الواجبات في الأزمات


الحلقة مفرغة

الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، ومعز الموحدين، وجاعل العاقبة للمتقين، وجاعل الدائرة على الكافرين الضالين ولو بعد حين، أحمده سبحانه وتعالى جعل لمن يؤمن به من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وجعل بعد العسر يسراً، وجعل بعد الصبر نصراً، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال، وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه إلى الناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: "الواجبات في الأزمات" موضوع حديثنا في هذا الزمن الصعب ومفارقاته العجيبة، ولا شك أن الأيام القريبة التي اختلت قد جمعت في طياتها أحداثاً فيها تناقضات ومفارقات، وأكثرها محزن مؤلم قد يحتار معها العقل، وقد يضيق بها الصدر، وقد تحزن بها النفس، غير أن دواء الإيمان الناجع يزيل ذلك كله.

مفارقات في المواقف تجاه فلسطين وإسرائيل

لا شك أيها الإخوة المؤمنون أننا نرى هذه المفارقات في الحادث الذي تحدثنا عنه من قبل، في استشهاد البطل الفريد والشيخ القعيد أحمد ياسين رحمه الله، وكيف كان من أعداء الله عليهم لعائن الله استهداف ثم إعلان واعتراف، وكيف كان لأعوانهم من دولة البغي والظلم الكبرى في العالم تأييد لهم، واعتراض على نقدهم أو إدانتهم.

ثم مع ذلك كله ومع هذا الصلف والاجتراء والعدوان نرى موقفاً آخر من قادة الدول العربية، وهو موقف التجاهل والتغافل سوى كلمات قليلة وبيانات رسمية حفظ الناس لغتها وعرفوا تحفظاتها، ثم في تلك المداولات والمشاورات القريبة لم يرد ذكر الحدث لا من قريب ولا من بعيد؛ خوفاً من أن يسيء ذلك إلى الأوضاع العامة، أو أن يؤثر على الموقف الدولي أو غير ذلك.

ثم انظروا إلى صفحة أخرى من المفارقات المؤلمة: فرقة واختلاف انفض به مؤتمر القمة ولم ينعقد حتى يومنا هذا، وإن كان أكثر الناس لم يكونوا معولين شيئاً عظيماً ينتظر منها.

وفي الوقت نفسه انظروا إلى الحدث القريب: سبع دول لا تجمع بينها لغة، ولا يربط بينها دين، ولا توحدها جغرافيا قريبة، تأتلف وتنظم إلى دول أخرى ليتسع هذا الاتحاد وتعظم قوته وتكثر دوله، وتكون صفاً واحداً فيما يحقق مصالحها ويواجه أعداءها.

وكذلكم تعلمون ما زاد من دول عشر في الاتحاد الأوروبي، ونحن كأوراق شجرة في خريف تتساقط واحدة تلو الأخرى.

وأزيدكم من المفارقات القريبة العجيبة في القوة والإعلام الذي يظهره اليهود عليهم لعائن الله في دولة الغصب في أرض فلسطين، وهم يعلنون أسلحتهم النووية، وبرامجهم التي تصنف، ويكتب عنها في البحوث والكتابات الرسمية، ولا يستحيون من ذلك أو يخشون أحداً، ولا تستطيع دولة في الدنيا كلها أن تقول: إن عندهم أسلحة دمار شامل أو غير شامل، وفي مقابل ذلك ضعف وخذلان، وإقرار وتسليم مخزٍ لم يقع في عالم اليوم مثله يكون من دولة عربية مسلمة.

مفارقات في المواقف من الجمعيات الخيرية

ثم انظر إلى غير ذلك من توسع وانتشار في الأعمال الخيرية المزعومة، والأعمال الإنسانية الجائرة في كثير من أحوالها في بلاد الغرب والشرق، وتضييق وحصار على الأعمال الخيرية والمؤسسات الإسلامية الإنسانية.

كان في أمريكا وحدها قبل نحو عامين مليون ونصف مليون جمعية ومؤسسة خيرية وإنسانية، وبلغ مجموع التبرعات في عام واحد مائة وواحداً وعشرين مليار دولار، ومعدل الجمعيات: جمعية لكل نحو ثلاثمائة وخمسين فرداً.

