خطب ومحاضرات
الإيمان والكفر [17]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آله محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
فقد سبق كلام يسير في قضية الولاية، وذكرنا معنى الولاية في اللغة، وذكرنا نقطة مهمة وهي: ارتباط الولاء والبراء بأصل الدين، فالمحبة والنصرة التي هي من معاني الولاية منها ما يكون على الدين ومنها ما يكون على أسباب دنيوية، فالحب من الولاية، ومنه مزايا طبيعية ومنه مزايا شرعية، فحب الرجل زوجته وحبه لعشيرته ووطنه هو حب طبعي يرجع إلى الطبع.
أيضاً منه ما يكون على الدنيا، بسبب ارتباط الناس فيها بينهم بمصالح ووشائج وصلات دنيوية يتحابون فيها، ومنه ما يكون على الدين كحب من أسلم بسبب إسلامه، مع أنه قد لا تربطك به قرابة ولا مصلحة ولا منفعة ولا ألفة دنيوية، كذلك النصرة من معاني الولاية، ومنها ما يكون على الدنيا، ومنها ما يكون على الدين، كما يتناصر الناس على وشائج النسب والرحم والقرابة والمصالح، ومنها -أي: النصرة- ما يكون على الدين، كتناصر المسلمين فيما بينهم على الإسلام وإن لم تكن بينهم أرحام ولا زيارة يتعاطونها، فالذي يرتبط بأصل الدين هو ما كان على الدين، مثل الحب والنصرة بسبب الدين، أما ما عدا ذلك فلو حصل فيه شيء من الإخلال فإنه لا يمس العقيدة، ولا يرتبط بقضية أصل الدين.
ووجه اختصاص ما يتعلق بالولاية بأصل الدين، أولاً: أن التواد والتناصر الدنيوي لا ينقض أصل الولاية، وإن كان يقدح في كمالها، مثلاً: الإنسان قد يكره بعض أهله وعشيرته، وقد تقع بينه وبين بعض المؤمنين عداوة لأسباب دنيوية كتنافس وتحاسد ونحو ذلك، بل ربما يصل الأمر إلى حد الشجار أو القتال، وهذا لا يقدح في أصل الدين، بمعنى أنه لا يبطل إيمان هذا المؤمن، وإن كان يقدح في كمال إيمانه أن يتقاتل مع أخيه المسلم، وأن يتحاسد معه.
يقول الله تبارك وتعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، فهنا العلاقة علاقة الحب الطبعي للزوجة، هذا الحب لأنه يكون طبعياً لا شرعياً قد يقع تخلفه كما هو هنا: (( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ))، فهل هذه الكراهية التي تقع أحياناً من زوج لزوجته هل هذه تقدح في عقيدته؟ هي لا تمس الدين؛ لأن هذا حب طبعي.
مثلاً: قول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، إلى أن قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، فوصفهم بالإيمان ولم يقدح تقاتلهم في أصل الدين؛ لأن التقاتل لم يكن بسبب الدين، وإنما على شيء من أمور الدنيا.
أيضاً قد يكره الإنسان طبعاً بعض التكاليف الشرعية مثلاً الوضوء بالماء البارد في شدة البرد، فالطبع يستثقل هذا، لكنه يحبه شرعاً؛ لأن الله عز وجل يحبه، فهذا لا يقدح في إيمانه.
أيضاً: قد يكره القتال، يقول تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، أنتم تكرهونه طبعاً، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، فهنا كراهة المؤمنين بالقتال كراهة طبعية لا شرعية، فهم لا يكرهونه لأنه حكم الله أو أمر الله، لكن النفوس جبلت على ذلك كراهة طبيعية، يقول عز وجل أيضاً في نفس الموضوع: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، كارهون للخروج لقتال المشركين في غزوة بدر، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:6]، فهذه أيضاً كراهية طبعية وليست كراهية شرعية، كذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره - يعني: التي تكرهها النفس- وحفت النار بالشهوات)، والكره الموجود في هذه النصوص التي ذكرناها: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] .. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [النساء:19]، (وحفت الجنة بالمكاره)، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، كل هذا لا علاقة له بأصل الدين، هذه الكراهية قد تكون طبيعية، وليست هي نفس الكراهية المذكورة في مثل قوله تبارك وتعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78]، هذه كراهية في الدين، ولذلك فهي تبطل وتحبط الإيمان، هي كراهية الحق، والتوحيد، والأنبياء لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78]، هذه الكراهية الطبيعة لا يمكن أن تكون مثل الكراهية التي في قوله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9]، فهذه الكراهية في الدين، ولذلك فهي تمس أصل الدين والعقيدة وتحبط الإيمان.
هذا فيما يتعلق بالدين، أما إذا ما تخلف الحب الطبعي ووجد كره طبعي، قد يقدح في كمال الإيمان لكنه لا يقدح في أصله، كذلك إذا وجد الحب الطبعي والتواد والتناصر الدنيوي؛ فإن هذا لا يعني بالضرورة وجوب الحب الشرعي، وانعقاد الولاية الإسلامية؛ لأن الرجل بطبعه قد يحب زوجته أو ولده أو عشيرته وإن كانوا على غير دينه، ومع ذلك فإن هذا لا يقدح في أصل دينه إلا إذا حمله على فعل هو في ذاته كفر أكبر، يقول عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، فالأزواج هنا تشمل فيما تشمل الكتابيات اليهودية أو النصرانية إذا تزوجها المسلم بشرطه، ومع ذلك هذا لا يقدح في أصل الإيمان لأنها محبة طبيعية وليست تنافي العقيدة.
وأيضاً قول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، يعني: لقرابته منك، وقيل: إنها نزلت في قصة أبي طالب (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ )) أي: هدايته، (( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ))، فـأبو طالب كان ينصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم طيلة عمره، ويحرسه ويمنعه ممن آذاه، لكن هل صار بذلك مسلماً؟ لا؛ لأن مناصرة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت بفعل القرابة، وبسبب الحب الطبعي لا الشرعي، لذلك لم تكن نصرة في الدين، ومن أجل ذلك لم يكن بذلك مسلماً، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العلامات التي إذا فعلها الإنسان يجد حلاوة الإيمان في قلبه: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، فكأن هذه المحبة المعتبرة المعتد بها.
أيضاً تخلف النصرة الواجبة على العبد المؤمن لا يعني لأنه التخلف أو القدح في أصل الدين، إلا إذا كان خذلاناً على الدين، أما مجرد القعود عن الجهاد الواجب فهو كبيرة؛ يجب عليه أن ينصر إخوانه المؤمنين، سواء كان النفير عاماً، أو داهم العدو بلداً من البلاد المسلمين أو حضر الصف في هذه الحالات التي يجب فيها النفير العام، ففي هذه الحالة يجب أن يخرج، فإذا ما خرج وقد تعين عليه الجهاد، فهذا لا يعد قدحاً في أصل إيمانه، وإن كان يقدح في كمال إيمانه وينقص إيمانه؛ لأنه مرتكب لكبيرة من الكبائر؛ لكن لا يخرج بذلك عن الملة، وهنا تخلف عنصر من عناصر المناصرة على الدين.
أيضاً قد يتخلف الإنسان عن مثل هذه المناصرة لسبب مثل عهد بينه هو وقبيلته وبين القوم الذين سيقاتلهم المؤمنون، أو لأنه لم يهاجر، أو كامتناع للمسلمين من مناصرة من أتاهم بعد صلح الحديبية كـأبي جندل وأبي بصير فهما حينما انتهى الأمر ردهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وامتناعهم أيضاً عن مناصرة من هاجر إليهم على قوم بينهم وبينهم ميثاق.
أيضاً وجود مودة أو مناصرة لأعداء الله عز وجل مما يقدح في أصل الدين إلا إذا كان مساومة لهم على دينهم الباطل، فإن حصل مثل هذه المناصرة لصلة رحم أو نحوه فهذا ذنب ومعصية من المعاصي كما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في مكاتبة أهل مكة بخبر خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضاً كما وقع من سعد بن عبادة عندما انتصر لـ عبد الله بن أبي في قصة الإفك، وقال لـ سعد بن معاذ : كذبت! والله لا تقتله ولا تقدر على قتله، بل قد تكون هذه النصرة واجبة أحياناً، فيجب على الأمة أو على المسلمين مناصرة قوم إذا كان بينهم وبينهم عهد على أنهم يدخلون في جوار الأمة الإسلامية، وأنهم يدافعون عنهم إذا داهمهم عدو آخر، كحلف من الأحلاف، فإذا وقع ذلك يجب على المسلمين إذا اعتدي على هؤلاء الذين لهم ذمة وعهد أن ينصروهم، بل الذمي الذي يعيش في وسط المسلمين وله ذمة لا تخفر ذمة الله وذمة رسوله؛ فإن من تعظيم الله وتعظيم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وطاعتهما ألا يخفر الله عز وجل في ذمته؛ فإن له ذمة وعهداً مع إمام المسلمين، فلا ينبغي أن ينقض هذا العهد، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام تهدد من يفعل ذلك أنه يكون خصيمه يوم القيامة.
خلاصة الكلام: أن ما يرتبط من الولاية بأصل الدين هو ما انعقد منها على الدين لا على الدنيا أو الطبع، لكن الأمر الذي يقدح في الولاء والبراء هو معاداة المسلم لإسلامه، أن يعادي رجلاً مسلماً بسبب أنه مسلم لإسلامه، أو موالاة الكافر على كفره؛ لأن كلا الأمرين يتضمن الرضا بالكفر أو السخط بالإسلام، فإذا كان ساخطاً على الإسلام فإنه يكره ويحارب المسلم بسبب تدينه وإما أنه راضٍ بالكفر، ولذلك يوالي الكفر الكافر بسبب كفره، أما ما عدا ذلك فلكل مقام مقال، فإذا كانت الموالاة والمناصرة أو المحبة على كفر فهي كفر، وإن كانت على معصية فهي معصية، أما الموالاة على الأسباب والعلائق الدنيوية ففيه تفصيل بحسب ما تفضي إليه هذه الموالاة، فمنها ما يحل ومنها ما يحرم.
عدم نقض التواد والتناصر الدنيوي لأصل الولاية
التخلف عن النصرة الواجبة لا يقدح في أصل الدين
مناصرة أعداء الله لصلة رحم لا يقدح في أصل الإيمان
إن اختصاص ما يتعلق بالولاية بأصل الدين، أولاً: أن التواد والتناصر الدنيوي لا ينقض أصل الولاية، وإن كان يقدح في كمالها، مثلاً: الإنسان قد يكره بعض أهله وعشيرته، وقد تقع بينه وبين بعض المؤمنين عداوة لأسباب دنيوية كتنافس وتحاسد ونحو ذلك، بل ربما يصل الأمر إلى حد الشجار أو القتال، وهذا لا يقدح في أصل الدين ولا يبطل إيمان هذا المؤمن، وإن كان يقدح في كمال إيمانه أن يتقاتل مع أخيه المسلم وأن يتحاسد معه. يقول الله تبارك وتعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19] فهنا العلاقة علاقة الحب الطبعي للزوجة ليس شرعياً وقد يقع تخلفه كما هو هنا: (( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا )) فهذه الكراهية التي تقع أحياناً من الزوج لزوجته لا تقدح في عقيدته ولا تمس الدين؛ لأن هذا حب طبعي. مثلاً: قول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، إلى أن قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] فوصفهم بالإيمان ولم يقدح تقاتلهم في أصل الدين؛ لأن التقاتل لم يكن بسبب الدين، وإنما على شيء من أمور الدنيا. أيضاً قد يكره الإنسان طبعاً بعض التكاليف الشرعية، مثلاً: الوضوء بالماء البارد في شدة البرد، فالطبع يستثقل هذا، لكنه يحبه شرعاً؛ لأن الله عز وجل يحبه، فهذا لا يقدح في إيمانه. أيضاً قد يكره القتال، يقول تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] أي: أنتم تكرهونه طبعاً، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، فهنا كراهة المؤمنين للقتال كراهة طبعية لا شرعية، فهم لا يكرهونه؛ لأنه حكم الله أو أمر الله، لكن لأن النفوس جبلت على كراهته كراهة طبيعية، يقول عز وجل أيضاً في نفس الموضوع: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5] أي: كارهون للخروج لقتال المشركين في غزوة بدر، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:6]، فهذه أيضاً كراهية طبعية وليست كراهية شرعية، كذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره - يعني: التي تكرهها النفس- وحفت النار بالشهوات). والكره الموجود في هذه النصوص التي ذكرناها: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] وقوله: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [النساء:19]وقوله: (وحفت الجنة بالمكاره)، وقوله: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5] كل هذا لا علاقة له بأصل الدين؛ لأن هذه الكراهية قد تكون طبيعية، وليست هي نفس الكراهية المذكورة في مثل قوله تبارك وتعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78]، هذه كراهية في الدين، ولذلك فهي تبطل وتحبط الإيمان؛ لأنها كراهية للحق والتوحيد والأنبياء. وهذه الكراهية الطبيعة لا يمكن أن تكون مثل الكراهية التي في قوله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9]، فهذه الكراهية في الدين هي التي تمس أصل الدين والعقيدة وتحبط الإيمان. هذا فيما يتعلق بالدين، أما إذا ما تخلف الحب الطبعي ووجد كره طبعي، فإنه قد يقدح في كمال الإيمان لكنه لا يقدح في أصله، كذلك إذا وجد الحب الطبعي والتواد والتناصر الدنيوي؛ فإن هذا لا يعني بالضرورة وجوب الحب الشرعي، وانعقاد الولاية الإسلامية؛ لأن الرجل بطبعه قد يحب زوجته أو ولده أو عشيرته وإن كانوا على غير دينه، ومع ذلك فإن هذا لا يقدح في أصل دينه إلا إذا حمله على فعل هو في ذاته كفر أكبر، يقول عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، فالأزواج هنا تشمل فيما تشمل الكتابيات اليهودية أو النصرانية إذا تزوجها المسلم بشرطه، ومع ذلك هذا لا يقدح في أصل الإيمان؛ لأنها محبة طبيعية وليست تنافي العقيدة. وأيضاً قول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، يعني: لقرابته منك، وقيل: إنها نزلت في قصة أبي طالب (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ )) أي: هدايته، (( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ))، فـأبو طالب كان ينصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم طيلة عمره، ويحرسه ويمنعه ممن آذاه، لكن هل صار بذلك مسلماً؟ لا؛ لأن مناصرة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت بفعل القرابة، وبسبب الحب الطبعي لا الشرعي، لذلك لم تكن نصرة في الدين، ومن أجل ذلك لم يكن بذلك مسلماً، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العلامات التي إذا فعلها الإنسان يجد حلاوة الإيمان في قلبه: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، فهذه هي المحبة المعتبرة المعتد بها.
إن تخلف النصرة الواجبة على العبد المؤمن لا يعني التخلف أو القدح في أصل الدين، إلا إذا كان خذلاناً على الدين، أما مجرد القعود عن الجهاد الواجب فهو كبيرة؛ يجب عليه أن ينصر إخوانه المؤمنين، سواء كان النفير عاماً، أو داهم العدو بلداً من بلاد المسلمين، أو حضر الصف في هذه الحالات التي يجب فيها النفير العام، ففي هذه الحالة يجب أن يخرج، فإذا لم يخرج وقد تعين عليه الجهاد فهذا لا يعد قدحاً في أصل إيمانه، وإن كان يقدح في كمال إيمانه وينقص إيمانه؛ لأنه مرتكب لكبيرة من الكبائر؛ لكن لا يخرج بذلك عن الملة، وهنا تخلف عنصر من عناصر المناصرة على الدين. أيضاً قد يتخلف الإنسان عن مثل هذه المناصرة لسبب، مثل: عهد بينه هو وقبيلته وبين القوم الذين سيقاتلهم المؤمنون، أو لأنه لم يهاجر، أو كامتناع المسلمين من مناصرة من أتاهم بعد صلح الحديبية كـأبي جندل وأبي بصير فهما حينما انتهى الأمر ردهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وامتناعهم أيضاً عن مناصرة من هاجر إليهم على قوم بينهم وبينهم ميثاق.
إن وجود مودة أو مناصرة لأعداء الله عز وجل مما يقدح في أصل الدين، إذا كان مساومة لهم على دينهم الباطل، أما إن حصل مثل هذه المناصرة لصلة رحم أو نحوه فهذا ذنب ومعصية من المعاصي، كما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في مكاتبة أهل مكة بخبر خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضاً كما وقع من سعد بن عبادة عندما انتصر لـ عبد الله بن أبي في قصة الإفك، وقال لـ سعد بن معاذ : كذبت! والله لا تقتله ولا تقدر على قتله، بل قد تكون هذه النصرة واجبة أحياناً، فيجب على الأمة أو على المسلمين مناصرة قوم إذا كان بينهم وبينهم عهد على أنهم يدخلون في جوار الأمة الإسلامية، وأنهم يدافعون عنهم إذا داهمهم عدو آخر، كحلف من الأحلاف، فإذا وقع ذلك يجب على المسلمين إذا اعتدي على هؤلاء الذين لهم ذمة وعهد أن ينصروهم، بل الذمي الذي يعيش في وسط المسلمين وله ذمة لا تخفر ذمة الله وذمة رسوله؛ فإن من تعظيم الله وتعظيم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وطاعتهما ألا يخفر الله عز وجل في ذمته؛ فإن له ذمة وعهداً مع إمام المسلمين، فلا ينبغي أن ينقض هذا العهد، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام تهدد من يفعل ذلك بأن يكون خصيمه يوم القيامة. خلاصة الكلام أن ما يرتبط من الولاية بأصل الدين هو ما انعقد منها على الدين لا على الدنيا أو الطبع، لكن الأمر الذي يقدح في الولاء والبراء هو معاداة المسلم لإسلامه، أو موالاة الكافر على كفره؛ لأن كلا الأمرين يتضمن الرضا بالكفر أو السخط بالإسلام، فإذا كان ساخطاً على الإسلام ويحارب المسلم بسبب تدينه فإنه يكون راضياً بالكفر، ولذلك يوالي الكافر بسبب كفره، أما ما عدا ذلك فلكل مقام مقال، فإذا كانت الموالاة والمناصرة أو المحبة على كفر فهي كفر، وإن كانت على معصية فهي معصية، أما الموالاة على الأسباب والعلائق الدنيوية ففيه تفصيل بحسب ما تفضي إليه هذه الموالاة، فمنها ما يحل ومنها ما يحرم.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الإيمان والكفر [14] | 2440 استماع |
الإيمان والكفر [27] | 2427 استماع |
الإيمان والكفر [23] | 2230 استماع |
الإيمان والكفر [5] | 2182 استماع |
الإيمان والكفر [22] | 1946 استماع |
الإيمان والكفر [16] | 1907 استماع |
الإيمان والكفر [7] | 1852 استماع |
الإيمان والكفر [10] | 1843 استماع |
الإيمان والكفر [21] | 1838 استماع |
الإيمان والكفر [1] | 1833 استماع |