تفسير سورة البقرة [257-263]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257]. بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى شأن هذه الولاية، وكيف أنه يتولى عباده المؤمنين فيخرجهم من الظلمات؛ شرع تبارك وتعالى في ذكر نماذج من هدايته للمؤمنين، وتوليه عباده وأنبياءه بالنصرة والحجة والبرهان على مناوئيهم، فبدأ أولاً بذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود ، فقال تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، فهذا أنموذج لولاية الله عز وجل لأوليائه بالنصرة والتأييد والحجة والبرهان. قوله تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ ))، هذه ألف التوكيد، وهي في الكلام بمعنى التعجب أي: اعجبوا من هذا الذي (حاج إبراهيم في ربه) أي: جادل إبراهيم في ربه. (( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ )) يعني: لأن الله آتاه الملك، فحمله بطره بنعمة الله على ذلك، وهو الملك الكافر نمرود ، ولا شك أن في هذا التعبير إشارة إلى أن الملك فتنة على من أوتيه؛ (( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ))، فبدل أن يحمد الله سبحانه وتعالى حملته هذه النعمة لما آتاه الله الملك على المحاجة في الله، وهذا أقبح وجوه الكفر في موضع ما يجب عليه من الشكر، كما تقول في شخص: عاداني فلان لأني أحسنت إليه! تريد أنه فعل عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان الذي صار إليه، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82]، أهذا شكر نعمي ورزقي عليكم أنكم تكذبون بآياتي وبرسلي؟! وهذا من نفس هذا الباب، قال تبارك وتعالى هنا: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ))، فمع أن الله آتاه الملك، وأنعم عليه به، إلا أنه أبدل النعمة كفراناً وبطراً وكبراً. (إذْ) بدل من (حاجّ): (( إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ )) يعني: لما قال له النمرود : من ربك هذا الذي تدعونا إليه؟ (( قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ )) يعني: يخلق الحياة والموت في الأجساد، كان المقصود بقوله هنا: (يحيي ويميت)، نفخ الروح في الجسم، وإخراجها منه بإذن الله تبارك وتعالى، فقال النمرود : (( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ )) يعني: بالقتل والعفو، ودعا برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، فظن أن هذا يعطيه حقاً أنه يحيي ويميت! فلما رآه إبراهيم عليه السلام غبياً لا يفهم ولا يعقل ولا يعرف أصول المناظرة، قال إبراهيم: (( فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ))، فانتقل إبراهيم عليه السلام إلى حجة أوضح منها، فقال له: (( فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )). فهذا الطاغية سلك مسلك التلبيس والتمويه؛ وهذا يدل على جهله، ويتضح من الآيات: أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه بالإحياء والإماتة قال: (( إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ))، لكن الإحياء والإماتة أمر له حقيقة وله مجاز، وإبراهيم عليه السلام قصد الحقيقة، بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يدخل الروح في البدن فيحييها أو ينزعها منه ويخرجها فيميتها، فإبراهيم ما أراد إلا الحقيقة، أما النمرود فإنه فزع إلى المجاز وموه على قومه (( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ )) يقول: إني إذا أتيت برجلين فأقتل هذا فأكون أنا الذي قد أمته، وأعفو عن هذا، فأكون قد أحييته. فسلم له إبراهيم تسليم الجدل، وليس معنى ذلك أن إبراهيم عليه السلام ما استطاع أن يبطل حجته، إلا أنه لما رآه غبياً لا يعقل ولا يفهم انتقل إلى ما لا يستطيع أبداً أن يموه به على العوام، وانتقل معه من الخصام إلى أمر لا يحتمل إلا الحقيقة، ولا مجاز فيه على الإطلاق، فقال له: (( فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ )). فلما سلك الطاغية مسلك التلبيس والتمويه على الرعاع، وكان بطلان جوازه من الجلاء -الظهور- بحيث لا يخفى على أحد؛ لأن هذا الجواب الذي أجاب به هذا النمرود واضح في بطلانه بحيث لا يحتاج إلى جهد في إبطاله، فبطلانه يغني عن إبطاله، وسقوطه يغني عن إسقاطه، فما انشغل بالجواب عنه ؛ لأن هذا تمويه حيث يقول: أنا أحيي وأميت بهذا المعنى، فكان التصدي لإسقاط كلامه من قبيل السعي في تحصيل الحاصل؛ لذلك انتقل إبراهيم عليه السلام إرسالاً لعنان المناظرة معه إلى حجة أخرى لا تجري فيها المغالطة، ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها بمخرج المكابرة أو المشاغبة أو التلبيس على العوام. فقال إبراهيم عليه السلام: (( فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا )) أنت (( مِنَ الْمَغْرِبِ ))، ولا شك أن من قدرته تبارك وتعالى أنه لا تقوم الساعة حتى يأتي الله سبحانه وتعالى بالشمس من المغرب، فهذه من علامات الساعة الكبرى، أن تطلع الشمس من المغرب؛ لأن الله وحده هو الذي يقدر على ذلك تبارك وتعالى. (( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ))، لما قال له: فائت بها من المغرب، يعني: إذا كنت كما تدعي تحيي وتميت، فالذي يحيى ويميت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته، وفي تسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تطلع كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهاً كما ادعيت فائت بها من المغرب: (( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ))، تحير ودهش وأرغم بالحجة، لما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا. (( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) بالكفر إلى محجة الاحتجاج، أي: أن الله لا يهديهم إلى إقامة الحجة وإلى فهم الحجج والبراهين، وما يحتج به، فلا يلهمهم حجة ولا برهاناً بل: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [الشورى:16].

قال الله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ .. [البقرة:259] إلى آخر الآية. (( أَوْ كَالَّذِي )) يعني: أو رأيت كالذي، النموذج الأول هو قصة إبراهيم عليه السلام، فيها تعهد الله سبحانه وتعالى لأوليائه بأن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويؤيدهم بالحجة والبرهان، وهذا مثال آخر أيضاً فيه إخراج الله سبحانه وتعالى لأوليائه من ظلمات الحيرة والاشتباه إلى نور الحجة والبرهان. (( أَوْ كَالَّذِي )) الكاف زائدة، والمعنى: كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظلمات الاشتباه إلى نور العيان والشهود: (( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ))، والقرية سميت قريةً لاجتماع الناس فيها، ومنه قولهم: قريت الماء، أي: جمعته، فالقرية سميت قرية لاجتماع الناس فيها. (( مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ )) يقول السيوطي هنا: هي بيت المقدس، وكان راكباً على حمار، ومعه سلة تين وقدح وعصير، وهو عزير عليه السلام، وقيل غيره، قال ابن كثير في تاريخه: المشهور أنه عزير نبي من أنبياء بني إسرائيل. (( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ))، (وهي خاوية) أي: ساقطة (على عروشها) والعروش هي السقوف، وذلك لما خرب بختنصر بيت المقدس، وتلاحظون أن السيوطي رحمه الله أحياناً يعتمد على بعض الإسرائيليات، لكننا إذا وقفنا على ما أوقفنا الله عليه فلن يؤثر هذا بشيء، سواء صح أنها بيت المقدس أو غيرها؛ فهذا مما لم يتعرض الله سبحانه لبيانه صراحة. (( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ )) هذا الوصف يبين مفهومه ما ذكره السيوطي بقوله: راكباً على حمار ومعه سلة تين وقدح وعصير، يعني: معه طعام وشراب، وكان راكباً على حمار، وهذا وفقاً لما يأتي من الآيات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال له: وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ، وقال له: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ، (وهي خاوية) أي: ساقطة حيطانها، ومعنى ذلك أنها سقطت سقوفها، وبعدما سقطت السقوف سقطت الحيطان فوق السقوف، هذا معنى: (وهي خاوية) أي: ساقطة حيطانها على عروشها أي: سقوفها، لما خربها بختنصر . (( قَالَ أَنَّى يُحْيِي )) يعني: كيف يحيي (( هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا )) استعظاماً لقدرة الله تبارك وتعالى. (( يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا )) بأن يعمرها ويعيد أهلها إليها ويحييها بعد موتها. (( فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ )) يعني: أبقاه ميتاً مائة عام ثم بعثه، وكان إبقاؤه ميتاً مائة عام يكفي لأن يزول بدنه تماماً ويتلاشى، (ثم بعثه) جمع أجزاؤه بعد تفرقها، وبعث روحه إلى بدنه، قال بعض المفسرين: أنه أحيا سبحانه وتعالى جزءاً من بدنه ثم أراه باقي الأجزاء وهي تجتمع بعضها إلى بعض، وينفخ الله سبحانه وتعالى فيها الروح وهي الحياة. قال: (ثم بعثه) أي: أحياه ليريه كيفية ذلك، (قال كم لبثت) يعني: قال الله تبارك وتعالى له: (( كَمْ لَبِثْتَ ))، قال بعض العلماء: إن الذي قال له ذلك هو جبريل أو سمع هاتفاً من السماء، لكن سياق الآيات يظهر أن القائل هو الله سبحانه وتعالى، والدليل قوله عز وجل بعد ذلك: وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ، وهذه نون العظمة إشارة إلى أن الذي قال له هو الله سبحانه وتعالى: (( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ )) أي: كم مكثت ميتاً؟ (( قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ))، وقد قال أصحاب الكهف أيضاً: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19]، فالمقصود هنا: أنهم قالوا ذلك على سبيل التفكير أو التخمين أو استقصاراً للمدة، يقول السيوطي : لأنه نام أول النهار فقبض، وبعث عند الغروب، يعني أول يوم من موته كان في بداية النهار في الصباح، ثم أحيي بعد مائة سنة عند الغروب، وأول ما سئل: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً، لما ظن أن الشمس قد غربت، فلما رأى أن الشمس قد بقي عليها وقت يسير للغروب، وما زال القرص ظاهراً، استدرك فقال: (( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ )). لأنه نام أول النهار فقبض وأحيي عند الغروب فظن أنه نفس اليوم، وهل هذا يعتبر كذباً؟ ليس كذباً، ولكنه إخبار بما عنده، كما لو سألتك مثلاً: هل أخوك في البيت؟ فأنت على حسب علمك أنه ليس في البيت قلت: ليس في البيت، وهو في الحقيقة في البيت، فليس هذا كذباً، وإذا أطلق عليه كذب فهو من حيث اللغة وليس من حيث الشرع الذي يستوجب الإثم، كقوله في الحديث: (كذب أبو السنابل) يعني: أخطأ، وكل إخبار بما يخالف الواقع فهو كذب، لكن من الكذب ما يأثم به صاحبه، ومنه لا يأثم به صاحبه، فإذا سمينا هذا القول منه: (( لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ )) كذباً؛ لأنه يخالف الحقيقة، فنقول: هذا كذب لا يأثم عليه؛ لأنه لا يقصد الإخبار بخلاف الحقيقة، وهو غير متعمد، وإنما يقوله تقديراً وتخميناً وإخباراً بما عنده. ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى سأله هذا السؤال؟ الحكمة ليظهر له عجزه عن الإحاطة بشئونه، يعني: أنت أيها العبد لا تحيط علماً بما يخصك أنت، وبقيت ميتاً مائة عام وأنت لا تدري، وأنت غافل، حتى إنك لتظن أنك بقيت يوماً أو بعض يوم، حتى الأمور التي تخصك أنت لا تعرفها، ولا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى الذي أحاط بكل شيء علماً. وأيضاً: من الحكمة من السؤال بيان أن إحياءه لم يكن بعد مدة يسيرة؛ لأنه لو أحياه الله سبحانه وتعالى بعد مدة يسيرة ربما يحصل توهم أن البعث هين في الجملة، إذ إن جسمه ما زال باقياً، أما والأمر أنه أماته مائة عام حتى زال جسمه بالكلية وتحول إلى تراب، وتفرقت أجزاؤه، ثم يحييه الله تبارك وتعالى؛ فإحياؤه بعد مدة طويلة تنحسم به تماماً مادة استبعاد وقوع البعث والنشور، ثم يطلع في تضاعيفه على أمر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى عندما يقول: كم لبثت؟ فيقول: لبثت يوماً أو بعض يوم، فيقول الله له: (( بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ )). (( فَانظُرْ )) بعدما بين له أنه لبث مائة عام نبهه إلى آية أخرى يراها الآن في هذه الحال بعد مائة عام، وهي من آثار وبدائع قدرته تبارك وتعالى، وهي إبقاء الغذاء فقال: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259]، فالطعام الذي من طبعه أن يتسارع إليه الفساد والتعفن بقي على ما كان عليه دهراً طويلاً من غير تغير! (( فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ ))، وهو التين، أو غير التين في قول آخر، ولا إشكال في ذلك، (( وَشَرَابِكَ )) أي: العصير، (( لَمْ يَتَسَنَّهْ )) يعني: لم يتغير مع طول الزمان، مع تداعيه إلى الفساد، والهاء في (يتسنه): قيل: أصل في الكلمة، من سانهت، وقيل: مشتقة من: ساميتُ، وفي قراءة بحذفها: (لم يتسن)، ويحتمل أن يكون الضمير هنا في قوله تبارك وتعالى: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ، إما أنه عبر عن المثنى بهاء المفرد، وهذا جائز في اللغة، ويحتمل أن يكون الضمير لأقرب مذكور، ويكون عائداً إلى الشراب؛ لأنه أقرب، ثم تكون هناك ثمّ جملة أخرى حذفت بدلالة هذه عليها، فيكون التقدير: وانظر إلى طعامك لم يتسنه، وإلى شرابك لم يتسنه. وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ [البقرة:259]، انظر إلى حمارك كيف هو؟ فرآه ميتاً، ورأى عظامه بيضاً تلوح نخرة، وكأن الله عز وجل يقول له: فعلنا ذلك لتعلم أن الله على كل شيء قدير. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً [البقرة:259] على البعث والنشور، ونحن بلا شك إذا أردنا أن نسرد من القرآن أدلة البعث والنشور فمن الأدلة الواضحة هذه القصة التي حكاها الله سبحانه وتعالى. وروي في بعض الآثار الإسرائيلية: أنه بعدما عاد إلى قريته وجدها قد عمّرت، وأحياها الله بعد موتها، ثم لقي جارية كانت لهم، قد طعنت جداً في السن، فسألها عن عزير، فقالت: عزير قد افتقدناه من كذا وكذا سنة، فقال لها: أنا عزير، قالت: لو كنت عزيراً فإن عزيراً كان نبياً، وكان يمسح على المريض فيبرأ بإذن الله، وكانت قد عميت، فمسح على عينها فأبصرت، ثم رجعت إلى قومها تقول لهم: إن هذا هو عزير! فوجد حفيده يكبره بخمسين سنة! ولا شك أن أهل القرية لما رأوه يعود بعد مائة سنة بنفس الأمارات التي تدل على أنه هو؛ لا شك أن هذا آية للناس الذين عاصروا هذه الواقعة، وآية لمن يأتي بعدهم من الأجيال، ويسمع هذه العبرة كما قصها الله سبحانه وتعالى في كتابه. (( وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ )) أي: عظام حمارك، (كيف ننشزها) كيف نحييها، -بضم النون والزاي-، وفي القراءة الأخرى: (كيف نُنشرُها) بالراء، وقرئ شذوذاً بفتح النون، من أنشر ونشر لغتان، وعلى قراءة: (كيف نُنْشِزُها) أو (ننشُزها) أي: نحركها ونرفعها، من النشر وهو الارتفاع. كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [البقرة:259]، فنظر إليها وقد تركبت العظام، وكسيت لحماً، ونفخ فيها الروح، فأول نوع من أنواع البعث أن الله سبحانه وتعالى نفخ الروح في الحمار، فقام الحمار ونهق علامة على عودة الحياة إليه بالصوت أيضاً! فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ [البقرة:259]، لهم بالمشاهدة والمعاينة قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] يعني: أعلم علم مشاهدة (أن الله على كل شيء قدير)، وفي قراءة: (فلما تبين له قال اعلم) على أنها أمر من الله سبحانه وتعالى له: (أن الله على كل شيء قدير).

