاد المسلمين عامة من الانخداع بمثل هذه النشرات والتأثر بها، وأدعوهم إلى أخذ الحيطة والحذر وعدم الاستجابة لشيء منها، فإنها سم زعاف، ومخططات من أعداء الإسلام تفضي إلى إخراج المسلمين من دينهم وتشكيكهم في عقيدتهم، وبث الفتن فيهم، كما ذكر الله عنهم في محكم التنزيل، قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] .
كما أنصح أولياء أمور الطلبة خاصة بالمحافظة على أبنائهم، وعدم الاستجابة لطلبهم إلى السفر إلى الخارج؛ لما في ذلك من الأضرار والمفاسد على دينهم وأخلاقهم وبلادهم كما أسلفنا، وإرشادهم إلى أماكن النزهة والاصطياف في بلادنا وهي كثيرة والاستغناء بها عن غيرها، وتحصل السلامة لشبابنا من الأخطار والمتاعب والعواقب الوخيمة، والصعوبات التي يتعرضون لها في البلاد الأجنبية.
وفي فتاوى أخرى أيضاً أشار الشيخ وغيره إلى مثل هذا لما سئل عن السكن مع العوائل الكافرة في أثناء التعليم يقول: لا يجوز ذلك، قال: وهذا كله على القول بجواز سفر الطالب إلى بلاد الكفر للتعلم، والصواب أنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار للتعلم إلا للضرورة القصوى، وبشرط أن يكون ذا علم وبصيرة، وأن يكون بعيداً عن أسباب الفتنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله من مشرك عملاً بعدما أسلم أو يزايل الشرك) إلى آخر ما قال في مثل هذا المعنى أيضاً.
وهناك أيضاً للشيخ ابن جبرين فتوى في مسألة جواز مصافحة الكفار وابتدائهم بالسلام ونحو ذلك، قال: الكفار والمشركون من يهود ونصارى ووثنيين ودهريين كلهم نجس كما أخبر الله، فلا يجوز إكرامهم ولا احترامهم ولا تقديرهم في المجالس ولا القيام لهم ولا ابتداؤهم بالسلام، أو بكيف أصبحت وأمسيت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه) وإذا سلموا علينا فإنا نقول: وعليكم، ولا تجوز مصافحتهم ولا معانقتهم ولا تقبيل أيديهم، وإن كان هناك فتوى أيضاً تخصص مثل هذا للجنة الفتوى، بأنه بحسب المقصد، إن كان فيه نوع تودد لغرض الانتفاع منه للمسلمين أو لغرض إمالته للإسلام فقد يكون بمثل هذا، أما ما يقع من الناس الذين يذهبون لتلك البلاد وليس هناك غرض كالدعوة وإنما هو نوع من الضعف والانهزام في مثل هذا، فإنه لا يجوز.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2909 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2732 استماع |
فاطمة الزهراء | 2699 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2630 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2544 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2534 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2534 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2488 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2469 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2453 استماع |