خطب ومحاضرات
تأملات في صيام عاشوراء
الحلقة مفرغة
الحمد لله أكرمنا بالإيمان، وهدانا بالقرآن، وأعزنا بالإسلام، وجعلنا من أمة خير الأنام، له الحمد سبحانه وتعالى جعلنا من بين الأمم أمة وسطاً، وجعل لنا الشهادة على الأمم وإن كنا في آخرها زمناً، له الحمد جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، وله الحمد في الأولى والآخرة حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! تأملات في صيام عاشوراء، ونحن في هذا اليوم من شهر الله المحرم، ولهذه التأملات فوائد ومنافع أجلها وأعظمها استشعار نعمة الله جل وعلا بهذا الإسلام، وباتباع خير الأنام صلى الله عليه وسلم، إنه بقدر ما نعمق هذا المعنى في نفوسنا يكون اطمئنان قلوبنا، ورضا نفوسنا، وحبها لإسلامنا وإيماننا من جهة، وبقدر ذلك يكون التشبث والتعلق والثبات على هذا الدين من جهة أخرى، وبقدر ما يكون البذل والفداء والتضحية لأجل الإسلام والدين من جهة ثالثة، إن كثيراً من الأمور في حياتنا وفي تشريعات إسلامنا تمر بنا من غير أن نقف معها لنتلمس حكم التشريع، ولنتأمل في جليل نعم الحق جل وعلا، ولنبصر عظمة هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، نعم قد نؤدي العبادة، وقد نطبق السنة، وقد نسارع إلى الفضيلة، غير أننا لا نستشعر الإطار العام الذي يربطنا بهذه الشعائر، ويجذبنا إلى تلك السنن، ويبصرنا بحقائق الفضل والإنعام في شريعة الإسلام.
روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم عاشوراء، فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، فقال لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم فصوموا)، وفي رواية مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فلما سأل قالوا: إن موسى صامه، وإنه اليوم الذي نجا فيه من فرعون، وغرق فيه فرعون، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، وقال: نحن أحق بموسى منهم).
وفي رواية عند البخاري قال: (فصامه موسى شكراً لله تعالى) وفي رواية ثالثة: (أنه لما قدم المدينة فرأى اليهود يصومونه قال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى عليه السلام، فقال عليه الصلاة والسلام: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه).
أهمية شكر الله عز وجل
وكانت أعظم دليل على عظيم يقينه، وقوة إيمانه، وصدق توكله على ربه، وعظيم ثقته بالمخرج الذي يسوقه الله عز وجل لكل مؤمن به وصادق معه: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]لم يروا للنجاة بصيص أمل، فقد كان فرعون من ورائهم، والبحر من أمامهم، مع قلة عددهم وعتادهم، وضعف إيمانهم، وعدم قوة يقينهم قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، واللفظ القرآني معجز في بيان بلاغة معناه (إنا) إما على سبيل التوكيد، وقد تقع جواباً لقسم، أي: والله إنا لمدركون، والإدراك: هو الإحاطة من كل جانب، فليس ثمة منجى ولا مهرب، غير أن لسان الإيمان، ودليل التوكل تجلى في قول موسى عليه السلام في جانبين اثنين: (كَلاَّ) أي: ذلك قول غير مقبول في منهج الإيمان، وغير مرضي عند أهل اليقين.
ثم قرر الحقيقة الأخرى بتقرير أشد في التوكيد، وأعظم في التصديق من قول أصحابه في التوهين والضعف فقال: (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) والتوكيد في (إن)، وتقديم المعية؛ استشعار إيماني عظيم صادق كأنما هو رأي عين، كما حصل من المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم كان في الغار فقال أبو بكر : (لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا!فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وذلك من عظيم الإيمان واليقين.
قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]لم يكن موسى عليه السلام يعرف كيف سيكون المخرج، ولم يكن يرى سبيلاً واضحاً للنجاة، غير أنه يملك إيماناً في قلبه، ويقيناً في نفسه، وثقة بربه، سوف يأتي الفرج لكن لا يعلم بأي وسيلة سيكون! ثم جاءت الوسيلة على خلاف كل معهودات البشر؛ لتبين أن الإنسان الضعيف ينصر بقوة القوي القادر سبحانه وتعالى: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ [الشعراء:63] وما عسى أن تغني العصا؟! وما عسى أن يغني الضرب بها في البحر؟! وأي شيء ينتج من ذلك؟!!
حصلت النتيجة الهائلة العجيبة الغريبة التي ليس لها نظير: فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63] البحر ينشق طرقاً لا طريقاً واحداً، وهي طرق ليست كالطرق الإلكترونية البشرية، بل هي طرق إلهية ربانية، بعد أن نجى الله موسى ومن معه أطبق البحر على فرعون ومن معه، وهنا استشعر موسى عليه السلام أن نعمة إيمانه ويقينه وتوكله أفاضت عليه من ربه نعمة نجاته وسلامته، ودحر عدوه، فجدد هذه النعمة بنعمة أخرى، فصام ذلك اليوم شكراً لله جل وعلا على ما من به من النجاة.
وقد ساق الله جل وعلا لنا آيات الشكر في سياق قصة موسى عليه السلام، وفي معرض مخاطبته لقومه، قال جل وعلا: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، ثم جاء القول على لسان موسى عليه السلام: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8].
معنى الشكر
ثم تأمل الشكر؛ فإن دلالته عظيمة: قال السعدي في معناه: هو خضوع القلب واعترافه بالمنعم، وثناء اللسان عليه بالقول، وعمل الجوارح بمقتضى طاعته، وعدم استخدام نعمته في معصيته.
فما أعظم هذا المعنى وأوسعه وأشمله! إنه يتناول القلب في سويدائه، والنفس في أعماقها؛ شعوراً بالامتنان والاعتراف، والإقرار بالمنعم الواهب الرازق المعطي سبحانه وتعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53] وكم هي النعم التي لا يقدر أحد شكرها، ولا يستطيع بشر أن يؤدي حقها!
وكلكم يعرف الأثر الذي فيه أن عابداً قضى عمره في عبادة الله، ثم بعثه الله جل وعلا، وأمر أن يدخل الجنة برحمته، فقال العبد: بل بعملي يا رب! فقال الله جل وعلا لملائكته: زنوا عمله بنعمة بصره، فرجحت نعمة البصر بعمله كله، ولم تستطع أن توفيها حقها، فقال: بل برحمتك يا رب! ومن هنا نعرف قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
ومن الشكر الثناء باللسان قال تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11] كم من الناس من تسأله عن حاله فيدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويأتي بالهم والغم، ويذكر المآسي والشرور، ولا يحمد الله عز وجل أن رد إليه روحه بعد أن أنامه، ولا يحمد ربه أن حفظ عليه إسلامه وإيمانه، ولا ينظر إلى ما سلب من غيره من نعم وهو ما زال متسربلاً بنعمة صحته وعافيته!
ومن الشكر عمل الجوارح بمقتضى النعم، أين البصر وأين يرسل؟ أين السمع وإلام ما يصغي؟ أين اللسان وبم ينطق؟ أين الأقدام وإلى أين تسير؟ أين الأيدي وماذا تخط وماذا تعمل؟
اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13].
ومن الشكر بالعمل ألا يستخدم نعمته في معصيته، كم نحن في حاجة إلى أن نتأمل في حكمة الشريعة نحن نصوم ونصوم.. ونتابع السنة غير أنا لا نلتفت إلى المعاني الدقيقة، وتجد اللفتات الإيمانية والتربوية في نصوص قليلة، وكلمات معدودة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فضل الشكر
وذلك ما ينبغي أن تتأمله أخي المسلم، فكل أمر من الأمور التي تحل بك إن خيراً أو شراً معقده ومربطه عملك ونيتك، إن شكرت وآمنت وعملت صالحاً وجدت طمأنينة قلب، وسكينة نفس، وهدوء بال، وسلامة جوارح، وبركة وقت ومال وغير ذلك، وإن كانت الأخرى فاعلم أن ما يصيبك من هم أو غم أو عثرة أو غير ذلك فإنما سببه جحد النعم، أو استعمالها في غير محلها، والله جل وعلا قد بين ذلك قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41].
