خطب ومحاضرات
اجلس بنا نؤمن ساعة
الحلقة مفرغة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد:
فعنوان حديثنا: (اجلس بنا نؤمن ساعة).
وهي مقولة لـمعاذ رضي الله عنه، كان يقولها لأصحابه، أو هي حديث عن التربية الإيمانية وحاجتنا إليها، وقد يشعر بعض الناس بادئ ذي بدء حينما يسمعون الحديث عن التربية بأن هذا الحديث يخص فئة من الناس هم أولئك المربون، سوء كانوا آباءً أو أساتذة أم كانوا مربين للجيل والناس الذين يستمعون لكلمتهم ويقتدون بأعمالهم.
فالبعض حين يسمع الحديث حول هذا الموضوع يسقطه من ذهنه، ولسان حاله يقول: هذا ليس خطاباً لك.
وهذا التصرف يعتمد على فهم قاصر للتربية؛ وهو أن التربية ما يتلقاه الإنسان ممن يربيه أياً كان هذا المربي، وهذا أمر -لاشك- له أهميته ودوره، والشرع قد اعتنى به، لكن هناك جانب مهم لا يقل أهمية عن هذا، ألا وهو أن الإنسان مسئول عن تربية نفسه، فعليه أن يسعى لتربية نفسه وتزكيتها وتهذيبها، والله تبارك وتعالى قرر في كتابه في غير ما آية المسئولية الفردية للإنسان، فقال تعالى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:38-39]، وقال تعالى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [مريم:80]، وقال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95].
فهذه النصوص وغيرها تقرر المسئولية الفردية، وهي أن كل إنسان مسئول عن خاصة نفسه، في عمله وسلوكه وحياته، ثم هو -نتيجة هذه المسئولية- سيحاسب وحده وسيلقى الله عز وجل وحده.
فهذا مدخل بين يدي هذا الموضوع حتى لا نتصور أن الموضوع لا يعنينا بدرجة مهمة، أو أن الموضوع إنما يخص المربين.
نعم، وإن كان المربون لهم نصيب من هذا الحديث ومن هذا الخطاب، إلا أننا كلنا -أيضاً- نحتاج لمثل هذا الخطاب وهذا الحديث؛ لأننا يجب علينا أن نقوم بتربية أنفسنا، وندرك مسئوليتنا تجاه أنفسنا، وينبغي أن يراجع كل منا نفسه، ويشعر بأنه إن رزقه الله بمن يحسن تربيته وتوجيهه، فصار قدوة له، لا يعفيه ذلك من المسئولية عن نفسه، بأن يجتهد في تربية نفسه وإصلاحها، وأن يتعرف على الأسباب والوسائل التي تعينه على التربية السليمة لنفسه.
والتربية لها جوانب عدة، والتربية إنما تسعى لاكتمال شخصية الإنسان، وأن تكون الشخصية هي الشخصية المسلمة التي تمتثل بأمر الله عز وجل، وتنتهي عما نهى الله تبارك وتعالى عنه.
ولا شك أن النفس لها جوانب متعددة، ومن هنا كانت التربية -أيضاً- لها جوانب متعددة؛ باعتبار أنها تسعى إلى تكميل النفس، وتسعى إلى الرقي بها؛ لذلك صارت لها جوانب عدة، فالإنسان -مثلاً- يحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان التعلم وطلب العلم وتحصيل العلم، ويحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان الخلق والسلوك والتعامل مع الناس، ويحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان العمل والبذل والعطاء، وفي ميادين كثيرة، ومن أهم هذه الجوانب وآكدها التربية الإيمانية، تربية الإيمان في النفس.
وآثرنا استخدام هذا المصطلح؛ لأنه هو المصطلح الذي يربط الناس بالألفاظ الشرعية، بالإيمان الذي دلت عليه النصوص المتظافرة المتواترة، فحين تقرأ في كتاب الله عز وجل أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم كم تصادفك كلمة الإيمان! حيث تجد وصف الناس بالإيمان أو وصفهم بارتفاع الإيمان عنهم، أو الدعوة للإيمان، أو بيان أثر الإيمان ونتيجته وقيمته، لا يكاد يخطئك ذلك في أي آية من كتاب الله عز وجل تقرؤها، أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كل ذلك إنما مداره على الإيمان؛ لأن الأمر الذي يؤمر به المرء أو الذي ينهى عنه من حكم، أو خلق، أو سلوك، والوعد والوعيد، والإخبار عن الهالكين والناجين، كل ذلك مرتبط بدائرة الإيمان، فحين يؤمر المرء بأمر فإنه يؤمر بمقتضى الإيمان ونتيجته، وحين ينهى عن أمر فانه ينهى عن ذلك بمقتضى إيمانه، وحين يأتي إخبار الله عز وجل عما أعد للصالحين الصادقين، فإن هذا إخبار عن جزاء أهل الإيمان ونتيجة الإيمان، وحين يخبر تبارك وتعالى عن عذاب المعرضين الغافلين، فهو إخبار عن عذاب أولئك الذين تنكبوا طريق الإيمان وضلوا عنه، وقصص الأولين والآخرين هي -أيضاً- قصص أولئك الذين أعرضوا عن الإيمان أو استجابوا للإيمان، كما قال تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:98]، فما قصه الله عز وجل إنما هو خير قرية آمنت فجازاها الله عز وجل بجزاء الدنيا والآخرة، أو قرية أعرضت عن الإيمان فعاقبها الله عز وجل وأخذها نكال الدنيا ونكال الآخرة.
أقول: آثرنا أن نستعمل هذا المصطلح، وأن نتحدث حول هذا اللفظ؛ لأنه المصطلح الذي جاء الشرع به، ودل الشرع عليه في نصوص القرآن والسنة وتواترت نصوص السلف في الحديث حول هذا الأمر كما سيأتي.
وقد يستعمل بعض الناس مصطلحات أخرى كالتربية الروحية أو غيرها، وهي مصطلحات بعضها إما موروث من أهل التصوف، وإما موروث من النصارى، وإما لفظ مستحدث، وكلما اقتربنا والتزمنا بالألفاظ الشرعية كان ذلك أولى.
كون الإيمان أفضل الأعمال
لماذا -معشر الإخوة- نحن نحتاج إلى التربية الإيمانية؟
ويكاد يكون حديثنا إجابة على هذا السؤال، فما سيأتي من حديثنا كله إجابة على هذا السؤال.
أولاً: نحتاج نحن إلى التربية الإيمانية؛ لأن الإيمان هو أفضل الأعمال، وهو القضية الأساسية للمسلم في هذه الحياة، فالمسلم إنما يدعى للإيمان، ويسعى إلى تحقيق الإيمان، والإيمان هو أفضل الأعمال كما أخبر صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، فحين سئل صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله ...) فجعل صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله هو أفضل الأعمال، وفي حديث أبي ذر في الصحيحين أنه حين سئل قال: (إيمان بالله عز وجل).
ولو استعرضت ما أجاب به صلى الله عليه وسلم أولئك الذين سألوه عن أفضل الأعمال لوجدت أن هذه الإجابات مع اختلافها، وتنوعها بحسب تنوع حال السائل، كلها مدارها على الإيمان، فيجعل صلى الله عليه وسلم أفضل هذه الأعمال الإيمان بالله عز وجل، وحين جاء وفد عبد القيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! لقد حال بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فلا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بأمر فصل نأمر به من وراءنا. قال صلى الله عليه وسلم: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان؟) ثم ذكر صلى الله عليه وسلم شيئاً من شرائع الإيمان.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله هذا الوفد أن يأمرهم بأمر فصل، وحين سأله هؤلاء أن يبين لهم أمراً يستغنون به، ويعلمون به من وراءهم؛ إذ هم لا يستطيعون أن يصلوا إليه إلا في الشهر الحرام؛ أمرهم صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله وحده.
حصول النجاة بالإيمان يوم القيامة
الأمر الثاني: أن الإيمان هو مناط النجاة يوم القيامة، فنجاة المرء يوم القيامة إنما هي بإيمانه، فلن ينجو إلا المؤمنون، ومن أعرض عن الإيمان وتنكب الطريق واختار الكفر بالله عز وجل؛ فلن يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ...)، ويقول: (والذي نفسي بيده! لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة).
فأساس النجاة يوم القيامة ومناط النجاة إنما هو مرتبط بهذا الإيمان بالله عز وجل، فمن حقق الإيمان استحق النجاة يوم القيامة، ومن كفر بالله عز وجل وأعرض عنه فإنه مستحق للهلاك والبوار، وعقوبة الدنيا التي يعاقب الله عز وجل بها المعرضين إنما مردها الإعراض عن الإيمان بالله تبارك وتعالى، يقول تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98].
دوران التفاضل يوم القيامة على أساس الإيمان
الأمر الثالث: أن الناس يتفاوتون يوم القيامة على أساس الإيمان بالله عز وجل، على أساس إيمانهم وصلتهم بالله تبارك وتعالى، فهم -أولاً- يتفاوتون في المرور على الصراط كما تعرفون في النصوص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم يؤتون نوراً على قدر إيمانهم، بل في كتاب الله عز وجل يقول تبارك وتعالى: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12].
إذاً: هذه الآية أخبر الله عز وجل فيها أنهم يوم القيامة يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم:8]، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وهذا النور إنما يؤتونه على أساس الإيمان، ويتفاوت هذا النور، فمنهم من نوره مد البصر، ومنهم من نوره دون ذلك، ومنهم من نوره بين قدميه، ومنهم من ينطفئ تارة ويضيء تارة.
إذاً: فالعبور على أساس الصراط إنما يتفاوت على حسب الإيمان، فهم -أولاً- يؤتون نوراً على هذا الصراط المظلم على أساس إيمانهم، فعلى قدر إيمان المرء يعطى النور على الصراط، وهي قضية متلازمة، فالله عز وجل أمر عباده في الدنيا أن يسيروا على صراطه المستقيم فقال تبارك وتعالى آمراً إياهم بسؤاله الهداية: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، فأمر الله عز وجل الناس أن يسيروا على الصراط المستقيم في الدنيا، والمرء لا يستطيع أن يبصر الصراط إلا بالنور، فيبصر صراطاً مستقيماً في الدنيا بنور الإيمان، فكلما قوي إيمان المرء في الدنيا أعطاه الله عز وجل بصيرة يبصر بها الصراط أمامه حتى لا يضل ولا يزيغ، فيصبح يرى الطريق أمامه واضحاً جلياً، وإنما يلبس على المرء ويضل بسبب إعراضه كما قال تبارك وتعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا [الأنعام:110-111].. إلى آخر الآيات.
فيخبر تبارك وتعالى أن هؤلاء -كما أنهم أعرضوا أول مرة- قلب الله أفئدتهم وأبصارهم، فصار الإيمان مستحيلاً لديهم، ولو أنزل الله عز وجل الملائكة، ولو كلمهم الموتى، والمقصود هنا: أن السبب في إضلالهم هو أنهم لم يؤمنوا أول مرة.
وأيضاً في آية أخرى يقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ.. [الحديد:28]، وهذه الآية ذكرت في سورة الحديد، وفي السورة نفسها ذكر الحديث عن بعض ما يكون على الصراط، فأخبر الله عز وجل أن المؤمنين إذا اتقوا وآمنوا أعطاهم نوراً يمشون به في الدنيا، فالإنسان يسير على صراط الدنيا يحتاج إلى أن يتضح له الطريق، فيحتاج إلى النور الذي يضيء له الطريق، وهو الإيمان الذي ينير له الطريق، فيجعل الله له في هذا الإيمان نوراً يبصر به، ويرى به الحق، ويوم القيامة يعطى نوراً على الصراط في الدار الآخرة كما أعطي هذا النور، فعلى قدر الإيمان على هذا الصراط، ووضوح الأمر لديه يؤتى نوراً يوم القيامة، وعلى قدر ثباته على صراط الدنيا يكون ثباته على الصراط يوم القيامة.
فهم -إذاً- يتفاوتون على الصراط على أساس النور الذي يعطون إياه، وهم يتفاوتون في سرعة مرورهم على الصراط، فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح وهكذا، وكل هذا مداره على أساس الإيمان.
قلنا: إنهم يتفاوتون في المرور على الصراط على أساس الإيمان، ويتفاضل -أيضاً- أهل الجنة فيما بينهم وإن دخلوا الجنة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف في الجنة، كما تراءون الكوكب الشرقي أو الغربي في الأفق؛ لتفاضل ما بينهم)، فهو ينظر إلى منازل من سبقه كما ينظر الإنسان إلى الكوكب من شدة التفاوت بينهم في هذه المنازل. (قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).
هذا الحديث في الصحيحين يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً في الجنة في الدرجات، وأن أولئك الذين رزقهم الله عز وجل هذه المنازل التي يتراءاها الناس كما يتراءون الغرف، أنهم هم أولئك الذين آمنوا بالآخرة وصدقوا المرسلين.
إذاً: فعلى قدر إيمان المؤمنين تتفاوت منازلهم في الجنة، حتى لو دخلوا الجنة، فهم يتفاوتون في الجنة على أساس الإيمان.
كما أن العصاة من الموحدين -كما تعلمون- يبقون في النار ثم يخرجون منها، فيقول الله عز وجل: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، مثقال حبة من إيمان، أدنى خردلة من إيمان).
إذاً: فهم يتفاوتون بقدر لبثهم في النار وبقدر ما تأخذ النار منهم على أساس ما عندهم من إيمان.
إذاً -معشر الإخوة- يتفاوت الناس يوم القيامة في منازلهم -سواء في مرورهم على الصراط، أو في دخولهم الجنة، أو في عذاب عصاة المؤمنين والموحدين- على أساس الإيمان، فكما أنه مناط النجاة والنجاة إنما هي مرتبطة به يتفاضل الناس به فيما يصيبهم من النعيم، أو ما يصيبهم من العذاب على أساس ما يقوم بقلوبهم من الإيمان، وهذا -لا شك- من أعظم الدوافع للإنسان إلى أن يحرص على زيادة الإيمان، وأن يحرص على تربية الإيمان في نفسه حتى يرقى إلى هذه المنازل، وحتى يصعد إلى منزلة السابقين المقربين.
زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله بذلك
رابعاً: من عقيدة أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص وأن أهله يتفاضلون فيه، والأدلة على ذلك مشهورة، يقول الإمام البخاري في صحيحه: [ كتاب الإيمان.
باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس).
وهو قول وفعل يزيد وينقص؛ قال الله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31]، أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124]، وقوله جل ذكره: فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:173]، وقوله تعالى: وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22] ].
ونقل القول بذلك أبو القاسم اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة وعن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ، وأيضاً قال رحمه الله: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار كلهم على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
وينبني على مسألة زيادة الإيمان ونقصه مسألة أخرى، وهي تفاضل أهل الإيمان فيه، فإذا كان يزيد وينقص فهذا يعني أن أهله يتفاضلون فيه، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك، ورأيت
وبوب على هذا الحديث الحافظ ابن مندة في كتابه الإيمان (باب: ذكر ما دل على أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان وفضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه).
وقال: هذا الحديث مجمع على صحته.
فالمقصود إذاً أن هذه الأمور مقرة عند أهل السنة، أن الإيمان يزيد وينقص، وأن أهله يتفاضلون فيه، وهذا يدعو الإنسان إلى أن يحرص على زيادة إيمانه قدر الإمكان، ويحرص -إذا علم أن أهل الإيمان يتفاضلون فيه- على أن يسعى إلى أن يصعد إلى المراتب العالية بهذا الإيمان، وفي المقابل أيضاً يحمي إيمانه من أن يصيبه النقص أو الضعف.
دعوة الشرع إلى تجديد الإيمان وتعاهده
خامساً: الدعوة في الشرع إلى تجديد الإيمان وتعاهده.
روى الحاكم والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب؛ فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم).
وروى ابن أبي شيبة في الإيمان، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (القلوب أربعه: قلب أجرد كأنما فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلق فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح فذلك قلب المنافق، وقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل شجرة يسقيها ماء خبيث وطيب، ومثل النفاق فيه كمثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلبه)، هذا روي عن حذيفة رضي الله عنه موقوفاً عليه، وقد رواه بعضهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف أصح.
وروى ابن أبي شيبة في الإيمان عن علقمة أنه كان يقول لأصحابه: امشوا بنا نزدد إيماناً.
وروى -أيضاً- ابن أبي شيبة في الإيمان، والإمام أحمد وأبو عبيدة في الإيمان، والبخاري تعليقاً، وصحح ذلك الحافظ ابن حجر عن معاذ رضي الله عنه أنه قال: اجلسوا بنا نؤمن ساعة. يعني: نذكر الله تعالى.
وروي عن الأسود بن هلال قال: كان معاذ يقول للرجل من إخوانه: اجلس بنا فلنؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله ويحمدانه.
وعلى كل حال فالنصوص كثيرة في الدعوة إلى تجديد الإيمان وتعهده في النفوس، وقد صنف السلف في ذلك كتباً خاصة في الإيمان، والمقصود أن ما خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأمرهم به من أن يجددوا الإيمان في قلوبهم ويزدادوا إيماناً، وما ورد عن سلف الأمة، يدعونا إلى أن نسعى إلى تعاهد الإيمان في نفوسنا، وإلى تربية الإيمان في نفوسنا، وإلى السعي إلى زيادته في أنفسنا، وأيضاً يدفع ويدعو من يتولى التربية إلى أن يجعل هذه القضية من أهم القضايا، ومن الأولويات الذي يتربى عليها الجيل ويتربى عليها الناس، ولعلنا نتساءل، ونحن قد سمعنا هذه النصوص عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان أحدهم يقول لصاحبه: اجلس بنا نؤمن ساعة، أو يقول: امشوا بنا نزدد إيماناً، فنتساءل: كم هي المجالس التي نجلسها مع إخواننا؟! أي: المجالس الخاصة، دع عنك الدروس والمواعظ وغيرها، إننا نجلس ساعات طوال في المجالس، أو ربما نسير في السيارة، أو نجلس هنا وهناك، فكم يستغرق حديثنا عن هذه القضايا من وقت؟! وهل حين نجلس مثل هذه المجالس يذكر بعضنا بعضاً بقضايا الإيمان والخوف من الله عز وجل، ونسعى إلى أن تكون هذه المجالس تزيدنا إيماناً؟! وبعبارة أخرى أن أحدنا كثيراً ما يلقى أخاه في الله، فهل هو يشعر أنه حين يلقاه ويتحدثان يزدادان إيماناً، ويشعر أن هذا اللقاء يزيده إيماناً وصلة بالله عز وجل؟! أو أنه يلقاه كما يلقى غيره، بل ربما كانت بعض المجالس مدعاة لقسوة القلب والبعد عن الله تبارك وتعالى.
وليس بالضرورة -أيها الإخوة- أن يكون الحديث في قضايا الإيمان والخوف من الله عز وجل، والمجالس التي تزيد الإيمان، ليس بالضرورة أن يكون موعظة مثل التي يلقيها الإنسان بعد الصلاة، أو في مجلس علم يحضره، أو في حديث رسمي كما يقال، ليس بالضرورة هذا ولا ذاك.
يا أخي! أنت تتحدث مع أخيك في المجلس أو في السيارة أو حتى في الهاتف أو هنا وهناك، فما الذي يمنع من وصيته أو تذكيره بالله عز وجل فيزداد بعضنا إيماناً بالله؟! إذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا تواصوا ليزدادوا إيماناً، وهم من هم في الإيمان والصلاح والتقوى؛ فغيرهم من باب أولى.
إعانة الإيمان صاحبه على الثبات في مواجهة الشهوات
الأمر السادس: أن الإيمان هو الزاد الذي يعين المرء على الثبات في مواجهة الشهوات، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...) ويذكر منهم صلى الله عليه وسلم رجلاً دعته امرأة إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله عز وجل، فمنعه من مواقعة ما حرم الله تبارك وتعالى خوفه من الله عز وجل، وإيمانه بالله تبارك وتعالى، والله عز وجل يقول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].
وأخبر تبارك وتعالى أن الشهوات قد زينت للناس، وهذا الكلام في عصر النبوة، فما بالكم بهذا العصر الذي نعيشه، وقد فتحت فيه الأبواب على مصاريعها، وصارت الشهوات تلاحق الشاب، وتلاحق الفتاة، وتلاحق الصغير والكبير في السوق، والشارع، بل حتى في المنزل، وصار الناس يشتكون من جحيم هذه الشهوات وآثارها، وكيف أنها تصرف الكثير عن طاعة الله عز وجل، وربما كانت سبباً في الانحراف وسبباً في الضلال والغواية عافانا الله عز وجل وإياكم من ذلك؟!
ولو تأملت حال الكثير ممن ضلوا وتنكبوا الطريق، لوجدت أن الكثير من هؤلاء إنما أتي من هذا الباب.
ويتساءل كثير من الناس ما العلاج وما الحل أمام هذا السيل الجارف من الشهوات الذي صار قضية لا يكاد الإنسان يستطيع أن يمنع أبناءه منها، ولا يستطيع الناس في المجتمع أن يمنعوا الناس من مقارفتها ولا من رؤيتها، وصارت مشاهدها تلاحق الناس في كل مكان، مما يشاهده الناس على الشاشة أو في المجلات أو في الصحف، حتى إذا عوفي الإنسان من هذا كله وعافاه الله عز وجل، فإنه قد لا يعدم أن يحدثه زميله مثلاً في الفصل عن شيء من ذلك أو يدله عليه.
المهم أن هذه الشهوات أصبحت مشكلة الجميع، وأصبحت مشكلة الشاب نفسه الذي يخاف على نفسه، والذي يحمل بقلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، فلا شك أنه يخشى على نفسه من هذه الشهوات وآثارها، وأصبحت مشكلة الأب الذي يخاف على أبنائه، ومشكلة الأم التي تخاف على أولادها، ومشكلة الأستاذ والمربي الذي يخاف على هذا النشء الذي تعاهده بالتربية والإصلاح، يخاف أن تجترفه هذه السيول، فتفسد في لحظات ما بناه هو في دهور وسنوات.
لقد صارت مشكله فعلاً يعاني منها المسلمون ويتساءلون: ما الحل؟
الحل -يا إخوة- هو في الإيمان، في تربية الإيمان في النفوس، الإيمان الذي يجعل الشاب ويجعل الفتاة ويجعل الإنسان يعرض أصلاً عن أبواب هذه الشهوات وطرقها، الذي يجعله بغض بصره ابتداءً، الذي يجعل في ذهنه قضية تشغله أكبر من قضية الشهوة، فبدلاً من أن يفكر في الشهوة وبدلاً من أن تسيطر عليه، صار يسيطر عليه هم أكبر من هذا كله، صار مشغولاً بالله والدار الآخرة، صار مشغولاً بزيادة الإيمان وتقوى الله عز وجل، صار مشغولاً بعيوب نفسه ومعاصيها وكيف يصلح نفسه، صار همه الشوق إلى لقاء الله عز وجل، والأنس بذكر الله تبارك وتعالى، وتلاوته الكتاب وعبادته ربه تبارك وتعالى، فصار لسان حاله يقول للناس، وهو يراهم صرعى الشهوات: يا قوم! أنتم في واد وأنا في واد، لكم هم ولي هم آخر. فحين يقوى الإيمان في النفس يصبح هذا حال الشهوة، وهذا لسان حاله، فيكون هذا بإذن الله عاصماً له وحامياً له، حتى لو أتته الشهوات تسعى إليه فإنه يعرض عنها، ويصبح -كما قال صلى الله عليه وسلم- يقول: (إني أخاف الله عز وجل)، وكما قال يوسف عليه السلام: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].
ولاشك -يا إخوة- في أن الوقت والمرحلة التي نعيشها الآن التي فتن الناس فيها بالشهوات مدعاة إلى أن نراجع برامجنا التربوية، أن يراجع المربون ما يربون عليه الناس، وما تتربى عليه الأمة، فالآن الملايين من المسلمين يرون أبواب الشهوات مفتوحة أمامهم، ويرون أبواب الفتن والضلال بكل ألوانها مشرعة أمامهم، فماذا يتلقون؟! ماذا يتلقى الطلاب في مدارسهم؟! وماذا تتلقى الطالبات في مدارسهن؟! هل يتلقون ويتعلمون ما يربي الإيمان في النفوس، وما يقوي الإيمان ويصل الإيمان بالله عز وجل؟! ماذا يسمع هؤلاء في وسائل الإعلام؟! وماذا يقرءون في الصحف التي يقرءونها صباحاً ومساء؟! ووسائل التوجيه التي تخاطب الناس والتي تحدث الملايين، ما مدى عنايتها بتربية الإيمان في النفوس، وغرس الإيمان في النفوس؟!
إذا كانت الأمة جادة في التربية، وإذا كانت الأمة جادة في الإصلاح، وإذا كانت قضية الدين والعقيدة الإسلامية قضية تعني الأمة بجد، فيجب أن توجه وسائل التربية والتوجيه في الأمة إلى غرس الإيمان في القلوب، فتتعاهد الأمة بتربية الإيمان، وتوجه وسائل التربية والتوجيه كلها في المجتمع لتحقيق هذه القضية، وماذا تريد الأمة من إنسان متعلم ومثقف لكن قلبه خال من الإيمان بالله عز وجل وتقواه؟! وماذا تريد الأمة من فتاه متعلمة لكنها لا تخشى الله عز وجل طرفة عين؟!
وهذا يدعو -أيضاً- الأب إلى أن يعيد النظر في وسائل تربيته لأبنائه، وكيف يربي أبناءه، وأن يعرف أن القضية لا تنتهي عند حد أمر أبنائه بالصلاة، ونهيهم عن مصاحبة جلساء السوء، لا تقف القضية عند أمر بالطاعة ونهي عن المعصية، بل يجب أن يجعل جو البيت جو إيمان يربي على الإيمان والصلاح والتقوى.
إن الولد قد يخرج إلى الشارع فيرى مظاهر الإغراء والإثارة وما يدعو للفساد، ثم يأتي البيت فماذا يرى فيه؟! لا يرى في البيت إلا مجلة، أو ما يظهر على الشاشة، أو -إذا حسنت الأحوال وصفت الأمور- يجد في البيت ما يزيده إيماناً وتقوى، وإذا كان والده صالحاً أو أمه صالحة فإنه لا يجد منهم إلا مجرد الأمر أو النهي فقط، أما أن يكون هناك تربية تبرز في الإيمان في النفوس، وتربي الإيمان في القلوب، فهذا أمر -مع الأسف- يخل به كثير من هؤلاء، والمربون الذين يتولون تربية الشباب -أياً كان دورهم أو موقعهم- هم الآخرون بحاجة إلى مزيد مراجعة، وأن ينظروا أين تقف قضية التربية الإيمانية في سلم الأولويات التربوية، فهل هي قضية مهمة وأساسية أم لا ؟!
ويجب أن يشعر هؤلاء بأن العناية بهذه القضية وإعطاءها الأولوية يختصر عليهم مراحل طويلة، ويحمي هذا النشء الذي يرون أنهم كلما أصلحوا شيئاً فيه أفسدته هذه الشهوات، وأفسدته هذه المجتمعات التي تؤز المسلم وتؤز الشاب إلى الفساد فتدفعه إليه، وهذا يدعو -أيضاً- الشاب إلى أن يتعاهد الإسلام، وهو يشعر بالخطر الداهم الذي يحاصره والذي يهدده، يدعوه إلى أن يرى أن من مسئوليته تجاه نفسه أن يتعاهد الإيمان في قلبه، وأن يحرص بقدر الإمكان على زيادة الإيمان، وعلى تربية الإيمان في نفسه، وأن يشعر أنه إن خسر ووقع في براثين الشهوات أو الشبهات؛ فقد خسر إيمانه وخسر دنياه وآخرته، وهي قضيه لا تحتمل المخاطرة أبداً.
إعانة الإيمان صاحبه على تجاوز ما يقع فيه من المعاصي حال ضعفه
الأمر السابع: أنه حين يقع في المعصية فالإيمان هو الذي يعين على تجاوزها، فقد يوقع الإنسان نفسه في المعصية في حالة ضعف وجبن واستيلاء الشيطان عليه، فإذا كان الإنسان تربى على الإيمان وعلى التقوى لله عز وجل؛ فإنه سرعان ما يستقيم، يقول تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:133-135].
إذاً: هذه حال المتقين: إذا وقعوا في معصية ذكروا الله عز وجل، فتجاوزوا هذه المعصية.
وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202]، فالمتقون قد يصيبهم طائف من الشيطان، فقد يسول لهم الشيطان، فيوقعهم في أمر محرم أو تقصير في واجب شرعي، لكن هذا الإيمان والتقوى في نفوسهم سرعان ما يدعوهم إلى التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، والازدياد من الحسنات فيزدادون إيماناً بعد ذلك، ويفعلون من الطاعات أضعاف ما عملوا من السيئات؛ حتى يكون ذلك مدعاة لتطهير أنفسهم من السيئات ورجسها، وزيادة إيمانهم بعد ذلك.
إذاً: صاحب الإيمان -يا إخوة- لو واقع المعصية؛ فإنه هو أقرب الناس إلى المبادرة للتوبة والإقلاع والاستغفار منها.
إعانة الإيمان صاحبه على الثبات عند البلاء والإغراء
ثامناً: الإيمان بالله عز وجل هو المعين على الثبات عند الابتلاء والإغراء، فالمرء قد تصرفه الشهوات كما قلت، ويضل عن طريق الله عز وجل، لكنه أيضاً قد يبتلى، والله تبارك وتعالى أخبر أن من لوازم الإيمان أن يبتلى الإنسان، يقول تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3]، ويقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]، لاحظوا هنا التعبير: (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ) فلم يقل: من يؤمن بالله؛ لأنه لو آمن بالله حق الإيمان لما حصل له هذا الأمر، كما قال هرقل لـأبي سفيان حين سأله عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل يرتد أحد من أصحابه -صلى الله عليه وسلم- سخطة لدينه؟ قال أبو سفيان : لا.
قال: كذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب لا يفارقها أبداً.
والذي يعين الإنسان على الثبات بإذن الله عند الابتلاء وعند الإغراء إنما هو الإيمان بالله عز وجل، وأولئك الذين يعبدون الله على حرف هم أسرع الناس استجابة لداعي الفتنة والإغراء، يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
إعانة الإيمان على الدعوة إلى الله تعالى
فهذا الأمر بقيام الليل، والأمر بالاجتهاد في الطاعة، كل هذا لأنه تعالى سيلقي عليه قولاً ثقيلاً.
قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6].
فالله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ زاداً له من ناشئة الليل، أن يأخذ زاداً له من قيام الليل، ومن التسبيح في النهار وذكر الله عز وجل؛ لأنه سيلقي عليه قولاً ثقيلاً وهو القرآن، وسيتحمل صلى الله عليه وسلم عبء الدعوة إلى هذا القرآن.
الأمر الثاني: أن الداعية إلى الله عز وجل وطالب العلم عرضة للآفات، عرضة للإعجاب بالنفس، عرضة للرياء، عرضة لأن يسير وراء بريق الشهرة، والذي يعينه ويحميه من ذلك هو الإيمان بالله عز وجل، الذي يجعله يشعر أن ما قدم كله إنما هو لله تبارك وتعالى، والذي يجعله يشعر بذنوبه وتقصيره في جنب الله سبحانه وتعالى، والذي يجعله يشعر أن ما قدم لن ينجيه إلا برحمة الله تبارك وتعالى.
الأمر الثالث: أن الداعية يدعو الناس للإيمان بالله عز وجل، وفاقد الشيء لا يعطيه، وإذا كان المرء فاقداً للشيء فكيف يستطيع أن يعطيه؟! إذا كان يحتاج أن يربي الناس على الإيمان بالله عز وجل وتقوى الله، وهو فاقد الإيمان والتقوى، وإذا كان يريد أن ينهى الناس عن معاصي الله عز وجل، وإذا كان يريد أن يأمر الناس بطاعة الله عز وجل وهو يعاني من الجفاف في قلبه، يعاني من الضعف في إيمانه، يعاني من الخواء في هذا الجانب، فكيف يستطيع أن يحقق
هذا الأمر؟! قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ.. [البقرة:44]، وقال تعالى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3].
الأمر الرابع: أن الذي يدعو إلى الله عز وجل هو من أكثر الناس عرضة للابتلاء والامتحان، والذي يعينه على الثبات على الابتلاء هو الإيمان بالله تبارك وتعالى، ولهذا كلما ذكر الله عز وجل في كتابه ما يكيد الكفار به النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بالصبر، وعقب على ذلك بالوصية بالتسبيح أو الصلاة أو التوجه إلى الله عز وجل، ولا تكاد تجد أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يواجهه من أذى ومن ابتلاء إلا ويعقب بالأمر بالتسبيح والأمر بالصلاة وطاعة الله عز وجل؛ لأن هذا هو الزاد المعين على الصبر، يقول تبارك وتعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه:130]، ويقول: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق:39-40]، ويقول: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10]، ويقول: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [الإنسان:25-26].
والآيات في ذلك كثيرة، ومن استعرض الآيات في السور المكية في سورة هود، والإسراء، وطه، والإنسان، والمزمل وغيرها سيجد أنه يعقب الأمر بالصبر -إما الصبر على مشقة الدعوة، أو الصبر على محاولة الكافرين إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم- يعقب بالأمر بالتسبيح، والأمر بالصلاة، والأمر بقيام الليل؛ لأن من يدعو إلى الله عز وجل عرضة للابتلاء، وعرضة لأن يواجه، والذي يعينه بعد توفيق الله عز وجل إنما هو إيمانه وصلته بالله تبارك وتعالى.
الإيمان هو الحل للمشاكل التربوية
الأمر العاشر: الإيمان والتربية الإيمانية هي الحل الأمثل للكثير من المشكلات التي نعاني منها في التربية، فكثيراً ما نشكو من قسوة القلب والفجور، والجرأة عن المعاصي، فما هو الحل لذلك؟
الحل لذلك -لا شك- هو التربية الإيمانية.
وكثيراً ما نشكو ونتساءل عن الانحراف بعد الهدى، وهي ظاهرة بدأت تكثر وخاصة في هذا العصر في السنوات الأخيرة، وكثيراً ما تشاهدون أولئك الذين كانوا على خير واستقامة وصلاح ثم ضلوا وتنكبوا الطريق، ونتساءل كثيراً: ما السبب؟ ونتساءل كثيراً: ما العلاج لهذه الظاهرة؟
لا شك أن أعظم علاج وأهم علاج لمثل هذه المشكلة إنما هو الإيمان بالله تبارك وتعالى، والتربية الإيمانية، أن نربي أنفسنا على الإيمان بالله عز وجل، وأن يربى الجيل ويربى الشباب على الإيمان بالله تبارك وتعالى، ويغرس الإيمان في النفوس، حينها سنجد أن هذه الظواهر تقل وتتلاشى، كما قال هرقل لـأبي سفيان لما سأله: هل يرتد أحد من أصحابه سخطة لدينه؟ قال: لا. قال له: كذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب لا يفارقها أبداً.
ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد، كان الذين ارتدوا عامتهم من أولئك الذين قال الله عنهم: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، أما السابقون الأولون أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان الذين جاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، الذين دخل الإيمان في قلوبهم؛ فلم يرتد أحد منهم، أما الذين ارتدوا على أدبارهم فهم أولئك الذين لم يتربوا التربية الإيمانية، هم أولئك الذين قال الله عز وجل عنهم: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].
إذاً: هذه القضية والمشكلة التي نعاني منها إنما علاجها وحلها في التربية الإيمانية.
ومن المشكلات التي يعاني منها الكثير من الشباب أنه أذا ابتعد عن إخوانه ضعف، وربما تجرأ على المعاصي، وربما تغيرت حاله وتبدلت.
ومن المشكلات التي نشكو منها العلاقات العاطفية التي قد تكون بين الشباب أو بين الفتيات أو بين الشباب والفتيات، والتي بدأت تنتشر في المجتمع، حتى انتقلت العدوى إلى مجتمعات الصالحين والناس الأخيار.
فالمقصود -يا إخوة- أننا نعاني الآن من مشكلات تربوية كثيرة، ويتردد السؤال ويتكرر: ما الحل لهذه المشكلة، وما العلاج لتلك؟
لا شك أن الحل لكثير من هذه المشكلات هو في تعميق التربية الإيمانية، وفي تعميق الإيمان في النفوس والصلة بالله عز وجل، وهو حين نجعل الهم هماً واحداً، فنختصر الطريق على أنفسنا بدلاً من أن نذهب نعالج كل مشكلة على حدة، وهذه المشكلة حتى لو عالجناها بأي علاج بعيداً عن التربية الإيمانية سيكون علاجها مؤقتاً، علاجاً لا يتوجه إلى مصدر الداء وأساس الداء؛ لأن الإيمان هو -بإذن الله- الذي يزيل كل هذه الأدواء، وهو الذي يجعل الإنسان يختار طريق الخير والصلاح ولو صعب عليه، ويبتعد عن طريق السوء والفساد ولو هان عليه، ولو دعته إليه النفس الأمارة بالسوء.
أسأل الله عز وجل أن يزيدنا وإياكم إيماناً، وأن يحبب إلينا الإيمان في نفوسنا وقلوبنا؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا
لماذا -معشر الإخوة- نحن نحتاج إلى التربية الإيمانية؟
ويكاد يكون حديثنا إجابة على هذا السؤال، فما سيأتي من حديثنا كله إجابة على هذا السؤال.
أولاً: نحتاج نحن إلى التربية الإيمانية؛ لأن الإيمان هو أفضل الأعمال، وهو القضية الأساسية للمسلم في هذه الحياة، فالمسلم إنما يدعى للإيمان، ويسعى إلى تحقيق الإيمان، والإيمان هو أفضل الأعمال كما أخبر صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، فحين سئل صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله ...) فجعل صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله هو أفضل الأعمال، وفي حديث أبي ذر في الصحيحين أنه حين سئل قال: (إيمان بالله عز وجل).
ولو استعرضت ما أجاب به صلى الله عليه وسلم أولئك الذين سألوه عن أفضل الأعمال لوجدت أن هذه الإجابات مع اختلافها، وتنوعها بحسب تنوع حال السائل، كلها مدارها على الإيمان، فيجعل صلى الله عليه وسلم أفضل هذه الأعمال الإيمان بالله عز وجل، وحين جاء وفد عبد القيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! لقد حال بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فلا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بأمر فصل نأمر به من وراءنا. قال صلى الله عليه وسلم: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان؟) ثم ذكر صلى الله عليه وسلم شيئاً من شرائع الإيمان.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله هذا الوفد أن يأمرهم بأمر فصل، وحين سأله هؤلاء أن يبين لهم أمراً يستغنون به، ويعلمون به من وراءهم؛ إذ هم لا يستطيعون أن يصلوا إليه إلا في الشهر الحرام؛ أمرهم صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله وحده.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الباحثات عن السراب | 2589 استماع |
الشباب والاهتمامات | 2464 استماع |
وقف لله | 2325 استماع |
رمضان التجارة الرابحة | 2257 استماع |
يا أهل القرآن | 2190 استماع |
كلانا على الخير | 2189 استماع |
يا فتاة | 2183 استماع |
الطاقة المعطلة | 2120 استماع |
علم لا ينفع | 2087 استماع |
المراهقون .. الوجه الآخر | 2084 استماع |