خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60516"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
رفقاً أيها المربي
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن التربية الإسلامية ربانية المصدر، عالمية الشمول، ثابتة الأصول، مرنة التطبيق، تشمل ميادين الحياة الدنيا وكذلك الحياة الآخرة في توازن واعتدال، فهي تُعد الإنسان لعبادة الله تبارك وتعالى حق عبادته، وعمارة الأرض وخلافتها، وفق منهج رضيه الله لعباده، واختاره لهم، تلك التربية التي تؤصل العقيدة في النفوس، وترسخ الإيمان في القلوب، وتحبب شرع الله عز وجل إلى عباد الله. إلا أن الأمة الإسلامية لما بدأت تتطفل على غير المصادر الإسلامية، أو تطلب الخير من غير ما أنزل الله سبحانه وتعالى، وابتعدت عما أوحاه الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ انهمكت في تقليد ومحاكاة الأمم الكافرة، فبقدر ما عبت ونهلت من هذه المنابع الأجنبية بقدر ما حصل من الخلل في التربية الإسلامية، والفكر التربوي الإسلامي.
وهذا الأمر انعكس بلا شك في العمليات التربوية، ونرى آثاره واضحة في بعض المؤسسات التربوية في العلاقة بين المعلمين والمتعلمين، حيث نرى عدم التوافق وعدم الانسجام، نرى عدم الاحترام، نرى أن الصغير لا يحترم الكبير، وأن الكبير لا يرفق ولا يرحم الصغير، فصارت التربية في مجتمعنا -خاصة في هذا الزمان- تسير باتجاه مخالف لذلك الاتجاه الذي كان عليه سلف الأمة الصالحون، فالتربية صارت عديمة الجذور، تنزوي بسرعة، وتجتاحها أخف الرياح وأقل الأمطار، مثل البناء المقام على أرضية رخوة ينهار لأدنى عامل مضاد؛ وذلك لأن المناهج التربوية الغربية في قسم كبير منها غير موصولة بخالق هذا الإنسان الذي قال سبحانه وتعالى عنه: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الإنسان، وهو الذي يعلم ما يصلحه وما يفسده كي يجتنبه، فإذا طالعنا الصحف كم نرى من الأخبار المؤذية والسيئة التي تعكس انهيار الجانب التربوي في المجتمع.. حوادث مؤسفة يصل فيها الأمر إلى اعتداء الابن على أبويه، أو قتل الأب لابنه، أو مدرس يضربه التلاميذ... إلخ، ونحو ذلك من الحوادث الأليمة المؤسفة، وما ذاك إلا لبعدنا عن هدي منهجه صلى الله عليه وسلم الذي هو خير الهدي، وبسبب بعدنا عن الاستفادة منه في معالجة تجاوزات الطلاب.
مبدأ الثواب والعقاب مبدأ أساسي جداً، ومبدأ في غاية الأهمية، ولا يمكن أن تتم أي تربية بغير الثواب والعقاب، أو بغير الترغيب والترهيب، لكن بعض الناس يسيء فهم بعض النصوص، خاصة مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (واضربوهم عليها لعشر سنين)، فيتصرف في تطبيق هذا الحديث، فنجد الضرب منذ الثلاث سنوات والأربع، وعلى أمور في غاية البساطة، إن أهم أمر في الدين بعد التوحيد هو الصلاة، فإذا كان لا يضرب على الصلاة حتى سن العاشرة، فما بالك بما دون الصلاة؟! وما بالك بدون ذلك السن بكثير؟! فنجد الضرب أول وسيلة، ولا يشعر الأب أو المربي بالتقصير لأنه يستند إلى فهمه المنحرف لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم!
الرفق في العملية التربوية مفيد جداً لكثير من الناس، سواء في المساجد أو المنازل أو المدارس؛ ولذلك فإن المربي لا يمكن أن يندم أبداً إذا ترك الرفق بخلاف ما إذا سلك طرقاً أخرى، فكثيراً ما يندم بسبب عواقبها السيئة.
إننا نشبه موضوع الرفق مع المربي بحزام الأمان في السيارة، فسائق السيارة يحزم به نفسه حتى إذا ما اصطدمت السيارة فجأة بشيء أو وقع حادث مفاجئ، فإنه لا يخرج منها بدافع القصور الذاتي، وإذا وقفت السيارة بسبب صدمة شديدة فالمفروض أن الجزء الأعلى من السائق ينصدم في الزجاج، كما يحدث في الحوادث المعروفة، فأخذ هذا الإجراء الوقائي مطلوب، حتى إذا ما حصل حادث مفاجئ فإن الحزام من طبيعته أنه يحجز الإنسان عن الاندفاع للأمام، وتجد أن هذا الحزام إذا سحبته برفق فإنه يسير معك، أما إذا سحبته بشدة فإنه يعاند ويشاكس ولا يتحرك، وهكذا إذا أردت ثمرة جيدة للتربية فلا تعدل عن الرفق أبداً، ولا تستبدل به أي وسيلة أخرى.
الرفق هو البداية وهو الأصل، فلذلك تجد الطفل -في الغالب- تكسبه إذا رفقت به، أما الشدة فإنها تستخرج منه العناد استخراجاً، وتوجد كثيراً من الآثار السلبية فيما بعد.
إن القفز من التدرج المعروف في العلمية التربوية أو التوجيهية إلى عملية المعاقبة والضرب أو العنف هو اعتراف بالفشل، ولذلك نجد الكاتب سلمان العمري له مقالة في المجلة العربية عنوانها: العقاب البدني، هل هو أبغض الحلال إلى المربين؟ عنوان يحمل معان جميلة جداً في الحقيقة، فالطلاق حلال، ويباح في كثير من الأحوال، لكن هل معنى ذلك أن أي مشكلة يواجهها الزوج مع زوجته يفزع إلى الطلاق؟!
الطلاق حلال، لكن هل يفزع إليه كأول حل؟
لا، آخر العلاج الكي والبتر، لكن لا بد أن يواجه الإنسان المشاكل بطريقة متدرجة، حتى الضرب الذي ورد في القرآن له عملية تدرج وشروط وضوابط.. إلى آخره.
فما بال بعض الناس يقصدون مباشرة إلى العنف والشدة مع ما لذلك من آثار جسيمة وخطيرة تنعكس على الأسرة والأبناء؟!
يقول أحد الباحثين: إن لجوء الوالد أو المدرس إلى العقاب يعتبر اعترافاً بالهزيمة، لماذا يلجأ إليها فوراً من أول خطوة؟ لأنه في الحقيقة ينسى أن العقاب هو عملية تربوية، فيحول العملية التربوية إلى عملية انتقام وتشفي، وإهدار للقاعدة التي دائماً نكررها: (طفلك ليس أنت). معظم الأخطاء التربوية التي تحصل، وكثرة النقد والعنف والشدة التي تنشأ، هي بسبب أنه يجعل عقله مثل عقل الطفل سواء بسواء، ويوازي خبرته بخبرة الطفل، وفهمه بفهمه، وكأنهما أمام ند، لو أنه تفكر قليلاً سيجد أنه ليس نداً! هذا المسكين هو طفل صغير وليس شخصاً كبيراً، حتى لا يوجد هناك تكافؤ عضلي أو جسدي، فهل من المروءة والقوة أن تضرب طفلاً أو تلميذاً بهذا العنف لأنك أكبر منه؟! ولذلك تجد الطالب المراهق إذا عومل بهذه المعاملة، وعنده عضلات وهو قوي، ربما يضرب المدرس؛ لأنه يجد لديه إحساساً بالكفاءة، وأن له القدرة على ضربه، أما الطفل المسكين فماذا يعمل؟ وكيف يدافع عن نفسه؟
وهكذا رجل يضرب امرأة، فهل هذه مروءة؟!
عندما يضرب إنسان امرأة بغاية العنف وغاية القسوة، كأنه يصارع ملاكماً؛ هذه دناءة وخفة عقل وقلة مروءة، لماذا تستعرض عضلاتك على امرأة؟! هل هذا هو الضرب الذي ورد ذكره في القرآن؟!
هذه قضية ناقشناها من قبل بالتفصيل، وإذا كانت هناك فرصة ناقشناها أيضاً، وهذه قضية مهمة، وينبغي أن نفهم هذا الموضوع بطريقة صحيحة، لكن لا يمكن أن الشرع يبيح أن تضرب المرأة ضرب غرائب الإبل، أو ضرب العبيد، بهذه الطريقة التي يتصورها بعض الناس.
فالشاهد أن العقاب عند بعضهم يتحول من عملية تربوية إلى عملية تشفي، صدره يغلي من خطأ ارتكبه هذا الطفل، أو هذا الصبي، فيفزع إلى الضرب وهو في غاية العصبية لأجل الضرب وليس التربية، هدفه أن يشفي غليله، ويطفئ نار الثورة في قلبه، فيظل يضرب إلى أن تهدأ ناره، ويهدأ هو؛ فيطلق هذه الشحنة في جسد هذا الصبي بالضرب والتعذيب الذي يحصل!
وبالتالي يمكن أن يكسر له عظماً، أو يسبب له العمى كبعض الحوادث، أو يكسر له بعض أطرافه كيداه كما حصل في حوادث كثيرة جداً نتيجة إيذاء الأطفال، وبسبب أن الهدف ليس الهدف التربوي، هو لا يضرب لمصلحة الطفل، ولكنه يضرب لكي يشفي غليله. الشرع الشريف يمنع المربي أن يعاقب بالضرب وهو غضبان، وهذا أهم شرط: أنه لا بد أن يكون المربي في غاية الاتزان والرزانة والهدوء بحيث يوقن أن الطفل سوف ينتفع بالعقاب، وأن الهدف هو معالجته ومداواته، وتحسين خلقه أو أدائه، ليس الهدف الانتقام، هناك فرق كبير، فلا نحتج بالنصوص الشرعية ونحن منحرفون عن الشرع في تطبيق هذا الأمر؛ لذلك كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه وتوقف ثلاثة أيام، إلى أن تهدأ أعصابه ثم يصدر الحكم عليه وهو خال من الغضب والثورة، وحتى يضمن أن عنصر التشفي وشفاء الغليل غير موجود عند إصداره هذا الحكم.
فلماذا نفزع إلى اختصار الطريق بالضرب؟
لأننا نفشل في الأساليب الحقيقية في مواجهة المشاكل، ولا نسلك المسالك التربوية الصحيحة؛ لذلك يقول بعض الباحثين في بحث بعنوان: (الحب أولى من العقاب): إنك تستطيع أن تعالج اعوجاج الطفل بالمحبة والعطف والحنان، ويأتيك بثمار أعظم بكثير جداً مما تتوقعه من العقاب الذي ربما يأتي بأضرار كثيرة يقول: إن لجوء الوالد أو المدرس إلى العقاب يعتبر اعترافاً بالهزيمة، مؤداه: أنه لم يتمكن من تحقيق أغراضه باستعماله أي وسيلة أخرى، أي: أنه عجز عن توجيهه وجهة حسنة، أو معاونته على تنفيذ ما يتوقع منه بأي طريقة أخرى.
لذلك فإن استخدام العقاب ما هو إلا مبرر للفشل، وعدم وجود ما يقوم مقامه لدى المربي معناه: أن جعبة هذا المربي خاوية، وليس عنده علم، ولا خبرة، ولا حكمة، لا بشرع، ولا بآداب شرعية، ولا حتى بآداب تربوية يتفق عليها العقلاء أجمعون؛ ولذلك لجأ إلى آخر وسيلة وهي العنف والشدة؛ لأنه عاجز عن أن يستخدم الوسائل التربوية الأصلية.
يوضح بعض المربين أن استخدام العقاب له آثار خطيرة في نفسية الطالب فيقول: ولا يمكن أن يؤدي معه هذا العقاب إلى نتيجة ما.
هذه هي طريقة العقاب التي يسلكها بعض المربين أو المدرسين، وكان فيما مضى -للأسف الشديد- يستعملها محفظو القرآن الكريم، ونسمع عن بعض المشايخ أنه كان يضرب بعنف، وبعض المشايخ الكبار عندما يقصون علينا مثل هذه الذكريات يقول: ربنا لطف، وكانت سليمة! ثم يأتي الأب ويقول: نحن تربينا بالطريقة هذه، وكنا على خير خلق. هذا خطأ كبير، لطف الله سبحانه وتعالى أن نجى ابنك من عواقب هذا الأمر، أو أنك نجوت منه، وليس معنى أنك تعرضت لنفس الأسلوب من آبائك أنه أسلوب صحيح. وهذه من أخطر المزالق في الناحية التربوية: أن الإنسان دائماً يقدس ما كان عليه الأبوان، بما أن أبي رباني بهذه الطريقة لا بد أن تكون هذه هي أفضل طريقة على الإطلاق؛ فيكررها مع أبنائه!
فالشاهد أن الكثير من المشايخ في تحفيظ القرآن كان يضرب ضرباً شديداً، ويحكي بعضهم كيف ضربه الشيخ حتى سال الدم على وجهه وثيابه؛ لأن الشيخ ضربه بعصا غليظة على رأسه، ويفخر بوسام شرف موجود في رأسه من أثر هذا الضرب!
وهناك أناس من ضحايا هذا الأسلوب التربوي الذين اتجهوا بعد ذلك الاتجاه العلماني، وكتبوا عن هذه الذكريات الأليمة، وأنها كانت السبب في انحرافهم، مثل: طه حسين، حتى سيد قطب رحمه الله كان في (كُتّاب) في القرية، وحكى عن نفسه بنفس طريقة طه حسين، وذلك قبل أن يتجه الاتجاه إسلامي، فكان يحكي الذكريات، وما كان يفعله الشيخ، ويتندر من تصرفات بعض المحفظين فيما مضى.
وأنا أركز على هذه الوقفة لأني أسمع أن بعض المحفظين ما زال يستعمل نفس الأساليب مع بعض الأطفال، وأطفال اليوم في حاجة إلى معاملة دقيقة جداً؛ لأنهم يختلفون اختلافاً شديداً عن الأجيال الماضية.
يقول بعض الباحثين: ولا يمكن أن يؤدي معه هذا العقاب إلى نتيجة ما؛ سوى أن يجعله يحقد على المدرسة، ويتمرد على أهله في سبيل الحضور إليها، ويكره الذهاب إلى المدرسة، وهذه نراها بالذات في الأطفال الصغار في سن الحضانة أو بعدها بقليل، لا يريد أن يذهب إلى المدرسة، ويعاند، وفي كل يوم يصنع مشكلة كبيرة من أجل ألا يذهب إليها؛ وعندما تبحث في الأسباب تجد أن مدرساً يسيء معاملته أو يضربه أو يهينه... إلى آخره؛ فيكره الذهاب إلى المدرسة، وهذا بلا شك مما يحطم مستقبله، ويؤدي به في النهاية إلى حياة التشرد، فهذا خلل في التربية، ويسبب أن الأم تحرم من أعز ما تملك من طاقتها؛ لأن عزتها مرهونة بتربية أبنائها التربية السليمة.
فركنا العملية التعليمة هما: المربي والمربى، المدرس والتلميذ، الأب والابن، أو الأم والابن، فإذا ساءت العلاقة بين الركنين الأساسيين في العملية التربوية فإن هذا بلا شك سوف يحدث لها الفتور والتوتر والتمزق؛ فبالتالي تنتهي العملية التربوية.
الآن الطلبة في المدارس الثانوية -لما زال الاحترام بين المدرس والطالب- نسمع عنهم أشياء تشيب لها الرءوس، ويشيب لها الشعر مما يفعله الطلبة مع المدرسين، وأحياناً يكون المدرس هو المسئول؛ لأنه لم يجعله يحترمه، نتيجة عدد من التصرفات المعروفة، في الأجيال الماضية التلميذ كان إذا رأى المدرس في الشارع يجري حتى لا يجتمع معه في الشارع، أو يهرب أو يدخل في بيت إلى أن يمر المدرس.
الآن الله المستعان! نسمع أشياء لا تكاد تصدق أنه وصل التدهور في العلاقة بين هذين الركنين الأساسين في العملية التربوية إلى هذا المستوى.
فمن أسوأ آثار العنف: الهروب من المدرسة أو التغيب عنها، ومن الممكن أن تكون هناك صدمات نفسية للأطفال تسبب لهم عقداً في حياتهم، أو بسبب حدوث مصادمات مع المدرسين.
أيضاً: إذلال الطفل وإحساسه بالذل والهوان والحقارة، وتعريض شخصيته لكثير من الانحراف الخطير، والاضطراب الأليم، فالعقوبة البدنية بالصورة التي تحصل لا تجدي شيئاً، وتضر بالطالب، وتكون النتيجة بغض الطالب لمعلمه، ولو بغير إرادته وشعوره.
يمكن ألا يعبر صراحة عن هذا البغض، إلا أنه يظهره في صورة مقاومة التعليم وكراهية المدرسة، وبالتالي تنهدم علاقة الثقة والمحبة التي ينبغي أن تكون بين المعلم وبين طلابه، فالعقاب يؤدي إلى أن الطالب يشعر بفقدان الأمن.
أعرف بعض المدرسين كان مميزاً جداً، كان يأتي إلى الطالب وهو يبتسم، وبمنتهى الهدوء، وفجأة يصفعه صفعة شديدة على وجهه إلى أن يسقط على الأرض من هذه الصفعة! ويصبح حينها كل طالب متوتر يرى أنه سيفاجئ بنفس العمل في المرة القادمة، لأن هذا السلوك فيه من العدوان ما يذهب الشعور بالأمان، فيتكون عند من حضر عدم الأمن وكراهية الآخرين، وينمو فيه شعور بالمقاومة والكذب والمخاوف.. إلى غير ذلك من العادات الذميمة. فالجو المشحون دائماً بالانفعال والتوتر له أسوأ الأثر على الشخصية في سنوات الطفولة والمراهقة؛ لأن هذه المرحلة في غاية الحساسية.
المرحلة التي يوضع فيها أساس الشخصية من سن الطفولة الباكرة إلى سن الثامنة عشرة تقريباً، وبعدها يصعب جداً أي تعديل إلا إذا شاء الله، لكن هذه هي فترة التكوين، بعض الناس يقول: إن في الخمس السنوات الأولى تكون النسبة العظمى من تكوين الشخصية ووضع أساسها والباقي يكون إلى هذا السن الذي أشرنا إليه، فإذا حصل خلل في هذه الفترة فسيؤدي إلى الاضطراب النفسي والانفعالي والاجتماعي، وممكن أن يؤدي إلى معاناة وليست معاناة على المستوى الفردي بل ممكن أن يكون هذا الشخص عدواً للمجتمع بعد ذلك، أو مضاداً للمجتمع، ويبدأ يؤذي الآخرين بارتكاب الجرائم مثلاً.
من أجمل الأشياء في التربية الإسلامية: أن هذه الأمور تدخل في حيز العبادة، أي: أن المنهج التربوي الإسلامي عبادة، وليس مجرد منهج فكري نظري أو منحنى من المناحي، بل هي عبادة، والإنسان مطالب بأدائها على أكمل وجه كما سنبين ذلك من القرآن الكريم، ومن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول ابن خلدون رحمه الله تعالى في مقدمته: فصل في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم، وذلك أن إرهاق الجسد في التعليم مضر بالتعليم، سيما في أصاغر الولد؛ لأنه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين سطا به القهر، وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له. هذه الخبرة التربوية الموجودة في كتابات المؤلفين من المسلمين، تعكس تؤثرهم بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية، وخبرتهم ودرايتهم بالأساليب التربوية الملائمة في التعامل مع المتعلمين.
وهذا أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى يقول في وظائف المعلم: أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ. وهذا مأخوذ من السنة النبوية الشريفة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يواجه أحداً في وجهه بالنقد المباشر، إنما كان يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟!)، دون أن يحرج الذي فعل هذا الشيء، فهذه من الأساليب التربوية الرائعة، وهي التعريض؛ لأن التوبيخ المباشر يهتك حجاب الهيبة، ولن تبقى هناك هيبة بين المربي وبين الطالب أو الابن، ومتى هتك حجاب الهيبة فسيكون الأثر في المرة الأولى فقط، وبعد ذلك يصبح الولد مثلاً يدخن، وانتهى الموضوع بمرور الصدمة الأولى، ثم يتطور الأمر، ويصبح التدخين أمام أبيه أو نحو ذلك من هذه السلوكيات أمراً عادياً، فدائماً ما أمكن الوصول إليه عن طريق التعريض وعدم التصريح والمواجهة المباشرة كلما كان أفضل وأعون للابن على عدم العناد، وبالذات المراهق؛ لأن المراهق لابد من الحساسية الشديدة في التعامل معه، وأقرب طريق هو الإقناع والحوار، مع الحب والحزم والعطف، فالإقناع والحوار ضروري، ولا تلغي شخصيته، ولا تعامله دائماً على أنه هو الطفل الذي كان بالأمس، لا، هو الآن في مرحلة يريد أن يحقق ذاته، ويعترف له بالرجولة، ولو كانت فتاة فيعترف بأنها صارت ناضجة ولم تعد طفلة، فبالتالي لابد أن تتغير المعاملة، وتواكب المعاملة التغيرات التي تحصل فيه؛ لأنه سينمو غصباً عنك، وسيظل ينمو نفسياً واجتماعياً وعقلياً شئت أم أبيت، فبالتالي لابد أن تتغير المعاملة حتى لا تحصل عواقب غير حميدة.
إذاً: الغزالي يرى أن من وظائف ودقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ؛ لأن التوبيخ المستمر والنقد اللاذع الذي لا يتوقف على كل سلوك وكل تصرف يرشح الصغير بعد ذلك بكثير من الأمراض النفسية الخطيرة، والتي تنشأ غالباً بسبب عائلة نقادة، كل تصرف منه ينتقد ويعلق عليه، ويوبخ، ويحقر، فيكون الحصاد: أن تدفع كل الأسرة الثمن، وتحصل أمراض ليست بالهينة.
إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذه الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه صلى الله عليه وآله وسلم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في كل شيء من الأمور، سيما هذه القضية التي نتناولها، وهي قضية الرفق بمن يربيه الإنسان، وليس هذا فحسب ، بل هذا طريق سلكه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إخوانه الأنبياء والمرسلون، فهذا نوح عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ [الأعراف:59]انظر بماذا بدأ؟ (يَا قَوْمِ)، أصلها: يا قومي، فهو ينتمي إليهم، ويبين لهم أنه منهم، وأنه حريص عليهم ومشفق بهم، يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59] انظر الشفقة! إني أخاف عليكم، وأنت لا تخاف إلا على من تحبه وترجو له الخير، وهذا من رفق نوح عليه السلام في الدعوة؛ حيث خاف عليهم من العذاب الأليم، والشقاء السرمدي.
وكذلك أيضاً نلاحظ موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام كيف واجها أعتى وأشد جبابرة الأرض، وهو فرعون الذي طغى وتجبر حتى وصل به الأمر إلى ادعاء الألوهية، يقول تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38]، وهذه الآية يستدل بها على مسألة من مسائل العقيدة وهي: أن الله فوق خلقه، عالٍ عليهم؛ لأن موسى عليه السلام لابد أنه أخبر فرعون أن الله في السماء، فرد على ذلك بقوله لوزيره: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا) ابن لي بناء عالياً جداً (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) وأنظر، هل موسى صادق أن هناك إلهاً في السماء (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
الشاهد: مع عظم الجرم الذي ارتكبه فرعون، وما واجه به موسى وهارون عليهما السلام، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى أمر موسى وهارون إذا أتيا فرعون أن يخاطباه باللين وأن يترفقا به.
إذاً: الشدة والغلظة سلوك مناف للسلوك الإسلامي القويم، وبعض الناس يظن أن هذا من الحماس للدين، ومن النصرة لله ورسوله، لا، أنت لا تتنازل عن الحق، لكن عامل هذا الإنسان بشفقة وبرحمة كي ينجو من عذاب الله تبارك وتعالى، كالطبيب الذي يعالج الناس بالدواء، والدواء قد يكون في غاية المرارة، لكن يخلط بأشياء حلوة المذاق حتى يستسيغ المريض الدواء وينفعه، ونفس الشيء التلطف في العبارة، مع عدم التنازل عن الحق، يقول الله سبحانه وتعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43-44] هل هناك دليل أعظم من هذا في أهمية الرفق؟!
فرعون الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] والذي فعل ما فعل؛ يرسل الله إليه نبيين كريمين ويقول لهما: (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: فإذا كان موسى عليه السلام أمر بأن يقول لفرعون قولاً ليناً فمن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه وأمره بالمعروف.
يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حصل له الكيد والأذى من أعز الناس وأقربهم إليه، من إخوته، إلى أن وضعوه في البئر، ثم بيع بعد ذلك، وهذا البيع اقترن به نفي إلى مصر، وابتعد عن أبيه، ولحق أباه الحزن الشديد حتى كف بصره عليه السلام، وسجن يوسف عليه السلام بضع سنين، وحصل له الأذى، وكان المتسبب في ذلك إخوته، مع ذلك ضرب أسمى الأمثلة في الإحسان وحسن الخلق، وكمال العفو والصفح، حيث قال لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف:92]لا لوم ولا عتاب، ولا توبيخ، قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92] أي: قال لهم يوسف كرماً وجوداً: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)، أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم؛ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فسمح لهم سماحاً تاماً من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا في نهاية الإحسان الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين.
وجميع الأنبياء إذا استعرضنا سيرهم سوف نجد أن جانب الرفق واللين والرحمة استعملوه بكثرة مع قومهم، وهذا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم يضرب أروع الأمثلة في تربية أصحابه رضي الله تعالى عنهم، يقول الله سبحانه تعالى في وصف رسوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] (فَبِمَا رَحْمَةٍ) أي: رحمة عظيمة لهم كائنة من الله، (لِنْتَ لَهُمْ) أي: كنت معهم لين الجانب، وعاملتهم بالرفق والتلطف، حيث لنت لهم بعدما حصل من مخالفة أمرك، وإسلامك للعدو، وكان هذا في غزوة أحد (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
وقال تعالى في بيان صفات النبي صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، وقال تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعطي الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم الرفق فقد حرم حظه من الخير)؛ فانظر كيف ربط الحصول على الخير بمبدأ الرفق ؛ لأن من أراد الخير فلن يحصل عليه إلا بالرفق، فهذا من مكارم الأخلاق ومن معالي الأمور.
ولذلك بلغ تعظيم أمر الرفق إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به) أي شخص يلي أمر أحد من الأمة سواء كان مدير مدرسة.. مدرساً.. أباً مع أبنائه.. حاكماً مع رعيته.. وهكذا أي إنسان استرعاه الله سبحانه وتعالى على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يرفق بالمسلمين، حتى يدخل تحت دعوته صلى الله عليه وآله وسلم، وينجو من الدعوة عليه على لسان خير البشر صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به).
وعن عمر بن أبي سلمة قال: (كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة -يعني: الإناء، فيديه تتحرك في كل أجزاء الإناء ولا يأكل مما يليه- فقال لي: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، رواه مسلم ، فلم ينهره ولم يعنفه ولم يزجره، بل أمره برفق ولين وعطف مستخدماً أسلوب النداء (يا غلام)، ففيه ألفة وقرب ورحمة مع أنه أخطأ، مع أنه حاد عن آداب المائدة وآداب الطعام، لكن مع ذلك انظر كيف رفق به وعلمه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بوب الإمام مسلم رحمه الله تعالى فقال: باب: جواز قوله لغير ابنه: يا بني. واستحبابه للملاطفة، يجوز للإنسان أن يقول لمن ليس ابناً له من صلبه. يا بني. تلطفاً به وتودداً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بني)وهذا هو الشاهد، وقال النووي رحمه الله: في هذين الحديثين جواز قول الإنسان لغير ابنه ممن هو أصغر منه سناً منه: يا بُني ويا ولدي. وهذا معناه: التلطف كأنه عندك بمنزلة ولدك في الشفقة، ويقول لمن هو في مثل سن المتكلم: يا أخي! وهذا نوع من التلطف والتودد لنفس هذا المعنى.
نذكر قصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام أصحابه ظناً منه أن أرض المسجد مثل أرض الصحراء والفلاة التي عاش فيها، ويعمل فيها ما يشاء، فبال في المسجد، فقام عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليزجروه ويمنعوه، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم نهاهم ومنعهم وقال: (لا تزرموه) أي: لا تقطعوا عليه هذا الذي يفعله، وحال بينهم وبين أذية هذا الأعرابي، وتركه حتى فرغ من قضاء حاجته في المسجد، وعالج الموقف الطارئ بأحسن علاج وأكمل منهج كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
كذلك ضاقت عليه صلى الله عليه وسلم مكة بأوديتها وسهولها وجبالها؛ بسبب سفهاء قريش الذين أسرفوا في إيذائه والصد عن دعوته، ولم يجد بداً إلا أن يخرج إلى الطائف لعله يجد من ينصره؛ لكي يبلغ رسالة ربه، ويجد المؤازرة والدفاع، فلم يظفر بشيء من هذا، بل وجد الأذى والتهكم والطرد بالحصى والحجارة، حتى دميت عقباه صلى الله عليه وسلم، وتلطخت نعلاه بالدم، وسال دمه الزكي على أرض الطائف صلى الله عليه وآله وسلم، لقي كل هذا من سفهاء الطائف وعبيدهم وغلمانهم وأطفالهم، ثم غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف وهو مهموم النفس مكلوم الفؤاد؛ فلم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب، وهو ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة، فرفع رأسه فإذا هو بسحابة قد أظلتهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (فنظرت فإذا فيها جبريل، قال: فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد! إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) الأخشبان جبلا مكة: أبو قبيس والذي يقابله، ولو أطبقا عليهم لهلك أهل مكة أجمعون (قال: يا محمد إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً) رواه البخاري ومسلم .
تأمل هنا: هل توجد القدرة على الانتقام أم لا توجد؟ توجد حتى أنه ضامن أن الله سبحانه وتعالى راض عما يفعل؛ لأن الله أجاز له ذلك لما أرسل جبريل وملك الجبال معه، فبلا شك أنه يباح له الانتقام، بعض الناس ينتقم شفاء لغليله، ويعرف أن الانتقام محرم عليه، لكن هنا هو مطمئن تماماً أنه لا وزر عليه أبداً في الانتقام، وقادر على الانتقام، وأمره لا يرد؛ لأنه من الله سبحانه وتعالى بتسخير الملائكة، كان يقدر أن يرد اعتباره عن هذه الأذية التي تعرض لها من العبيد والغلمان في الطائف والأشراف حتى ضربوه بالحجارة حتى دميت قدماه، وأصابه ما أصابه صلى الله عليه وسلم، فالأسباب والدوافع للانتقام موجودة، ووسيلة الانتقام مضمونة تماماً، وهناك حاجة موجودة إلى رد الاعتبار وإلى شفاء الصدر من الكفار، ولكن الرحمة والشفقة في صدر نبي الله صلى الله عليه وسلم للناس عموماً، ورفقه حتى بالذين يعاندونه موجود حتى أنه غلب جانب الانتقام والبطش صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: الأذية موجودة، للنبي عليه الصلاة والسلام وهو من هو، والاستحقاق للانتقام يشتد كلما كان الشخص الذي أخطأت في حقه أشرف وأعظم، فمن في البشرية كلها أشرف وأعظم وأجل من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع وجود كل الدوافع والقدرة على الانتقام إلا أنه آثر جانب الرحمة، وتمنى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده وحده لا شريك له، فبلا شك أن الصغار هم أولى بهذه الرحمة، وأولى بالرفق، وأولى بأن تتحرر من الدافع للانتقام، تتشفى مِن من؟ من ابنك الذي هو فلذة كبدك، تتشفى فيه وتضره أبلغ الضرر، وتؤذيه أشد الأذية!
فلا شك أننا محتاجون إلى إعادة التذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الأنبياء ومن تبعهم في هذه الناحية التربوية؛ لأن أسلوب التشدد والغلو والعنف والتنطع والقسوة كلها أساليب حذرت منها شريعة الإسلام، يقول الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] هذا عموم يدخل فيه أي سلوك نسلكه، ولذلك ورد: (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون قالها ثلاثاً) رواه مسلم، وهم المتعمقون الضالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
وقال عليه الصلاة والسلام أيضا كما رواه البخاري : (إن الدين يسر) لم يقل: إن الدين يسير، لكن جعل الدين هو اليسر، (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)، فأمر باليسر، وأمر بالأخذ بالأسهل والأرفق في الأمور كلها؛ لأن (الرفق -كما قال صلى الله عليه وآله وسلم- لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).
إذاً: المربي المسلم سواء كان مدرساً أو مدرسة أو أباً أو أماً ينبغي أن يكون عطوفاً شفوقاً ودوداً محباً لمن يربيهم، مترفقاً بهم، صبوراً عليهم، متأنياً في تعليمهم، حريصاً على نفعهم، وهو في ذلك يقتدي بأسوته وقدوته الذي كان نموذجاً يحتذى وأسوة يقتدى به في هذا الخلق القويم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان قمة في الرحمة والشفقة والعطف والرفق واللين لأمته.
كانت هذه مقدمة لاستعراض هذا البحث، وهو بحث تربوي، وهو عبارة عن رسالة ماجستير، أعدها الشيخ صالح بن سليمان المطلق البقعاوي بعنوان: مبدأ الرفق في التعامل مع المتعلمين من منظور التربية الإسلامية، وسوف نأخذ بعض المقدمات من الكتاب ثم نكمله إن شاء الله تعالى فيما بعد.
الرفق يتضمن عدة معان، وكل ما فيه مادة رفق فهو يدل على موافقة ومقاربة بلا عنف، فالرفق خلاف العنف، وضد العنف، والرفق لين الجانب، أرفق بي، وترفق، ورفق، وفيه رفق، أي: هو لين الجانب، لطيف القول والفعل، واسترفقته فأرفقني بكذا، يعني: نصحني بكذا، وارتفقت به أي: انتفعت، مثل المرافق، سميت بذلك لأننا ننتفع بها، الارتفاق الانتفاع؛ لأن الرفق يؤدي إلى المنفعة، والرفق ما استعين به، واللطف هو الرفق أيضاً، رفق به وعليه رفقاً ومرفقاً، والرفيق ضد الأخرق، ورفق فلان أي: نفعه، يقال: الله رفيق بعباده، من الرفق والرأفة، فهو فعيل بمعنى فاعل، والرفق لين الجانب وهو خلاف العنف.
إذاً: خلاصة الكلام في تعريف اللغة والمعاني اللغوية لمادة الرفق: أن الرفق نفع الآخرين، والرحمة والرأفة بهم، والأخذ بالأيسر والأسهل، وعدم التشديد ولين الجانب، واللطف بالقول والفعل، والرفق ضد العنف وضد الخرق.
وحينما نطبق معنى الرفق على هذا البحث نقول: إن الرفق بالمتعلم وبالذي نربيه هو: إرادة نفع المتعلم ومعاملته بالسهولة وعدم التشديد عليه في مادة الدراسة وأعمالها، بحيث لا يحمله المربي ما يشق عليه، ويكون رحيماً به، لين الجانب، لطيف القول والفعل معه، ولا يوقع العقوبة عليه ابتداءً، ولا يكون عنيفاً في التأديب بل في حالة وسط بين العنف وبين الضعف متحملاً ما يصدر من المتعلم برحابة صدر وصبر، غير مكترث لعتابه.
ورد في القرآن الكريم لفظ الرفق ومشتقاته في خمس آيات كريمات:
الأولى: قول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] فرفيقاً معناه: صاحباً، لماذا سمي الصاحب رفيقاً؟ لانتفاعك في صحبته؛ وسبق أن الارتفاق: هو الانتفاع؛ لأنك إذا صاحبت هؤلاء تنتفع بصحبتهم، فيسمى الصاحب رفيقاً لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض؛ لأن الصحبة التي تكون رفقة ينفع بعضهم بعضاً.
الثانية: قول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6].
الثالثة: قال تبارك وتعالى: يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16] فمرفقاً يعني: يهيئ لكم ما تنتفعون به، قال المهايمي : يرفق بنفوسكم فيعطيها من لذات عبادته ما ينسيها سائر اللذات، على أن لذاتها لم تخل من أذية، وهذه خالية عن الأذيات كلها.
ولماذا جزموا بهذا الأمر فقالوا: (ينشر لكم)؟ هذا جواب الأمر، يعني: أن العاقبة إن أويتم إلى الكهف وهجرتم الكفرة الوثنيين ستكون هي الرفق؛ فمن أين جاء هذا الجزم؟ جاء من يقينهم وقوة رسوخهم بفضل الله تبارك وتعالى، وأنه لن يضيعهم، ومن قوة وشدة توكلهم على الله سبحانه وتعالى.
إذاً: هذه الآية توضح أحد معاني الرفق: (ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً) المرفق هنا: النفع الذي لا أذية فيه، وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الفتية المؤمنين، (ويهيئ لكم من أمركم) الذي أنتم فيه ما ترتفقون به وتنتفعون بحصوله، فهم لجئوا إلى الكهف فراراً من هؤلاء المشركين الذين قد يجبرونهم على الكفر، فنشر الله لهم من رحمته، ووسع عليهم، وسهل لهم الأمر، وجعل لهم الانتفاع والفائدة من هذا اللجوء إلى الكهف حيث أبعدهم عن أعين الكفار، وسلموا من القتل والبطش والفتنة في الدين.
الرابعة: قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29] (ساءت مرتفقاً) أي: ساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق، وهذا ذم لحالة النار نفسها، أنها ساءت المحل الذي يرتفق به؛ لأنه ليس فيها ارتفاق، وإذا كانت النار بهذه الوصفة، هل فيها ارتفاق أو منفعة؟ لا، (ساءت مرتفقاً) بمعنى: ليس فيها ارتفاق، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق الذي لا يفتر عنهم ساعة، فهذا يجمل ما ورد في الآيات الأخرى من التهكم حيث يقول: (بشر) وكأن البشرى ستكون بخبر عظيم، إلا أنه يفاجأ السامع بأنه عذاب أليم، (وساءت مرتفقاً) يعني: ليس فيها ارتفاق وإنما فيها العذاب العظيم الشاق الذي لا يفتر عنهم ساعة ولا نفع فيها على الإطلاق.
الخامسة والأخيرة: قوله تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:31] فهذه الدار الجليلة، هي نعم الثواب للعاملين، (وحسنت مرتفقاً) أي: يرتفقون بها، ويتمتعون بما فيها مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، من الحبرة والسرور والفرح الدائم واللذات المتواترة والنعم المتوافرة، وهذا بلا شك أحد معاني الرفق.
إذاً: من هذه الآيات القرآنية الخمس يتضح لنا بعض معاني الرفق ومرادفاته:
الآية الأولى هي قوله تعالى: وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] الرفق بمعنى: لين الجانب والصحبة.
الآية الثانية قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] المرافق جمع مرفق، وهو ما يتكئ عليه ويستفاد منه وينتفع به؛ لأن المرافق يتكئ عليها الإنسان، فينتفع بهذا الاتكاء.
الآية الثالثة: يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16]فالمرفق هنا بمعنى: الانتفاع وسهولة الأمر وتأثيره.
أما الآيتان الرابعة والخامسة التي فيها: وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29] وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:31] فالمعنى اختلف بحسب فعل الذم أو المدح، فـ(ساءت مرتفقاً) يعني: ساء المحل والمقام الذي يسكنون فيه، ولا يوجد فيه نفع ولا فائدة، والآخر: (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) المراد حسن التمتع والفائدة وحصول النفع لغيره، وهذا أحد معاني الرفق.
نكتفي بهذا القدر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.