ومن هنا ينبغي لنا أن نتأمل في هذا الموقف العظيم، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قدم المدينة فوجدهم يصومون عاشوراء -أي: وجد اليهود- فسأل، وهنا مسائل: قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يكن في شهر الله المحرم، والمقصود أنه لم يعرف ذلك إلا بعد قدومه للمدينة، ولم يعرفه في مقامه بمكة، وليس المقصود وقت قدومه، بل أقام في المدينة، فلما جاء هذا اليوم وجد اليهود يصومونه فسأل عنه، وصح الحديث عند مسلم من رواية عائشة : أن أهل الجاهلية كانوا يصومونه، وأن النبي صامه قبل قدومه للمدينة، وأنه لذلك لم يفعل أو لم ينشأ الصوم، ولا حكمه، ولا سنته، لما كان من شأن اليهود كما ذكر الأئمة من شراح الحديث كـالمازري وعياض والنووي وغيرهم، قالوا: لم يحدث ذلك استناداً إلى خبر اليهود، وإنما كان أمر اليهود وصف حال، وإجابة سؤال؛ لأنه كما قال المازري : خبر اليهود غير مقبول، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بصدق ما قالوه، أو تواتر عنده النقل حتى حصل له بذلك العلم، وكذلك قال غيره: أخبره بذلك بعض من أسلم من اليهود وهو مصدق مقبول القول، ثم حديث عائشة يشير إلى ذلك كما قاله عياض: روى مسلم أن قريشاً كانت تصومه، فلما قدم المدينة صامه، فلم يحدث له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هي صفة حال وجواب سؤال.
ثم لننظر إلى أمر آخر جدير بالعناية والتأمل، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منهم)، ثم يأتينا التأمل في الروايات الأخرى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهي عند مسلم : (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، وفي رواية عند الإمام أحمد في مسنده بسند فيه مقال عن ابن عباس قال: (خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده).
شرف الأمة المحمدية وسبقها على الأمم الأخرى
وأخبر صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: أن اليهود ضلت فاتخذت السبت، وأن النصارى ضلت فاتخذت الأحد، وأن المسلمين هدوا إلى الصواب والحق؛ فجعلوا الجمعة عيدهم، وسبقوا بها غيرهم.
إيمان هذه الأمة بجميع الرسل السابقين
ثم (نحن أحق بموسى منهم)؛ لأنا نؤمن بموسى عليه السلام، ونؤمن بمن جاء بعده وهو عيسى عليه السلام، ونؤمن برسل الله وأنبيائه لا نفرق بين أحد منهم، واليهود في جملتهم لم يؤمنوا بعيسى عليه السلام، وكفروا برسالته، وسعوا إلى قتله، ولم يؤمن جلهم كذلك بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وجحدوا بها وسعوا إلى قتله، ونحن نؤمن بالرسل والأنبياء، ونعظمهم ونوقرهم، ولا نفرق بين أحد منهم.
ثم ماذا كان شأن بني إسرائيل مع موسى عليه السلام؟
والقرآن قد قص علينا من ذلك قصصاً فيما جحدوا، وفيما أتعبوا فيه موسى، وفيما خالفوه فيه، وفيما استبدلوه من نعمة الله عز وجل، واتخذوا العجل إلهاً معبوداً لهم وغير ذلك كثير، فينبغي لنا أن ندرك نعمة الله عز وجل علينا، ورحمته بنا، وتفضيله لنا، وتمييزه لنا عن غيرنا قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143] .. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] ينبغي أن يكون ذلك إيماناً ويقيناً راسخاً بفضل أمة الإسلام وأهل الإسلام، لا كبراً ولا استعلاء، ولكن علماً وتمييزاً وتعريفاً في هذا المجال.
مخالفة أهل الكتاب
وهنا دروس كثيرة من فطنة، وحكمة، ومراعاة للواقع، والتفات إلى تحصيل المصالح، إن قارنا إيماناً ورسالات سماوية وكتباً ربانية، وإن وقع فيها تحريف وتغيير وتبديل، لا نستطيع أن نجعلها في مرتبة كفر وشرك وعبادة أوثان، فتلك أقرب، والموافقة لها أنفع، وكان ذلك من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناس أن آثار النبوة واحدة، وأن أصلها من الله جل وعلا، وأن الوحي في أصله وفي الدين الذي جاء به إنما هو توحيد الله والإسلام.
ثم لما اقتضت الحكمة من بعد قوة الإسلام وانتشاره، وهزيمة الشرك واندحاره، وبطلان الجاهلية وانطفاء أنوارها، وذهاب هيبتها، أراد أن يعلم المسلمين وغير المسلمين بتميز الإسلام وفضله، فكانت له توجيهات وإرشادات إلى المخالفة المقصودة لذاتها تمييزاً وتفضيلاً كما قال أهل العلم، قال: (لأصومن التاسع) أي: وحده، وهذا قول وإن كان ليس هو الأقوى، أو لأضيفن إلى العاشر التاسع مخالفة لليهود والنصارى من جهة، وزيادة في الفضل والعمل من جهة أخرى، ومن هنا قال العلماء: إن صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب: أن يصام وحده، فهذه مرتبة، وأفضل منها أن يصام معه التاسع، وأفضل منها أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده فيجمع فضل الصوم، وإدراك إصابة السنة، وتحقيق مخالفة اليهود، وزيادة العمل.
نسأل الله عز وجل أن يكتب لنا ولكم الأجر والثواب، وأن يوفقنا لمتابعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يعيننا على شكر الله عز وجل على نعمه، والقيام بحقها، والحمد لله رب العالمين.
وأقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
ثمة وقفات كثيرة في صيام عاشوراء، منها أهمية شكر الله عز وجل على النعم، وأن النعم تكون بفضل الله عز وجل ثواباً وجزاءً لفعل الخير، وللتشبث بالإيمان واليقين، والثقة بوعد الله عز وجل، وصدق التوكل عليه، فإن نجاة موسى عليه السلام كانت أمراً خارقاً للعادة، ومعجزة لنبي الله عز وجل موسى.
وكانت أعظم دليل على عظيم يقينه، وقوة إيمانه، وصدق توكله على ربه، وعظيم ثقته بالمخرج الذي يسوقه الله عز وجل لكل مؤمن به وصادق معه: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]لم يروا للنجاة بصيص أمل، فقد كان فرعون من ورائهم، والبحر من أمامهم، مع قلة عددهم وعتادهم، وضعف إيمانهم، وعدم قوة يقينهم قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، واللفظ القرآني معجز في بيان بلاغة معناه (إنا) إما على سبيل التوكيد، وقد تقع جواباً لقسم، أي: والله إنا لمدركون، والإدراك: هو الإحاطة من كل جانب، فليس ثمة منجى ولا مهرب، غير أن لسان الإيمان، ودليل التوكل تجلى في قول موسى عليه السلام في جانبين اثنين: (كَلاَّ) أي: ذلك قول غير مقبول في منهج الإيمان، وغير مرضي عند أهل اليقين.
ثم قرر الحقيقة الأخرى بتقرير أشد في التوكيد، وأعظم في التصديق من قول أصحابه في التوهين والضعف فقال: (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) والتوكيد في (إن)، وتقديم المعية؛ استشعار إيماني عظيم صادق كأنما هو رأي عين، كما حصل من المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم كان في الغار فقال أبو بكر : (لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا!فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وذلك من عظيم الإيمان واليقين.
قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]لم يكن موسى عليه السلام يعرف كيف سيكون المخرج، ولم يكن يرى سبيلاً واضحاً للنجاة، غير أنه يملك إيماناً في قلبه، ويقيناً في نفسه، وثقة بربه، سوف يأتي الفرج لكن لا يعلم بأي وسيلة سيكون! ثم جاءت الوسيلة على خلاف كل معهودات البشر؛ لتبين أن الإنسان الضعيف ينصر بقوة القوي القادر سبحانه وتعالى: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ [الشعراء:63] وما عسى أن تغني العصا؟! وما عسى أن يغني الضرب بها في البحر؟! وأي شيء ينتج من ذلك؟!!
حصلت النتيجة الهائلة العجيبة الغريبة التي ليس لها نظير: فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63] البحر ينشق طرقاً لا طريقاً واحداً، وهي طرق ليست كالطرق الإلكترونية البشرية، بل هي طرق إلهية ربانية، بعد أن نجى الله موسى ومن معه أطبق البحر على فرعون ومن معه، وهنا استشعر موسى عليه السلام أن نعمة إيمانه ويقينه وتوكله أفاضت عليه من ربه نعمة نجاته وسلامته، ودحر عدوه، فجدد هذه النعمة بنعمة أخرى، فصام ذلك اليوم شكراً لله جل وعلا على ما من به من النجاة.
وقد ساق الله جل وعلا لنا آيات الشكر في سياق قصة موسى عليه السلام، وفي معرض مخاطبته لقومه، قال جل وعلا: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، ثم جاء القول على لسان موسى عليه السلام: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8].
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2907 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2729 استماع |
فاطمة الزهراء | 2694 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2627 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2541 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2533 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2533 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2485 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2467 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2449 استماع |