تفسير سورة الزخرف [33-43]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

يخبرنا الله أن الدنيا كلها ليست شيئاً؛ يقول: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [الزخرف:33] (لولا) حرف امتناع لامتناع، امتنع أن يجعل الله لكل الكافرين هذه البيوت التي سقفها من ذهب وفضة وفيها أنواع الزخرف في أبوابها وسقوفها وحيطانها وسررها، حتى لا يجعل الناس جميعاً كفرة.

والمعنى: لولا أن الناس وهم سراع إلى المال وإلى الدنيا وإلى الجاه! لولا أنهم سيسرعون إلى الكفر ويكونون جميعاً أمة واحدة كافرة لمتعنا الكفار وأعطيناهم نعيمهم في الدنيا كاملاً؛ لأن ما سيكون بعد ذلك هو الخزي الشديد والعذاب المقيم، فلولا أن الناس تعجبهم الدنيا لجئنا للكافرين وجعلنا لبيوتهم سقفاً من فضة، وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف:33]، أي: سلالم من فضة.

عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف:33] أي: يرتقون بطبقة فوق طبقة ويصعدون إلى العلو.

ولجعلنا لبيوتهم أبواباً من فضة (وسرراً): جمع سرير، من فضة يتكئون عليها، وذلك من أنواع الفضة اللينة التي تليق بذلك.

(وزخرفاً) أي: ذهباً وزينة، أي: من كل ما يريدون في حياتهم الدنيا من زخارف وزينة.

قوله: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:35]، أي: فما كل ذلك الذهب والفضة والسرر والسقف والأبواب إلا متاع الحياة الدنيا، أي: متاعاً زائلاً غير باق؛ لأن كل إنسان يئول به الأمر إلى الموت، وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ [الزخرف:35] ليس كل ذلك لَمَّا [الزخرف:35] وقرئ (لَمَا) أي: ليس كل ما ذكر إلا متاعاً مؤقتاً ومتعة زائفة زائلة غير دائمة.

وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35] الآخرة الدائمة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهي للمتقين، تلك الدار الخالدة التي فيها الحور العين وفيها الخمر التي لا لغو فيها ولا تأثيم، وفيها الحوض الذي من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ومن له قصر من ذهب هناك لو ظهر في الدنيا لكان قصره خيراً من الدنيا وما فيها وما عليها، وأخرج أحمد وأصحاب السنن عن سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو كانت هذه الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة لما سقى منها كافراً شربة ماء).

ولذلك فالإنعام على الكافرين فيه زيادة استدراج لهم ولقيام الحجة عليهم.

وقد جاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقد بلغه أنه طلّق أزواجه فوجده في علية له في بيته فاستأذن ودخل فوجد رسول الله واضعاً جنبه على حصير ممزق وليس معه إلا وسادة ممزقة وقربة بالية وقد أثّر الحصير في جنب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فبكى عمر وقال: (يا رسول الله أنت في هذه الحالة وقيصر وكسرى يتمتعون بالدنيا، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك عُجّلت لهم طيباتهم في الدنيا).

ثم جاء المسلمون الذين زهدوا في الدنيا فملكهم الله الأرض، وحكموا بلاد كسرى> وقضوا عليه فأصبحت أرضه أرض إسلام إلى يوم القيامة، فلا كسرى بعد كسرى، وقضوا على قيصر في أرض الشام فذهب وأصبحت بلاده بلاد إسلام؛ ومع ذلك فإن الجنة في الآخرة للمؤمن الصادق منفرداً بها، لا يدخلها وثني ولا كتابي ولا أحد من جميع ملل الكفر.

فقوله: وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35].

أي: الآخرة بزخرفها وحريرها وذهبها وبنعيمها الدائم مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين هي للمؤمنين المتقين خالدة وثابتة ودائمة.

والمؤمن كل أمره خير، فإن كان غنياً فغناه للجميع، وإن كان فقيراً فإنه يعيش إلى أن يموت مؤمناً موحداً ويعيش داعياً إلى الله.

وهذه الدنيا لا تكون إلا للباطل، ولا تكون إلا صارفة للإنسان عن عبادة الله وعن القرآن وعن إتيان ما جاء فيه من طاعة أوامره وترك نواهيه، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أوامره وترك جميع نواهيه، ولذلك فلا عيش إلا عيش الآخرة كما كان يقول عليه الصلاة والسلام وهو يبني مسجده النبوي ومعه أصحابه رضوان الله عليهم من المهاجرين والأنصار.

قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36].

أي: من يتغاض عن ذكر الله وعن عبادته، وعن الإيمان بالله وبرسل الله وبكتب الله، فيتعامى عنها ويصبح صارفاً نظره وفكره وعقله عنها سلط عليه الشيطان.

يقال: فلان أعشى إذا كان ضعيف البصر، وقد يوصف الأعمى أيضاً بالأعشى، ولذلك أكثر ما يطلق أعشى على ضعيف البصر.

فالمعنى: أن الذي يعمى ويضعف بصره عن طاعة الرحمن وذكره نقيض له شيطاناً.

والرحمن من أسماء الله، وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180].

وقوله: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] أي: نعد له شيطاناً ونملكه للشيطان ونذّله للشيطان، فيصبح له قريناً مقارناً ملازماً، فتنة وبلاء وليزيده ضلالاً وبعداً، وليصبح عبداً له عوضاً عن أن يكون عبداً لله.

والشيطان قد يكون شيطان جن وقد يكون شيطان إنس، وشيطان الإنس أكثر أثراً وأكثر أذى وبلاء من شيطان الجن، وما هذه الأسماء التي تسمعونها عن قادة الشيوعية والاشتراكية والماسونية والوجودية، وبقية الأسماء الضالة إلا شياطين قيضها الله لهؤلاء الذين اتبعوها فأخذوا يجيبون دعواتها ويكونون قرناء لها كما وصف الله بعد ذلك: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:37].

يخبر تعالى عن هؤلاء الشياطين أنهم يصرفون من قارنوهم يصرفونهم عن الله وعن السبيل الحق والطريق المستقيم وعن الصواب.

وقوله تعالى: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:37] أي: ويظنون مع ذلك أنهم على هداية ومعرفة وعلى طريق الحق؛ فيصفون أنفسهم بأنهم متقدمون وأنهم متحررون ومتفتحون وأنهم مثقفون وأنهم دارسون وما هم إلا عبيد للشياطين الذين اتخذوهم قرناء وأعموا أبصارهم وبصائرهم عن الحق الأبلج الواضح في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وصرفوهم عن رسالة محمد سيد البشر صلى الله عليه وسلم الذي أتى بالحق والنور والهداية، فصرفوا أنفسهم عن قيادته وقيادة خلفائه الصحابة والتابعين، وأخذوا ينبزونهم بالألفاظ السيئة كقولهم أنهم رجعيون ومتأخرون ومتزمتون! وهكذا أوحى لهم الشيطان.

لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [الزخرف:37] أي: عن طريق الحق والإيمان وعن طريق الله وطريق رسل الله وعن كتاب الله وهم يظنون ويعتقدون أنهم على الحق، وقد يكون الظن يقيناً إذا كانوا على هداية ولكن هيهات، فلا يكادون يخرجون من الدنيا وتصل الروح الحلقوم حتى يعرفوا الحق ولكن هيهات أن يفيدهم ذلك، لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158] فهؤلاء الذين أضاعوا حياتهم في القيل والقال والفساد والإفساد واتباع شياطين الإنس والجن قال الله فيهم: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37] أي: يبعدونهم ويصرفونهم ويدفعونهم عن طريق الحق بالهراء والأكاذيب والأضاليل والأباطيل .. بالنساء والولدان ووسائل الشيطان وهم يظنون أنهم على هداية وحق ونور.

قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:38] وهنالك قراءة سبعية متواترة وهي: حتى إذا جاءانا أي: الشيطان القرين والمتعامي المتغاضي عن الحق وذكر الرحمن وعبادة الله، فهما قرينان في الدنيا والآخرة وسيشتركان في النار كما اشتركا في الدنيا، وسواء كان القرين والمقارن إنسيين أو جنيين أو أحدهما إنسياً والآخر جنياً، قال ذلك المقارن لقرينه الذي أضله وزين له الكفر والإلحاد والفساد والشيوعية وبقية ملل الكفر: يَا لَيْتَ [الزخرف:38] وهيهات أن تفيده (يا ليت) وهو في دار الآخرة، بعد أن جاء إليها كافراً، ولم يقل في الدنيا يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.

قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف:38] أي: قال لقرينه: لو كان بيني وبينك من البعد ما بين المشرق والمغرب، فالمشرقان فيه تغليب ويقصد بهما المغرب والمشرق، فيتمنى لو كان بعد ما بينهما من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وفي اللغة العربية يقال: القمران ويراد بهما القمر والشمس، أو الشمسان ويراد بهما الشمس والقمر، ويقال العمران: ويراد أبو بكر وعمر ، والأبوان: ويراد بهما الأب والأم، وهذا كثير في لغة العرب.

وقوله تعالى: فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:38] أي: ما أبأسك وما أشأمك أيها القرين؛ لأنه كان سبباً في كفره وخلوده في النار، ولكنه ما انتبه ولا تذكر حتى فات الأوان، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك وقد قُطع.

قال تعالى: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39] يقول الله لهؤلاء أو تقول الملائكة عن أمر الله: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ [الزخرف:39] أي: لا ينفعكم يوم القيامة ندم ولا حسرة ولا أسف ولا حزن.

إِذْ ظَلَمْتُمْ [الزخرف:39] أي: ظلمتم أنفسكم بالشرك والكفر والجحود والعصيان.

قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] وأشد أنواع الظلم: ظلم النفس وظلم الخلق.

قوله: أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39] أي: فأنتم في العذاب مشتركون، فالقرين مع قرينه في العذاب الشديد، وكما كانا في الدنيا متقارنين فهما كذلك في الآخرة، وذلك لأن الإنسان اختار لنفسه هذا القرين في الدنيا إماماً وهادياً وقائداً عوضاً عن محمد النبي صلى الله وسلم عليه وعلى آله، وعوضاً عن كتاب الله جل جلاله، فكان ذلك القرين قدره وبلاءه وقد اختاره عن طواعية منه ورضاً فهما في النار إلى أبد الآباد، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56].

قال تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزخرف:40].

قوله: أَفَأَنْتَ [الزخرف:40] استفهام تقريبي، أي: يا محمد! لست مكلفاً بأن تسمع الصم وأن تهدي العمي ومن كان في ضلال بيّن وواضح؛ إنما كُلّفت بالبلاغ وبالأداء، أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:92]، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

والصم: جمع الأصم وهو الذي لا يسمع، والعمي: جمع الأعمى وهو الذي لا يُبصر، والمعنى: أأنت ترد الضال البيّن الضلالة؟ فليست هذه وظيفتك ولا كلّفت بها ولا أتت الرسالات بها، إنما جاء الرسل للبلاغ ولدعوة الناس إلى الله بالحجة الواضحة وبالدليل البيّن، وما بعد ذلك فعلى الله الهداية وهو المكلّف جل جلاله في عباده، قال تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22].

والكفار ليسوا صماً في واقع الحال ولكن بأنهم أبعدوا أسماعهم عن سماع الحق والنور والرسالة وسماع ما أتى عن الله، ولأنهم تصامموا ولم يكونوا صماً، ولغوا في القرآن قال تعالى حاكياً عنهم: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26] أي: ابتعدوا عنه فأولئك تعاموا عن الطريق ولم يريدوا النور ولا أن يستفيدوا منه، فهم في ضلالهم، ولذلك عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً لعدم استجابة قومه للدعوة قال الله له: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3] أي: لعلك مهلكها وضارها ولم نكلفك بهذا، قال تعالى واصفاً حال نبيه: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التوبة:128] فقد كان مما يؤذي نفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام عنت الناس وبعدهم عن الإيمان وتكذيبهم للرسالة وللحق والنور المبين، وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزخرف:40] أي: أتهدي من كان ضلاله بيناً فغطى على الأذن أن تسمع وعلى العين أن تُبصر؟ وهذا الذي ضل ضلالاً بيناً لم يكتف بأن كفر ولكنه أخذ يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول عنه الأكاذيب والأقاويل، ويسعى في إخراجه من بيته ومن بلدته مكة المكرمة، ويؤذي المسلمين ويضربهم ويحاول أن يقتلهم وقد فعلوا، وفي كل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم صامد وصابر إلى أن نصره الله النصر العزيز المؤزر.

قال تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف:41-42] يقول تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ [الزخرف:41] أي: إن نحن ذهبنا بك وأمتناك، فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [الزخرف:41] وهذا يتعلق بالمسلمين وليس بالكافرين؛ لأن بعض المسلمين في عصر رسول الله عليه الصلاة والسلام وبعده فعلوا الأفاعيل، فالله جل جلاله لم ينتقم منهم إكراماً لنبيه عليه الصلاة والسلام، وقد قال له بأنه لا يعذبهم ما دام فيهم؛ قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33].

فقوله: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [الزخرف:41] أي: سننتقم منهم ونؤدبهم وأنت حي فإنا قادرون على الانتقام منهم بما فعلوه، ولكن الله لم يصنع بهم ذلك كرامة لنبيه وهو حي، ولكن بعد ذلك صنع بهم ما صنع، فعندما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى اختصموا من سيكون الخليفة، هل هو من الأنصار أو المهاجرين؟ واختصموا أين يدفن محمد صلى الله عليه وسلم أفي المدينة أم الكعبة أم الأقصى؟ وارتد منهم من ارتد، وامتنع من الزكاة من امتنع، ثم بعد ذلك سمموا أبا بكر وقتلوه ثم قتلوا عمر ثم تواصوا على الخليفة الثالث عثمان فقتلوه وهو يتلو القرآن، وتآمروا على علي الخليفة الرابع وتواصوا عليه فقتلوه، وإذا بالله الكريم ينتقم منهم فأدام فيهم الحروب حتى سقط منهم المئات والآلاف من القتلى ووصل عدوهم إلى دمشق، ولكن الله جل جلاله لم يرفع رحمته عنهم فقد عاقبهم ثم عاد عليهم برحمته وتاب عليهم وعفا عنهم فانتصروا وفتحوا الفتوح ووصلت جيوشهم إلى ما بين الصين شرقاً وجبال برينيه فوق أرض فرنسا غرباً، ثم عادوا وقصروا فسُلط عليهم الصليبيين فاحتلوا المسجد الأقصى مائة عام، ثم تابوا فتاب الله عليهم وذهبت قرون وهم في عز، ثم بعد ذلك عادوا فانتقم الله منهم بالتتار فقتلوا وخربوا وفعلوا وفعلوا، ثم تابوا فتاب الله عليهم، ثم ذهبت قرون فعادوا إلى الكفر والعصيان فسلّط الله عليهم الاستعمار الأوروبي فتابوا وإذا بهم قد استقلوا جميعاً، ولم تكد توجد رقعة من أرض الإسلام إلا وقد استقلت، ثم بعد الاستقلال اتخذوها أداة للكفر وللجحود ولنشر الشيوعية ولعبادة اليهود فسلّط الله عليهم اليهود أنفسهم، وذلك لأن الناس لم يتوبوا ويعودوا إلى الله وإلى دينهم واتباع نبيهم والعمل بكتابهم، فأنواع العذاب عند الله جل جلاله لا تحد نسأل الله اللطف والسلامة؛ وهذه سنته في خلقه منذ آدم أبي البشر إلى محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله، فقوله: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ [الزخرف:41] أي: فإن نحن ذهبنا بك وأمتناك وذهبت إلى الرفيق الأعلى فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [الزخرف:41] ليشمل الكافر والمؤمن، ولكنها هنا فُسّرت بالمؤمن؛ فالمؤمنون اختلفوا وتنازعوا بعد أن رأوا الحق عياناً ونصر الله بيّناً والعالم قد ملكوه وأصبحوا سادته وأئمته والمتحكمين في رقاب الناس وأصحاب الأموال، وصاحب الدار يُعاقب أكثر من الغريب؛ لأن من في داخل الدار يعلم ما لا يعلم من هو خارج الدار فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف:41-42] أي: أو نبقيك حياً حتى ترى ما وعدناهم وأنذرناهم وهددناهم فإنا مقتدرون على ذلك ولو أنهم أسلموا ثم خالفوا وغيروا وبدّلوا؛ ولذلك تجد سلفنا عندما يتكلمون عن الصحابة يقولون: الخلفاء الراشدون، ولا يصفون بالرشاد من جاء بعدهم، والخلفاء الراشدون هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومن بني أمية عمر بن عبد العزيز ومن بني العباس -على خلاف في ذلك- الظاهر والمهدي ومن أدارسة المغرب إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وفاطمة ، ولده إدريس بن إدريس، وهم الذين يقول عنهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ما حكمه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) وهؤلاء عشرة والحادي عشر: سيظهر قبل خروج الإمام المهدي الذي هو حق ولا ينكره إلا جاهل، والثاني عشر: هو المهدي ، وليس كما يقول أولئك من يسمونهم أئمة وخلفاء ولم يحكموا يوماً، ولكن الذين حكموا هم هؤلاء: أبو بكر وعمر، والخلفاء الراشدون هؤلاء قد حكموا بسيف الإسلام وأحيوا بأمر الله ونشروا دين الله وكان عزيزاً منيعاً في أيامهم وسيبقى عزيزاً منيعاً إلى أيام المهدي يكون كالدول يوم له ويوم عليه، وسيخلف المهدي عيسى بن مريم، وهو من العلامات الكبرى للساعة، ونزوله من السماء في أخريات أيام الدنيا، أما تحديد ذلك بزمان فالله وحده الأعلم بالغيب وبمستقبل الأيام.

قال تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43] يقول الله لنبيه ليثبته وليرسخه وليزيده ثباتاً ورسوخاً فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43] أي: استمسك بالقرآن الكريم وعض عليه نواجذك وقم وادع له الخلق واعمل بما فيه من تحليل حلال وتحريم حرام واعتقاد عقائد وتأديب آداب وإنشاء رقائق فإنك بذلك تحكم الأرض وتسود البشر إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43] فأنت بما أنزل إليك من كتابنا القرآن الكريم على الحق المبين والصراط الواضح البيّن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا تتسرع بهؤلاء الذين خالفوك أو تمردوا عليك أو ارتدوا أو رجعوا أو حاولوا أن يبدلوا ويغيروا، فاثبت أنت ثبوت الرواسي إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل:79] وإِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43].


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الزخرف [46-54] 2307 استماع
تفسير سورة الزخرف [54-60] 2273 استماع
تفسير سورة الزخرف [5-12] 1904 استماع
تفسير سورة الزخرف [67-73] 1716 استماع
تفسير سورة الزخرف [2-4] 1710 استماع
تفسير سورة الزخرف [61-67] 1566 استماع
تفسير سورة الزخرف [29-32] 1547 استماع
تفسير سورة الزخرف [81-89] 1248 استماع
تفسير سورة الزخرف [74-80] 1232 استماع
تفسير سورة الزخرف [19-28] 1228 استماع