تفسير سورة غافر [40-46]


الحلقة مفرغة

قال الله جل جلاله: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40].

يخبرنا ربنا جل جلاله بأن من رحمته ومن كرمه أن المرتكب للسوء أو للذنب تكتب عليه سيئة واحدة، وسيجازى عليها، وأن من عمل صالحاً من الإيمان بالله، والتزام الأركان الخمسة: من صلاة وصيام وزكاة وحج، ذكراً كان أو أنثى، وكان مؤمناً، فهؤلاء يدخلون الجنة ويكون، رزقهم فيها بغير حساب، ويجازون على الحسنة عشراً، إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى.

وهذه الآية الكريمة هل هي من قول الله تعالى عقب قول مؤمن آل فرعون؟ أم هي من قول مؤمن آل فرعون قاله لفرعون ومن معه في مجلسهم؟ ذكْرها في المحاورة يدل على أنها من قول هذا المؤمن، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً... [غافر:38-40]، فيقول بعدها: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41] فكون هذه الآية بين سياق هذه الآيات التي هي حكاية عن قول مؤمن آل فرعون يدل على أنها من قول مؤمن آل فرعون.

وهذا المؤمن لا شك أنه تخرج على يد نبيين كريمين هما موسى وهارون عليهما السلام، فكان يعلم عن الله وعن رسله وعن الآخرة وعن الدين ما يعلمه العارفون بالله المؤمنون به.

وقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [غافر:40] أي: من ارتكب سيئة فجزاؤه -إن لم يتب ويستغفر ربه- أن يعاقب في سيئته بعقوبة على قدر ذنبه.

أما من عمل صالحاً فكما قال الله: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [غافر:40] أي: من عمل صالحاً حال كونه مؤمناً ذكراً كان أو أنثى، فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [غافر:40] أي: يجازون بالإيمان، وبالرحمة والرضا، ويكون رزقهم فيها بغير عدد ولا إحصاء، يكون جزافاً بلا حساب ولا متابعة، ذلك من فضل الله وكرمه على العباد.

وكون العمل الصالح لا يقبل إلا ممن كان مؤمناً، هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، فالكافر لا ينفع مع كفره عمل صالح، فلا صدقته ولا شفقته ولا نفقته تقبل؛ لأنه لا يعمل ذلك لله، ومن لم يعمل الصالحات زلفى إلى الله وامتثالاً لأمره فإنه يكون متلاعباً، وقد فعل ذلك رياءً أو سمعة أو للشيطان أو من فطرته وطبيعته.

والمؤمن لا يجزى على إحسانه إلا إذا كان قد فعله لله لا لغيره سبحانه؛ ولذلك قيده الله بقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [غافر:40] فالواو واو الحال، أي: عمل ذلك حال كونه مؤمناً، سواء أكان ذكراً أم أنثى، فإن كان مؤمناً فإن الله يدخله الجنة، ويجازيه من أرزاقه ونعيمه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويعطيه بغير حساب ولا مطالبة ولا محاسبة.

وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، وقد مضى في هذا المعنى آيات كريمات في سور شريفات.

ثم قال تعالى: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41].

لا يزال مؤمن فرعون يحاور فرعون وهامان وقارون وقومهم، ويزيف كفرهم وشركهم، ويعلمهم بالدين الحق، يعلمهم بالإله الواحد، وينصحهم ويعلن إسلامه ويدعوهم إليه، وهو لا يخاف في ذلك أحداً إلا الله، فقد أعلن كلمة الحق وجهر بها عندما رأى فرعون يحاول قتل النبي الكريم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41] يقول العربي -وهي لغة عربية فصحى- ما لي أراك حزينا، أي: ما بالك وما الذي أصابك؟ أو أخبرني بحالك؟

فقوله: مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ [غافر:41] أي: ما لكم؟ وما الذي أصابكم وأضاع فهمكم؟ فأنا أدعوكم إلى النجاة من النار والعذاب، وأنتم تدعونني إلى النار، أنا أدعوكم إلى التوحيد والإيمان، وأنتم تدعونني إلى النار، أي: إلى أسبابها من شرك وكفر، وخروج عن دين الله وكتبه ورسله.

ثم قال تعالى: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ [غافر:42].

فسر هذا المؤمن النار التي دعاه إليها قومه فقال: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ [غافر:42] أي: تدعونني يا فرعون ويا هامان ويا قارون ويا هؤلاء المشركون من القبط، أتدعونني إلى الكفر بالله، والجحود برسوله، وتكذيب الكتاب المنزل عليه؟ وأنا أدعوكم إلى الله الواحد، وأنتم تدعونني إلى آلهة مزيفة لا حقيقة لها ولا واقع، وتدعونني لأن يعبد فرعون، وتعبد الأوثان والأصنام، وهذا ما حرمه الله!

وقد ذكروا عن فرعون أنه كان دينه في الأول أن يعبد البقر، فكان يعبد البقرة الشابة ويدعو لعبادتها كما يفعل المشركون البراهمة، أي: مشركوا الهند في عبادتهم البقرة، ولكنه يعبدها ما دامت صغيرة حتى إذا كبرت ذبحها، ثم عبد أخرى أصغر منها، ثم بدا له أن يصنع أصناماً فيعبدها، ثم بدا له أن يدعو لعبادة نفسه وتأليهها.

ومن رأى آثار الشرك والوثنية في أرض مصر وفي متاحفها، وما احتفظوا به ودعوا إليه، وجمعوا من خلفه مالاً، فإنه يؤكد هذا، فهناك صور من البقر التي كانت تعبد، وهناك أوثان من الأصنام التي تعبد، وهناك صور الفراعنة وهي تعبد.

والحاصل: أن كل ذلك سواء، أي: كله شرك وكفر بالله، وجحود بوحدانيته.

فمؤمن آل فرعون يقول لقومه: أتدعونني للشرك وللجهالة بما لا يعلمه الناس والموحدون! وتدعونني للشرك والباطل، وما لم ينزل الله به من سلطان ولا علم لا من عقل أو نقل من كتاب أو رسالة، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار.

وشتان بين مؤمن وكافر، وبين داعية لله وداعية للشيطان، فأنا أدعوكم إلى النجاة وإلى العزيز الذي من اعتز به عز، ومن اعتز بغيره ذل، أدعوكم إلى العزيز على عزته، والغفار الذي يغفر ذنوب من تاب إليه، ويغفر ذنوب من استغفره، والإسلام يجب ما قبله، ومؤمن آل فرعون يدعو قومه بهذا.

وقد حاولوا قتل نبي الله موسى عند أن جاءهم بالبينات من ربه، يقول لهم: يا قوم! كل ما تدعون إليه باطل ما أنزل الله به من سلطان، فدعوني أهدكم وأوصلكم إلى طريق السلامة والرشاد والصواب، فأدعوكم إلى النجاة من عذاب الله والنار، وإلى عبادة الواحد العزيز الذي لا ينال الغفار الذي يغفر ذنوب عباده.

ثم قال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43].

(لا جرم) أي: حقاً، والمعنى: حقاً أن ما تدعونني إليه لا تقبل له دعوة، ولا يستجاب لقوله، ولا هو يستطيع ذلك؛ لأنه جماد وصنم، ولا يستطيع دعاء، وإن استطاع ولم يكن جماداً كأن يكون من نوع المعبودات الملائكية أو الجنية أو البشرية، فلا يجاب له لا في دنيا ولا في آخرة.

والمعنى: أن ما تدعون إليه كافة من عبادة فرعون -أي: من عبادة نفسه- أو من عبادة الأصنام والبقر أو أي شيء دون الله، دعوته تلك لم يستجب لها لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنها كلام باطل، وهراء وشرك ما أنزل الله بها من سلطان.

وفسر ابن عباس رضي الله عنهما: (لا جرم) فسرها بمعنى: الحق، وبمعنى: يقيناً أقول لكم، والمؤدى والمعنى والتفسير واحد، أي: أحدثكم بما لا يكون كذباً، وإنما أحدثكم بالحق المبين، وبقول الصدق، وقوله تعالى: لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ [غافر:43] أي: لا إجابة له لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا ينفع أحداً في دنياه ولا في أخراه.

وقوله تعالى: وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ [غافر:43] أي: يا هؤلاء فكروا هل خلد لكم أب أو أم؟ وهل خلد لكم ملك؟ وهذا الذي تدعونه إلهاً هل سيخلد؟ وهل يموت الإله؟ إن الإله لا تليق به إلا الحياة الدائمة الأبدية، فلا تأخذه سنة ولا نوم، وهو الحي الدائم جل جلاله وعز مقامه، وإنما تدعون إليه من عبادة الأوثان والأصنام هو باطل لا حقيقة له، ولا جواب عليه لا في دنيا ولا في آخرة.

وقوله تعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43] يخبر هنا مؤمن آل فرعون، بعد أن كتم إيمانه دهراً، وبعد أن رأى أنه لابد من الجهر أمام فرعون وقبيله، أعلن إسلامه ودعوته، وهو غير خائف من فرعون وبطشه وظلمه وإذايته، فقدم حياته رخيصة في سبيل الله، ولكن الذي قدم له حياته ودعا إليه، سيحميه من فرعون وبطشه، كما يحمي الدعاة إلى الله، وأن المسرفين على أنفسهم بالذنوب، واتبعوا الشهوات والنزوات، فادعوا ما لله العلي العظيم الكبير لأنفسهم، فهؤلاء أصحاب النار، هي جزاء كل من تجرأ على مقام ربه، فادعى له الصاحبة والولد، أو يقول: إن الله لا يقدر وحده إنما اتخذ أعواناً وشركاء، تعالى الله عن كل ما يقول المبطلون والمشركون علواً كبيراً.

تفسير قوله تعالى: (فستذكرون ما أقول لكم...)

ثم قال تعالى: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

قال مؤمن آل فرعون ما قال لفرعون وقومه، وجاهدهم بلسانه، وأعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، فبعد أن قال ما قال وأطال في الكلام قال لهم: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ [غافر:44] أي: ستذكرون يوم القيامة وأنتم في جهنم أو في النار والعذاب، أو وأنتم في الجنة إن تبتم ستذكرون قولي، فمن انتفع به فسيتذكر قولي ويفرح باتباعه؛ فقد ساقه إلى الرحمة والرضا، وإن أصر على الكفر فسيذكر قولي ويزداد حسرة وندماً على إعراضه عنه، ويقول: إن قبطياً من أقباط فرعون وأقاربه قد نهانا ووعظنا ودلنا، ولكن هيهات أن ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت في دار الدنيا، أو كسبت في إيمانها خيراً، فالإيمان لا ينفع صاحبه إلا إذا كان قبل الغرغرة، وأما إذا آمن والروح في الحلقوم فلا ينفعه دين ولا توبة ولا استغفار، ومن باب أولى يوم القيامة، فلو حاول التوبة والتوحيد هيهات أن ينفعه شيء من ذلك؛ لأن الآخرة ليست دار عمل، وإنما هي دار رحمة أو عذاب، والرحمة لمن آمن بالله في الحياة الدنيا، والعذاب لمن كفر بالله في الدنيا، فما هي إلا نتيجة عمل الدنيا، إن خيراً فالجنة، وإن شراً فالنار.

وقوله تعالى: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ [غافر:44] أي: يوم القيامة عند بعثتكم وعرضكم على الله، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ، وقوله: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ [غافر:44] أي: قد توكلت عليه واستسلمت له غير خائف من عذابكم وقتلكم واضطهادكم، وحياتي أفوضها لله فإن شاء القتل فهي الشهادة، وإن شاء النجاة فهي حكمة الله ورحمته في الدنيا والآخرة.

وقد قال أرباب الرقائق والآداب: هناك التفويض، وهناك التوكيل، والتفويض أوسع من التوكيل، وما التوكيل إلا شعبة منه، والتوكيل يكون بعد الأسباب، وأما التفويض فيكون قبل الأسباب. ومعنى التفويض: الاستسلام ظاهراً وباطناً لله الخالق جل جلاله، والاعتماد عليه بأن يصنع ما شاء، ولكن حرم ربك الظلم على نفسه وعلى عباده، فمن فوض أمره إلى الله وهو مؤمن فله من الله الرضا والجنة.

وهكذا فعل مؤمن آل فرعون، وما ذكر الله قصته للمسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا لتكون موعظة للمؤمنين، وذكرى للكافرين، وعبرة وموضع أسوة لكل مؤمن وجد بين كفار ظلمة.

وهكذا مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه، فعندما أعلنه دعا أقواماً إليه؛ فآمن من آمن وضل من ضل، ولكن الله مع ذلك حفظ له ذلك وسجله في كتبه، وسيجازيه عليه خيراً، بدليل ما قص الله علينا من قصته، وما أكرمه الله به من تفويضه أمره إليه، كما قال الله عنه: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44] أي: الله بصير بعباده، وأما أنا فلست إلا معلماً داعياً ومبلغاً عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله هو البصير بعباده الناظر إليهم، فيعذب من يشاء ويغفر لمن شاء، يعذب الكافر ويغفر للمؤمن، وهذا إلى الجنة وذاك إلى النار جزاء أعمالهم.

فهكذا يقول مؤمن آل فرعون، وانتهى حواره، وجعل نهاية قوله هذا هو قوله: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

ثم قال تعالى: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

قال مؤمن آل فرعون ما قال لفرعون وقومه، وجاهدهم بلسانه، وأعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، فبعد أن قال ما قال وأطال في الكلام قال لهم: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ [غافر:44] أي: ستذكرون يوم القيامة وأنتم في جهنم أو في النار والعذاب، أو وأنتم في الجنة إن تبتم ستذكرون قولي، فمن انتفع به فسيتذكر قولي ويفرح باتباعه؛ فقد ساقه إلى الرحمة والرضا، وإن أصر على الكفر فسيذكر قولي ويزداد حسرة وندماً على إعراضه عنه، ويقول: إن قبطياً من أقباط فرعون وأقاربه قد نهانا ووعظنا ودلنا، ولكن هيهات أن ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت في دار الدنيا، أو كسبت في إيمانها خيراً، فالإيمان لا ينفع صاحبه إلا إذا كان قبل الغرغرة، وأما إذا آمن والروح في الحلقوم فلا ينفعه دين ولا توبة ولا استغفار، ومن باب أولى يوم القيامة، فلو حاول التوبة والتوحيد هيهات أن ينفعه شيء من ذلك؛ لأن الآخرة ليست دار عمل، وإنما هي دار رحمة أو عذاب، والرحمة لمن آمن بالله في الحياة الدنيا، والعذاب لمن كفر بالله في الدنيا، فما هي إلا نتيجة عمل الدنيا، إن خيراً فالجنة، وإن شراً فالنار.

وقوله تعالى: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ [غافر:44] أي: يوم القيامة عند بعثتكم وعرضكم على الله، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ، وقوله: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ [غافر:44] أي: قد توكلت عليه واستسلمت له غير خائف من عذابكم وقتلكم واضطهادكم، وحياتي أفوضها لله فإن شاء القتل فهي الشهادة، وإن شاء النجاة فهي حكمة الله ورحمته في الدنيا والآخرة.

وقد قال أرباب الرقائق والآداب: هناك التفويض، وهناك التوكيل، والتفويض أوسع من التوكيل، وما التوكيل إلا شعبة منه، والتوكيل يكون بعد الأسباب، وأما التفويض فيكون قبل الأسباب. ومعنى التفويض: الاستسلام ظاهراً وباطناً لله الخالق جل جلاله، والاعتماد عليه بأن يصنع ما شاء، ولكن حرم ربك الظلم على نفسه وعلى عباده، فمن فوض أمره إلى الله وهو مؤمن فله من الله الرضا والجنة.

وهكذا فعل مؤمن آل فرعون، وما ذكر الله قصته للمسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا لتكون موعظة للمؤمنين، وذكرى للكافرين، وعبرة وموضع أسوة لكل مؤمن وجد بين كفار ظلمة.

وهكذا مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه، فعندما أعلنه دعا أقواماً إليه؛ فآمن من آمن وضل من ضل، ولكن الله مع ذلك حفظ له ذلك وسجله في كتبه، وسيجازيه عليه خيراً، بدليل ما قص الله علينا من قصته، وما أكرمه الله به من تفويضه أمره إليه، كما قال الله عنه: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44] أي: الله بصير بعباده، وأما أنا فلست إلا معلماً داعياً ومبلغاً عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله هو البصير بعباده الناظر إليهم، فيعذب من يشاء ويغفر لمن شاء، يعذب الكافر ويغفر للمؤمن، وهذا إلى الجنة وذاك إلى النار جزاء أعمالهم.

فهكذا يقول مؤمن آل فرعون، وانتهى حواره، وجعل نهاية قوله هذا هو قوله: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

ثم قال الله تعالى بعد ذلك: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [غافر:45].

كأن الله تعالى يقول: هذا الرجل الداعية إلى الله، الذي قال كلمة حق عند سلطان جائر كافر ظالم، قد وقاه الله وحفظه من المكر الذي أرادوا به، فقد أرادوا عذابه وقتله وحرقه، وأرادوا أن يجعلوه عبرة لكل من أراد الإيمان والإسلام واتباع موسى وهارون.

ولكن الله قد قال: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر:45] (سيئات) جمع سيئة، و(مكروا) أي: تحايلوا على البطش به، ولقد كانت سيئات لا سيئة واحدة، فقد فكروا في قتله، وفي حرقه، وفي تقطيع أوصاله، وفي أنواع من البلاء والعذاب إلى القضاء عليه، كما سبق أن فعل فرعون مع السحرة الذين آمنوا بموسى، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم على جذوع النخل، ولكنهم بقوا مصرين على الإيمان، وقالوا له كما حكى الله عنهم: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72] أي: ليست الدنيا دائمة لك، وليست إلا متاع، والسعيد من صبر على لأوائها وبلائها، والشقي من لم يصبر على لأوائها ولا بلائها؛ فكفر بالله وأشرك به ما لا علم له به.

وقوله تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [غافر:45] أي: أحاط بآل فرعون، وآله من أسرته وأتباعه ونصرائه: المؤمنون به والعابدون له، فكلهم آله وأتباعه وأنصاره، وهؤلاء هم الذين كانوا ضد هذا المؤمن، وكانوا حرباًً عليه، والذين استجابوا لفرعون ولرغبته في قتل موسى عليه السلام؛ لدعوته إلى أن يعبد الله وحده، فكأن الله قال: الحفرة التي حفرها فرعون لهذا المؤمن وقع فيها فرعون.

فمعنى: حَاقَ [غافر:45] أي: نزل وأحاط بهم إحاطة السوار بالمعصم، فأصبحوا محاطين به من كل جانب، سواء أكان بالعذاب الذي في الدنيا، والذي ذكره الله في كتابه، أم بعذابه في الآخرة، وهو الخلود في النار.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة غافر [77-81] 2662 استماع
تفسير سورة غافر [60-65] 2248 استماع
تفسير سورة غافر [35-39] 1994 استماع
تفسير سورة غافر [65-68] 1922 استماع
تفسير سورة غافر [47-55] 1722 استماع
تفسير سورة غافر [23-28] 1719 استماع
تفسير سورة غافر [8-14] 1712 استماع
تفسير سورة غافر [55-56] 1697 استماع
تفسير سورة غافر [5-7] 1656 استماع
تفسير سورة غافر [56-59] 1603 استماع