المسلمون ودراسات المستقبل


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعــد:

فنحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي جمعنا في هذا الدرس، ونسأل الله عز وجل بمنه وجوده وكرمه أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يفقهنا في الدين، وأن يجعلنا أئمة للمتقين، إنه سميع مجيب.

الموضوع الذي نريد الحديث عنه في هذا الدرس، موضوع كبير وخطير ومهم لكل من يدعو إلى الله تبارك وتعالى ومن يهمه أمر هذه الأمة ومستقبلها وشأنها، ولن نستطيع -بطبيعة الحال- أن نوفي الموضوع حقه، ولكن نرجو أن نوفق -بإذن الله تعالى- إلى أن نعطي كل أخٍ مسلم فكرة عنه؛ بحيث يكون هذا دافعاً له لمزيد من البحث والتحري والاهتمام، فإن أول ما تظهر الأعمال العظيمة - وكل أمر هذه الأمة يحتاج أعمالاً عظيمة - أول ما يكون ذلك هو الفكر، ثم يأتي الاهتمام ثم يكون العمل، وهذا ما نرجو أن يكون، وما ذلك على الله بعزيز.

إن التطلع إلى المستقبل والتشوق إليه والتشوف إلى معرفته أمر مفطور في النفوس جميعاً، فليس من البشر أحد إلا وهو يتطلع ويشتاق إلى معرفة ماذا سيكون له أو لأمته أو لغيره، وهذا أمر ركبه الله تبارك وتعالى في النفوس، وهو من حكمة الله عز وجل، ولذلك نجد أن الناس تنوعت مصادرهم في هذا -كما سنبين إن شاء الله- أو تحسّر من تحسر على فقده كما كانت عادة العرب، فظهر ذلك في شعر زهير بن أبي سلمى:

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غدٍ عمي

فكلٌ مشتاق إلى ذلك.

علم الغيب يختص بالله

من يطلع على الغيب

فالغيب لله تبارك وتعالى وحده، ولكن فضل الله تبارك وتعالى عظيم؛ فإنه يُطلع بعض رسله ويُطلع بعض أوليائه على شيء مما قد يحدث؛ كما قال الله تبارك وتعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن:26-27].

ومن ذلك المبشرات وهي الرؤى الصالحة، ومن ذلك ما أخبر به الأنبياء مما أطلعهم الله تبارك وتعالى عليه من أمور الغيب مما سيقع، إلا أن هناك أموراً اختص الله تبارك وتعالى بعلمها، فهي من الغيب المطلق الذي لم يُطلع الله تبارك وتعالى عليه أحد، ومن ذلك علم الساعة، ووقت قيامها، فهذه علمها عند الله لا يجليها لوقتها إلا هو تبارك وتعالى، والناس اختلفوا في هذا اختلافاً عظيماً وتباينوا فيه، فإن هذه الحاجة الفطرية في النفوس لمعرفة الغيب دفعت كل أحد إلى أن يسلك طريقاً لمعرفته بحق أو بباطل، فاختلط الحق بالباطل أو الحابل بالنابل -كما يقال- في قديم الدهر وحديثه.

فالغيب لله تبارك وتعالى وحده، ولكن فضل الله تبارك وتعالى عظيم؛ فإنه يُطلع بعض رسله ويُطلع بعض أوليائه على شيء مما قد يحدث؛ كما قال الله تبارك وتعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن:26-27].

ومن ذلك المبشرات وهي الرؤى الصالحة، ومن ذلك ما أخبر به الأنبياء مما أطلعهم الله تبارك وتعالى عليه من أمور الغيب مما سيقع، إلا أن هناك أموراً اختص الله تبارك وتعالى بعلمها، فهي من الغيب المطلق الذي لم يُطلع الله تبارك وتعالى عليه أحد، ومن ذلك علم الساعة، ووقت قيامها، فهذه علمها عند الله لا يجليها لوقتها إلا هو تبارك وتعالى، والناس اختلفوا في هذا اختلافاً عظيماً وتباينوا فيه، فإن هذه الحاجة الفطرية في النفوس لمعرفة الغيب دفعت كل أحد إلى أن يسلك طريقاً لمعرفته بحق أو بباطل، فاختلط الحق بالباطل أو الحابل بالنابل -كما يقال- في قديم الدهر وحديثه.

هذا شأن كل قضية من القضايا الاعتقادية كالإيمان بالله وملائكته والإيمان بالقدر وغيرها من الأمور التي ضلّ فيها الناس واختلفوا، مع أن الحق فيها قائمٌ وواضح والحمد لله؛ ولذلك نستطيع أن نوجز تقسيم مصادر علم الغيب أو معرفة المستقبل الواقع؛ لأنه لا حديث لنا عن الغيب الماضي وعن نشأة الكون وبداية الخلق، فلا شأن لنا بذلك، وإنما الكلام عن المستقبل.

فالناس تنقسم مصادرهم في معرفة هذا إلى ثلاثة مصادر بحسب الحق والباطل الذي فيها:

النوع الأول: المصادر الباطلة

وهي مصادر باطلة قطعاً، وما توصل إليه فهو باطل، فليست مصادر حق، ومن ذلك ما تعودته كثير من الأمم في القديم والحديث من السحر ومعرفة الغيب، أو ادعاء ذلك عن طريق الكهانة والتنجيم والسحر، وعن طريق الأبراج والشعوذة، وعن طريق الخط والرمل الباطل الذي يزعم الدجالون والمشعوذون أن الله تبارك وتعالى علمه لأحد أنبيائه، فذلك من الحق لا شك كما جاء في الحديث لكن ذلك ليس كما يصنعه الدجالون والمشعوذون عن طريق فك الطلاسم، وعن طريق سر الحروف -كما يسمونه- أو السيمياء، وهذه الأنواع موجودة ومشهورة عند أهل الكتاب وغيرهم.

ومن ذلك ما هو موجود في أول تفسير الطبري وأشار إليه ابن كثير رحمه الله في أول التفسير عند قوله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] وذلك أن اليهود قد ظنوا هذه الحروف المقطعة رمزاً لمُلك هذه الأمة، وأنها ستبقى كذا وكذا من الأعوام، قدروها أول الأمر بـ(150 عاماً إلى 400 إلى 700) على اختلافٍ في الروايات واختلافٍ -أيضاً- في دلالة الرموز، لأنها تختلف دلالة الرموز والحروف، وهذه دلالة قديمة موجودة في كتب أهل الكتاب، كون الحروف رموزاً إلى حقائق من علم الغيب -كما يزعمون- موجود عند أهل الكتاب في كتبهم، وهي موروثة عن قدماء الصابئة والأمم السابقة كالبابليين والكلدانيين وأمثالهم من الوثنيين، فإنه كان من جملة طلاسمهم وشعوذتهم وتنجيمهم أنهم كانوا يستخدمون حروف الجمّل، التي تكتب: أبجد هوز حطي كلمن... إلخ ويرمزون لكل حرف برمز، يقولون: إنها تحتوي على أسرار ما كان وما سيكون.

وما من مسلم والحمد لله إلا وهو يعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد}.

ومع ذلك فإن هذا واقع، وأكثر ما يذكر في هذا على سبيل التمثيل الموجز "القبالة اليهودية" التي قد تكتب "كبالة" باعتبار الحروف اللاتينية، هذه الكبالة علم سريّ عند اليهود يعتمد على السحر والطلاسم، ويزعمون أنهم به يكتشفون ما سيقع في المستقبل، ويؤولون رموزاً موجودة في المزامير وفي الأسفار القديمة،مثل: "سفر دانيال" وغيره، وكذلك ورث النصارى هذا العلم أو جزءاً منه، وأضافوا إليه ما أضافوا، مثل: "رؤيا يوحنا" المشهورة، وهي آخر ما يوجد في العهد الجديد أو الأناجيل من الرسائل، وهي موجودة لمن أراد أن يطلع عليها.

المقصود أن هذا العلم -كما يسمونه- من العلم الباطل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد سماه علماً، وإن كان ليس حقاً؛ قال تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] فالمقصود أن هذا كان متفشياً في الأمم قبلنا.

ثم ظهر وتفشى في الأمة الإسلامية -مع الأسف الشديد- وأظهر ذلك الرافضة، عندما ادَّعَوْا أن لديهم كتاب "الجفر" و"الجامعة" وأنه في الجفر يوجد خبر ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة، وأن هذا الجفر منسوب إلى جعفر الصادق، كتب فيه الملاحم إلى قيام الساعة، ويوجد لديهم بعض النسخ إلى الآن في بعض المكتبات، وبعضهم يفك رموزه ويحللها على أنها أحداث معينة وقعت أو ستقع.

ولا شك أن الرافضة والشيعة الذين كان مبتدأ أمرهم -كما تعلمون- فكر عبد الله بن سبأ اليهودي تأثروا جداً باليهود وما عندهم وأخذوا منهم، ومن جملة ما أخذوا منهم هذا الادعاء.

فهم يزعمون أن أهل البيت يعلمون الغيب، وما كان وما سيكون، وأن هذا هو العلم المخفي أو العلم الخاص المضنون به على غير أهله، الذي لا يطلع عليه سواهم، وقد ادعى ذلك -أيضاً- الصوفية؛ فإنهم زعموا أن أولياءهم وكبارهم يعلمون ذلك بطريق كسبي أو كشفي، ومن ذلك ما هو مشهور عن ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما ممن كتبوا في ذلك، وقد عظمت الفتنة بذلك، ومن العجيب أنه في بداية أزمة الخليج الماضية شاعت عند الناس أبيات نسبت إلى ابن عربي.

وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله وقف لهؤلاء جميعاً بالمرصاد، وبيّن باطلهم، وزيّف كلامهم، حتى إنه -رحمه الله- دعاهم إلى المباهلة لأنه واثق وموقن أنهم على باطل، فدعاهم إلى المباهلة فيما يدّعون ويزعمون من أخبار مما يقع في آخر الزمان وفي نهاية أمر هذه الأمة وشأن دولها وملوكها، وهذا موجود في الجزء الرابع من مجموع الفتاوى (ص:82) وما بعدها.. ومثلهم -أيضاً- الرفاعية البطائحية وأشباههم، فانتشر هذا عند الصوفية كما انتشر عند الرافضة، وانتشر هذا عند العامة والخاصة؛ لأنه كما قال ابن خلدون: '' أكثر وأول من يهتم بأخبار المستقبل وقيام الدول وسقوطها هم الملوك والحكام الذين ليسوا على العقيدة الصحيحة؛ فهم يهتمون بأمر ملكهم كم سيبقى؟

وكم سيأتي بعدهم من ملوك؟... إلخ '' لكن الأمر شاع وانتشر حتى أصبح -أيضاً- بين العامة، ومن العجيب لمن يقرأ كلام ابن خلدون رحمه الله عندما يقول -وهذا معنى كلامه بإيجاز-: "إنه يمر كهان أو منجمون جوّالون يتجولون في الأسواق ويستدعون الناس ويقولون لهم: نحن نخبركم بالأحداث التي تهمكم، فيأتيهم الناس يعطونهم النقود ويطلعون -بزعمهم- على ما سيقع لهم".

وهذا الذي أخبر عنه ابن خلدون تفشّى في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وهو في الحقيقة لا يزال إلى الآن متفشياً في أكثر العالم الإسلامي، لا نقول: في البوادي، بل في هذه البلاد منتشر في البوادي ولدى الطبقة الخاصة المثقفة في غير هذه البلاد؛ بل إن هنالك في بعض الدول معاهد أو مدارس تسمى المعاهد الفلكية أو المدارس الفلكية مختصة في هذا النوع من الدجل والشعوذة أو الرجم بالغيب لإفساد عقائد الناس وابتزاز أموالهم!

وهذا لا شك ولا ريب في أنه خدعة شيطانية يريد الشيطان أن يخرج الناس بها عن الاعتقاد الصحيح، وأن يوقعهم في حبائل الشرك والمشركين، ولهذا ينتج عن هذا النوع الذي هو الخرافات والأساطير والشعوذات -أي: النوع الذي هو المصدر الباطل -ينتج عنه فساد العقيدة، وهو أعظم فساد يقع في الأرض.

النوع الثاني: المصادر الظنية

لا نقول: إنها باطلة، ولا نقول: إنها يقينية، وسوف تتضح الفكرة عندما نذكر أنواعها وتفصيلها.

النوع الأول: من المصادر الظنية لمعرفة ما سيقع هو الرؤى والمنامات الحقة، وليست أضغاث أحلام، فهذه الرؤى مبشرات كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يستطيع أحد أن يجزم بأن تأويلها كذا إلا إذا كان بوحي؛ فرؤيا الأنبياء وحي لا شك في ذلك، وكذلك تفسير الأنبياء وحي كما فسر يوسف عليه السلام فتفسيرهم حق، لكن من عداهم مهما كان معبراً أو محدثاً، فإن كلامه يحتمل الخطأ والصواب، ومن هنا فإن هذا يدخل في النوع المظنون، ولكن من الناس من يوفقهم الله تعالى، فيكون تأويله في الغالب صواباً، ومنهم من يكون دون ذلك، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدّل أو صحح تأويل أبي بكر رضي الله عنه، وهو أفضل هذه الأمة بعد رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يكن تأويله مطابقاً (100 %) بالدقة، وهذا دليل على أنه لا يصح ولا يمكن لأحدٍ بعده أن يدعي أن تأويلاته للرؤى صحيحة وسليمة (100 %).

النوع الثاني من المصادر الظنية: هو ما عند أهل الكتاب من أخبار مما لم يأت في ديننا ما يدل على بطلانه، لأن ما عند أهل الكتاب إما أن يأتي في شرعنا وديننا مما يدل على أنه حق وصواب فهو حق، أو يأتي في شرعنا وديننا ما يدل على أنه باطل فهو باطل، والآخر المسكوت عنه الذي لم يأت ما يؤيده ولا ما يبطله، فهذا يظل نوعاً من الظن لا نستطيع أن نجزم ببطلانه، لاحتمال أن يكون من بقايا الحق الذي لديهم، ولكن لا نثبته؛ لأننا نعلم قطعاً أنهم قد حرّفوا وبدّلوا في كتبهم، وجائز أن يكون هذا مما أضافوه وكتبوه، إما بألفاظه، وإما بتأويله، فهذا وارد وهذا وارد، وعلى هذا نقيس كل ما يروى عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما من أخبار الملاحم والفتن التي تكون وتقع في آخر الزمان.

- النوع الثالث من المصادر الظنية: هو الدراسة العلمية التي يمكن أن نسميها "الاستنباط العقلي" أو الاجتهاد بالنظر في سنن الله الكونية، فإن الله تبارك وتعالى جعل سنناً في هذا الكون لقيام الدول ولسقوطها ولحياتها ولنمائها، للأفراد وللصناعات وللتجارة وللاقتصاد.. فلكل أمر من هذه الأمور سنة كونية في حياته وموته، فلله تبارك وتعالى أسرار وحكم ونواميس وسنن جعلها، وبقدر ما يدركها الناس ويعرفونها يستطيعون أن يصلوا إلى الحق، وذلك مثل: ما كتبه ابن خلدون رحمه الله باجتهاده ونظره في أحوال العالم عن قيام الدول والأمم والحضارات وعن سقوطها، وهذا النوع توسع فيه الغربيون -على ما سنشير إليه إن شاء الله- وكتبوا وأفاضوا فيما بعد ذلك، وهذا النوع لا يدخل في الغيب ولا في التنجيم ولا في الكهانة، ولكن -أيضاً- ليس يقينياً وليس بوحي، وإنما هو استنباط من الحق -أي: من الوحي- أو استنباط من الواقع، فيتأملون أحوال الأمم وأسباب انقراض الدول وتدمير الحضارات، فيستنبطون وقد يصلون إلى شيء من الحق والصواب بقدر ما يعطي الله تبارك وتعالى المرء منهم من فهم لكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو فهم في تحليل الواقع -واقع هذه الأمم- وكيف تعيش، وكيف تتدمر.

فهذا -أيضاً- نوع من أنواع المصادر الظنية التي تقبل الخطأ وتقبل الصواب، لكن الغربيين ركزوا وشددوا عليه تشديداً مطلقاً كما سنبين إن شاء الله.

النوع الثالث: المصادر الصحيحة من الكتاب والسنة

المصدر الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن فضل الله عز وجل على هذه الأمة، بل على العالمين أجمعين أن بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فمن هذه الرحمة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر هذه الأمة بما تحتاج إليه مما كان ومما سيكون، فلم يقتصر تعليمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحمته بهذه الأمة -رحمته التي رحم الله بها هذه الأمة- على الإخبار عن الله تبارك وتعالى وعن اليوم الآخر وعن الإيمان والشرائع والأحكام والحلال والحرام؛ بل -أيضاً- أخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كل ما يصلحهم في أمور دنياهم، ومن ذلك إخباره بما كان وما سيكون مما يحتاجون إليه في دينهم أو دنياهم، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك؛ بعضها أخبر به تفصيلاً وبعضها أخبر به إجمالاً أو إشارة، وكل ذلك بحكمة ومقتضى الرحمة، فإن الفتن الضالة المضلة الكبيرة التي تعمي وتصم أخبر عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفصيلاً؛ حتى لا يقع فيها أحد، سواء كانت أحداثاً تقع أو كانت بدعاً.

والأمثلة لا تخفى عليكم، مثلاً: فتنة المسيح الدجال، فصّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القول فيها لعظم شأنه؛ لأنه كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من نبي إلا وقد حذر أمته من فتنته} ففصّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ما تحتاج إليه الأمة: من أين يخرج؟

من الذين يتبعونه؟

ما هي المخاريق التي يأتي بها؟

وكيف تكون نهايته وقتله؟

إلى غير ذلك مما هو معلوم ومما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديث الفتن.

وكذلك أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن فتنة الخوارج؛ لأن الغلو أهلك من كان قبلنا كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الأمة يمكن أن يقع فيها ذلك أيضاً، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـالخوارج وصفاتهم وبفتنتهم، فلما ظهروا كانوا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إن علياً رضي الله تعالى عنه أمر أصحابه بالبحث عن ذي الثدية -تصغير ثدي- فلم يجدوه فقال: والله ما كَذبت وما كُذِبت، فابحثوا عنه، فبحثوا حتى وجدوه في ساقية تحت القتلى فأخرجوه، فإذا في عضده مثل الثدية! فعلموا أنه هو الذي أخبر عنه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وأخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالافتراق والفتن ليحذرهم منها وليلزمهم باتباع السنة، باتباع الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا افتراق عنه، ولا يجوز التفرق فيه، فأخبرهم بذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفصيلاً.

وأخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتفصيل أنهم سيفتحون الأرض المعمورة، وأن الروم سوف يقاتلونهم في آخر الزمان، وقد جاء ذلك -أيضاً- في أحاديث كثيرة مبيناً فيها طبيعة المعركة، والمدن التي تكون فيها، ومكان نزول الروم، وكيف تكون المعركة عند القسطنطينية أو عند روميا، والأحداث المهمة في ذلك الزمان؛ بيّنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -أيضاً- لشدة حاجة الأمة إلى معرفة عداوة الروم لهذا الدين، وأنهم سيظلون العدو اللدود الأبدي؛ لأن الروم -كما لا يخفى عليكم- كان هرقل زعيمهم وملكهم، ولما وفد إليه كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن رأى الرؤيا وأخبر أن ملك الختان قد ظهر وهذا شاهد لما ذكرنا أن علم الغيب يمكن أن يطلع عليه من أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له ذلك لحكمة منه، فرأى رؤيا أزعجته، وعلم أن مَلِك الختان سيظهر، ثم كان لقاؤه بـأبي سفيان رضي الله تعالى عنه، وجرى بينهما ما جرى من الحديث الطويل المشهور الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله واشتمل على عدد عظيم من دلائل النبوة، فمنذ ذلك الحين عندما أبوا الإسلام مع معرفتهم بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، ظلوا العدو الأبدي لهذا الدين فلا يفصل بيننا وبينهم إلا عيسى عليه الصلاة والسلام، وهذا من حكمة الله أنه لا يفصل بيننا وبينهم إلا نزول عيسى عليه السلام؛ لأنه سوف يتبرأ منهم في الدنيا قبل الآخرة، فهو الذي يقتلهم عليه السلام ويقتل خنزيرهم، ويحطم صلبانهم، ويضع الجزية، أي: تنسخ الجزية فلا يقبلها منهم؛ لأنهم الآن وفي كل العصور ينتسبون إليه وباسمه يبيدون المسلمين في كل مكان، ولشدة عداوتهم وعظيم ضررهم فكان من حكمة الله تبارك وتعالى أنه هو الذي يقاتلهم بعد أن يأتي مجدداً ومتبعاً لشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيصلي خلف المهدي، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {وإمامكم منكم} فيصلي عيسى خلف المهدي من هذه الأمة؛ ليعلم الناس جميعاً أن عيسى -عليه السلام- تابع لشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا.

وقد صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أخبر بما كان وما هو كائن خبراً طويلاً عظيماً؛ كما في البخاري ومسلم، ورواه أحمد وغيرهم: {أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب الناس} وفي رواية مسلم: {أنه صلى الفجر ثم خطب الناس حتى جاء وقت الظهر، ثم نزل فصلى ثم خطب الناس حتى جاء وقت العصر، ثم نزل فصلى ثم خطب حتى غابت الشمس، فأخبرهم بما كان وما سيكون} وفي بعض الروايات قال: حتى دخل أهلُ الجنةِ الجنَة، وأهلُ النارِ النارَ} ولهذا قال الصحابة: فأعلمنا أحفظنا، فحفظ منهم من حفظ، وبعضهم لم يحفظ الكل.

والمقصود أن هذا قد أخبر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل ما يحتاجون إليه بالتفصيل ذكره تفصيلاً، وما كان دون ذلك فهو بحسبه، وما على الأمة إلا أن تتحرى وتجتهد في معرفة وتمييز الصحيح من الضعيف أو الموضوع من هذه الأخبار، فتتلقى الصحيح الثابت والحسن بالقبول وتؤمن به، وما عداه فإنها ترده ولا تقبله، وهذا حق، فهذا مصدر يقين وحق؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق عن الهوى، إنما يظل الخلاف -وهو موضع الاجتهاد- في تفسيره.

وهذا له قواعد أحب أن ألفت نظر الإخوة إليها، فلتفسير ما ورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديث الفتن، قواعد علمية لا يجوز للإنسان أن يغفل عنها وأن يفسرها بهواه، وقد ضل كثير من الناس في القديم والحديث عندما فسروا ما جاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فضلاً عن المنامات أو الأحلام- بمقتضى آرائهم أو أهوائهم من غير اعتماد على منهج صحيح من العلم واللغة، أو من كلام العلماء، أو من دلائل الواقع أيضاً.

وهي مصادر باطلة قطعاً، وما توصل إليه فهو باطل، فليست مصادر حق، ومن ذلك ما تعودته كثير من الأمم في القديم والحديث من السحر ومعرفة الغيب، أو ادعاء ذلك عن طريق الكهانة والتنجيم والسحر، وعن طريق الأبراج والشعوذة، وعن طريق الخط والرمل الباطل الذي يزعم الدجالون والمشعوذون أن الله تبارك وتعالى علمه لأحد أنبيائه، فذلك من الحق لا شك كما جاء في الحديث لكن ذلك ليس كما يصنعه الدجالون والمشعوذون عن طريق فك الطلاسم، وعن طريق سر الحروف -كما يسمونه- أو السيمياء، وهذه الأنواع موجودة ومشهورة عند أهل الكتاب وغيرهم.

ومن ذلك ما هو موجود في أول تفسير الطبري وأشار إليه ابن كثير رحمه الله في أول التفسير عند قوله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] وذلك أن اليهود قد ظنوا هذه الحروف المقطعة رمزاً لمُلك هذه الأمة، وأنها ستبقى كذا وكذا من الأعوام، قدروها أول الأمر بـ(150 عاماً إلى 400 إلى 700) على اختلافٍ في الروايات واختلافٍ -أيضاً- في دلالة الرموز، لأنها تختلف دلالة الرموز والحروف، وهذه دلالة قديمة موجودة في كتب أهل الكتاب، كون الحروف رموزاً إلى حقائق من علم الغيب -كما يزعمون- موجود عند أهل الكتاب في كتبهم، وهي موروثة عن قدماء الصابئة والأمم السابقة كالبابليين والكلدانيين وأمثالهم من الوثنيين، فإنه كان من جملة طلاسمهم وشعوذتهم وتنجيمهم أنهم كانوا يستخدمون حروف الجمّل، التي تكتب: أبجد هوز حطي كلمن... إلخ ويرمزون لكل حرف برمز، يقولون: إنها تحتوي على أسرار ما كان وما سيكون.

وما من مسلم والحمد لله إلا وهو يعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد}.

ومع ذلك فإن هذا واقع، وأكثر ما يذكر في هذا على سبيل التمثيل الموجز "القبالة اليهودية" التي قد تكتب "كبالة" باعتبار الحروف اللاتينية، هذه الكبالة علم سريّ عند اليهود يعتمد على السحر والطلاسم، ويزعمون أنهم به يكتشفون ما سيقع في المستقبل، ويؤولون رموزاً موجودة في المزامير وفي الأسفار القديمة،مثل: "سفر دانيال" وغيره، وكذلك ورث النصارى هذا العلم أو جزءاً منه، وأضافوا إليه ما أضافوا، مثل: "رؤيا يوحنا" المشهورة، وهي آخر ما يوجد في العهد الجديد أو الأناجيل من الرسائل، وهي موجودة لمن أراد أن يطلع عليها.

المقصود أن هذا العلم -كما يسمونه- من العلم الباطل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد سماه علماً، وإن كان ليس حقاً؛ قال تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] فالمقصود أن هذا كان متفشياً في الأمم قبلنا.

ثم ظهر وتفشى في الأمة الإسلامية -مع الأسف الشديد- وأظهر ذلك الرافضة، عندما ادَّعَوْا أن لديهم كتاب "الجفر" و"الجامعة" وأنه في الجفر يوجد خبر ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة، وأن هذا الجفر منسوب إلى جعفر الصادق، كتب فيه الملاحم إلى قيام الساعة، ويوجد لديهم بعض النسخ إلى الآن في بعض المكتبات، وبعضهم يفك رموزه ويحللها على أنها أحداث معينة وقعت أو ستقع.

ولا شك أن الرافضة والشيعة الذين كان مبتدأ أمرهم -كما تعلمون- فكر عبد الله بن سبأ اليهودي تأثروا جداً باليهود وما عندهم وأخذوا منهم، ومن جملة ما أخذوا منهم هذا الادعاء.

فهم يزعمون أن أهل البيت يعلمون الغيب، وما كان وما سيكون، وأن هذا هو العلم المخفي أو العلم الخاص المضنون به على غير أهله، الذي لا يطلع عليه سواهم، وقد ادعى ذلك -أيضاً- الصوفية؛ فإنهم زعموا أن أولياءهم وكبارهم يعلمون ذلك بطريق كسبي أو كشفي، ومن ذلك ما هو مشهور عن ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما ممن كتبوا في ذلك، وقد عظمت الفتنة بذلك، ومن العجيب أنه في بداية أزمة الخليج الماضية شاعت عند الناس أبيات نسبت إلى ابن عربي.

وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله وقف لهؤلاء جميعاً بالمرصاد، وبيّن باطلهم، وزيّف كلامهم، حتى إنه -رحمه الله- دعاهم إلى المباهلة لأنه واثق وموقن أنهم على باطل، فدعاهم إلى المباهلة فيما يدّعون ويزعمون من أخبار مما يقع في آخر الزمان وفي نهاية أمر هذه الأمة وشأن دولها وملوكها، وهذا موجود في الجزء الرابع من مجموع الفتاوى (ص:82) وما بعدها.. ومثلهم -أيضاً- الرفاعية البطائحية وأشباههم، فانتشر هذا عند الصوفية كما انتشر عند الرافضة، وانتشر هذا عند العامة والخاصة؛ لأنه كما قال ابن خلدون: '' أكثر وأول من يهتم بأخبار المستقبل وقيام الدول وسقوطها هم الملوك والحكام الذين ليسوا على العقيدة الصحيحة؛ فهم يهتمون بأمر ملكهم كم سيبقى؟

وكم سيأتي بعدهم من ملوك؟... إلخ '' لكن الأمر شاع وانتشر حتى أصبح -أيضاً- بين العامة، ومن العجيب لمن يقرأ كلام ابن خلدون رحمه الله عندما يقول -وهذا معنى كلامه بإيجاز-: "إنه يمر كهان أو منجمون جوّالون يتجولون في الأسواق ويستدعون الناس ويقولون لهم: نحن نخبركم بالأحداث التي تهمكم، فيأتيهم الناس يعطونهم النقود ويطلعون -بزعمهم- على ما سيقع لهم".

وهذا الذي أخبر عنه ابن خلدون تفشّى في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وهو في الحقيقة لا يزال إلى الآن متفشياً في أكثر العالم الإسلامي، لا نقول: في البوادي، بل في هذه البلاد منتشر في البوادي ولدى الطبقة الخاصة المثقفة في غير هذه البلاد؛ بل إن هنالك في بعض الدول معاهد أو مدارس تسمى المعاهد الفلكية أو المدارس الفلكية مختصة في هذا النوع من الدجل والشعوذة أو الرجم بالغيب لإفساد عقائد الناس وابتزاز أموالهم!

وهذا لا شك ولا ريب في أنه خدعة شيطانية يريد الشيطان أن يخرج الناس بها عن الاعتقاد الصحيح، وأن يوقعهم في حبائل الشرك والمشركين، ولهذا ينتج عن هذا النوع الذي هو الخرافات والأساطير والشعوذات -أي: النوع الذي هو المصدر الباطل -ينتج عنه فساد العقيدة، وهو أعظم فساد يقع في الأرض.

لا نقول: إنها باطلة، ولا نقول: إنها يقينية، وسوف تتضح الفكرة عندما نذكر أنواعها وتفصيلها.

النوع الأول: من المصادر الظنية لمعرفة ما سيقع هو الرؤى والمنامات الحقة، وليست أضغاث أحلام، فهذه الرؤى مبشرات كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يستطيع أحد أن يجزم بأن تأويلها كذا إلا إذا كان بوحي؛ فرؤيا الأنبياء وحي لا شك في ذلك، وكذلك تفسير الأنبياء وحي كما فسر يوسف عليه السلام فتفسيرهم حق، لكن من عداهم مهما كان معبراً أو محدثاً، فإن كلامه يحتمل الخطأ والصواب، ومن هنا فإن هذا يدخل في النوع المظنون، ولكن من الناس من يوفقهم الله تعالى، فيكون تأويله في الغالب صواباً، ومنهم من يكون دون ذلك، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدّل أو صحح تأويل أبي بكر رضي الله عنه، وهو أفضل هذه الأمة بعد رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يكن تأويله مطابقاً (100 %) بالدقة، وهذا دليل على أنه لا يصح ولا يمكن لأحدٍ بعده أن يدعي أن تأويلاته للرؤى صحيحة وسليمة (100 %).

النوع الثاني من المصادر الظنية: هو ما عند أهل الكتاب من أخبار مما لم يأت في ديننا ما يدل على بطلانه، لأن ما عند أهل الكتاب إما أن يأتي في شرعنا وديننا مما يدل على أنه حق وصواب فهو حق، أو يأتي في شرعنا وديننا ما يدل على أنه باطل فهو باطل، والآخر المسكوت عنه الذي لم يأت ما يؤيده ولا ما يبطله، فهذا يظل نوعاً من الظن لا نستطيع أن نجزم ببطلانه، لاحتمال أن يكون من بقايا الحق الذي لديهم، ولكن لا نثبته؛ لأننا نعلم قطعاً أنهم قد حرّفوا وبدّلوا في كتبهم، وجائز أن يكون هذا مما أضافوه وكتبوه، إما بألفاظه، وإما بتأويله، فهذا وارد وهذا وارد، وعلى هذا نقيس كل ما يروى عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما من أخبار الملاحم والفتن التي تكون وتقع في آخر الزمان.

- النوع الثالث من المصادر الظنية: هو الدراسة العلمية التي يمكن أن نسميها "الاستنباط العقلي" أو الاجتهاد بالنظر في سنن الله الكونية، فإن الله تبارك وتعالى جعل سنناً في هذا الكون لقيام الدول ولسقوطها ولحياتها ولنمائها، للأفراد وللصناعات وللتجارة وللاقتصاد.. فلكل أمر من هذه الأمور سنة كونية في حياته وموته، فلله تبارك وتعالى أسرار وحكم ونواميس وسنن جعلها، وبقدر ما يدركها الناس ويعرفونها يستطيعون أن يصلوا إلى الحق، وذلك مثل: ما كتبه ابن خلدون رحمه الله باجتهاده ونظره في أحوال العالم عن قيام الدول والأمم والحضارات وعن سقوطها، وهذا النوع توسع فيه الغربيون -على ما سنشير إليه إن شاء الله- وكتبوا وأفاضوا فيما بعد ذلك، وهذا النوع لا يدخل في الغيب ولا في التنجيم ولا في الكهانة، ولكن -أيضاً- ليس يقينياً وليس بوحي، وإنما هو استنباط من الحق -أي: من الوحي- أو استنباط من الواقع، فيتأملون أحوال الأمم وأسباب انقراض الدول وتدمير الحضارات، فيستنبطون وقد يصلون إلى شيء من الحق والصواب بقدر ما يعطي الله تبارك وتعالى المرء منهم من فهم لكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو فهم في تحليل الواقع -واقع هذه الأمم- وكيف تعيش، وكيف تتدمر.

فهذا -أيضاً- نوع من أنواع المصادر الظنية التي تقبل الخطأ وتقبل الصواب، لكن الغربيين ركزوا وشددوا عليه تشديداً مطلقاً كما سنبين إن شاء الله.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2598 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2575 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2509 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2461 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2349 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2264 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2261 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2251 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2198 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2167 استماع