وفي دولة الكيان الصهيوني الغاصب نحواً من ثلاثين ألف جمعية خيرية -على حد قولهم وزعمهم- بمعدل جمعية لكل أقل من مائتين وخمسين فرداً، ثم الواجب المطلوب اليوم في كل بلاد الإسلام أن يضيق على العمل الخيري، وأن يخنق، وأن يحال بينه وبين أن يصل إلى المسلمين المضطهدين والمعذبين في شرق الأرض وغربها، وأن يكون الدرهم أو الدينار الذي يخرج لمساعدة من هدم بيته إرهاباً ينبغي على الجميع محاربته في الداخل والخارج.

ثم أيضاً: تحريض وتزوير في مناهج التعليم عند القوم في شرق الأرض وغربها، وصور مشوهة عن الإسلام والمسلمين، وافتراءات كاذبة على التاريخ والواقع والنصوص والشرائع كلها.

وأما في ديار المسلمين فالمطلوب هو التهذيب والتغيير في هذه المناهج حتى تصل إلى حذف الآيات من كتاب الله، أو محو الأحاديث من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا نحزن أحداً من أولئك القوم الذين يفيضون إنسانية ويرتقون في معاني الإنسانية ومراعاة حقوق الإنسان.

هل يا ترى نريد من ذكر هذه المفارقات وغيرها أن ندخل اليأس إلى القلوب؟ إننا نريد أن نسأل السؤال المهم: هل لنا في هذا دور؟ هل نحن مسئولون من قريب أو بعيد عن هذا؟ هل يمكن أن يكون لنا إسهام في تغيير الواقع، أم أن موقفنا قد يكون على أحد نوعين لا نريدهما ولا نسعى فيهما في غالب الأحوال:

إما صراخ وجؤار وانفعال وحماس وأعمال طائشة واندفاعات غير صائبة، وإما يأس وقنوط ووضع اليد على الخد ننتظر أن لا يكون شيء إلا مزيداً من هذه الأحوال المؤسفة المحزنة.

أوضاع أمتنا الإسلامية عموماً والعربية خصوصاً -وخاصة في أحداث قمتها الأخيرة وما يدور حولها من الأحداث- تبرز لنا أن أكثر الدول تقدم المصلحة الذاتية على المصلحة العامة، وأنها في واقعها السياسي والعملي ذات تبعية وليست ذات استقلالية، وما فوق ذلك وبعده ومعه لا ترى حقائق الأمور، بل تمضي مع الأوهام.

لا شك أيها الإخوة المؤمنون أننا نرى هذه المفارقات في الحادث الذي تحدثنا عنه من قبل، في استشهاد البطل الفريد والشيخ القعيد أحمد ياسين رحمه الله، وكيف كان من أعداء الله عليهم لعائن الله استهداف ثم إعلان واعتراف، وكيف كان لأعوانهم من دولة البغي والظلم الكبرى في العالم تأييد لهم، واعتراض على نقدهم أو إدانتهم.

ثم مع ذلك كله ومع هذا الصلف والاجتراء والعدوان نرى موقفاً آخر من قادة الدول العربية، وهو موقف التجاهل والتغافل سوى كلمات قليلة وبيانات رسمية حفظ الناس لغتها وعرفوا تحفظاتها، ثم في تلك المداولات والمشاورات القريبة لم يرد ذكر الحدث لا من قريب ولا من بعيد؛ خوفاً من أن يسيء ذلك إلى الأوضاع العامة، أو أن يؤثر على الموقف الدولي أو غير ذلك.

ثم انظروا إلى صفحة أخرى من المفارقات المؤلمة: فرقة واختلاف انفض به مؤتمر القمة ولم ينعقد حتى يومنا هذا، وإن كان أكثر الناس لم يكونوا معولين شيئاً عظيماً ينتظر منها.

وفي الوقت نفسه انظروا إلى الحدث القريب: سبع دول لا تجمع بينها لغة، ولا يربط بينها دين، ولا توحدها جغرافيا قريبة، تأتلف وتنظم إلى دول أخرى ليتسع هذا الاتحاد وتعظم قوته وتكثر دوله، وتكون صفاً واحداً فيما يحقق مصالحها ويواجه أعداءها.

وكذلكم تعلمون ما زاد من دول عشر في الاتحاد الأوروبي، ونحن كأوراق شجرة في خريف تتساقط واحدة تلو الأخرى.

وأزيدكم من المفارقات القريبة العجيبة في القوة والإعلام الذي يظهره اليهود عليهم لعائن الله في دولة الغصب في أرض فلسطين، وهم يعلنون أسلحتهم النووية، وبرامجهم التي تصنف، ويكتب عنها في البحوث والكتابات الرسمية، ولا يستحيون من ذلك أو يخشون أحداً، ولا تستطيع دولة في الدنيا كلها أن تقول: إن عندهم أسلحة دمار شامل أو غير شامل، وفي مقابل ذلك ضعف وخذلان، وإقرار وتسليم مخزٍ لم يقع في عالم اليوم مثله يكون من دولة عربية مسلمة.

ثم انظر إلى غير ذلك من توسع وانتشار في الأعمال الخيرية المزعومة، والأعمال الإنسانية الجائرة في كثير من أحوالها في بلاد الغرب والشرق، وتضييق وحصار على الأعمال الخيرية والمؤسسات الإسلامية الإنسانية.

كان في أمريكا وحدها قبل نحو عامين مليون ونصف مليون جمعية ومؤسسة خيرية وإنسانية، وبلغ مجموع التبرعات في عام واحد مائة وواحداً وعشرين مليار دولار، ومعدل الجمعيات: جمعية لكل نحو ثلاثمائة وخمسين فرداً.

وفي دولة الكيان الصهيوني الغاصب نحواً من ثلاثين ألف جمعية خيرية -على حد قولهم وزعمهم- بمعدل جمعية لكل أقل من مائتين وخمسين فرداً، ثم الواجب المطلوب اليوم في كل بلاد الإسلام أن يضيق على العمل الخيري، وأن يخنق، وأن يحال بينه وبين أن يصل إلى المسلمين المضطهدين والمعذبين في شرق الأرض وغربها، وأن يكون الدرهم أو الدينار الذي يخرج لمساعدة من هدم بيته إرهاباً ينبغي على الجميع محاربته في الداخل والخارج.

ثم أيضاً: تحريض وتزوير في مناهج التعليم عند القوم في شرق الأرض وغربها، وصور مشوهة عن الإسلام والمسلمين، وافتراءات كاذبة على التاريخ والواقع والنصوص والشرائع كلها.

وأما في ديار المسلمين فالمطلوب هو التهذيب والتغيير في هذه المناهج حتى تصل إلى حذف الآيات من كتاب الله، أو محو الأحاديث من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا نحزن أحداً من أولئك القوم الذين يفيضون إنسانية ويرتقون في معاني الإنسانية ومراعاة حقوق الإنسان.

هل يا ترى نريد من ذكر هذه المفارقات وغيرها أن ندخل اليأس إلى القلوب؟ إننا نريد أن نسأل السؤال المهم: هل لنا في هذا دور؟ هل نحن مسئولون من قريب أو بعيد عن هذا؟ هل يمكن أن يكون لنا إسهام في تغيير الواقع، أم أن موقفنا قد يكون على أحد نوعين لا نريدهما ولا نسعى فيهما في غالب الأحوال:

إما صراخ وجؤار وانفعال وحماس وأعمال طائشة واندفاعات غير صائبة، وإما يأس وقنوط ووضع اليد على الخد ننتظر أن لا يكون شيء إلا مزيداً من هذه الأحوال المؤسفة المحزنة.

أوضاع أمتنا الإسلامية عموماً والعربية خصوصاً -وخاصة في أحداث قمتها الأخيرة وما يدور حولها من الأحداث- تبرز لنا أن أكثر الدول تقدم المصلحة الذاتية على المصلحة العامة، وأنها في واقعها السياسي والعملي ذات تبعية وليست ذات استقلالية، وما فوق ذلك وبعده ومعه لا ترى حقائق الأمور، بل تمضي مع الأوهام.

أيها الإخوة المؤمنون:

كنت ولا زلت وسأظل أخاطب نفسي أولاً وأخاطبكم ثانياً؛ ليعرف كل منا مسئوليته ويحمل أمانته، ويؤدي واجبه، ولسنا نبحث عن المخرج من هذه الأزمات في شرق أو غرب، أو عند أنظمة دولية أو اتفاقات عالمية، ولا نرى ذلك إلا في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقامنا هذا يضيق عن الإفاضة.

ووقفتي كما وقفنا من قبل في شأن الإصلاح مع بضع آيات تقصها علينا آيات القرآن، لصور مرت بأهل الإيمان مع أنبياء الله عز وجل، في مواجهة بغي وظلم وعدوان وكفر من أعظم أمثلة التاريخ البشري كلها، فأي أمر وجهه الله عز وجل إلى أهل الإيمان ليخرجوا من هذه الأزمات؟!

قوى الظلم تتهم المصلحين بالإفساد

استمعوا معي إلى هذه الآيات: وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127].

تأملوا هذه الآية في مطلع مقطع قصير من هذه القصة: (وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) أليس هذا هو واقعنا اليوم؟! أليس أهل الإسلام والإيمان هم الإرهابيون وهم العنصريون، وهم المفسدون في الأرض؟ ومن يقول ذلك؟! يقوله أكابر المجرمين من شذاذ الأرض وأفاكيها من اليهود ومن يعينهم من الصليبيين اليمينيين المتطرفين.

(أَتَذَرُ مُوسَى) نبي الله عز وجل! كليم الله سبحانه وتعالى، (وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) أي إفساد جاء به موسى عليه السلام؟

يقول ابن كثير في تفسيره: أتدعهم ليفسدوا في الأرض، أي: ليفسدوا رعيتك، ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك، يقول ابن كثير بهذه العبارات: يا لله العجب! أصار هؤلاء هم المفسدين؟! ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لا يشعرون!

وقال السعدي : ليفسدوا في الأرض بالدعوة إلى الله، وإلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال التي هي الصلاح في الأرض، وما هم عليه هو الفساد.

نعم هذا هو واقع اليوم، هذه الأمور التي انقلبت، والمقاييس التي انتكست، والحقائق التي تبدلت وتغيرت، حتى أصبح الطاهر قذراً، وصاحب الحق مبطلاً، والناطق بالخير مفسداً، لم يقل ذلك أعداء الله فحسب، بل صرنا اليوم نسمعه من بني جلدتنا، ومن الناطقين بلغتنا، بل ربما نرى من يقوم به في واقعنا أكثر ممن يقوم به من أعدائنا: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127] وجاء جواب فرعون طاغية الأرض الأعظم: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127] حرب على الإرهاب لا هوادة فيها، سنظل نحارب الإرهاب، وسنجمع الدول كلها لمحاربة الإرهاب، وعلى الجميع أن يحاربوا الإرهاب، ذلك الذي نسمعه اليوم هو الذي نقرؤه في آيات الله، ولكن المهم عندنا ما الذي قاله موسى لقومه؟ ما الذي قاله للمؤمنين من أتباعه من بني إسرائيل؟ وماذا كانت نهاية الأمر؟

الاستعانة بالله في الأزمات

إننا نتلو آيات من كلام الله عز وجل، إننا نتلو قرآناً حقائقه قاطعة يقينية، فإن كنتم في شك من كتاب ربكم ومن كلام خالقكم، ومن سنن بارئكم، فلا أمل ولا خير فيكم.

استمعوا إلى قول موسى عليه السلام: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]. (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ) وليست لفرعون، ولا لأمريكا ولا للشرق ولا للغرب.

(يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كلمات واضحات! قد يقول بعض الناس: وماذا في هذا؟ وأي شيء سيغير هذا في الواقع؟ ليس في هذا مواجهة، وليس فيه مصادمة؟

نقول: هو منهج السنة الربانية، ابدأ بنفسك أولاً، حرر إيمانك، أخلص نيتك لله، اصدق في تعلقك بالله عز وجل، ما هي القوة التي تعتمد عليها؟ قوة الله!

من هو الذي تلجأ إليه في السراء والضراء؟ أهو الله؟! من الذي تفضي إليه بهمك وغمك؛ هل هو الله أم ما زالت تتوزعك الأهواء؟! أم ما زالت أحوال أمتنا ودولنا تبحث عن سند هنا أو هناك، وتبحث عن قوة من هذا أو ذاك؟!

(استعينوا بالله) أين هي الاستعانة بالله في واقع حياتنا اليومية البسيطة؟ عندما نمرض هل تتحقق استعانتنا بالله؟! عندما يُضَيَّق في رزقنا ويقتر علينا في عيشنا بقدر الله هل نستعين بالله؟

هل القلوب مملوءة بهذا اليقين: أن الأمر كله لله، وأن الخير والشر والضر والنفع إنما هو بيد الله؟!

ألم نستمع لهذه الكلمات التي قالها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لغلام صغير كان معه: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)؟ أين اليقين الذي يرسخ في القلوب ليكون قوة لا تستطيع قوى الأرض كلها أن تقف في مواجهتها؟!

اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128] قال السعدي في تفسيره: قال موسى لقومه موصياً لهم في هذه الحالة التي لا يقدرون فيها على دفع ولا مقاومة: استعينوا بالمقاومة الإلهية، والاستعانة الربانية، (استعينوا بالله) أي: اعتمدوا عليه في جلب ما ينفعكم، ودفع ما يضركم، وثقوا بالله أنه سيتم أمركم، (واصبروا) أي: الزموا الصبر على ما يحل بكم منتظرين الفرج.

ونقل القاسمي في تفسيره عن بعضهم كلمات رائعة في الاستنباط في هذه الآية، قال: تدل على أنه عند الخوف من الظلمة يجد الفزع إلى الله سبحانه وتعالى، والاستعانة به، والصبر.

ولا مفزع إلا هذين: الانقطاع إلى الله تعالى بطلب المعونة في الدفع، واللطف في الصبر.

عاقبة الصبر والثبات للمتقين

وتدل الآية على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128] هل تريدون عاقبة بلا تقوى؟ هل تريدون أن تخالفوا سنة الله الثابتة في آياته الناطقة الباقية إلى قيام الساعة؟

ثم استمع إلى المراغي في تفسيره وهو يذكر لنا كلام نفيساً ودرراً غالية في هذا المعنى ويقول: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي: العاقبة الحسنى لمن يتقون الله، ويراعون سننه في أسباب إرث الأرض باتحاد الكلمة، والاعتصام بالحق، وإقامة العدل، والصبر على الشدائد، والاستعانة بالله عند المكاره، ونحو ذلك مما هدت إليه التجارب، ودلت عليه الشرائع.

والخلاصة: أن الأمر ليس كما قال فرعون، بل القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله، ولمن وعده الله جل وعلا توريث الأرض، ونحن الموعودون بذلك، ولكن بشرط أن نقيم شرعه، ونسير على سننه في خلقه.

هل هناك أظهر من هذا البيان القرآني، وكلام العلماء رحمة الله عليهم جميعاً؟ ألسنا نرى هذا المنهج واضح المعالم؟ أين هي الاستعانة بالله التي ذكرنا صوراً منها؟ وأين هو الصبر الحميد؟ وأين هي المغالبة التي سنذكر أمثلة لها في واقعنا وليس في تاريخنا فحسب؟

ماذا كانت في العاقبة في هذه الآيات العظيمة؟

بعد بضع آيات جاءت النتيجة: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].

إن سنن الله لا تتخلف، وإن وعد الله عز وجل لا يخلف: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى [الأعراف:137] وعده الصادق عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]، كل هذه القوى الظالمة الباغية الضخمة الهائلة لا تساوي شيئاً في ميزان الإيمان بالله والاستعانة به، ما هي قوى الأرض كلها إلى قوة الله ملك الملوك، جبار السماوات والأرض؟

أين نصر الله عز وجل لقوم لا يفضون بقلوبهم إليه، ولا يلتجئون عند الشدائد إليه، ولا يعتمدون بصدق ولا يتوكلون عليه، ثم يقولون: أين هو نصر الله عز وجل؟

أين تقوى الله سبحانه وتعالى من بواطن قلوبنا ونفوسنا، وظواهر أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا، فلقد عم الفساد إلا ما رحم الله، وساد الخنا والزنا والفسق والفجور.. تخاطب به الآذان، وتجبه به الأبصار، ويروج له على الصفحات والشاشات، ثم نقول: أين منا نصر الله عز وجل؟ وأين أحوال أمتنا العربية الضعيفة الهزيلة وقد كان فيها ومنها ما هو حرب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟!

كيف نريد نصر الله ونحن نجاهر بذوات أنفسنا وفي أحوال أمتنا بمعصية الله عز وجل؟!

سنن الله لا تتغير: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].