الإيمان والكفر [18]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

سبق أن ذكرنا تعريف الكاتب لحد الإسلام، وهو أنه يتكون من ركنين: الأول: تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والثاني: التزام شريعته جملة وعلى الغيب، وأنه لا يقبل تصديق بغير التزام ولا التزام بغير تصديق.

ثم عبر عن حد الإسلام بتعبير آخر حينما قسمه إلى ثلاثة أركان أساسية هي: النسك والحكم والولاية.

وذكر أن الحد الأدنى من الدين الذي يجب تحققه في كل إنسان حتى تثبت له صفة الإسلام ابتداءً، والذي يؤدي تخلفه أو تخلف جزء منه إلى تخلف الدين كله، هو: ما اجتمع في توحيد الله تبارك وتعالى في هذه الأقسام الثلاثة: النسك والحكم والولاية، يعني: أن يكون الحكم لله بلا شريك، والولاية لله عز وجل بلا شريك، والنسك لله بلا شريك.

ذكر أيضاً في خصائص هذا الحد: أنه لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه، فهذا الحد لا يتضاعف ولا يزيد ولا ينقص، وأنه لا عذر فيه بالجهل، فمن تحقق فيه هذا الحد كان مسلماً، ومن لم يتحقق لديه كان كافراً، دون اعتبار لعلم أو جهل، وكنا مررنا فيما سبق على قضية الولاية، ويتبعها في الحديث الركن الثالث، وهو: الحكم، ونفي حكم من غير الله عز وجل. وتتلخص فكرة كاتب البحث في هذا الباب فيما يلي:

أولاً: أن قبول شرع الله عز وجل ورفض ما سواه له تعلق بالتوحيد في جانبه القولي والعملي، يعني: أن قضية الحكم لله عز وجل هي ترجمة للواقع العملي؛ من حيث أن المسلم يقبل كل ما شرعه الله عز وجل، ويرفض ما سواه، هذه القضية لها تعلق بقضية التوحيد، سواء كان التوحيد القولي أو التوحيد العملي، فمن ناحية تعلقها بالتوحيد القولي أو العلمي من حيث كونها تعتبر إثباتاً لصفة من صفات الله عز وجل، يعني: قوله: إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ [الأنعام:57]، يراد به: أن الله عز وجل هو الحاكم الأعلى، وينفرد بحق التشريع وحق الحاكمية في هذه الصفة من صفات الله تبارك وتعالى.

هذه هي قضية الحاكمية وتعلقها بالتوحيد في جانبه العلمي، وهو صفة الحكم لله عز وجل، أيضاً يتعلق موضوع الحاكمية بالتوحيد في الجانب العملي من حيث كونه ركناً من أركان توحيد العبادة. وهذا الكلام من الكاتب صحيح حتى الآن؛ لأن قضية الحاكمية أوسع من ذلك المفهوم الضيق الذي يظنه بعض الناس في هذا الزمان، فالحاكمية صارت مرادفة للجانب السياسي من الإسلام، حينما يذكر الحاكمية فالناس تنطلق أذهانها إلى إقامة حدود الله عز وجل، وما يتعلق بالجانب الجنائي أو غيرها وما ماثلها من الأحكام السياسية العليا، ولا يفطنون إلى أن قوله: إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ، تتناول كل ما حكم الله عز وجل فيه حكماً وقضى فيه أمراً، ويتضح ذلك بمراجعة أي مرجع من مراجع كتب أصول الفقه حينما يعقد الأصوليون بحث الحكم، ويتكلمون في الحكم والحاكم والمحكوم له، والمحكوم عليه، والمحكوم فيه .. كل كلامهم يدور حول الأحكام بنوعيها سواء الأحكام التكليفية أو الأحكام الوضعية.

وحينما يتكلمون عن الأحكام التكليفية فيقسمونها إلى الأحكام الخمسة المعروفة، وهي: ما أمر به إما على وجه الحتم واللزوم فهو الواجب أو الفرض، أو ما أمر به الله لا على وجه الحتم واللزوم فهو المستحب أو الإحسان أو النافلة أو المندوب أو السنة، ثم ما نهي عنه إما على وجه الحتم واللزوم، فهو الحرام، أو ما لم يكن على هذا الوجه فهو المكروه، ثم ما هو مخير بين فعله وتركه وهو المباح.

فأي حالة يكون عليها المسلم لا تخرج عن شيء من هذه الأحكام الخمسة. وأنت نائم: النوم مباح، وأنت تصلي: الصلاة إن كانت فريضة فهي فريضة، أو نافلة فهي نافلة، كذلك في سائر العبادات، وأنت تنظر فإن نظرت إلى ما حرم الله، فهذا حرام، وإن نظرت إلى ما أباح الله فهذا مباح، إن ذبحت فهذا إما فريضة أو مستحب، إن وجدت في مجلس فيه كلام فهو إما مكروه أو مباح أو حرام، وهكذا كل أحوال المسلم لا يخرج بها أبداً عن العبودية لله عز وجل، فالحاكمية أوسع بكثير من هذا النطاق الضيق الذي يحصره فيه بعض الذين يركزون فقط على الجانب السياسي من الإسلام، ويعزلونه عن باقي أحوال المسلم.

فالمسلم في كل لحظة من حياته هو في حالة تحاكم إلى الله عز وجل، وتحكيم لشريعة الله عز وجل في علاقته بربه أو علاقته بالآخرين.

إذاً: لا شك أن قضية الحاكمية لها تعلق أساسي بالتوحيد في شقيه العلمي والعملي، العلمي: من حيث كونها صفة من صفات الله، وكون الحكم لله إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ[الأنعام:57]، والعملي: لأن الحاكمية ركن من أركان توحيد العبادة.

هذا فيما يتعلق بفكرة الكاتب الأولى في هذا الموضوع.

أما فكرته الثانية فيقول: إن قبول التكليف من غير الله عز وجل كفر أكبر، بصرف النظر عن موضوع هذا التكليف. يعني: سواء كان هذا التكليف بما يخالف شريعة الله، أو بما يوافقها، أما الاستجابة للغواية أو للهوى، فليس لها تكليف شرعي محدود، وإنما تتوقف على نوع الفعل.

الفكرة الثالثة: أن قبول شرع الله يتحقق بعدم الرد، وهو الإباء من قبول الفرائض والأحكام، يعني: قبول الشرع يتحقق بعدم رد هذا الشرع، وأن الإنسان لا يأبى الأحكام والفرائض التي فرضها الله عز وجل، وقبول شرع غيره، وأما كيف نحكم على هذا الإنسان أنه قبل شرعاً غير شرع الله؟ يتحقق هذا بعدم رده ورفضه.

يقول: وأدنى درجات الرد: كره القلب، ودلالته الاعتزال، وعدم المشايعة بالعمل عليه، أي: عدم مظاهرة من يقومون على هذا الباطل، وعدم الترويج لهم.

هنا في هذه الفكرة والتي قبلها تختلف النظرة فيها، أيضاً: رفض تفسير الربوبية في حق بني إسرائيل والتي ذكرها الله عز وجل في سورة التوبة في قوله تبارك وتعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ[التوبة:31]. إلى آخر الآية، بأنها الطاعة في الاعتقاد أي: أن هذه الربوبية لم تكن طاعة لهم في الاعتقاد، وقرر أنها مجرد الطاعة في قبول الأحكام، ويجتهد في إثبات ذلك بعديد من الأدلة، مبيناً أن في تفسيرها بالطاعة في الاعتقاد من اللوازم الفاسدة ما يرده أكثر العقلاء.

ثم ناقش أيضاً الكاتب ما ورد عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية، مبيناً أنه لم يقرر أبداً أن للطاعة في التشريع حكمين: أحدهما كفر، والآخر ليس بكفر، وإنما فصل هذا التفصيل عندما كان حديثه عن الطاعة في المعصية، والمبالغة في التقليد والعبودية للمال، وقد قرر الكاتب كل هذه البنود بالتفصيل، وقرر أن المناط المكفر في قضية الحكم هو التشريع بتحليل الحرام، أو تحريم الحلال، أو تغيير أحكام الوضع، أو إسقاط الواجب.

أيضاً: رفض حكم الله للتحريم، وهذا يكون بالاستحلال والإباء من قبول الفرائض رجوعاً إلى شريعة أخرى أو من غير رجوع، ثم قال: التحاكم إلى شريعة أخرى غير شريعة الله، أو حكماً آخر غير الله ورسوله.. التحكيم أو وضع الشريعة أو الشخص موضع الحاكم؛ يرجع إليه أو إليها عند التنازع، الحكم بموجب شريعة أخرى غير شريعة الله، أي: القضاء بها في مواضع النزاع والمعاملات اليومية.

أيضاً قرر أن المناط المكفر في سورة المائدة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ[المائدة:44]، أنه لا علاقة له بالاعتقاد، ولا بالإقرار، وإنما أساسه: رد الأمر عند التنازع إلى شريعة غير شريعة الله، وقرر أنه لم يكن من اليهود الذين تنزلت هذه الآية فيهم تناكر ولا جحود، وأن إنكارهم للحكم لم يرد إلا في حالة الزنا.

هذه ملامح أساسية مجملة، وسوف -إن شاء الله- نفصل الكلام فيها في هذا الموضوع.

أولاً: قرر الباحث: أن قبول التكليف من غير الله كفر أكبر، مهما كان موضوع التكليف؛ إذ كون الإنسان يكلف من غير الله عز وجل بحكم، ويقبل الإنسان هذا الحكم من غير الله، بغض النظر عن موضوع التكليف، فالمبدأ في حد ذاته هو كفر أكبر مخرج من الملة، فلا يعتبر لهذا الأمر تكليفاً شرعياً محدداً، والكفر أياً كان موضوع هذا التكليف سواء وافق الشريعة أم خالفها، فيقول في صفحة (381) فقبول التكليف من غير الله عز وجل له تكييف شرعي محدد وهو الكفر والعياذ بالله، وقبل هذا الكلام بقليل قال: وإذا كان الشارع أو المكلف أو الحاكم غير الله عز وجل، فلا يهم أن تكون الشريعة مخالفة أو موافقة لشريعة الله، أو أن تحتوي على بعض نصوص شريعته سبحانه وتعالى؛ لأن شريعته عز وجل في هذه الحالة لم تكتسب شرعيتها كقانون إلا بصدورها من هذا الشارع تعبيراً عن إرادته، وقال في موضع آخر: فقبول التكليف من غير الله له تكييف شرعي محدد لا يتوقف على نوع الفعل، ولا على وقوعه، وهو الكفر الصريح.

فالطاعة في تشريع تتضمن الإقرار بالتشريع لغير الله عز وجل وهو شرك، وقال: إن قبول التحريم أو التحليل أو غير ذلك من أحاكم التكليف يثبت ويترتب ويتحقق بالطاعة في جزئية من جزئيات التشريع؛ لأنه بطاعته له فيها يعطي هذا الذي أطاعه حق التشريع له، وممارسة سلطان التكليف عليه إلا في حالات الإكراه بضوابطها الشرعية.

يلاحظ على هذا الكلام: أن قبول التكليف تعبير مجمل يصدق على صور متعددة ومناطات مختلفة، فقد يكون مرده إلى الإيمان بهذا التكليف وإقراره كشريعة واجبة الاتباع، يعني: ممكن إنسان يقبل تكليفاً من غيره -كما ذكر الكاتب- على أنه له حق التشريع، وأنه يجب عليه أن يتبع هذا الحكم من غير الله عز وجل. هذا احتمال قد يكون مرده إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد يكون مرده إلى المداراة واتقاء الفتنة، وقد يكون مرده إلى الاتفاق والعقد، ولكل صورة من هذه الصور حكمها، واستصحاب حكم واحد في الجميع يعسر قبوله؛ لأنه يفضي إلى لوازم فاسدة، فمن قبل التكليف من جهة ما إقراراً لها بحق التشريع المطلق الذي لا يتقيد بحلال ولا بحرام، ولا يقف عند حد من حدود الله، كما يفعل الديمقراطيون الذين يقرون للأمة ممثلة في نوابها بالحق في التشريع المطلق، ويعبرون عنها بهذه الكلمة الكفرية: (إن الحكم إلا للشعب)، لا يقولون: (إن الحكم إلا لله) لكن يقولون: الشعب هو مصدر السلطات، الشعب هو الحاكم الشعب هو الذي يحل ويحرم، والديمقراطيون يدينون بأن القانون هو التعبير عن إرادة الأمة الحرة، وأن هذه الأمة هي صاحبة الحق في السيادة المطلقة، فلا شك أن من اعتقد هذه العقيدة: أن الأمة لها الحق في التشريع، أو أن الشعب ممثلاً في نوابه ومعبراً عنه في القوانين التي تصدر هو صاحب التشريع، وصاحب الحكم، وصاحب الحق في ذلك.. من اعتقد هذه العقيدة، فلا يوجد أدنى ريب بأنه أتى باباً من أبواب الشرك الأكبر الذي يخرج الإنسان من الملة بالكلية، وذلك لانعقاد الإجماع من جميع علماء المسلمين على أن الحاكمية المطلقة لله رب العالمين لا شريك له.

أما مثل هذه المجالس البشرية، فليس لها أمام شرع الله سبحانه وتعالى إلا وظيفة واحدة فقط هي: التنفيذ والتطبيق، وأن يقولوا: سمعنا وأطعنا، والغربيون لما وضعوا النظام الديمقراطي، ونحو هذه النظم التي يعيشون فيها الآن من حرية الأديان والديمقراطية والحرية الشخصية وضعوها لأن هذا شأن صاحب الباطل دائماً، فهو مستعد لأن يتنازل حتى يتعايش مع الباطل الآخر، وهذا الذي تصوره الكافرون حينما عرضوا على النبي عليه الصلاة والسلام: نعبد إلهك سنة، وتعبد إلهنا سنة، كأنه حل منطقي أو التقاء في منتصف الطريق، فنزل الجواب الصريح: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2] * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3] * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ [الكافرون:4] * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:5]* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6].

(لَكُمْ دِينُكُمْ)، يعني: الباطل الذي أنا بريء منه (( وَلِيَ دِينِ ))، يعني: الحق هو طريقي وسبيلي، المقصود: أن هذا مقارنة أو صراع أو اختلاف بين باطل وباطل، ولا بأس إن قلنا: كله باطل، لكن هذا ليس مسوغاً ومبرراً للواقع الذي يعيشه الكفار، فهم ما رأوا نور الوحي، وما بلغتهم مثلاً رسالة الإسلام، أو بلغتهم مشوهة، أو هم رضوا بالكفر ديناً والعياذ بالله، فمثل هؤلاء هذا هو ما قد يلتمس لهم، نعم هم يتعايشون معاً، ويعطون الشعوب هذه الحقوق، لكن حينما يأتي دين الله عز وجل، هل نسوي الوحي بغيره من النظم، وبغيره من المناهج الكفرية الملحدة؟!

فلا يقبل أبداً مبدأ أن الإسلام يقف على قدم المساواة مع النظم الجاهلية الأخرى سواء تسمت بالديمقراطية الاشتراكية الرأسمالية أو غيرها من الأسماء، فهذا كله باطل .. هؤلاء كلهم يدعون إلى النار، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، لكن لما يأتي شرع الله ورسالة الله ودين الله فلا ينبغي أن يقرن دين الله عز وجل بغيره من الأديان الكفرية، ولا يقارن أصلاً دين الله بغيره من النظم، شأن من قال:

ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

أليس هذا فيه إزراء للسيف، وتنقيص من شأنه؟

فشريعة الله لا تقارن أصلاً بغيرها من النظم الكفرية، قارنوا ما شئتم بين النظم البشرية بعضها وبعض، أما إذا أتى الحق الوحيد الذي يحق غيره، فتنقشع كل هذه الظلمات، وهناك اتفاق بين جميع علماء الأمة في جميع الأزمان: أن الحاكمية المطلقة هي لله عز وجل، وأنه لا توجد سيادة مطلقة ولا حاكمية مطلقة لغير الله عز وجل، ومن اعتقد غير ذلك فهو كافر كفراً أكبر يخرجه من الملة، من اعتقد أن حق التحليل والتحريم أو حق التشريع المطلق يئول إلى الأمة ممثلة في نوابها فهذا كفر لا شك في أنه شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام؛ لأن الاستسلام المطلق لا يكون إلا لله وحده، فمن استسلم لله ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته كافراً به.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده، فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله عز وجل غيره، فمن لوازم الإقرار بأنه لا إله إلا الله: أن لا يكون الحكم إلا لله، وسوف يأتي إن شاء الله فيما بعد ذكر الأدلة رغم ظهورها مفصلة إن شاء الله.

وما أعظم هذه الكلمة التي قالها بعض علماء اليمن في مناقشة حول الدستور اليمني بعد تعديله، قال أحد هؤلاء العلماء لرئيس اليمن: حينما تضعون مادة الدستور تقولون فيها: إن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهذا يساوي تماماً أنك تقول: الله عز وجل هو الخالق الرئيسي لهذا الكون، فهل يصح أن يقول الإنسان: إن الله هو الخالق الرئيسي؟ معناه: أن هناك خالقين فرعيين معه والعياذ بالله. هذا شرك وكفر، فكذلك نفس الشيء في الحكم إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:40]. مثل هذا قد لا يماري مسلم في الاعتقاد به، ولا يقبل من مسلم أصلاً أي خلاف في هذه القضية. هذا فيما يتعلق بمن قبل التكاليف من جهة ما إقراراً لها بحق التشريع المطلق الذي لا يتقيد بحلال ولا بحرام وإذا قال القانون أو مجلس النواب أو المجلس التشريعي أو مجلس الشعب: إن الزنا حلال. يصير حلالاً، هذا أمر قانوني، وإن قال: إن إقامة حدود الله كالرجم أو الجلد وحشية. تصير وحشية محرمة، فهذا كله من الشرك الأكبر.

قد يقبل الإنسان التكليف من جهة ما جلباً لمصلحة أو دفعاً لمفسدة، أو مداراة لها واتقاء الفتنة مع عدم إقراره بهذا التكليف، أو عدم إقراره بحق من أصدره في التشريع المطلق، وهذا له تعلق آخر بالقضية، ولا يستوي مع من قبله.. إنسان التزم حكماً، وقبل تكليفاً من جهة ما، ولا يعتقد أن له حق في التشريع، لكن جلباً للمصلحة أو دفعاً للمفسدة، أو مداراة لها واتقاء لأذيتها أو فتنتها، مع إقراره بأن هذه الجهة ليس لها حق التشريع، أو حق من أصدر هذا التكليف في التشريع المطلق.

هذا مناط آخر يتفاوت حكمه من صورة إلى أخرى بحسب حجم المخالفة في فعل هذا الإنسان، ومدى العذر في خضوعه لهذا التكليف، وغير ذلك من الملابسات، وجه ذلك: أنه إذا كان ممن يخضع لشرائع الإسلام، ويذعن لأحكام الإسلام لا يكون خضوعه هذا معتبراً شرعاً يثبت له به عقد الإسلام على الحقيقة إلا إذا كان مرده الإيمان بهذه الأحكام، والإقرار بها في الظاهر والباطن، فمن استسلم لأحكام الإسلام؛ لأنها أحكام الله؛ وشريعة الله عز وجل، فهذا يعتبر شرعاً إيماناً صحيحاً.

كذلك من يخضع لشرائع الجاهلية، أو يقبل الطاعة لها عندما تكون هي الحاكمة المسيطرة لا يكون خضوعه هذا ناقضاً لإسلامه، مثلاً لو: أن الغربيين أو أي دولة من دول الكفر قالت: نحن درسنا النظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي في الإسلام فوجدناه مناسباً، ويحصل لنا به مصالح كثيرة، ويدفع عنا شروراً كثيرة، ونحن سنطبقه من هذه الوجهة، لا أنهم قبلوا حكم الله عز وجل إذعاناً لله؛ لأنه أمر الله؛ وشريعة الله، لكن قبلوا لأن فيه مصالح قد تتحقق لهم، مثل تشريع الطلاق، والمواريث، ونحو هذه الجوانب، هل يصيرون بذلك مسلمين لأن النية مفتقدة، والإسلام والخضوع لله غير موجود، كذلك في الجهة الأخرى مجرد الإذعان لشرع الله إذا لم يكن مقترناً به الإقرار بحق الله تبارك وتعالى في التشريع والحاكمية المطلقة، فلا يعتد به شرعاً ولا يثبت به عقد الإسلام، كذلك شخص في الصورة الأخرى المقابلة خضع لشرائع الجاهلية، أو قبل الطاعة لها حينما يكون هو الحاكم المسيطر، فلا يكون خضوعه هذا ناقضاً لإسلامه إلا إذا تأسس على مبدأ القبول الطوعي الإرادي لها في الظاهر والباطن، والإقرار لها بالحق في التشريع المطلق، دون معارض من جهل أو تأويل أو إكراه.

يعني: لا هو جاهل ولا متأول ولا مكره، ولا يوجد له أي عذر، فإذا كان الإنسان يقبل الطاعة لهذه النظم الجاهلية أو الأحكام الوضعية الكفرية، فمجرد الخضوع في حد ذاته لا يكون ناقضاً للإسلام إلا إذا تأسس على الإقرار الباطن والظاهر بأحقيتها في التشريع، والسيادة المطلقة، والتشريع المطلق، دون عارض من جهل أو تأويل أو إكراه، لكن إذا كان قبوله لحكم هذه الجهة مؤسساً على المصالح والمفاسد أو مؤسساً على المداراة، واتقاء الفتنة، وليس شرطاً أن تكون مصالح ومفاسد شرعية، ربما يكون لغرض منفعة شخصية أو غير ذلك، فقد تكون معصية لكن لا تكون كفراً، فإذا كان قبوله الطاعة لهذه الهيئة مؤسساً على المصالح أو المفاسد أو المداراة واتقاء الفتنة، ولم يؤسس على الإقرار بحقها في الطاعة المطلقة، فقد تجاوز موقفه هذا أصل الدين.

هنا لا يخدش أصل الدين عنده، ولا يخدش عقد الإسلام، والتوحيد وأصبح تعلقه بفروع الدين لا بأصوله ولا بالعقيدة، ثم ينظر بعد ذلك في مدى ما ترتب على هذه الطاعة من مخالفة للشريعة، ومدى ما قام عنده من العذر، ويقرر لكل حالة حكمها حسب العذر، وحسب ما ترتب على هذه المخالفة من آثار، فمثلاً الذين يعملون في المؤسسات العلمانية في ظل الأنظمة العلمانية المعاصرة، ليسوا سواءً في مجالس إجراء الأحكام، وإن كان الظاهر في عامتهم أنهم قد قبلوا التكليف من غير الله عز وجل، فالظاهر أن الناس خاضعين، ومذعنين لهذه الأحكام أو النظم العلمانية، فعامة هؤلاء الناس الذين يدخلون في هذه المؤسسات العلمانية طائعين، وهم يعلمون سلفاً أن لهذه المؤسسات شرائع وأنظمة ولوائح تخاطب كافة العاملين في هذه المؤسسات، ويلزمون بها، ويعلمون كذلك أن من سنوا هذه التشريعات وقرروا هذه اللوائح طائفة من البشر لم يهتدوا بهدي الله، ولم يردوا أمرهم إلى شريعة الله، وإنما مردهم إلى الأهواء والمصالح التي قد تتفق أحياناً مع شريعة الله، وقد لا تتفق، ومع ذلك ربما يبعد تصديقنا لهذا الكلام من الكاتب، وإن كان هذا هو مآل قاعدته التي يترتب عليها: أن مجرد قبول التشريع كفر. هذا فيما يتعلق بهذا الأمر.

فهؤلاء الذين دخلوا في هذه المؤسسات وحالهم كما ذكرنا إن قال قائل عنهم: هؤلاء لا خيار لهم في الخضوع لهذه النظم؛ لأنها قواعد آمرة من جهة ذات سلطان ملزم لا يد لهم بتغييرها، فالجواب أن نقول: لكن هؤلاء قد كان لهم الخيار ابتداء في عدم الالتحاق بهذه الهيئات من البداية، فهم وإن كانوا مكرهين في الخضوع لأنظمة هذه الهيئات بعد الدخول فيها، فقد كانوا طائعين في دخولها منذ البداية، فضلاً عن قدرتهم على الانفصال عنها في أي لحظة.

فلا يخفى وجود فارق بين رجل الشارع الذي لا يد له بعدم الخضوع للنظم العلمانية التي تلاحقه بحكم وجوده تحت مظلة هذه النظم العلمانية اللهم إلا إن كان يستطيع الهجرة منها، فلا شك أن هناك فرق بين هذا الرجل وبين الخضوع للمظلة العلمانية ككل، وبين العاملين في هذه الهيئات التي التحقوا بها في أغلب الأحيان طائعين مختارين وهم يعلمون سلفاً أن التحاقهم بها يترتب عليه قبولهم لأنظمتها التي لم تظهر مستندة إلى كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ومع ذلك فلا يعرف أحد من علماء أهل السنة المعاصرين قضى باستصحاب أصل الكفر في هؤلاء تأسيساً على هذه القاعدة، ولا يعلم أحد من العلماء عمم الكفر على هؤلاء جميعاً بأي صورة من الصور، أيضاً من جهة أخرى قد يكون قبول التكليف مرده إلى العقد الذي أبرم بين طرفين بتحقيق مصلحة مشتركة، فمثل ذلك قد يكون جائزاً، وقد يكون ممنوعاً، فما كان منه من جنس الشرك فهو ممنوع، وما كان دون ذلك فهو دون ذلك، لكن ليس في ذلك أصل واحد يستصحب وإنما يختلف الحكم باختلاف المعقود عليه من حيث موافقته للشريعة أو عدمه.

فهذا أيضاً ينطبق على العاملين في مؤسسات خاصة، فهم يخضعون لما قرر لها أربابها من النظم واللوائح، ويلتزمون بطاعة رب العمل، والخضوع للرؤساء بمقتضى ما أبرم بينهم وبين هذه المؤسسات من عقود، قد يكون أصحاب هذه المؤسسات ممن لا يدينون أصلاً بدين الإسلام، ومع هذا فإن المقطوع به في مثل هذا المقام اختلاف الحكم في هذه الأعمال باختلاف موضوعها، ومدى ما تضمنته نظمها من موافقة للشريعة أو مخالفة، فالعمل في بنك ربوي مثلاً، أو في مرقص ليلي يختلف عن العمل في متجر أو مزرعة.

والعمل في مجال أمور إدارية يختلف عن العمل في مجال القضاء حيث الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل. هنا تبدو المجازفة في إطلاق القول بأن مجرد قبول التكليف من غير الله شرك أكبر مهما كان موضوع التكليف سواء وافق الشريعة أو خالفها، فمع حسن الظن بنية الكاتب ومن ينحون منحاه إلى هدف من وراء هذا الكلام، وهو -فيما نظن- تربية الأمة على الكفر بالطواغيت وعدم الإقرار لها بحق التشريع، وتجريد الانقياد لله عز وجل وحده.

إلا أن مجرد هذه النية وحدها لا تكفي في الحكم على صحة هذا المسلك إلا إذا اعتمدنا وصححنا مذهب الخوارج في التكفير في المعصية.

إذاً: نصحح مذهب الخوارج الذين كفروا بالمعصية، بحجة أن الخوارج يربون الأمة على استعظام المعاصي، ويحولون بينهم بهذا الوعيد، وبين ارتكاب هذه المعاصي، يعني الغاية لا تبرر الوسيلة.

أيضاً قول الكاتب: إن الطاعة في التشريع تتضمن الإقرار بالتشريع لغير الله عز وجل وهو شرك. هذا الكلام ليس على إطلاقه، فهو يقول: إن مجرد الطاعة في التشريع، والانقياد تتضمن الإقرار بالتشريع لغير الله عز وجل، وهذا شرك أيضاً كما ذكرنا آنفاً، هذا القول ليس على إطلاقه، بل الطاعة في التشريع من غير الله عز وجل قد تتضمن الإقرار بالتشريع لغير الله وقد لا تتضمن، فإن كانت كذلك كان الحكم فيها كما قال: إن كانت الطاعة ناشئة عن إعطاء حق التشريع المطلق لغير الله عز وجل، وناشئ عن إقرار هذا الحق فهذا شرك، وإن لم يقترن بها الإقرار بهذا الحق في التشريع ففي الأمر تفصيل، ويختلف أيضاً الحكم باختلاف موضوع هذه الطاعة، فمن أطاع في تشريع إقراراً بحق من أصدره بالتشريع من دون الله ومتابعة له على ذلك كان مشركاً بالله عز وجل.

ومن أطاع في التشريع لأسباب أخرى فقد تجاوز هذا المضيق، وكان حكمه حكم ما أطاع فيه، إن كان أطاع في كفر فهو كفر.. في فسوق فهو فسوق.. في معصية فهو معصية، فالذي نستطيع أن نخلص منه من عبارة الكاتب في هذه المسألة: أن تقييد الطاعة بالطاعة الشركية، يعني: إن كان في الطاعة شرك فتكون شركية، وإلا ففي الأمر تفصيل كما ذكرنا؛ لأن الطاعة في التشريع ليست في كل حالة تكون شركية، فمنها ما هو من جنس الشرك ويأخذ حكمه، ومنها ما هو دون ذلك.

فرق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين من أطاع الأحبار والرهبان فيما أحدثوه لهم من التحليل والتحريم من بني إسرائيل، في اعتقاد ما قالوه دون ما قاله الله ورسوله، وبين من أطاعوهم في معصية الله مع صحة اعتقادهم في حكم الله، فبين شيخ الإسلام : أن الطائفة الأولى مشركة كافرة، وهي التي أطاعت الأحبار والرهبان في أمور تخالف الدين، واعتقدوا كلام الأحبار والرهبان دون كلام الله ورسوله الذي أرسل إليهم، فهذه الطائفة بين شيخ الإسلام أنها طائفة مشركة كافرة.

أما الطائفة الثانية: فهم الذين أطاعوا الأحبار والرهبان في معصية الله، مع صحة اعتقادهم في حكم الله، هم يعتقدون أن هذا حكم الله، لكنهم اتبعوا الأحبار والرهبان اتباعاً للهوى وانقياداً للدنيا، فهذه الطائفة الثانية مذنبة عاصية. فجعل شيخ الإسلام الطاعة في التشريع، منها ما هو شرك، ومنها ما هو دون ذلك حسب صحة الاعتقاد وأثره، لكن لا شك أن هناك فرقاً بين كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وبين كلام الباحث صاحب حد الإسلام في أن مطلق الطاعة في التشريع كفر وشرك، لكن الصحيح هو: أن يكون هناك تفصيل: فمن الطاعة ما هو شرك، ومنها ما هو دون ذلك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، هم على وجهين: أحدهما: أن يعلم الطائعين للأحبار والرهبان أنهم بدلوا دين الله، فيتبعوهم على التبديل، فيعتقدوا تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم، يعني: أعطوا حق التحليل والتحريم للأحبار والرهبان من دون الله.

فيقول شيخ الإسلام : هم على وجهين: أحدهما: أن يعلموا أنهم -أي الأحبار والرهبان- بدلوا دين الله فيتبعوهم على التبديل فيعتقدوا تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم -هؤلاء الطائعين من اليهود والنصارى- أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم شركاً، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله دون ما قال الله ورسوله كان مشركاً مثل هؤلاء.

الحالة الثانية: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب.

مثال على الطاعة في تشريع مخالف لشريعة الله عز وجل، نضربه ليتجلى لنا من خلاله الفرق بين هذه المتعلقات: لو أن جماعة من الناس يعملون في مؤسسة ربوية عامة في إحدى الدول العلمانية المعاصرة، لا شك أن هؤلاء الذين يعملون مثلاً في بنك ربوي صريح، قد تعاقدوا مع البنك على أنهم يعملون فيه، وبحكم تعاقدهم مع هذه الهيئة فهم خاضعون للوائحها، مدينون لنظمها، محكومون برئاستها العامة، لكنهم بعد ذلك أنواع، فمن كان قبوله لنظمها وطاعته لها مؤسساً على حق أصحاب هذه المؤسسات في التشريع المطلق لأعمالهم ومصالحهم دون التقيد بشريعة أو دين؛ فهذا شرك بلا نزاع، فيلزم صاحبه الحجة ويحكم عليه بما يستحقه.

أما من كان قبوله لذلك العمل والتعاقد مع البنك الربوي، وطاعته فيها لا يرجع إلى الإقرار بحق أصحاب هذه المؤسسات في التشريع المطلق لأعمالهم ومؤسساتهم من دون الله، وإنما مرده إلى طمعه في الحصول على الأجر؛ لأن الشياطين يزينون للناس هذه الوظائف عن طريق الإغراء بالمرتبات العالية، أو تحقيق كسب مادي أو معنوي، فهذا له نصيبه من اللعنة التي جاءت في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه) .

لكنه كان معتقداً في الحرام أنه حرام، وفي الحلال أنه حلال، ولم يقر للقائمين على التشريع لهذه المنظمة بحق التشريع. هذا تجاوز المناط الشركي في هذا الموضوع إلى لعنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي معصية وكبيرة محرمة، فالتعلق الشركي في هذا الباب هو: أن تقر لأحد من دون الله بالحق في التشريع المطلق الذي يحل به ما يشاء ويحرم ما يشاء دون أن يتقيد بشريعة أو بكتاب، والطاعة له بناء على هذا الأساس، فإن لم تكن الطاعة مبنية على ذلك كانت متعلقة بالفروع يختلف الحكم فيها باختلاف موضوعها، وباختلاف الباعث عليها ولكل حالة ما يناسبها من الأحكام.

فإن قال قائل: ولكن الطاعة في التشريع لا يتحقق كونها طاعة في التشريع إلا إذا كان مردها من الإقرار للآمر بالحق في التشريع المطلق، فإن تخلف عن هذا الوصف لا يصح أن يطلق عليها أنها طاعة في التشريع.

فالجواب: إن كان هذا هو المقصود فلا خلاف، لكن يبقى تحديد المقصود بالمصطلحات التي يستعملها الإنسان حتى لا يحصل لبس وإيهام.

العبادة مرتبطة بأصل الدين، وصرف العبادة لغير الله عز وجل يعتبر شركاً أكبر، فكون العبادة المرتبطة بأصل الدين والتي يعتبر صرفها لغير الله عز وجل شركاً أكبر ليست هي مطلق الطاعة، وإنما الطاعة التي تنبثق من كمال المحبة والتذلل.

فمن خضع لإنسان مع عدم حبه له لا يكون عابداً له، فالعبودية تتكون من شقين، غاية الحب مع غاية الذل والانقياد، قد يحصل ذل وانقياد، لكن مع بغض ومقت وكراهية، كشخص يكره الضابط في الدين كراهية شديدة، لكنه يطيعه وينقاد لأوامره هذا لا يسمى عبودية؛ لأنه فقد أحد الركنين، وجدت الطاعة والانقياد، لكن مع البغض والمقت والكره، فليست هذه عبودية، والعكس: قد يدعي إنسان محبة إنسان، أو يدعي محبة الله مثلاً أو محبة رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم لا يخضع ولا ينقاد لحكمه، فهذا أيضاً ينافي العبودية.

فالعبودية كمال الحب مع كمال الذل والطاعة والانقياد.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : قال بعض المفسرين: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، يعني: والذين آمنوا في حبهم لله أشد حباً لله من حب أصحاب الأنداد لأندادهم، أما القول الثاني فهو: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، من المشركين بالأنداد لله، فإن محبة المؤمنين خالصة، يعني: المشركين قد يحبون الله عز وجل، لكنها محبة فيها شرك، أما المؤمنون فإنهم يمحضون ويخلصون حبهم لله ويجردونه؛ فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت الأنداد بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من التي فيها شرك.

مقصود الكلام: أن المحبة الشركية هي المحبة مع الله، لما تتضمنه من التأله لغير الله، والتعلق به، والرغبة إليه، وإنما كانت شركاً لما يقع في قلوب أصحابها من التعلق لغير الله رغباً أو رهباً، بخلاف المحبة في الله كحب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين من عباد الله، فإنها من جنس الطاعة لله؛ لأنها تابعة لمحبته ولازمة له.

هل محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام محبة مع الله؟

كلا. هذه من توابع ولوازم محبة الله، فأنت تحب من يدلك على الله، وتحب من يسير على طريق الله، فهناك محبة في الله، ومحبة لله، وهناك محبة مع الله وهي المحبة الشركية.

فالطاعة الشركية هي التي تنبثق من هذا الحب الخاص، حب التأله والتنسك وليس من مطلق الحب، وذلك عندما يكون النظر إلى ذاك المطاع، مع غض الطرف عن موضوع الطاعة، فالنظر إلى المطاع بماذا يؤمر؟ يعني: بالنظر إلى أنه هو الآمر، فمهما أمر يطاع حكمه حتى لو أمر بحرام أو بغير ذلك، ما أثبته الكاتب من أن قبول التكليف من غير الله عز وجل أو الطاعة في التشريع شرك أكبر مهما كان موضوع التكليف من موافقة الشريعة أو مخالفة يجب أن يقيد بذلك، يعني: أن الطاعة وقبول التكليف من غير الله عز وجل يكون شركاً أكبر إذا كان منبثقاً عن هذا الحب الخاص؛ حب التأله والتنسك لغير الله عز وجل.

فما دام الكاتب يريد أن يسبغ وصف الشرك على الطاعة باعتبار المصدر فقط، وبغض النظر عن موضوع الطاعة، فلابد أن تقيد الطاعة بأنها الطاعة التي تستند إلى المحبة الشركية، فهذه هي الطاعة التي يصدق عليها وصف الشرك الأكبر، والتي تخرج صاحبها من الملة بلا تردد، لكن إذا اعتبرنا موضوع الطاعة فهنا تتسع الدائرة، ويقال: إن للطاعة الشركية مأخذين: المأخذ الأول: باعتبار مصدرها، والمأخذ الثاني: باعتبار موضوعها، فباعتبار مصدر الطاعة الشركية من كانت طاعته لغير الله عز وجل مبنية على المحبة الشركية التي تتضمن تعلق القلب بغير الله رغباً ورهباً وحباً وتألهاً، يعني: أن الحب الذي ينبغي أن يصرف لله وحده صرفه تماماً إلى غير الله عز وجل، فهذا قد أشرك شركاً أكبر بغض النظر عن موضوع الطاعة؛ لأنه نظر إلى عين وذات الآمر، وأعطاه هذا الحق نتيجة المحبة والرغبة والرهبة، فصرف هذه المحبة إلى غير الله.

يعني: صرف المحبة لغير الله بهذه الصورة، فصارت محبة شركية، يطيع الآمر فيها بغض النظر عما يؤمر أو ينهى به، فهذا من جنس الذين يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله؛ لأنه أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله، فصرف هذه المحبة التي لا ينبغي ولا تكون إلا لله إلى غير الله عز وجل، فانبثق عنها الطاعة المطلقة، بغض النظر عما يؤمر به، فهذا باعتبار النظر إلى مصدر هذا التشريع.

المأخذ الثاني: باعتبار الموضوع: فمن لم تكن طاعته لغير الله عز وجل ليست مبنية على المحبة الشركية، ولا على الإقرار لغير الله بالحق في التشريع المطلق؛ فقد تجاوزت الطاعة في هذه الحالة وصف الشرك باعتبار المصدر، وبقي أن ينظر إلى موضوع التكليف أو الطاعة؛ فطاعته ليست مبنية على المحبة الشركية التي ذكرناها في القسم الأول، وليست مبنية على أنه يقر لغير الله بحق التشريع المطلق، حينئذ تتجاوز هذه الطاعة مسألة أصول الدين، وعقد الإسلام، ويبقى النظر في موضوع التكليف أو الطاعة، فإن كانت الطاعة في شرك فهو حينئذ يصبح مشركاً، وإن أطاع في معصية فهذا ذنب من الذنوب، فإذا تضمنت طاعته رد حكم الله أو انعكست بالخلل على أحد ركني أصل الدين: التصديق أو الانقياد كانت كفراً، وإن لم تكن كذلك تفاوت الحكم فيها باعتبار الموضوع حتى تصل إلى درجة المباح، إذا كانت طاعة في الأمور العادية التي سكتت عنها الشريعة وتركت أمر تنظيمها إلى العباد.

كما قرر أيضاً الباحث: أن أدنى درجات الرد للشرائع الجاهلية الاعتزال وعدم المشايعة، أقل درجة من درجات الرد للحكم الجاهلي لغير الله عز وجل هي الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل. فهو قرر في أكثر من موضع: أن قبول التشريع من غير الله عز وجل كفر، وأن ذلك يتحقق بعدم الرد، وأن أدنى درجات هذا الرد كره القلب، وكيف نعرف كره القلب؟ نعرفه بالاعتزال وعدم المشايعة بالعمل عليه.

قال في صفحة ثلاثة وثمانين وثلاثمائة من بحثه: وقبول شرع الله سبحانه وتعالى يتحقق بعدم الرد. يعني: عدم رد أمر الله عليه، وهو الإباء من قبول الفرائض والأحكام، وكذلك قبول شرع غيره يعرف بعدم الرد، فإن منع من الرد مانع الإكراه وجد كره القلب، ودلالة كره القلب الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل عليه. أي: عدم مظاهرة من يقومون على هذا الباطل، وعدم الترويج لباطلهم.

يقول أيضاً في موضع آخر وهو يتحدث عن الربوبية التي كانت في بني إسرائيل: فإذا تبين الرضا فله حكم الفعل، وإلا فالمتابعة دليل على الرضا، والرضا له حكم الفعل ما لم يكن ثمة إكراه بدلائله ينفي هذه الدلالة. فيقرر هنا في هذه الفقرات ثلاثة أمور:

الأول: أن قبول التشريع من غير الله عز وجل كفر.

الثاني: أن هذا القبول يعرف بعدم الرد.

الثالث: أن شبهة الإكراه لا تنفي دلالة المتابعة الظاهرة إلا إذا قامت الأدلة على كره القلب من الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل.

الملاحظات على هذا البحث: أولاً: أن الباحث اعتبر أن دلالة الكره بالقلب لا تكون إلا بالاعتزال وعدم المشايعة بالعمل، فانظر إلى هذا الحصر: أنه لا توجد طريقة للاطلاع على أن الإنسان كاره لهذا الأمر، إلا بأن يظهر كرهه له في الاعتزال وعدم المشايعة على هذا العمل، فهذا القول مفض إلى تكفير عامة من لم يعتزل هذه الكيانات الجاهلية المعاصرة، فإذاً يترتب على هذا: أن كل من لم يعتزل هذه الكيانات فيحكم عليه بالكفر؛ لأن عدم الاعتزال دليل عنده على وجود قبول التكليف من غير الله عز وجل، وقبول التكليف من غير الله كفر بإطلاق. كما بين الباحث في أكثر من موضع.

قد يؤول هذا الكلام وتظهر له بعض المآلات والثمرات، يعني: ربما يكون الكاتب نفسه لم يقصدها. هذا احتمال، لكن على أي الأحوال هي لازم كلامه، ومآلات ما قعده من قواعد وأصول، فكل من وجد في كيان من هذه الكيانات الرسمية تحت مظلة الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل، سواء في ذلك الجيش، الشرطة، القضاء، البنوك، النقابات، الوزارات إلى آخره، فيترتب على هذه المقدمات -لأنه لم يعتزل هذه الكيانات الجاهلية- أنه كافر مشرك بالله العظيم. هذا ما يترتب على الخلاف.

أيضاً لا يقبل من أي واحد من هؤلاء الاعتذار بالجهل؛ لأنه سبق في مقدمة البحث: أن الكاتب جعل نفي الحكم عن غير الله عز وجل ركن من أركان الإسلام، ولا عذر بالجهل في ذلك، أيضاً لا يقبل منه الاعتذار بالإكراه؛ لأن دلالته الوحيدة عند الكاتب هي وجود الكره في القلب هي بالاعتزال وعدم المشايعة بالعمل، ولا يقبل منه أنه يعمل في هذه الأشياء وأنه يتقي الله في موقعه ما استطاع، فلا يقول: أنا أجتهد في تقوى الله ما استطعت في عملي، وأنه لا يتلبس في عمله بمعصية؛ لأن مجرد الوجود في هذه النظم هو عبارة عن قبول لأحكامها ضرورة.

ومجرد القبول من غير الله كفر بصرف النظر عن موضوع هذا التكليف، بل ربما يكون الأمر له آثار ومآلات أخطر وأبعد مدى مما ذكرنا، وهو أن الحكم بالكفر ينسحب على كل من شارك في كيان من هذه الكيانات الرسمية، ويمكن أن نصفها بأنها مثل القنابل العنقودية، وهذه طبيعة الاتجاهات التي تطورت في أمر التكفير بلا ضوابط، فتجد الفكرة تئول إلى ما بعدها من الآثار الأخطر، حتى لو أن صاحب الفكرة الأولى لم يقصد هذا، لذلك نجد الانشطارات الداخلية كثيرة جداً في الاتجاهات التكفيرية، وهذا أمر معروف ومجرب ومعلوم.. تجد نفس الاتجاهات تنقسم على نفسها وتنشطر، وهكذا تتفتت وتتشتت، فمنهم من يقف مثلاً عند تكفير جهات معينة، ثم يأتي آخر ينطلق بنفس المنطلق ويكفر الذين يريدون يعملون في الحكومة، ثم يأتي بعد ذلك من يكفر كل من وجد في البلاد؛ لأن هذا البلد يعلو عليه حكم الكفر، فالأصل في كل أهلها أنهم كفار إلا من ثبت إسلامه، وهكذا تجد الأمر لا ينضبط ولا يقف عند حد، وإنما تحصل هذه التفاعلات الانشطارية والقنابل العنقودية، ويحصل ما يحصل من التهارج والفوضى التي لا حدود لها في أخطر قضية يترتب عليها أخطر الآثار من استحلال الدماء والأعراض والأموال وغير ذلك.

نقول: إن من مآلات هذا الكلام: أن الحكم بالكفر ينسحب على كل من شارك في كيان من هذه الكيانات الرسمية، ولو كان لا علاقة له البتة بأي مخالفة شرعية، كما لو كانت محكمة شرعية تحكم بما أنزل الله في نطاق الأحوال الشخصية، أو جهة علمية تتولى تدريس القرآن والعلوم الشرعية، وفعلاً أتى وقت من الأوقات في بعض البلاد مثل السعودية وجد من يدعو إلى اعتزال الكليات الشرعية كالجامعة الإسلامية أو الجامعات المعروفة هناك؛ لأنها تأتي من قبل حكومة هم يكفرونها، فوصل الأمر إلى هذا الحد، إنسان لا يتعامل مع هذه الأجهزة، ولا أي من هذه الكيانات.

أيضاً: الأزهر مؤسسة حكومية، قد يأتي من يسلك هذا المسلك الانشطاري أو العنقودي، ويقول: الأزهر مؤسسة حكومية، وخاضع لنظم الدولة، فبالتالي لا يجوز التعلم عندهم، أو يقدح في عقيدة الإنسان الذي يتخرج من مثل هذه المؤسسات.

ووجه هذا التهور: أن هذه الدول الجاهلية هي التي تنظم هذه الكيانات، وتضع لها القواعد والتشريعات، والقاعدة: أن الإنسان لا ينظر إلى موضوع التكليف، وإنما ينظر إلى ذات المكلف؛ فالحكم لا يكون موضوع التكليف، حتى لو كان تحفيظ القرآن أو تعليم علوم شرعية، وإنما: من الذي يأمر؟ ومن الذي يكلف؟ بغض النظر عن موضوع التكليف، فالمكلف هنا هو هذه الدول العلمانية، ومجرد الوجود في هذه الكيانات بناءً على هذا الكلام، وعدم اعتزالها يكون حكماً كافياً للحكم بالكفر بناءً على ما ذكرنا تقريره من هذه المقدمات.

أنبه أيضاً إلى أن من ينتقدون الباحث في مسلكه لا نجزم بأنه يقول بهذه المآلات، لكن هذه المآلات واقع رأيناه من كثير من هذه الاتجاهات التي تهورت في قضية الحكم بالتكفير، لكن إذا أردنا أن ننظر نظرة أخرى لهذا الجانب، أو مسلك الكاتب في هذه النقطة، فكان ينبغي أن يلغي الكاتب في كلامه: دلالة عدم الاعتزال لهذه النظم على قبول أحكامها.

يعني: مسألة أن مجرد الطاعة معناها إعطاء هذه الكيانات حق التشريع من دون الله عز وجل، وأن تنحصر طريقة التعبير في الرفض فقط، والذي يعكس كره القلب في الاعتزال وعدم المشايعة، فهذا الاعتبار يجب إلغاؤه، يجب إلغاء دلالة عدم الاعتزال لهذه النظم على قبول أحكامها؛ لأن الواقع القائم أن هذه النظم تتولى في هذه المجتمعات كل مرافق الحياة بالتنظيم والإشراف فلا يعرف مرفق من مرافق الدول الرسمية إلا وهو خاضع لنظمها وقوانينها، فالناس باعتبار وجودهم في هذه المجتمعات، وارتباط مصالحهم بها، مدينون لذلك شاءوا أم كرهوا، وهذا أمر يتفق في الخضوع له والارتباط به أغلب الناس، سواء في ذلك المنكر أو الراضي، إلا من اعتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة.

أيضاً: ينبغي كما ألغينا اعتبار دلالة عدم الاعتزال والمشايعة، كذلك في الجهة المقابلة ينبغي اعتبار التفرقة على أساس الموضوع والوظيفة، فمن تقلد عملاً في بنك ربوي يختلف عمن تقلد عملاً في مستشفى حكومي للعلاج، ومن يعمل في مجال الشرطة والقضاء لابد أنه يختلف عمن يعمل في مجال الإدارة والخدمات، حتى في نطاق الأعمال المحرمة يجب أن نفرق بين من يوجد تحت لوائها ارتزاقاً مستحلاً ما يتعاطاه من مرتب، وأنه ما يجد عيشاً غير ذلك، وبين من يوجد استجازة لها والتزاماً بشرائعها عندما يكون الحديث عن الإيمان والكفر.

حتى في قضية التزام الشرائع يجب أن نفرق بين وضعين: بين من يلتزم شريعة ما إيماناً بها، وولاءً لها، وإقراراً لأصحابها في الحق في ذلك، وبين من يلتزم بهذه الشريعة جلباً لمصلحة أو دفعاً لمفسدة، فالمناط المكفر في هذا هو المناط الأول، وهو من يلتزم هذه الشرائع إيماناً بها، وولاء لها، وإقراراً لأصحابها بالحق في ذلك.

فالذي يلتزم بشريعة الإسلام في الظاهر حقناً لدمه، أو دفعاً لمغارم وجلباً لمغانم لا يكون مؤمناً في حقيقة الأمر، وإن أجريت عليه في الظاهر أحكام الإسلام عند من لا يعرف حاله، والذي يلتزم بنظام جاهلي اتقاءً لشره أو جلباً لمغنم قريب مع كفره به، وكراهيته له، لا يكون كافراً في الحقيقة، وإن جاز أن تجري عليه أحكام الكفر في الظاهر عند من يجهل حاله.

فإن وجدت شبهة الإكراه العامة التي تجعل الخضوع لهذه النظم أو الكثير منها لا ممدوحة منه أهدرت هذه الدلالة في الحكم بظاهر الكفر، واستصحب أصل الإيمان في كل من تحقق لديهم عقده المجمل حتى يثبت الالتزام الطوعي بهذه النظم والإقرار المسبق لها دون شائبة من جهل أو تأويل أو إكراه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.