قال الله تعالى مبيناً كيف أنه يتولى عباده فيخرجهم من الظلمات إلى النور، ويؤيدهم بالحجة والبراهين: (وإذ) يعني: واذكر إذ؛ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، ليصير علمي عين يقين بالرؤية بعدما كان عندي علم يقين؛ لأن العلم درجات: علم يقين، وعين يقين، وحق يقين. لو أخبرتك بأن في هذه الحجرة عسلاً وكنت تقطع بصدقي فهذا علم يقين، فإذا فتحت لك الغرفة ودخلت ورأيت بعينك العسل فهذا عين يقين، أما إذا ذقته ووجدت طعمه ومذاقه فهذا حق اليقين؛ فالعلم نفسه على مراتب، فإبراهيم عليه السلام أراد أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين بالمشاهدة عياناً، وهذا أكمل، وبلا شك أن الإنسان دائماً يكون مستشرفاً إلى مطالعة ما يخبر عنه، فالذي لم ير الكعبة يكون دائماً متطلعاً إلى أن يراها، فنحن لا نرى الملائكة، ولذا تجد عندنا استشراف وتطلع إلى أن نرى الملائكة، نريد أن نرى كل ما هو غائب عنا، وهذا من فطرة الإنسان، حب الاستطلاع، والاستزادة في مراتب العلم ودرجاته. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ، قال تعالى له: أو لم تؤمن بقدرتي على الإحياء؟! سأله مع علمه بإيمانه بذلك ليجيبه بما سأله فيعلم السامعون غرضه، وهذا تنبيه مهم جداً سنفصله عما قريب إن شاء الله تعالى: (( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى )) يعني: آمنت، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، لكن سألتك ليسكن قلبي بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال، يعني: أعرف أنك تحيي الموتى عن طريق الوحي، وعن طريق الاستدلال بالأدلة على البعث والنشور، فأريد أن أضيف إلى ذلك أيضاً دليل المعاينة والرؤيا. إذاً: المقصود: بلى آمنت، ولكن سألت لأزداد بصيرة وسكون قلب برؤية الإحياء، فقلبي ساكن مطمئن لحقيقة البعث والنشور لما أوتيته من العلم بالوحي، ومما يؤيد هذا التفسير، وينفي الشك عن إبراهيم عليه السلام أن الله سبحانه وتعالى قال في مناقشة إبراهيم عليه السلام للنمرود : (( إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ))، فإبراهيم عليه السلام يعرف أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحيي ويميت، فهذه الآية بلا شك تدل على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام. لكن تضافر الأدلة وتواردها أسكن للقلوب، وأزيد للبصيرة واليقين.

سبب سؤال إبراهيم رؤية إحياء الله للموتى

جمهور العلماء على أن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً قط في إحياء الموتى، ما شك إبراهيم عليه السلام، ولا ينبغي له أن يشك، وإذا كان الأنبياء معصومين من كبائر الذنوب ومن صغائر الذنوب، فكيف يجوز على الأنبياء الشك؟ وكيف يظن أن نبياً من الأنبياء يشك في الله سبحانه وتعالى؟! فجمهور العلماء أنه لم يشك قط في إحياء الله سبحانه وتعالى للموتى، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من استشراف وحب رؤية ما أخبرت عنه؛ لهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت) رواه أحمد والحاكم وغيرهما، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي ، وصححه أيضاً الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى. فهنا تأكيد لهذه القاعدة أنه: ليس الخبر كالمعاينة، يقول الله تبارك وتعالى عن حال أهل الكهف: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [الكهف:18]، لكن لماذا لم يول صلى الله عليه وسلم فراراً، ولم يمتلئ رعباً من هذا؟ لأن الخبر ليس كالمعاينة، فالله سبحانه وتعالى وصف له حالهم وهم رقود في الكهف، ثم قال: لو زدت إلى ذلك السماع والإخبار المعاينة بالبصر؛ لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً، فهذا يؤكد أنه ليس الخبر كالمعاينة.

تنزيه إبراهيم عن الشك

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فيه نفي الشك تماماً عن إبراهيم عليه السلام؛ لأن الشك هو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، بحيث لا تملك أن ترجح أحدهما على الآخر، فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) معناه: أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أولى وأحق بالشك، ونحن لا نشك، فإبراهيم أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، هذا هو المعنى المقصود، ومن شروط الإيمان: اليقين المنافي للشك والريبة، فأي تردد في قضايا الإيمان يحبط الإيمان كله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، لكن إذا آمنوا ثم ارتابوا فهذا يحبط الإيمان؛ فلذلك الشك يتنزه عنه المؤمن، فمقصود الحديث: لو كان إبراهيم قد شك، فنحن أولى منه بالشك، فبما أننا لا نشك فإبراهيم عليه السلام أولى وأحرى ألا يشك، ولا يجوز الشك على الأنبياء، هذا وهو خليل الرحمن سبحانه وتعالى، وهو إبراهيم عليه السلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42]، وقال أيضاً لما حكى عن إبليس: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40]، وإذا لم تكن لإبليس عليهم سلطنة، فكيف يشككهم؟ وإنما أراد إبراهيم عليه السلام أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين، والسؤال: كان عن كيفية الإحياء، والسؤال بكيف هو للسؤال عن الحال. ونظير هذا السؤال: أن يقول القائل: كيف يحكم زيدٌ في الناس؟ فهل يفهم من هذا السؤال أنه يشك في أنه يحكم؟ لا يشك بأنه يحكم؛ لأن هذا مقر أن زيداً إذا كان حاكماً أو قاضياً فهو يحكم؛ لكن السؤال هنا هو عن كيفية الحكم، فهل هو حال الحكم يعدل أم يجور؟ كيف حكمه في الناس وكيف سيرته؟ فالمقصود ليس الشك في أنه يحكم، ولكن المقصود هو السؤال عن حاله من العدل والإنصاف وغير ذلك، فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه لا ثبوته. قد يتلاعب الوهم ببعض الخواطر، فيطرق إلى إبراهيم شكاً من هذه الآية، فأتى هذا الحديث وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)؛ ليقطع به صلى الله عليه وسلم دابر هذا الواهم، يعني: ونحن لم نشك، فلئلا يشك إبراهيم عليه السلام أحرى وأولى. وسؤال إبراهيم عليه السلام إنما كان عن كيفية الإحياء: (( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ))، ولا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فإنما هو طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، يعني: أنت مطالب بأن تؤمن بالبعث والنشور والإحياء، لكنك غير مطالب بأن تؤمن بكيفية البعث والنشور، وكيفية هذا الإحياء، وهذا من السؤال عما ليس بشرط أو ما لا يتوقف الإيمان على علمه.

سبب قول الله لإبراهيم: (أولم تؤمن)

سؤال: إذا كان سؤال إبراهيم هو عن كيفية الإحياء، والعلم بكيفية الإحياء ليس من واجبات الإيمان، وليس من شروط صحة الإيمان، فهو سؤال ما لا يتوقف الإيمان على علمه، فلماذا قال الله تبارك وتعالى: (( أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ))؟ الجواب: لما كانت هذه الصيغة (كيف) تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفية، لكنها قد تستعمل في الاستعجاز أيضاً، مثاله: لو أن رجلاً أتى يدعي أنه يستطيع أن يحمل الجبل فوق رأسه، فتقول له أنت: أرني كيف تحمل الجبل؟ فكيف هنا المقصود بها الاستعجاز، أو يدعي مدع أنه يحمل ثقلاً من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله، فتقول له: أرني كيف تحمل هذا؟ فالصيغة في الأصل ظاهرة في السؤال عن الكيفية، لكن لما كانت قد تستعمل في السؤال للاستعجاز، ولما كانت هذه الصيغة قد يعرض لها هذا الاستعمال، وقد أحاط علم الله تبارك وتعالى بأن إبراهيم عليه السلام مبرأ عن أن يسأل استعجازاً والعياذ بالله؛ فلذلك أراد الله سبحانه بقوله: (( أَوَلَمْ تُؤْمِنْ )) أن ينطق إبراهيم بقوله: (بلى) وأنه مؤمن، وأن هذا ليس شكاً منه عليه السلام، وليس استعجازاً، فهو سأله حتى يأتي بهذا الجواب، فيبعد وينفي الشك عن إبراهيم عليه السلام كلما تليت هذه الآية إلى أن يرفع القرآن. قال : (أولم تؤمن)؟ قال: (بلى) يعني: آمنت، أنا مؤمن بلا شك بالبعث وبالنشور والإحياء، وبهذا يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى، وليكون إيمانه مخلصاً نص عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهماً لا يلحقه فيه شك.

سبب قول إبراهيم: (ليطمئن قلبي)

سؤال آخر: ما موقع قوله تبارك وتعالى: (( قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )) فهل كان القلب غير مطمئن؟ الجواب: أنه قال ذلك ويريد به: ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الإحياء؛ لأني إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد (ليطمئن قلبي) حينما أرى، فلا أظل أتخيل كيف يحصل هذا الإحياء؟ ويشير السيوطي رحمه الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله رحمه الله تعالى: (وإذ) يعني: واذكر: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ يعني: قال تعالى له: أولم تؤمن بقدرتي على الإحياء؟ سأله مع علمه بإيمانه بذلك، ليجيبه عما سأله فيعلم السامعون غرضه، (قال بلى)، آمنت، (ولكن) سألتك (ليطمئن) أي: يدخل بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال، وكي لا أسرح وأحوم في التخيلات عن كيفية ذلك الإحياء؛ لأنني إذا رأيتها استقر قلبي إلى كيفيتها حينما أراها معاينة.

إجابة الله لدعاء إبراهيم

قوله تعالى: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ، أي: إذا أردت الطمأنينة (فخذ) والفاء دخلت على (خذ)؛ لأنها واقعة في جواب الشرط المقدر، أي: إذا أردت الاطمئنان (( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ))، إما أن تقول: صُرهن، أو صِرهن يعني: أملهن إليك، يعني: هات أربعة أنواع من الطيور وضمهن إليك، ولماذا سأل الله سبحانه وتعالى أن يضمهن إليه؟ لأنه إذا ضم هذه الأنواع من الطيور سواء كانت الغراب والنسر مثلاً أو غيرها من الأنواع التي ذكرها بعض العلماء، والمهم هي: أربعة أنواع مختلفة يضمها إليه حتى تكون قريبة جداً من عينه وحسه، ويضمها إليه فيراها فيتأملها، ويعرف أشكالها وهيئاتها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ليعرف أنها هي التي أحياها الله سبحانه وتعالى بعد موتها، ولا يتوهم أنها غير تلك، ويعرف هذه الطيور بعلاماتها وبأسمائها، وبأشكالها وبأحجامها، وأمره أن يضمهن إليه حتى يتيقن صفاتها، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17]، لماذا؟ حتى يكون على يقين أنها نفس العصا التي قال فيها: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18]، ويؤكد له أنها نفس العصا، بحيث إذا رأيتها انقلبت حية آمنت بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قلبها حية، وأعادها مرة أخرى بقدرته تبارك وتعالى؛ فكذلك هنا قال: (( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ )) يعني: أملهن إليك، وقطعهن بعدما تتحقق منهن وتضمهن إليك، فصِّل الرءوس وخلِّط اللحم بالعظام بالعصب بالريش، يعني: صارت كتلة مسحوقة من اللحم والدم والعصب والعظام، فقد قطعها إرباً، وخلط بعضها ببعض ومزجها في كتلة واحدة. ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا [البقرة:260]، ثم اجعل على كل جبل من جبال أرضك: مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ، ثم ادعهن إليك، بعد أن تضع كل جزء على جبل من الجبال نادي هذه الطيور بأسمائها، فتحيا بإذن الله (( يَأْتِينَكَ سَعْيًا )) أي: يأتينك مسرعات. وقوله تبارك وتعالى هنا: (( ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ))، في الأصل أن الطيور تطير، فما هي الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى عبر عنها هنا بالسعي؟ لأنها لو كانت تطير في الهواء، فقد لا يستطيع التحقق من صفاتها التي تثبت منها من قبل لما ضمهن إليه وتأمل في صفاتهن؛ ولذلك قال: (( ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ))، ولم يقل: طيراناً؛ لأنها إذا كانت ساعية كان ذلك أثبت لنظره عليها من أن تكون طائرة، ويستطيع أن يتحقق من صفاتها وهي تمشي على الأرض أكثر من أن يتحقق منها وهي تطير في السماء. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء، حَكِيمٌ في صنعه، فأخذ طاووساً ونسراً وغراباً وديكاً، وفعل بهن ما ذكر، وأمسك رءوسهن عنده ودعاهن: فتطايرت الأجزاء إلى بعضها حتى تكاملت، حتى جاء في بعض كتب التفسير: أنه كان يمسك -مثلاً- رأس النسر وينادي الطاووس، فيأتي جسم الطاووس عند الرأس، فإذا قرب له رأس النسر اقترب إليه! والله سبحانه وتعالى أعلم.

أدلة البعث والنشور

قبل أن أتجاوز هذه الآية أشير إشارة سريعة إلى أن أدلة البعث والنشور قد تكاثرت جداً في القرآن الكريم، وسبق أن ذكرناها ودرسناها بالتفصيل في كتاب (الإيمان باليوم الآخر) للدكتور عمر الأشقر حفظه الله في الجزء الثاني في صفات اليوم الآخر وهو القيامة الكبرى، فنعيد تذكرتكم بالعناوين فقط دون الأمثلة. أولاً: من أدلة البعث والنشور إخبار العليم الخبير بوقوعه يوم القيامة، وهذا له صور شتى. ثانياً: الاستدلال على النشأة الأخرى بالنشأة الأولى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]. ثالثاً: الاستدلال بأن القادر على خلق الأعظم قادر على خلق ما دونه. رابعاً: الاستدلال بقدرته تعالى على تحويل الخلق من حال إلى حال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]. خامساً: إحياء بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، مثل: قوم موسى عليه السلام، وهذه القصص أكثر ما تكون في سورة البقرة: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:55-56]، فهذا بعث ونشور بعد الموت. وكذلك قوله تبارك وتعالى في قصة البقرة: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:73]، وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]. وقوله تعالى: (( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا )). وقوله تعالى هنا حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى )). سادساً: ضربه المثل بإحياء الأرض بالنبات بعد موتها، فالذي قدر على أن يحيي الأرض بعد موتها قادر على بعث الناس ونشورهم. سابعاً: ما ذكرناه من أن حكمة الله تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، ولا يمكن أبداً أن تكون من حكمة الله عز وجل أن تنتهي الدنيا بهذه الصورة، نجد المظلوم قد ظلم الناس وأخذ حقوقهم، وآذاهم وعذبهم واضطهدهم ثم يموت الظالم والمظلوم، فالحكمة تقتضي أن هذه ليست النهاية، بل لا بد من يوم آخر ينتصف فيه المظلوم من ظالمه، ويعاد الحق إلى صاحبه.

جمهور العلماء على أن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً قط في إحياء الموتى، ما شك إبراهيم عليه السلام، ولا ينبغي له أن يشك، وإذا كان الأنبياء معصومين من كبائر الذنوب ومن صغائر الذنوب، فكيف يجوز على الأنبياء الشك؟ وكيف يظن أن نبياً من الأنبياء يشك في الله سبحانه وتعالى؟! فجمهور العلماء أنه لم يشك قط في إحياء الله سبحانه وتعالى للموتى، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من استشراف وحب رؤية ما أخبرت عنه؛ لهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت) رواه أحمد والحاكم وغيرهما، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي ، وصححه أيضاً الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى. فهنا تأكيد لهذه القاعدة أنه: ليس الخبر كالمعاينة، يقول الله تبارك وتعالى عن حال أهل الكهف: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [الكهف:18]، لكن لماذا لم يول صلى الله عليه وسلم فراراً، ولم يمتلئ رعباً من هذا؟ لأن الخبر ليس كالمعاينة، فالله سبحانه وتعالى وصف له حالهم وهم رقود في الكهف، ثم قال: لو زدت إلى ذلك السماع والإخبار المعاينة بالبصر؛ لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً، فهذا يؤكد أنه ليس الخبر كالمعاينة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فيه نفي الشك تماماً عن إبراهيم عليه السلام؛ لأن الشك هو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، بحيث لا تملك أن ترجح أحدهما على الآخر، فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) معناه: أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أولى وأحق بالشك، ونحن لا نشك، فإبراهيم أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، هذا هو المعنى المقصود، ومن شروط الإيمان: اليقين المنافي للشك والريبة، فأي تردد في قضايا الإيمان يحبط الإيمان كله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، لكن إذا آمنوا ثم ارتابوا فهذا يحبط الإيمان؛ فلذلك الشك يتنزه عنه المؤمن، فمقصود الحديث: لو كان إبراهيم قد شك، فنحن أولى منه بالشك، فبما أننا لا نشك فإبراهيم عليه السلام أولى وأحرى ألا يشك، ولا يجوز الشك على الأنبياء، هذا وهو خليل الرحمن سبحانه وتعالى، وهو إبراهيم عليه السلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42]، وقال أيضاً لما حكى عن إبليس: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40]، وإذا لم تكن لإبليس عليهم سلطنة، فكيف يشككهم؟ وإنما أراد إبراهيم عليه السلام أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين، والسؤال: كان عن كيفية الإحياء، والسؤال بكيف هو للسؤال عن الحال. ونظير هذا السؤال: أن يقول القائل: كيف يحكم زيدٌ في الناس؟ فهل يفهم من هذا السؤال أنه يشك في أنه يحكم؟ لا يشك بأنه يحكم؛ لأن هذا مقر أن زيداً إذا كان حاكماً أو قاضياً فهو يحكم؛ لكن السؤال هنا هو عن كيفية الحكم، فهل هو حال الحكم يعدل أم يجور؟ كيف حكمه في الناس وكيف سيرته؟ فالمقصود ليس الشك في أنه يحكم، ولكن المقصود هو السؤال عن حاله من العدل والإنصاف وغير ذلك، فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه لا ثبوته. قد يتلاعب الوهم ببعض الخواطر، فيطرق إلى إبراهيم شكاً من هذه الآية، فأتى هذا الحديث وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)؛ ليقطع به صلى الله عليه وسلم دابر هذا الواهم، يعني: ونحن لم نشك، فلئلا يشك إبراهيم عليه السلام أحرى وأولى. وسؤال إبراهيم عليه السلام إنما كان عن كيفية الإحياء: (( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ))، ولا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فإنما هو طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، يعني: أنت مطالب بأن تؤمن بالبعث والنشور والإحياء، لكنك غير مطالب بأن تؤمن بكيفية البعث والنشور، وكيفية هذا الإحياء، وهذا من السؤال عما ليس بشرط أو ما لا يتوقف الإيمان على علمه.

سؤال: إذا كان سؤال إبراهيم هو عن كيفية الإحياء، والعلم بكيفية الإحياء ليس من واجبات الإيمان، وليس من شروط صحة الإيمان، فهو سؤال ما لا يتوقف الإيمان على علمه، فلماذا قال الله تبارك وتعالى: (( أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ))؟ الجواب: لما كانت هذه الصيغة (كيف) تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفية، لكنها قد تستعمل في الاستعجاز أيضاً، مثاله: لو أن رجلاً أتى يدعي أنه يستطيع أن يحمل الجبل فوق رأسه، فتقول له أنت: أرني كيف تحمل الجبل؟ فكيف هنا المقصود بها الاستعجاز، أو يدعي مدع أنه يحمل ثقلاً من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله، فتقول له: أرني كيف تحمل هذا؟ فالصيغة في الأصل ظاهرة في السؤال عن الكيفية، لكن لما كانت قد تستعمل في السؤال للاستعجاز، ولما كانت هذه الصيغة قد يعرض لها هذا الاستعمال، وقد أحاط علم الله تبارك وتعالى بأن إبراهيم عليه السلام مبرأ عن أن يسأل استعجازاً والعياذ بالله؛ فلذلك أراد الله سبحانه بقوله: (( أَوَلَمْ تُؤْمِنْ )) أن ينطق إبراهيم بقوله: (بلى) وأنه مؤمن، وأن هذا ليس شكاً منه عليه السلام، وليس استعجازاً، فهو سأله حتى يأتي بهذا الجواب، فيبعد وينفي الشك عن إبراهيم عليه السلام كلما تليت هذه الآية إلى أن يرفع القرآن. قال : (أولم تؤمن)؟ قال: (بلى) يعني: آمنت، أنا مؤمن بلا شك بالبعث وبالنشور والإحياء، وبهذا يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى، وليكون إيمانه مخلصاً نص عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهماً لا يلحقه فيه شك.

سؤال آخر: ما موقع قوله تبارك وتعالى: (( قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )) فهل كان القلب غير مطمئن؟ الجواب: أنه قال ذلك ويريد به: ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الإحياء؛ لأني إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد (ليطمئن قلبي) حينما أرى، فلا أظل أتخيل كيف يحصل هذا الإحياء؟ ويشير السيوطي رحمه الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله رحمه الله تعالى: (وإذ) يعني: واذكر: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ يعني: قال تعالى له: أولم تؤمن بقدرتي على الإحياء؟ سأله مع علمه بإيمانه بذلك، ليجيبه عما سأله فيعلم السامعون غرضه، (قال بلى)، آمنت، (ولكن) سألتك (ليطمئن) أي: يدخل بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال، وكي لا أسرح وأحوم في التخيلات عن كيفية ذلك الإحياء؛ لأنني إذا رأيتها استقر قلبي إلى كيفيتها حينما أراها معاينة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع