مواقف القيامة وأشراط الساعة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول الشيخ حفظه الله تعالى:

[واليوم الاخر وما قد اشتمل عليه من حشر وعرض لعمل

حق كذا الوزن وما به التحق والنار حق وكذا الجنة حق]

من أركان الإيمان الإيمان باليوم الآخر، واليوم في الدنيا هو الوحدة الزمنية المعروفة، وأطلق على الآخرة باعتبار اتصاله وعدم انقطاعه، فكأنه يوم واحد وإن كان قدره آلاف السنين: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47] ، وكذلك في وصف من نوقش حساب خمسين ألف سنة باختلاف أحوال الناس فيه، فمن نوقش الحساب فيه كان كخمسين ألف سنة في حقه، ومن لم يناقش الحساب فيه كان كألف سنة على الأقل مما تعدون، فأطلق عليه اليوم بهذا الاعتبار، وهو الآخر؛ لأنه إليه تنتهي الدنيا، ولأنه لا نهاية له فكان آخراً، وكل ما لا نهاية له يعتبر آخراً من جنسه.

والقيامة قيامتان:

قيامة صغرى.

وقيامة كبرى.

فالقيامة الصغرى تختلف باختلاف الأفراد، فهي الموت والانتقال إلى الدار الآخرة، وهذه القيامة الصغرى ينقطع بها عمل الإنسان، ويختم على عمله إلا ما استثني من الأمور التي تجري عليه في قبره، كالمرابط في سبيل الله فإنه لا يختم على عمله، وكمن له علم ينتفع به أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له، فهذه من الأمور التي لا يختم عليها، لكن ما سواها من العمل يختم عليه، فيكون الإنسان في قبره سجيناً رهين ذنوبه ينتظر الخلاص، والخلاص هو من القيامة الكبرى.

وهذه القيامة الصغرى عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فإنه كان إذا أتاه قوم من الأعراب فسألوه متى تقوم الساعة؟ نظر إلى أصغرهم فقال: لا يموت هذا حتى تقوم الساعة)، والمقصود بذلك قيامتهم هم، فكل شخص منهم سيلقى ربه في تلك الفترة، وبذلك تقوم قيامته، وإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته.

فوائد تذكر القيامة الصغرى

والقيامة الصغرى يجب على الإنسان أن يفكر فيها وأن لا يغفل عنها، والغفلة عنها علامة على سوء الخاتمة نسأل الله السلامة والعافية.

ومن تذكرها رزق أربعاً، ومن غفل عنها حرم هذه الأربع.

فأول هذه الأربع التي يرزقها من تذكر الموت: العون على الطاعات والنشاط إليها، فإنه يعلم أنه سيموت ولا يدري متى يموت، فيبادر لأن يكتسب ما استطاع من الخير في هذه الدنيا.

ثانياً: قصر الأمل فإن من ذكر الموت قصر أمله ولم يغره الشيطان بالأماني.

ثالثاً: أن من ذكر الموت فإن كان في ضيق وسعه عليه، وإن كان في سعة ضيقها، (فما ذكره أحد في ضيق إلا وسعه، وما ذكره في سعة إلا ضيقها)، كما في الحديث الصحيح.

فإن كان في حزن وأسى فذكر الموت فإنه سيخرج بذلك من حزنه لعلمه أن حزنه وأساه منقطع.

وكذلك إن كان في فرح وطرب فذكر الموت فإن ذلك سيزول عنه؛ لأن الموت هو هادم اللذات.

رابعاً: أنه يقتضي من الإنسان الإقلاع عن الذنب، فكل من غلبته نفسه أو هواه في الإصرار على ذنب من الذنوب فليتذكر الموت، فإذا تذكره استطاع الإقلاع عن ذلك الذنب، مهما كان ذلك الذنب ومهما بلغ من شدة تأثيره عليه.

القبر أول منازل الآخرة

والموت ليس بفناء محض، لكنه انتقال من حال إلى حال وخروج من دار إلى دار، وبه ينتقل الإنسان من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وأول منازلها القبر، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده.

فلحظة واحدة في القبر يتبين للإنسان فيها كثير مما لم يكن يخطر له على بال، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47] ، فهو أعظم من كل ما قبله، وكل ضيق يدخله الإنسان في هذه الدنيا فالقبر أضيق وأشد منه.

وأعظم منه كل ما بعده؛ لأنه أول منزلة من منازل الآخرة، فيهون إذا تذكر ما بعده، وقد جاء في الأثر (ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما، ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة).

فالليلة التي يبيت فيها الإنسان مع الموتى ولم يبت معهم قبلها ليلة عظيمة جداً، تنكشف له فيها كثير من الأمور التي لم تكن تحصل له، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مظلمة على أهلها موحشة، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم).

وأول ما يلقاه الإنسان في قبره ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، فهي أول مشهد بعد نزع الروح؛ وهناك مشهد قبله، وهو إتيان ملك الموت لينتزع الروح، وسيراه الإنسان عياناً، وفي حال النزع يأتيه الفتان إن لم يكن ممنوعاً من ذلك.

فمن الناس من يمنع الفتان كالمرابط في سبيل الله، ومن قتل شهيداً في سبيل الله، وأما من سواهم فيأتيه الفتان فيقول له: مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية، ويريه صورة أبويه وغير ذلك مما يفتنه، فمن ثبته الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا فسيختم بخير، ولهذا قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27] .

صفة الموت

يرى الإنسان ملك الموت ويخاطبه عياناً، فإن كانت نفسه طيبة يناديها: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30].

فتتهوع نفسه من بدنه كما يتهوع الماء من في السقاء، فيتلقاها ملك الموت بلطف، وينتزعها برفق، ولا تمكث في يده طرفة عين، بل يسلمها إلى ملائكة آخرين جالسين مد البصر بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ[الأنعام:93] ، وهؤلاء وصفهم في الحديث أن وجوههم كالشموع.

وإن كانت النفس خبيثة دعاها وأوعدها بما ستخرج إليه من العذاب الأليم نسأل الله السلامة والعافية، فتتفرق النفس بالجسد فينتزعها منه كما ينزع السفود من الصوف المبلول بشدة، وهذه الشدة ليست ما يشاهده الناس من أعراض شدة الموت على المحتضرين، فأعراض شدة الموت التي يراها الناس هي من قوة البدن فقط، وليست هي الشدة الباطنية التي يحس بها المتوفى.

ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه الموت شدة عظيمة، وكان يقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، ويدخل يده في الماء ويمسح بها وجهه صلى الله عليه وسلم، فقد اشتد عليه الموت وذلك لقوة بدنه، فهو يوعك كما يوعك الرجلان، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل الأمثل.

فالأمور التي نتحدث عنها هنا أمور باطنية لا يطلع عليها الناس، وإنما يحسها المتوفى في نفسه، ولذلك فإن عبد الله بن عمرو بن العاص سأل أباه فقال: يا أبتي! إنك كنت تتمنى أن تجد رجلاً عاقلاً وقد أدركه الموت فيصف لك الموت، وهأنت ذا رجل عاقل قد أدركك الموت فصف لنا ما أنت فيه؟ فقال: كأن غصن شوك يجر داخل عظامي، فيخرج من كل عظم من عظامي، وكأن السماء وضعت على الأرض وجعلت بينهما، وكأني أتنفس من سم إبرة.

مآل أرواح المؤمنين وأرواح الفجار

ويكون بعد ذلك أن الملائكة مادي أيديهم، فإن كانت النفس مؤمنة رحبوا بها، وجعلوها في كفن من أكفان الجنة وصعدوا بها، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة فيؤذن لها حتى تخر ساجدة تحت العرش ثم يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئت فتكون في فناء القبر حتى تبعث.

وفي الحديث الآخر (أن أرواح السعداء في حواصل طير خضر في الجنة).

والجمع بين الحديثين أن ذلك في حال وهذا في حال، فالرجوع إلى فناء القبر للسؤال، ثم بعد ذلك تصعد الأرواح فتكون في حواصل الطير إلا إن كان أصحابها أحياء في قبورهم فتكون مع أجسادهم، لكنها معية تختلف عن المعية في الحياة الدنيا، فالحياة البرزخية تختلف عن هذه الحياة.

وضمة القبر تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، واختلف في الحمائل المذكورة في الحديث فقيل: هي الشواكل وما يجتمع من الشحم على الكلى في البطن.

وقيل هي: العروق التي تتصل بالأعضاء التناسلية.

وهذه الضمة إعداد لاستقبال كلام الملائكة، كما ضم جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً حتى يستطيع السماع منه.

سؤال منكر ونكير

ثم المشهد الذي بعد هذا هو مجيء ملائكة السؤال، وهما منكر ونكير، ويأتيان في صورة مروعة، ويجلسان الميت على ركبتيه فيقولان له: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟

فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثا، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعناه، فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونورا.

وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، فيضربانه بمرزبة معهما من حديد لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن، ثم بعد هذا المشهد عذاب القبر! وهو المشهد الذي بعد السؤال.

والمعذبون في القبور أنواع: منهم أهل الكفر، وهؤلاء يعذبون في قبورهم بالعطش وغير ذلك من أنواع الأذى والإهانات، ويرون مواقعهم في النار، نسأل الله السلامة والعافية.

ثم بعد هذا عذاب الفساق في قبورهم، وهذا العذاب منه ما يكون على ذنب محدد؛ كما يكون على المشي بالنميمة وعدم اتقاء البول، فهذان الأمران يعذب عليهما في القبر، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين جديدين فقال: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه لكبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول)، وفي الحديث الآخر: (تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه).

فعذاب القبر سبب من أسباب مغفرة الذنوب ومكفر من مكفراتها، فيعذب الإنسان في قبره العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، فإذا بعث يوم القيامة كان قد أخذ ما يستحقه من العقاب ونال بذلك الجنة، نسأل الله أن يغنينا عن ذلك بعفوه ورحمته.

والقيامة الصغرى يجب على الإنسان أن يفكر فيها وأن لا يغفل عنها، والغفلة عنها علامة على سوء الخاتمة نسأل الله السلامة والعافية.

ومن تذكرها رزق أربعاً، ومن غفل عنها حرم هذه الأربع.

فأول هذه الأربع التي يرزقها من تذكر الموت: العون على الطاعات والنشاط إليها، فإنه يعلم أنه سيموت ولا يدري متى يموت، فيبادر لأن يكتسب ما استطاع من الخير في هذه الدنيا.

ثانياً: قصر الأمل فإن من ذكر الموت قصر أمله ولم يغره الشيطان بالأماني.

ثالثاً: أن من ذكر الموت فإن كان في ضيق وسعه عليه، وإن كان في سعة ضيقها، (فما ذكره أحد في ضيق إلا وسعه، وما ذكره في سعة إلا ضيقها)، كما في الحديث الصحيح.

فإن كان في حزن وأسى فذكر الموت فإنه سيخرج بذلك من حزنه لعلمه أن حزنه وأساه منقطع.

وكذلك إن كان في فرح وطرب فذكر الموت فإن ذلك سيزول عنه؛ لأن الموت هو هادم اللذات.

رابعاً: أنه يقتضي من الإنسان الإقلاع عن الذنب، فكل من غلبته نفسه أو هواه في الإصرار على ذنب من الذنوب فليتذكر الموت، فإذا تذكره استطاع الإقلاع عن ذلك الذنب، مهما كان ذلك الذنب ومهما بلغ من شدة تأثيره عليه.

والموت ليس بفناء محض، لكنه انتقال من حال إلى حال وخروج من دار إلى دار، وبه ينتقل الإنسان من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وأول منازلها القبر، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده.

فلحظة واحدة في القبر يتبين للإنسان فيها كثير مما لم يكن يخطر له على بال، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47] ، فهو أعظم من كل ما قبله، وكل ضيق يدخله الإنسان في هذه الدنيا فالقبر أضيق وأشد منه.

وأعظم منه كل ما بعده؛ لأنه أول منزلة من منازل الآخرة، فيهون إذا تذكر ما بعده، وقد جاء في الأثر (ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما، ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة).

فالليلة التي يبيت فيها الإنسان مع الموتى ولم يبت معهم قبلها ليلة عظيمة جداً، تنكشف له فيها كثير من الأمور التي لم تكن تحصل له، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مظلمة على أهلها موحشة، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم).

وأول ما يلقاه الإنسان في قبره ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، فهي أول مشهد بعد نزع الروح؛ وهناك مشهد قبله، وهو إتيان ملك الموت لينتزع الروح، وسيراه الإنسان عياناً، وفي حال النزع يأتيه الفتان إن لم يكن ممنوعاً من ذلك.

فمن الناس من يمنع الفتان كالمرابط في سبيل الله، ومن قتل شهيداً في سبيل الله، وأما من سواهم فيأتيه الفتان فيقول له: مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية، ويريه صورة أبويه وغير ذلك مما يفتنه، فمن ثبته الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا فسيختم بخير، ولهذا قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27] .

يرى الإنسان ملك الموت ويخاطبه عياناً، فإن كانت نفسه طيبة يناديها: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30].

فتتهوع نفسه من بدنه كما يتهوع الماء من في السقاء، فيتلقاها ملك الموت بلطف، وينتزعها برفق، ولا تمكث في يده طرفة عين، بل يسلمها إلى ملائكة آخرين جالسين مد البصر بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ[الأنعام:93] ، وهؤلاء وصفهم في الحديث أن وجوههم كالشموع.

وإن كانت النفس خبيثة دعاها وأوعدها بما ستخرج إليه من العذاب الأليم نسأل الله السلامة والعافية، فتتفرق النفس بالجسد فينتزعها منه كما ينزع السفود من الصوف المبلول بشدة، وهذه الشدة ليست ما يشاهده الناس من أعراض شدة الموت على المحتضرين، فأعراض شدة الموت التي يراها الناس هي من قوة البدن فقط، وليست هي الشدة الباطنية التي يحس بها المتوفى.

ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه الموت شدة عظيمة، وكان يقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، ويدخل يده في الماء ويمسح بها وجهه صلى الله عليه وسلم، فقد اشتد عليه الموت وذلك لقوة بدنه، فهو يوعك كما يوعك الرجلان، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل الأمثل.

فالأمور التي نتحدث عنها هنا أمور باطنية لا يطلع عليها الناس، وإنما يحسها المتوفى في نفسه، ولذلك فإن عبد الله بن عمرو بن العاص سأل أباه فقال: يا أبتي! إنك كنت تتمنى أن تجد رجلاً عاقلاً وقد أدركه الموت فيصف لك الموت، وهأنت ذا رجل عاقل قد أدركك الموت فصف لنا ما أنت فيه؟ فقال: كأن غصن شوك يجر داخل عظامي، فيخرج من كل عظم من عظامي، وكأن السماء وضعت على الأرض وجعلت بينهما، وكأني أتنفس من سم إبرة.

ويكون بعد ذلك أن الملائكة مادي أيديهم، فإن كانت النفس مؤمنة رحبوا بها، وجعلوها في كفن من أكفان الجنة وصعدوا بها، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة فيؤذن لها حتى تخر ساجدة تحت العرش ثم يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئت فتكون في فناء القبر حتى تبعث.

وفي الحديث الآخر (أن أرواح السعداء في حواصل طير خضر في الجنة).

والجمع بين الحديثين أن ذلك في حال وهذا في حال، فالرجوع إلى فناء القبر للسؤال، ثم بعد ذلك تصعد الأرواح فتكون في حواصل الطير إلا إن كان أصحابها أحياء في قبورهم فتكون مع أجسادهم، لكنها معية تختلف عن المعية في الحياة الدنيا، فالحياة البرزخية تختلف عن هذه الحياة.

وضمة القبر تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، واختلف في الحمائل المذكورة في الحديث فقيل: هي الشواكل وما يجتمع من الشحم على الكلى في البطن.

وقيل هي: العروق التي تتصل بالأعضاء التناسلية.

وهذه الضمة إعداد لاستقبال كلام الملائكة، كما ضم جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً حتى يستطيع السماع منه.

ثم المشهد الذي بعد هذا هو مجيء ملائكة السؤال، وهما منكر ونكير، ويأتيان في صورة مروعة، ويجلسان الميت على ركبتيه فيقولان له: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟

فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثا، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعناه، فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونورا.

وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، فيضربانه بمرزبة معهما من حديد لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن، ثم بعد هذا المشهد عذاب القبر! وهو المشهد الذي بعد السؤال.

والمعذبون في القبور أنواع: منهم أهل الكفر، وهؤلاء يعذبون في قبورهم بالعطش وغير ذلك من أنواع الأذى والإهانات، ويرون مواقعهم في النار، نسأل الله السلامة والعافية.

ثم بعد هذا عذاب الفساق في قبورهم، وهذا العذاب منه ما يكون على ذنب محدد؛ كما يكون على المشي بالنميمة وعدم اتقاء البول، فهذان الأمران يعذب عليهما في القبر، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين جديدين فقال: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه لكبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول)، وفي الحديث الآخر: (تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه).

فعذاب القبر سبب من أسباب مغفرة الذنوب ومكفر من مكفراتها، فيعذب الإنسان في قبره العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، فإذا بعث يوم القيامة كان قد أخذ ما يستحقه من العقاب ونال بذلك الجنة، نسأل الله أن يغنينا عن ذلك بعفوه ورحمته.

ثم بعد هذا القيامة الكبرى، وهي يوم يقوم الناس لرب العالمين، وقد وصفها الله وسماها في كتابه بأوصاف مروعة مفزعة، فمنها: الحاقة والواقعة والقارعة والآزفة، وغير ذلك من الأسماء المروعة، وكل هذا يدل على فظاعة الأمر وشناعته.

ولا يدرى متى تقوم لأنها لا تأتي إلا بغتة: لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً[الأعراف:187] ، ولا يعلم أحد وقت قيامها إلا الله سبحانه وتعالى، في خمس لا يعلمهن إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ[لقمان:34] .

النفخ في الصور

وأول مشاهدها النفخ في الصور، عندما يأذن الله تعالى للملك فينفخ، والملك الآن قد أخذ الصور بفمه، وأصغى ليتاً ورفع ليتاً ينتظر الإذن له، فإذا أذن له نفخ، فإذا نفخ صعق كل الأحياء وماتوا جميعاً من فزع هذه النفخة، وهذه نفخة الفزع، وتسمى أيضاً نفخة الصعق؛ لأن الناس يصعقون بها جميعاً.

وقيل: هما نفختان نفخة، أولى للفزع، ونفخة ثانية للصعق، ولكن الراجح أن النفخ إنما يتم مرتين فقط: النفخة الأولى التي يموتون بها، والنفخة الثانية التي يحيون بها ويجتمعون؛ لأن هذا الذي ذكر في القرآن في سورة الزمر، وأما تسميتها بالفزع في سورة النمل فلا يقتضي اختلافاً مع ما ذكر، فقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ[الزمر:68] ، مثل قوله: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ[النمل:87].

تغير الكون والأجرام السماوية

ثم بعد ذلك تشقق السماء وتكون واهية، وينطلق الملائكة ويجتمعون، وتشققها يسمع له صوت مروع مرعب، وتطوى كما يطوى الكتاب، ثم بعد هذا تدحى الأرض وتبسط، حتى لا يبقى فيها شيء مستور، وذلك في الزلزلة العظمى، عندما يتجلى الباري سبحانه وتعالى للأرض، فيدحوها فتتزلزل الزلزلة العظمى، فتلفظ كل ما فيها، وتخرج كل كنوزها، وتبسط حتى لا يبقى فيها مكان مرتفع ولا مكان منخفض.

إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا *وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا[الزلزلة:1-5]، وحين تدحى الأرض وتبسط تكون الجبال كالصوف فتذهب في الرياح: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا[طه:104-107] .. وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ[القارعة:5] فالجبال والشجر والأودية والبحار تزول وتبدل الأرض غير الأرض، وتشقق كما تشققت السماء، ويخرج الناس منها ينادَون: هلموا إلى ربكم، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ويجتمعون في الساهرة وهي الأرض البديلة، وهي رقعة دائرية كالكرسفة البيضاء، لم يعص الله عليها قط، يحشر عليها الأولون والآخرون، من لدن آدم إلى نهاية الدنيا، وهذه الرقعة يحيط بها البصر بقدر الله وحوله أجل شأنه.

الإتيان بجهنم تقاد

ثم بعد ذلك يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بالساهرة من كل جانب، وتكور الشمس وتدنو من الناس قدر الميل، ويقفون وقوفاً طويلاً وقد حشروا حفاة عراة غرلاً، يزدحمون في ذلك المكان، ويعرقون حتى يذهب عرقهم في الأرض أميالاً، ويرتفع العرق فوق الساهرة، فمن الناس من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوته، ومنهم من يلجمه إلجاماً، يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم.

العرض الأكبر على الله

ثم بعد هذا يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام، ويأذن في الشفاعة، وقد سبق ذكر مشهد الشفاعة: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[الحاقة:17] فيأتي العرض الأكبر.

يعرضون على الله تعالى لا تخفى منهم خافية، ويعطون صحائفهم، فمن معطى صحيفته بيمينه، ومن معطى صحيفته بشماله من وراء ظهره، فالذي يعطى صحيفته بيمينه تلقاء وجهه يفرح فرحاً عجيباً شديداً، والذي يعطى صحيفته بشماله من وراء ظهره يسود وجهه حتى يكون كالفحم، وتبيض وجوه أهل الإيمان وأهل السنة، وتسود وجوه أهل الكفر وأهل البدعة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ[الزمر:60] قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة، وذلك لأن أهل البدعة كذبوا على الله فشرعوا ما لم يأذن به الله.. ولهذا قال: تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ[الزمر:60] .

وفي هذا الوقت يبدأ جزاء الحقوق بين الناس حتى لا يبقى من الحقوق إلا حقوق الله وحده، فما من أحد سيطالب أحداً بأية مظلمة إلا سينالها في هذا الوقت، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، ويؤتى الإنسان بماله الذي لم يكن يخرج زكاته، فما من صاحب إبل لم يكن يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر يوم القيامة ليس فيها عرجاء ولا عفصاء، ولا يفقد منها كبيرة ولا صغيرة، كلما مر عليه آخرها عاد عليه أولها تطؤه بأخفافها وتنهشه بأسنانها، كذلك صاحب البقر أو الغنم.

وكذلك أصحاب الذهب والفضة، فإنها يحمى عليها في نار جهنم، ثم تجذب أشداقهم بالمجاذيب حتى تتسع، فلا يوضع دينار فوق دينار، ولا درهم فوق درهم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ[التوبة:35].

المرور على الصراط

ثم بعد ذلك يأتي مشهد الظلام الشديد الذي لا يرى فيه شيء، ولا يبقى إلا من أنار الله وجهه وبيضه، ويرزق الله تعالى المؤمنين نوراً، فيسألون الله أن يتم لهم نورهم، فيلتمس أهل الكفر نورهم، ويسألونهم أن ينتظروهم حتى يقتبسوا منهم نوراً، ولكنه يضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ثم بعد هذا ينصب الصراط على متن جهنم، وهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.

وينادي الله تعالى آدم: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فذلك: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ[الحج:2] .

ثم بعد هذا يؤذن لأهل الجنة بدخولها بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق، ويلقون فيها سلاماً، فيسلم عليهم الملائكة وقت دخولهم: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ[الحجر:46] ثم يسلم عليهم أرحم الراحمين فيقول: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58] وبينما هم في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوقهم، فينظرون فإذا الله سبحانه وتعالى قد تجلى لهم، فينظرون إليه لا يضامون في رؤيته، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه.

ذبح الموت بين الجنة والنار

ومن تلك المشاهد أنه يؤتى بالموت في صورة كبش أقرن، فيعرض على أهل النار فيقال: أعرفتموه؟! فيقولون: نعم هو الموت، فيشمئزون منه، ثم يعرض على أهل الجنة فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم هو الموت، ويشمئزون منه. فيرجع على مرقد أو مكان مرتفع بين الجنة والنار فيذبح فينادي منادٍ: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت.

كل هذه المشاهد مما جاء في الآيات وصحت بها الأحاديث، وقد تضمنها قوله:

(واليوم الآخر وما قد اشتمل عليه حق).

اليوم الآخر مبتدأ، وخبره حق، أي: يجب الإيمان به، فما جاء من ذلك تفصيلاً في النصوص الصحيحة وجب الإيمان به تفصيلاً، لكن لا يجب معرفة جزئياته وأفراده، ولا يحل التعلق بكيفياته، لأن هذا مما لا يدركه العقل، ولا تصل إليه أوهام الناس.

أنواع العرض على الله

قوله: (وما قد اشتمل عليه من حشر) وهو حشر الناس لرب العالمين، (وعرض لعمل): كذلك العرض على الله سبحانه وتعالى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ[الحاقة:18] .

وهذا العرض أنواع: منه العرض العام للناس حين يعرض الله سبحانه وتعالى عن الكفرة فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ويقبل على المؤمنين، فيأتيهم في صورته فلا يعرفونه، ثم يأتيهم في صورة أخرى فيعرفونه، فيقول: ما الآية بينكم وبين ربكم؟ فيقولون: يكشف لنا عن ساقه، فيكشف لهم عن ساق فيخرون له سجداً، ويحاول المنافقون السجود فلا يستطيعون ذلك: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ[القلم:42] .

ويخلو الله تعالى بكل عبد من عباده المؤمنين فيقول: أي عبدي! أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا وكنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: نعم يا ربي! وكنت قد نسيته. فيقول: لكنني لم أنسه. وهذا المشهد هو الذي ذكره الله تعالى في قوله: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[الإسراء:13-14].

نصب الموازين

قال: (حق كذا الوزن وما به التحقق) كذلك من مشاهد القيامة أن يؤتى بالموازين القسط فيوضع الميزان، وقد اختلف هل هو مفرد أم جمع، لأن الآية جاء فيها: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ[الأنبياء:47] ، والموازين جمع ميزان، فقيل سمي بذلك لضخامته ولأنه في اللحظة الواحدة توزن فيه أعمال الخلائق، وهذا لا تدرك كيفيته، لكنه كفتان ولسان، هذا اللسان اختلف فيه هل هو لسان يتكلم به، أو هو لسان كلسان الميزان الذي يكون بين الكفتين فيعرف به ميلهما واعتدالهما.

وعموماً فإن بعض الناس تثقل موازينهم، وبعض الناس تخف موازينهم، أي: موازين الحسنات، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ[المؤمنون:102-103] نسأل الله السلامة والعافية.

وهذا الوزن تجسد له الأعمال أو توزن فيه الصحائف، وهي بحسب قيمتها عند الله سبحانه وتعالى لا بحسب ثقلها المادي المعتبر؛ ولذلك فإنه يؤتى بالعبد يوم القيامة ويؤتى بصحائف سيئاته قد سدت الأفق ويؤتى برقعة قدر الظفر كتب فيها (لا إله إلا الله) فيقول: يا رب وما تغني هذه عن الصحائف، فيقول: إنك لا تظلم شيئاً. فيؤمر بالصحائف فتوضع في كفة السيئات، ويؤمر بلا إله إلا الله فتوضع في كفة الحسنات، فترجح بها لا إله إلا الله فتطيش الصحائف وتتطاير وترجح بها لا إله إلا الله إذا قبلت.

ورجحان الأعمال يوم القيامة بحسب قبولها عند الله، ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يجزم فيها بشيء بل يبقى بين الخوف والرجاء؛ لأنه قد يتقبل منه وقد لا يتقبل، ولذلك قال ابن المبارك : لئن علمت أن الله قبل مني حسنة واحدة لأيقنت بدخول الجنة.

فينبغي للإنسان أن يحرص على أن يسأل الله قبول العمل، كما كان الأنبياء يفعلون، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[البقرة:127] .

قوله: (وما به التحق)، أي: ما التحق بالوزن من إعطاء الكتب بالأيمان وبالشمائل من وراء الظهور ونحو ذلك.

وأول مشاهدها النفخ في الصور، عندما يأذن الله تعالى للملك فينفخ، والملك الآن قد أخذ الصور بفمه، وأصغى ليتاً ورفع ليتاً ينتظر الإذن له، فإذا أذن له نفخ، فإذا نفخ صعق كل الأحياء وماتوا جميعاً من فزع هذه النفخة، وهذه نفخة الفزع، وتسمى أيضاً نفخة الصعق؛ لأن الناس يصعقون بها جميعاً.

وقيل: هما نفختان نفخة، أولى للفزع، ونفخة ثانية للصعق، ولكن الراجح أن النفخ إنما يتم مرتين فقط: النفخة الأولى التي يموتون بها، والنفخة الثانية التي يحيون بها ويجتمعون؛ لأن هذا الذي ذكر في القرآن في سورة الزمر، وأما تسميتها بالفزع في سورة النمل فلا يقتضي اختلافاً مع ما ذكر، فقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ[الزمر:68] ، مثل قوله: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ[النمل:87].

ثم بعد ذلك تشقق السماء وتكون واهية، وينطلق الملائكة ويجتمعون، وتشققها يسمع له صوت مروع مرعب، وتطوى كما يطوى الكتاب، ثم بعد هذا تدحى الأرض وتبسط، حتى لا يبقى فيها شيء مستور، وذلك في الزلزلة العظمى، عندما يتجلى الباري سبحانه وتعالى للأرض، فيدحوها فتتزلزل الزلزلة العظمى، فتلفظ كل ما فيها، وتخرج كل كنوزها، وتبسط حتى لا يبقى فيها مكان مرتفع ولا مكان منخفض.

إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا *وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا[الزلزلة:1-5]، وحين تدحى الأرض وتبسط تكون الجبال كالصوف فتذهب في الرياح: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا[طه:104-107] .. وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ[القارعة:5] فالجبال والشجر والأودية والبحار تزول وتبدل الأرض غير الأرض، وتشقق كما تشققت السماء، ويخرج الناس منها ينادَون: هلموا إلى ربكم، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ويجتمعون في الساهرة وهي الأرض البديلة، وهي رقعة دائرية كالكرسفة البيضاء، لم يعص الله عليها قط، يحشر عليها الأولون والآخرون، من لدن آدم إلى نهاية الدنيا، وهذه الرقعة يحيط بها البصر بقدر الله وحوله أجل شأنه.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع