تأبين ابن باز


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فإن الأمة لا يمكن أن تغفل المناسبات سواءً كانت سارةً أو كانت محزنة، ولا بد أن تبدي كلمتها، وأن تظهر موقفها في مثل هذه المناسبات، ولذلك فإن ابن عباس رضي الله عنهما حين أخبر بموت ميمونة بنت الحارث خالته أم المؤمنين خر ساجداً لله تعالى، فقيل له في ذلك، فقال: وأية آية أعظم من فراق أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهي آخرهن موتاً.

وكذلك فقد أخرج البخاري في الصحيح: ( أن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه يوم مات المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم؛ فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد: فإني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فشرط علي: والنصح لكل مسلم، ورب هذا المسجد إني لكم لناصح، ثم استغفر ونزل ).

فانتهز صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المناسبة ليذكر الناس، ويخبرهم بقصة حصلت له مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر للناس النصيحة التي يحتاجون إليها، وبالأخص في مثل هذه الأزمات والنوائب.

إن فراق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أمر فاجع لهذه الأمة، ومصيبة جلّ من مصائبها العظيمة، ولا يمكن أن تمضي هذه المناسبة دون إبداء الموقف، وإظهار ما تحتاج إليه الأمة من النصح، ومن هنا فإني في هذه الكلمة أتعرض لأمرين:

الأمر الأول: ما يتعلق بعلو منزلة العلماء، وأهميتهم للأمم.

فأقول في هذه النقطة: إن (العلماء هم ورثة الأنبياء) كما أخبر بذلك رسول الله الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن ابن عباس حين سجد عند فراق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلنا فيه أسوة عند فراق ورثته العلماء.

منزلة العلماء في القرآن

والله سبحانه وتعالى أعلى منزلة العلماء، ورفع درجتهم، فاستشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها، وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته، فقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون للتلقي عنه وفهم كلامه، فقال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].

وأخبر أنه يرفعهم درجات في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

وكذلك حكم لصالحهم على من سواهم في قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].

مكانة العلماء في السنة النبوية

وقد نوه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكانة أهل العلم في دين الله، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ).

وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ).

وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم فقد ضرب مثلاً عجيباً لما جاء به من الهدى والعلم، فضرب له المثل ( بمطر أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان أمسكت الماء على الناس، فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى؛ إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشباً )، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا منزلة أهل العلم بين الناس، وأن الناس يحتاجون إليهم في كل أحوالهم.

وكذلك فإن من منزلة أهل العلم التي أنزلهم الله سبحانه وتعالى ونوه بها رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم أهل لأن يقدموا ويقدروا؛ ولهذا فإنهم ( يستغفر لهم كل شيء حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ).

ولهذا صح في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).

وكذلك فإن الأمة تعلم أن العلماء هم الذين قادوها في مختلف الأزمات، وهم الذين سدوا لها المسد الذي تحتاج إلى من يسده؛ ولهذا فإن ابن عباس رضي الله عنهما كان موفقاً حينما دعا صاحبه من الأنصار عند موت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أخي! إن الله قد قبض رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن أمته تحتاج إلى علمه، وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعلنا نسد لأمته مسداً يوماً من الأيام تحتاج إليه، فقال: دعنا نلعب، فانصرف ابن عباس لجمع العلم، فكان يجلس على باب زيد بن ثابت وقت القيظ والحر، فيخرج إليه إلى الصلاة، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لماذا تجلس على الباب؟ أما آن لك أن تستأذن فتدخل؟، فيقول: إننا نكرم أهل العلم عن أن نوقظهم)؛ ولهذا يقول فيه أحد معاصريه:

بلغت لعشر مضت من سنيك ما يبلغ السيد الأشيب

فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا

ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل مجمعة فضلا

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل بملتقطات لا ترى بينها فصلا

كفى وشفى ما بالنفوس فلم يدع لذي إربة في القول جداً ولا هزلا

والله سبحانه وتعالى أعلى منزلة العلماء، ورفع درجتهم، فاستشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها، وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته، فقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون للتلقي عنه وفهم كلامه، فقال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].

وأخبر أنه يرفعهم درجات في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

وكذلك حكم لصالحهم على من سواهم في قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].

وقد نوه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكانة أهل العلم في دين الله، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ).

وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ).

وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم فقد ضرب مثلاً عجيباً لما جاء به من الهدى والعلم، فضرب له المثل ( بمطر أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان أمسكت الماء على الناس، فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى؛ إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشباً )، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا منزلة أهل العلم بين الناس، وأن الناس يحتاجون إليهم في كل أحوالهم.

وكذلك فإن من منزلة أهل العلم التي أنزلهم الله سبحانه وتعالى ونوه بها رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم أهل لأن يقدموا ويقدروا؛ ولهذا فإنهم ( يستغفر لهم كل شيء حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ).

ولهذا صح في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).

وكذلك فإن الأمة تعلم أن العلماء هم الذين قادوها في مختلف الأزمات، وهم الذين سدوا لها المسد الذي تحتاج إلى من يسده؛ ولهذا فإن ابن عباس رضي الله عنهما كان موفقاً حينما دعا صاحبه من الأنصار عند موت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أخي! إن الله قد قبض رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن أمته تحتاج إلى علمه، وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعلنا نسد لأمته مسداً يوماً من الأيام تحتاج إليه، فقال: دعنا نلعب، فانصرف ابن عباس لجمع العلم، فكان يجلس على باب زيد بن ثابت وقت القيظ والحر، فيخرج إليه إلى الصلاة، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لماذا تجلس على الباب؟ أما آن لك أن تستأذن فتدخل؟، فيقول: إننا نكرم أهل العلم عن أن نوقظهم)؛ ولهذا يقول فيه أحد معاصريه:

بلغت لعشر مضت من سنيك ما يبلغ السيد الأشيب

فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا

ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل مجمعة فضلا

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل بملتقطات لا ترى بينها فصلا

كفى وشفى ما بالنفوس فلم يدع لذي إربة في القول جداً ولا هزلا

إن الأمة تحتاج إلى العلماء في كل أمورها؛ في سلمها وحربها، وأمنها ورخائها، وضيق معاشها، وغير ذلك من الأمور، فهم الذين ينصحون لها، ويبينون لها حدود الله، ويقيمون لله بالقسط في الناس، وهم الذين يؤثرون رضا الله سبحانه وتعالى على رضا الناس، فيصدقون القول، ويقفون المواقف المشرفة.

وإن شيخنا الشيخ عبد العزيز -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه- من هؤلاء الذين افتقدتهم الأمة، وكانوا على هذه الأوصاف المذكورة.

ويتحير من يتحير عد صفات الشيخ من أين يبدأ، هل يبدأ بعلمه الوافر، أم بحلمه الموفور، أم بسخائه المشهود، أم بغير ذلك من أوجه حياته المشهورة؟

وهنا لا شك أن كثيراً ممن هم ألصق بالشيخ وأدرى بمنزلته تحدثوا في بعض هذه الجوانب المتعددة، وأنا سأتحدث في ست صفات من صفات الشيخ، أشهد بها، ويشهد بها من ورائي من الناس:

حسن استغلال الوقت

الصفة الأولى من هذه الصفات التي برز فيها الشيخ، ولا ينكرها من يعرفه، وظهرت آثارها في الأمة كلها، هي: أن الله سبحانه وتعالى ملكه وقته، فكان يستغل هذا الوقت أكمل استغلال، ولم يكن يضيع منه شيئاً، وهذا هو مقتضى معرفة أن الإنسان سيقف بين يدي الله، ومعرفته لمراقبة الله سبحانه وتعالى عليه، فإن هذا الوقت حجة لله قائمة على الناس.

والله تعالى يخاطب أهل النار يوم القيامة فيقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37]، فقد قامت الحجة لله تعالى على عباده بما آتاهم من الأعمار، وبما مكن لهم في هذه الدنيا، ومن هنا فإن شيخنا رحمه الله قد استغل وقته في هذه الدنيا، وما عرف أن وقتاً من أوقاته ليس له فيه عمل ولا شغل، ولذلك فإن من أعجب استغلاله لوقته أن المسافة التي يقطعها في السيارة بين بيته ومكتبه يكون عنده في السيارة من طلاب العلم من يقرءون عليه، وإذا ركب يقول: اقرأ.

وكذلك فإنه كان إذا أراد السفر من مدينة إلى أخرى لا يسافر إلا في إجازة الأسبوع؛ ليستكمل دوامه الرسمي كله، وكان بيته مكتبة للعمل، وعمله بيتاً لكل المسلمين، ومسجده مجلساً مفتوحاً لكل الناس، وكل أوقاته مشحونة بتعليم العلم وتعلمه، والنصح للمسلمين، والقيام بحوائجهم، والدعاء والعبادة.

ومن عجائب أموره في مجال استغلال الوقت: أنه رحمة الله عليه كان يجد وقتاً مخصصاً للنصيحة، فيكتب فيه الرسائل إلى المسلمين، وتعرض عليه أخبارهم ومهمات الحوادث، وذلك من واقع غيرته على دين الله تعالى، فيقتطع جزءاً يسيراً من الوقت ليسمع فيه أخبار العالم، وليعرض عليه ما تجدد من المهمات، وهذا الوقت يحتسبه عند الله تعالى كسائر أوقاته الأخرى، فلم يكن له وقت مخصص للراحة ولا للطعام، بل طعامه يتخلله الإفتاء والتدريس، وأوقاته كلها مشغولة بذلك.

وقد حدثني من أتاه ضيفاً في بيته القديم في الرياض من الدعاة الذين وفدوا إلى هذه البلاد من غير أهلها، قال: أتيت مدينة الرياض في ليلة شاتية، وقد جئت من سفر طويل، فلم أعرف أحداً أنزل عليه، فقصدت بيت الشيخ، فقلت: لعل الحارس يفتح لي مكاناً أستريح فيه، فحركت الباب، ففتح الحارس، فسمع الشيخ صوتي فعرفني، فأمر أهله أن يحضروا الطعام، فما راعني إلا الشيخ ينزل من الدرج يحمل الطعام بيده، ويتقدم ويناديني، فكان هذا بعد منتصف الليل في وقت متأخر، وهذه صورة واحدة من صور حياة هذا الشيخ رحمة الله عليه.

وفور العقل

الصفة الثانية من صفاته، فقد آتاه الله فيها ما خصه به عن كثير من معاصريه، ألا وهي: وفور العقل، فإن الشيخ رحمه الله قد آتاه الله تعالى من تمام العقل، ودقة النظر والصواب الشيء العجيب جداً.

وحكاياته في هذا الباب كثيرة جداً، ومن أعظمها ما حدثني به أحد طلابه الملازمين له أنه كان ذات يوم في زمن قضائه بالدم في مجلس القضاء، فأتاه رجل يشكو أحد الكبراء قد اعتدى عليه وضربه، فدعا الشيخ هذا الكبير، فجلس في مجلس القضاء، فتبين الوجه الشرعي لصالح المظلوم، لكن رأى الشيخ بوفور عقله أنه إذا مكن المظلوم من أخذ حقه بيده سيكون ذلك فتحاً لباب الفتنة، ومدعاةً لحصول الشحناء والأخذ بالثأر، فتقدم الشيخ من مجلس القضاء حتى وقف على الظالم، فضربه بيده على ظهره ضرباته حتى رضي الخصم، وخرج من المجلس وليس بينهما شحناء، وهذا من وفور عقله وتمام حكمته.

ومثل ذلك: عدم استعجاله بالأمور واعتداله، فما هو إلا مظهر من مظاهر تمام عقله، فإنه لا يستعجل في اتخاذ المواقف، ولا يستفزه المستفزون، فيأتيه الناس من مختلف التوجهات، وتكتب إليه الرسائل بمختلف العبارات، ولكن كل ذلك لا يستفزه، ولا يستعجله على الموقف الصائب الحكيم، ومع هذا فإنه يستشير الناس ويريد الازدياد من عقول الناس، وهذا دليل على تمام عقله ووفور رأيه وحكمته، فإن من رضي بما عنده من العقل ولم يستشر الآخرين دل هذا على نقص عقله.

وقد كان رحمه الله تعالى يستشير كثيراً ممن هم دونه من طلابه وممن سواهم؛ يستشيرهم في أمور دينه ودنياه.

اتساع باله ورحابة صدره لكل المسلمين

الصفة الثالثة من صفات الشيخ العجيبة هي: اتساع باله ورحابة صدره لكل المسلمين، فإنه منذ صغره يعد نفسه أباً للمسلمين، فيتسع باله ووقته لاستقبال المسلمين، والاهتمام بأمورهم جميعاً، ومن هنا يجتمع في مجلسه المتناقضون والمختلفون، ويجد كل منهم لدى الشيخ سعة بال، ورحابة صدر.

وهذه الرحابة صفة عجيبة تؤلف القلوب، وتقتضي تعلق الناس به، وهي التي اقتضت منه أن يكون أباً للجميع، وساعياً للإصلاح بين الجميع، وجعلت الناس يصدرون عن رأيه في مختلف البلدان في مشارق الأرض ومغاربها.

وإنه على رحابة صدره لا يغضي عن الباطل إذا سمعه بل ينكره، وكذلك لا يدني أهل الابتداع والفساد، بل إذا عاملهم معاملةً حسنةً جعل ذلك سبيلاً لنصيحتهم وتغيير ما هم عليه.

وإن كثيراً من الدعاة إذا عدموا رحابة الصدر كانوا من المنفرين، فكثير منهم يكون صاحب غيرة وصاحب علم، ويأتي ناصحاً ولكنه يأتي بأسلوب لا يقبل، فيزيد ذلك صاحب الابتداع تمسكاً ببدعته.

وهذه السنة التي سلكها الشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى في رحابة الصدر مأخوذة من تأديب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159].

وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه أن رجلاً أتى عطاء بن أبي رباح فقال له: يا عطاء ! إنه يكون في مجلسك أنواع الناس، وإني أكلمهم فأقسو عليهم، ولا أراك تفعل ذلك، فقال: إني سمعت قول الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة:83]، فيدخل في ذلك اليهودي والنصراني، إنها كلمة عظيمة، وتوجيه من رب العالمين، يقتضي من الناس أن يقولوا حسناً.

ولذلك أخرج مالك رحمه الله تعالى في الموطأ: أن عيسى ابن مريم خرج ذات يوم في زقاق ضيق، فاستقبله خنزير، فقال له عيسى عليه السلام: أنفذ بسلام، فقيل له: يا نبي الله! أتقول هذا لخنزير؟! قال: أردت أن أعود لساني قول الخير. وروي عنه عليه السلام: أنه كان مع الحواريين ذات يوم في طريقهم، فمروا بجيفة كلب منتن، فقال الحواريون: ما أنتن رائحته! فقال عيسى: ما أحسن بياض أسنانه! فقيل له في ذلك، فقال: ذكرته بأحسن ما فيه.

إن من يتسع باله للناس هو الذي يستطيع التغيير لما هم عليه، ويستطيع التأثير فيهم، وأما من يشتد عليهم ويتجهم في غير موضع ذلك، فإنه لا يكون مؤثراً؛ ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين بال الأعرابي في طائفة المسجد: ( لا تزرموه، لا تزرموه، ثم دعاه بعد أن أمر بذنوب من ماء فأريق على بوله، فقال: إن هذه المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله وإقامة الصلاة ).

وقال للآخر الذي قال: واثكل أمياه! وقد تكلم في الصلاة، دعاه فقال: (إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن. قال: فبأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه، فوالله ما ضربني ولا كهرني ).

فهذا الذي يحتاج الناس إليه في تغيير ما هم عليه، وفي العدول عن أخطائهم.

إن رحابة صدر الشيخ معروفةً لدى الجميع، ولذلك فكثيراً ما يدفع الشيخ ضريبة هذه السعة، فيستنكر أقوام على الشيخ أنه يعامل بعض الذين يلاحظون عليهم بعض الملاحظات معاملةً حسنة، ويرون أن الأولى أن يشتد عليهم ويقسو عليهم ويخرجهم من مجلسه، لكن لم يكن الشيخ يأخذ بهذا، فإنكار أولئك هو ضريبة من ضرائب شموله واتساع باله، ورحابة صدره.

الجود والكرم

الصفة الأخرى من هذه الصفات هي: جوده، فهو من الأجواد المعدودين، والأسخياء المشهورين في زماننا هذا، ولذلك فإنه رحمه الله تعالى كان مأوىً للفقراء والمساكين، وأباً لهم من مختلف أنحاء الأرض، فمن أراد أن يرى المجلس الذي يضم مشارق الأرض ومغاربها وأصناف الناس وشرائحهم المختلفة فليأت إلى مسجد الشيخ، فسيجد فيه الناس ألواناً وأصنافاً، ويتكلمون بألسنة شتى، ويرفعون حوائج مختلفة، وكل ذلك يتسع له بال الشيخ، ويؤدي حقهم جميعاً، ولا يغفل عن حق أحد منهم.

بل قد حدثني أحد الذين يعرفونه وهو الدكتور عبد الله الحكمي: أن الشيخ أيام إدارته للجامعة الإسلامية بالمدينة أبلغ أن طلاب دار الحديث لم يجدوا عشاءً أو غداءً، فبكى الشيخ، وأمر سائقه أن يذهب بسيارته ويبيعها، فجاء بثمنها، فذهب به الشيخ حتى أطعم به طلاب هذه الدار من طلبة العلم، وسار الشيخ على رجليه إلى المسجد دون سيارة، وفي الليل جاء أحد المحسنين بسيارة جديدة أوقفها على الباب، وأدخل مفتاحها تحت الباب ولم يدر من هو، وهذا من سنة الله سبحانه وتعالى، فإن من يعطِ يعطَ، كما في حديث الملكين اللذين ينزلان فيقولان: ( اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً )، وإن من عباد الله من هم مفاتيح للخير مغاليق للشر، فهم بمثابة الأودية، فالأودية يجعلها الله في الأرض، فينزل المطر على الجبال والظراب والأماكن المرتفعة من الأرض، فيسيل الماء مع هذه الأودية حتى يسقي أرضاً لم يصبها المطر، وحتى ينتفع الناس بذلك الماء، فيزرعون منه، ويسقون ويرتعون، فكذلك أصحاب الجود في الأرض هم أودية السخاء يجري الله على أيديهم أرزاق الناس كل بقدر ما يبذل يعطى، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا[الرعد:17]، ولذلك يعطى كل أحد منهم على قدر ما يعطي، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما أنا قاسم، والله المعطي ).

ولهذا فإن الله قيض للشيخ كثيراً من الأغنياء الذين يبذلون جهدهم في جمع الدينار والدرهم، ثم يأتون به طائعةً به نفوسهم، طيبةً به أرواحهم، فيضعونه في يد الشيخ الأمينة، فيصرفه في مصارفه الشرعية، ويؤدي فيه الحقوق المشروعة، وبذلك يعلم أن كل من أنفق فسيخلف، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي أمرنا بالإنفاق، وقال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، فالمال مال الله يعطيه من يشاء من عباده، (والخلق عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله).

وكان الشيخ رحمه الله تعالى من الذين يحبون النفقة التي يسر بها صاحبها وصدقة السر، فكان ينفق كثيراً من النفقات التي يكتمها؛ يريد بذلك تحقيق ما جاء في حديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )، ولم يكن الشيخ يمن على أحد بما يعطي، بل كان بعض الناس في بعض الأحيان يتقال ما يعطيه الشيخ فيزيده حتى يرضى؛ أخذاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه: ( أتته ثياب فوزعها، فجاء مخرمة -وكان شيخاً كبيراً أعمى- يقوده ابنه، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فرمى له ثياباً، فقال: كنت خبأت لك هذه، فلما لبسها قال: أرضي مخرمة؟ )، وهذا من حسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنايته بمختلف شرائح المجتمع، وبذوي الحاجة منه، وهذا الدرس ما تعلمه شيخنا الشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى فأدى فيه الحق.

وكذلك يروى عنه أنه أمر بإعطاء شيك لفقير، فذهب هذا الفقير بالشيك، فزور فيه وغير الرقم، وأضاف صفراً إليه، فلما جاء لصرفه على الذي يصرف، تنبه إلى التزوير الذي فيه، فلما رفعت القضية للشيخ -وكان الناس يظنون أنه سيغضب- قال: أعطوه ما طلب، فلم يزور إلا وهو محتاج إلى ذلك.

ويذكر أحد الناس أن سارقاً هجم على بيت الشيخ، فقفز فيه أيام ما كان بيته بيتاً صغيراً في الرياض قديماً، فذكر ذلك للشيخ فقال: أعدوا له طعاماً، فجاء يحمل الطعام إليه وقال: كل ثم انصرف لذلك الباب حتى لا يراك أحد، فخرج الرجل وبكى، وسلم نفسه للشرطة لهذه المعاملة التي عامله بها الشيخ.

وهذا يذكرنا بما حصل لـأبي محجن الثقفي حين أطلق سراحه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين أنكى في الفرس نكايةً حسنة، وكان قد قيده في شرب الخمر، ولم يقم عليه الحد في أرض الحرب، فلما أنكى في العدو ورجع وفاءً بعهده فأعاد يديه ورجليه بالغل، فقال سعد -وهو يراه-: إن هذه البلقاء، والطعن طعن أبي محجن، ثم رآه في الغل، فسأل، فأخبر أنه قد سأل زوجة سعد أن تفك غله، وعاهدها إذا لم يقتل أن يرجع فيعيد نفسه في مكانه، فأطلقه سعد بيده، فتاب أبو محجن، وعزم ألا يعود إلى الخمر بعد ذلك.

وهذه المعاملة الحسنة كثيراً ما تكون سبباً للتوبة والرجوع، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم درساً عجيباً في الرجل الذي قال: ( لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخرج صدقته، فخرج بها فجعلها في يد زانية، فأصبح الناس يقولون: تصدق البارحة على زانية، فقال: لك الحمد على زانية، ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخرج صدقته، فخرج بها فوضعها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: لك الحمد على سارق، ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخرج صدقته، فأخذها فجعلها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني، فأتاه ملك فأخبره بأن هذه الصدقة لم تخب، وأنها أدت أفضل مما تؤديه الصدقة إلى الفقراء، فالغني لم يكن ينفق، فلما رأى من يتصدق اتعظ به فأراد أن يقدم شيئاً لآخرته، وهذه الزانية ما حملها على الزنا إلا الحاجة والفقر، فلما وجدت ما يغنيها تابت إلى الله تعالى وتركت ذلك، وهذا السارق كذلك ما حمله على السرقة إلا الفقر، فلما رأى من يرحمه ويساعده تاب من ذلك ورجع وأناب ).

فمثل هذه الدروس يحتاج إليها الدعاة، وينبغي أن يأخذوا بها.

غلبة النصيحة في دروسه وحياته

الصفة الأخرى من صفات الشيخ العجيبة هي: النصيحة، فإن الشيخ رحمه الله تعالى غلب عليه وصف النصيحة، فأدى الحق الذي شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي رقية تميم الداري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ).

وقد كان الشيخ رحمه الله ينصح لكل أحد، وكان يغلب على وقته النصح، فيخلل الدروس بالنصيحة، ويخلل الإفتاء بالنصيحة، ويخلل الكلام كله بالنصيحة.

ومن أعجب ذلك أنه لا تخلو كلمة من كلامه ولا درس من دروسه من نصيحة موجهة إلى عامة الناس، وقد سمعت في الإذاعة مقابلةً شخصيةً معه أذيعت ليلة وفاته رحمه الله، سئل فيها عن حياته، فتحدث عن حياته، وعن حياة شيخه العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله، فخلل هذه المقابلة بالنصيحة والدعاء، وهذا من تمام اتصافه بهذه النصيحة ورسوخها في ذهنه، فلا يستطيع أن يتكلم كلاماً إلا وهو مخلل بالنصيحة.

ومن الغريب أن نصيحته غلبت على فتواه أيضاً، فإذا أفتى بالحكم الشرعي المجرد لا يأتي به مجرداً، بل يشمله بالنصيحة، وهذا أخذاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري وغيره من حديث أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها: ( أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع خصامهما خرج إليهما، فقال: إنما أنا بشر مثلكم، وأنتم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقتطع له جمرة من النار، فليأخذه أو فليدعه، فبكى الرجلان وترادا ما بينهما، فقال: أما إذا أبيتما فاقتسماه واعدلا واقترعا ففعلا، وخرج كل واحد منهما راضٍ عن صاحبه ).

فرسول الله صلى الله عليه وسلم هنا لم يحكم بينهما بالحق المرئي فقط، بل نصحهما بهذه النصيحة البليغة المؤثرة حتى جعلت كل واحد منهما يرد الحق.

وهذه النصيحة تقتضي من الإنسان إذا سمع الحق أن يرد حقه هو ويتنازل عنه، وأهل الإيمان والتقوى إذا تذكروا ما عند الله، وتذكروا الدار الآخرة فإن ذلك يقتضي منهم إيثار الآخرة على الأولى، والخروج من الحقوق في هذه الدنيا؛ لأنهم يتذكرون العرض على الله سبحانه وتعالى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9]، فلذلك يريدون التحلل والخروج من هذه الحقوق في هذه الدنيا قبل العرض على الله سبحانه وتعالى، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس الذي يقول فيه: ( غلا السعر على زمان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقلنا: يا رسول الله! سعر لنا، فقال: إن الله هو الحي القيوم الخالق الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس أو مال )، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: ( وإني لأرجو أن ألقى الله غداً وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس أو مال ).

إن النصيحة ذات أثر بالغ في من يسمعها وبالأخص إذا خرجت من قلب صادق، فإنها تصل إلى شغاف القلوب، وتباشرها، وتنقلها الآذان بكل أمانة حتى توصلها إلى القلوب فتؤثر فيها، ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله حين سئل عن خطبته فإنه يتكلم بالآية أو الحديث اللذين يتكلم بهما كل أحد، فيبكي الناس، ولا يبكون عند سماع الآية أو الحديث من غيره، فسئل عن ذلك، فقال: ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، فالقلب الصادق إذا خرج منه كلام سيكون مؤثراً بالغ التأثير.

ومن هنا فإن من غلب عليه النصح لا بد أن يكون لنصيحته أبلغ الأثر، وشيخنا رحمه الله تعالى قد غلب عليه هذا النصح للمسلمين عموماً، ولأولياء الأمور وفقهم الله، ولمن سواهم من العلماء وطلبة العلم، وكان حريصاً على هداية هؤلاء أكثر ممن سواهم؛ لأن الناس إنما يقاسون بملوكهم وعلمائهم، فإن استقاموا استقام الناس، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -وسبقه إلى ذلك الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله-: الناس على دين ملوكهم، ومن هنا يهتم بصلاح هذه الطبقات المؤثرة في الناس، فإذا صلح أولياء الأمور وصلح العلماء صلح من سواهم، وفي شعر عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قوله:

وهل أفسد الناس إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

فهؤلاء إذا صلحوا صلح الناس، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى حين تولى الخلافة دعا رجاء بن حيوة، فقال له: يا رجاء! إني أريد إصلاحاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكني لا أرى رجاله، فقال: يا أمير المؤمنين! إن السلطان كالسوق يجلب إليها ما يروج فيها، فإن استقمت اجتمع إليك أهل الاستقامة، وإن اعوججت اجتمع إليك أهل الاعوجاج، ولذلك كان رجال عمر بن عبد العزيز من خيرة الناس؛ لأنه قد استقام هو فتبعه رجاله على ذلك. وقديماً يقول الحكيم:

تلقى الأمان على حياض محمد ثولاء مخرفة وذئب أطلس

لا ذي تخاف ولا لهذا صولة تهدى الرعية ما استقام الريس

وهذه الصفة وهي صفة النصيحة يشمل بها الشيخ من كان عنده، ويستمع إلى حديثه ومن كان بعيداً عنه، فقد كان يكتب الرسائل إلى الناس، ويوجه إليهم الكتب، فيكتب هذا كتاب: من عبد العزيز بن باز إلى من يبلغه من المسلمين. فنصيحته عامة شاملة، يسير بها الركبان في مشارق الأرض ومغاربها.

ومن هنا فإن الشيخ رحمه الله عندما لم يكن يرى جواز التصوير، لكن رأى أن أجهزة الإعلام هي التي توصل هذا الحق وهذه النصيحة إلى الأمة فقبل أن يوجه من خلالها، وكانت كلماته المنقولة في الإذاعة أو في التلفزة أو في المجلات أو الجرائد تطرق الأبواب المختلفة، وتصل إليها العيون والأيدي في مشارق الأرض ومغاربها فيتأثر الناس بها، ولولا ما سخر الله من وسائل الإعلام في زماننا هذا لما بلغت ما بلغت في هذه المدة اليسيرة.

العالمية والاهتمام بأمور المسلمين

كذلك من صفات الشيخ المعدودة التي يشهد بها الناس، ويعرفونها: أنه رحمه الله تعالى كان مهتماً بأمور المسلمين أجمعين، وكانت لديه روح عالمية، فلم يكن مقتصراً على بلد من البلدان، أو مهتماً بدولة من الدول، بل كان يستحضر قول الله تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون:52]، فيستشعر مسئوليته عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويستحضر أن هذه الأمة أمة واحدة، وأن أعداءها هم الذين قطعوها إرباً إرباً، وهم الذين فصلوا بينها بهذه الحدود، وبهذه الجنسيات.

ولم يكن رحمه الله تعالى يرضى بأن يقتصر خيره على الأقربين أو الذين يصل إليهم كلامه عن كثب، بل كان رحمه الله تعالى يهتم بأمور المسلمين أجمعين، فإذا سمع بحدث في أي مكان من أنحاء المعمورة، وكان هذا الحدث يحتاج فيه إلى بيان حكم الله تعالى، أو إبداء النصيحة بادر إلى ذلك، وكان يكتب إلى رؤساء الدول والحكومات، وإلى العلماء في مختلف البلدان، ويوجه إليهم الرسائل، ويسأل عن أحوالهم.

ومن الغريب في الشيخ أنه كان يحفظ أسماء عدد كبير من العلماء في مشارق الأرض ومغاربها ومن طلبة العلم كذلك، ومن العجائب: أنه إذا أتاه شخص فعرف مكانه الذي جاء منه سأله عن بعض مشاهير أهل العلم من أهل السنة في المكان الذي أتى منه، وقد جربنا هذا، فإذا هو يستحضر بعض الأسماء التي يستغرب حفظه لها، واستحضاره لها من مشارق الأرض ومغاربها من الذين يمكن ألا يكون قد جلس إليهم ولا رآهم، أو إن كان رآهم، ففي فترات يسيرة وأوقات قليلة، وقد رأى الآلاف من نظرائهم وأمثالهم، فهذه العالمية هي التي جعلت الشيخ محل ثقة عند الجميع، ومكان قبول لدى الناس أجمعين، ومن أجلها كان مرجعاً للمسلمين أجمعين؛ يرجعون إلى قوله، ويعودون إلى فتواه.

هذه بعض الصفات التي أردنا بيانها في هذا العلامة الشيخ رحمه الله تعالى، وهي ملخصةً: ما حباه الله تعالى به من سعة الأفق، ثم ما آتاه الله من وفور العقل، ثم ما آتاه الله تعالى من الجود وما فطره عليه من ذلك، ثم ما فطره الله عليه من النصيحة للمسلمين أجمعين، ثم ما آتاه الله تعالى كذلك من العالمية والاهتمام بأمور المسلمين، ويضاف إليها كذلك توظيفه لوقته في كل الأوقات، فهذه ست صفات من أبلغ صفات الشيخ وأهمها.

الصفة الأولى من هذه الصفات التي برز فيها الشيخ، ولا ينكرها من يعرفه، وظهرت آثارها في الأمة كلها، هي: أن الله سبحانه وتعالى ملكه وقته، فكان يستغل هذا الوقت أكمل استغلال، ولم يكن يضيع منه شيئاً، وهذا هو مقتضى معرفة أن الإنسان سيقف بين يدي الله، ومعرفته لمراقبة الله سبحانه وتعالى عليه، فإن هذا الوقت حجة لله قائمة على الناس.

والله تعالى يخاطب أهل النار يوم القيامة فيقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37]، فقد قامت الحجة لله تعالى على عباده بما آتاهم من الأعمار، وبما مكن لهم في هذه الدنيا، ومن هنا فإن شيخنا رحمه الله قد استغل وقته في هذه الدنيا، وما عرف أن وقتاً من أوقاته ليس له فيه عمل ولا شغل، ولذلك فإن من أعجب استغلاله لوقته أن المسافة التي يقطعها في السيارة بين بيته ومكتبه يكون عنده في السيارة من طلاب العلم من يقرءون عليه، وإذا ركب يقول: اقرأ.

وكذلك فإنه كان إذا أراد السفر من مدينة إلى أخرى لا يسافر إلا في إجازة الأسبوع؛ ليستكمل دوامه الرسمي كله، وكان بيته مكتبة للعمل، وعمله بيتاً لكل المسلمين، ومسجده مجلساً مفتوحاً لكل الناس، وكل أوقاته مشحونة بتعليم العلم وتعلمه، والنصح للمسلمين، والقيام بحوائجهم، والدعاء والعبادة.

ومن عجائب أموره في مجال استغلال الوقت: أنه رحمة الله عليه كان يجد وقتاً مخصصاً للنصيحة، فيكتب فيه الرسائل إلى المسلمين، وتعرض عليه أخبارهم ومهمات الحوادث، وذلك من واقع غيرته على دين الله تعالى، فيقتطع جزءاً يسيراً من الوقت ليسمع فيه أخبار العالم، وليعرض عليه ما تجدد من المهمات، وهذا الوقت يحتسبه عند الله تعالى كسائر أوقاته الأخرى، فلم يكن له وقت مخصص للراحة ولا للطعام، بل طعامه يتخلله الإفتاء والتدريس، وأوقاته كلها مشغولة بذلك.

وقد حدثني من أتاه ضيفاً في بيته القديم في الرياض من الدعاة الذين وفدوا إلى هذه البلاد من غير أهلها، قال: أتيت مدينة الرياض في ليلة شاتية، وقد جئت من سفر طويل، فلم أعرف أحداً أنزل عليه، فقصدت بيت الشيخ، فقلت: لعل الحارس يفتح لي مكاناً أستريح فيه، فحركت الباب، ففتح الحارس، فسمع الشيخ صوتي فعرفني، فأمر أهله أن يحضروا الطعام، فما راعني إلا الشيخ ينزل من الدرج يحمل الطعام بيده، ويتقدم ويناديني، فكان هذا بعد منتصف الليل في وقت متأخر، وهذه صورة واحدة من صور حياة هذا الشيخ رحمة الله عليه.

الصفة الثانية من صفاته، فقد آتاه الله فيها ما خصه به عن كثير من معاصريه، ألا وهي: وفور العقل، فإن الشيخ رحمه الله قد آتاه الله تعالى من تمام العقل، ودقة النظر والصواب الشيء العجيب جداً.

وحكاياته في هذا الباب كثيرة جداً، ومن أعظمها ما حدثني به أحد طلابه الملازمين له أنه كان ذات يوم في زمن قضائه بالدم في مجلس القضاء، فأتاه رجل يشكو أحد الكبراء قد اعتدى عليه وضربه، فدعا الشيخ هذا الكبير، فجلس في مجلس القضاء، فتبين الوجه الشرعي لصالح المظلوم، لكن رأى الشيخ بوفور عقله أنه إذا مكن المظلوم من أخذ حقه بيده سيكون ذلك فتحاً لباب الفتنة، ومدعاةً لحصول الشحناء والأخذ بالثأر، فتقدم الشيخ من مجلس القضاء حتى وقف على الظالم، فضربه بيده على ظهره ضرباته حتى رضي الخصم، وخرج من المجلس وليس بينهما شحناء، وهذا من وفور عقله وتمام حكمته.

ومثل ذلك: عدم استعجاله بالأمور واعتداله، فما هو إلا مظهر من مظاهر تمام عقله، فإنه لا يستعجل في اتخاذ المواقف، ولا يستفزه المستفزون، فيأتيه الناس من مختلف التوجهات، وتكتب إليه الرسائل بمختلف العبارات، ولكن كل ذلك لا يستفزه، ولا يستعجله على الموقف الصائب الحكيم، ومع هذا فإنه يستشير الناس ويريد الازدياد من عقول الناس، وهذا دليل على تمام عقله ووفور رأيه وحكمته، فإن من رضي بما عنده من العقل ولم يستشر الآخرين دل هذا على نقص عقله.

وقد كان رحمه الله تعالى يستشير كثيراً ممن هم دونه من طلابه وممن سواهم؛ يستشيرهم في أمور دينه ودنياه.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4274 استماع
أسئلة عامة [2] 4117 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع