الولاء والبراء ومقتضياتهما


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

نستحضر الآن النية للتلقي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاءنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم من عند ربنا من مقتضيات ما يجب على الإنسان اعتقاده وما يترتب على ذلك من العمل.

فمن ذلك: الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من كل من عادى الله جل جلاله، فذلك تقتضيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي أربعة أمور:

المقتضى الأول: ألا يصرف شيء من العبادة إلا لله جل جلاله؛ فلا يستحق أن يعبد إلا هو، فلا يمكن أن يصرف شيء من الصلاة ولا من الصوم ولا من النذر ولا من الصدقة ولا من غير ذلك من أنواع العبادات إلا لله وحده.

والمقتضى الثاني: ألا يصرف شيء من الدعاء إلا لله جل جلاله؛ فالتوكل عليه وحده، والتماس الحوائج منه وحده، وقد قال تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].

والمقتضى الثالث: ألا يشرع إلا الله جل جلاله، ومعناه: ألا يحكم بإيجاب ولا بتحريم ولا بندب ولا بسنة ولا بكراهة، ولا يأمر ولا ينهى إلا الله جل جلاله؛ لأنه وحده الذي يعلم الخفيات؛ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ[الشورى:53]، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14]، فهو الذي يعلم مآلات الأمور؛ ولذلك إذا شرع شيئاً فمعناه أنه المصلحة المتمحضة، فإذا أمر بشيء على وجه الوجوب فمعناه أنه لا يكون أبداً إلا مصلحة، وإذا أمر به على وجه الندب فمعناه أن الغالب أنه مصلحة، وقد لا يكون مصلحة في حق بعض الناس؛ فلذلك لم يوجبه، وإذا نهى عن شيء على وجه التحريم فمعناه أنه مفسدة دائماً في كل الظروف، وإذا نهى عنه على وجه الكراهة فمعناه أن أغلب أحواله يكون مفسدة، وقد تكون المفسدة فيه منتفية إذا زاحمتها مصلحة أخرى في بعض الأحيان؛ فلذلك لم يحرمه، ولذلك قال الله تعالى: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ[الشورى:21]؛ فإذاً لا يشرع إلا الله جل جلاله.

أما المقتضى الرابع: الولاء لله، بمعنى: تمام المحبة لله جل جلاله، أن نحب الله حباً شديداً، وقد قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165]، وهذا الحب مكتسب، ولا بد أن يحرص كل إنسان منا ذكراً أو أنثى، كبيراً أو صغيراً على زيادة حبه لله جل جلاله، وحب الله إنما يزداد بحسب معرفتك بالله جل جلاله، كلما ازددت معرفة بالله؛ كلما ازددت حباً له، إذا عرفته بأنه هو المتصف بجميع صفات الكمال، وأن كل نقص عليه محال، وأنه هو المنعم المتفضل في جميع الأحوال، وأنه باق جل جلاله لا تعروه الحوادث والآفات؛ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ[البقرة:255]، وأنه هو قيوم السموات والأرضين، وأنه هو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:41]، والسموات السبع والأرضون السبع قبضة يمينه يوم القيامة؛ وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الزمر:67]، وتذكرت ما أنعم به عليك أنت بالخصوص من نعمة الخلق والرزق والهداية للإيمان، والتوفيق للأعمال الصالحة، وما آتاك من السمع والبصر والقوة؛ فإنه قدر فهدى، وأنعم عليك بأنواع النعم التي لا تحصيها؛ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53]، إذا عرفت جزءاً من نعمته عليك فتذكر أن ذلك يضرب في أمثاله على والدك ووالدتك، ثم على أمثال ذلك في والد ووالدة والدك، ووالد ووالدة والدتك.. وهكذا إلى آدم عليه السلام؛ فالله أمرنا أن نشكر نعمته علينا وعلى والدينا فقال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ[النمل:19]؛ وذلك مما يزيد معرفتنا بالله ومحبتنا له جل جلاله.

عبادته والإقبال عليه وتعلق القلب به

إن محبة الله تقتضي عبادته والإقبال عليه، وتقتضي تعلق القلب به، وأن تكون معه في كل أوقاتك، وأن تستشعر أنه ينظر إليك جل جلاله؛ ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك )؛ فهذا تحقيق المحبة لله.

الولاء لله تعالى وطاعة أمره

والمحبة تقتضي الولاء له، ومعنى الولاء لله أن تحبه حباً شديداً بكل عاطفتك وقلبك، فإذا جاء أمره جل جلاله في مقابل مصلحة لك عرفت أن المصلحة يرمى بها عرض الحائط عندما تخالف أمر الله، وإذا جاء نهيه يخالف هواك؛ فإنك ترمي بهواك عرض الحائط، وهذا المقام متفاوت، وأهله متفاوتون فيه؛ فأعلى مقامات المحبة: الخلة، وقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً، واتخذ محمداً صلى الله عليه وسلم خليلاً كما قال: ( ولكن الله خليل صاحبكم )، والخلة معناها: أن تتخلل محبة الله القلب بحيث لا يبقى فيه محل لشيء آخر.

فـإبراهيم عليه السلام لما رزقه الله إسماعيل وبشره به، وبشره بأنه ولد عليم وأنه حليم، وبلغ معه السعي بعد أن كان ينتظره مدة طويلة، فعندما ولد له وهو في غاية الجمال وكمال الصورة؛ أمر أن يتركه وأمه عند غروب الشمس بواد غير ذي زرع، موحش بعيد من الأحياء، وأن تكون بينه وبينه مسافة شهر على الأقل للخيل؛ فذهب به وبأمه وتركهما بوادي مكة وليس لهما إلا ماء يسير في قربة؛ فكر راجعاً إلى الشام بعد أن ادلهم الظلام بين الجبال الشامخة والأودية السحيقة؛ فرفعت إليه الجارية رأسها فقالت: ( يا إبراهيم! آلله آمرك بهذا؟ فأشار برأسه -أي: نعم- قالت: إذاً لا يضيعنا ) فـإبراهيم معتمد على محبته لله؛ ولذلك يمكن أن يتخلص من كل محبوب إذا عارض محبة الله جل جلاله وأمره.

وبعد ذلك لما بلغ معه السير والسعي أمر في المنام أن يذبحه، فعرض ذلك على الولد فاستسلم استسلام الطائع المقاد، وقال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ[الصافات:102]، فتشهدا شهادة الحق؛ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ[الصافات:103]، وبدأ يباشر الذبح؛ فداه الله بذبح عظيم أنزله من السماء، فلما فتح إبراهيم عينيه إذا هو قد ذبح كبشاً لم يكن رآه من قبل ولا رأى ضخامته وجسامته، وإذا إسماعيل قائم عنده.

وهكذا كان حال محمد صلى الله عليه وسلم؛ فمن تمام محبته لله جل جلاله أنه لا يأنس بشيء كأنسه بالصلاة ومناجاة الله جل جلاله، قال: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة )، وكان يقول: ( أرحنا بها يا بلال )، ولا يشتاق إلى شيء اشتياقه للصلاة؛ لأن فيها مناجاة الملك الديان جل جلاله.

محبة كل من يحب الله أو يحبه الله

ومن تمام محبة الله جل جلاله: محبة كل من يحب الله أو يحبه الله؛ فنحن الآن نحب جبريل و إسرافيل و ميكائيل و محمداً صلى الله عليه وسلم و إبراهيم و موسى و عيسى و نوحاً ، وبقية أنبياء الله وملائكته حباً شديداً، وما رأيناهم ولا عرفناهم؛ وما ذاك إلا لأنهم أحبوا الله جل جلاله وعبدوه عبادته التي يستحقها، ونحن عاجزون عنها؛ فنحن نحب كل من يحب الله وكل من يعبد الله عبادته التي يستحقها.

ولذلك يتفاوت الناس في هذا الولاء؛ فأبلغ العباد ولاءً، أي: أبلغ من نحبه من العباد هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أحب العباد إلى الله وأفضلهم عنده؛ فلذلك لا يمكن أن تستوي محبتنا له بمحبتنا لأي كائن آخر، أياً كان ذلك الكائن، لابد أن نحبه حباً متميزاً كما قال الله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا[النور:63]، لابد أن نفديه بأنفسنا وأهلينا وأن يكون أولى من أنفسنا؛ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ[الأحزاب:6]؛ ولذلك قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )، وقال لـعمر : ( حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك ).

وهذا الحب حققه أصحابه رضوان الله عليهم، وحققه كبراء هذه الأمة من العصور كلها؛ فهذا عبيدة بن الحارث بن المطلب رضي الله عنه يوم بدر لما ضربه عتبة بن ربيعة على ساقه فأطن ساقه؛ فخرج مخه حمل وهو يجود بنفسه فوضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا رسول الله، وددت لو أن أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:

كذبتم وبيت الله تحلي محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل )

وهكذا كانت تمام محبتهم له؛ فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه من تمام محبته له أنه عندما خرج معه في الهجرة كان تارة يسير أمامه، ثم يتذكر أن الطلب يأتي من الخلف فيتأخر عنه، ثم يتذكر أنه قد يأتي من اليمين فيكون عن يمينه، ثم يتذكر أنه قد يأتي من الشمال فيكون عن شماله، ولما دخل الغار جاء أبو بكر فكان يسد بأقدامه كل فجوة في الغار؛ يخاف أن تكون فيها حية أو عقرب يريد أن تبث سمومها في جسده، ليكون فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا علي بن أبي طالب فقد فداه بنفسه لما تألب عليه المشركون يريدون أن يقتلوه أو أن يحسبوه؛ فجاء علي فلبس لباسه واضطجع على فراشه يريد أن يكون جسده فداءً لجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ[الأنفال:30].

وكذلك بقية الصحابة رضوان الله عليهم؛ فهذا خبيب بن عدي رضي الله عنه لما أسره المشركون يوم الرجيع وباعوه بمكة إلى أهلها، وكان ذلك في الشهر الحرام؛ فحبس في قيود الحديد حتى ينتهي الشهر الحرام، فلما انتهى خرجوا به خارج حدود الحرم ليقتلوه ويصلبوه، فقال له أبو سفيان بن حرب : يا خبيب ! أتحب أنك الآن بين ذويك وأهلك بالمدينة وأن ابننا محمداً عندنا نقتله ونصلبه؟ فانتفض خبيب وقال: والله ما أود لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه الذي هو فيه يشاك بشوكة وأنني بين أهلي! ولما حملوه ليصلبوه أنشد بيتيه المشهورين:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي

وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

وكذلك القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتلهم عامر بن الطفيل ببئر معونة سألوا الله أن يبلغ سلامه للنبي صلى الله عليه وسلم وهم يقتلون واحداً واحداً.

وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري رضي الله عنه لما أخذه مسيلمة الكذاب فقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، بملء فيه، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: أنا أصم! فقطع يمينه، ثم أعاد إليه السؤال فقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: أنا أصم! فقطع شماله.. حتى قطعه إرباً إرباً وهو ثابت على قوله لا يغيره.

ومن تمام محبتهم له: محبتهم لكل ما يتعلق به، وولائهم له صلى الله عليه وسلم ودفاعهم عنه؛ فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه قال لـعروة بن مسعود رضي الله عنه بالحديبية لما قال: ( يا محمد، ما أرى معك إلا أشابة من الناس، جدير أن يفروا عنك ويتركوك، وإن قومك قد لبسوا جلود النمور وصحبوا العوذ المطافيل، يعاهدون الله ألا تدخلها عنوة أبداً قال له أبو بكر : امصص بظر اللات! ويلك أنفر ونترك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ) فهذا ليس معقولاً ولا يمكن أن يتصور أصلاً.

الاستعداد لحماية دين الله بالنفس والمال

وهذا الولاء لله جل جلاله يقتضي أن يكون الإنسان مستعداً لحماية دين الله بنفسه؛ فيقول ما قال موسى بن عمران : وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:84]، فإذا هددت بيضة الإسلام فإنه يكون مستعداً لاستقبال الرصاص بصدره ويقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] كما قال موسى عليه السلام، ويكون مستعداً لحماية الدين بأي وجه؛ بماله، بنفسه، بأهله.. بكل ما لديه.

وانظروا إلى ذلك الشيخ الكبير صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، فقد كان من كبار التجار بمكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ضاقت الأرض بما رحبت على صهيب حين فقد النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وأرد أن يهاجر إليه بالمدينة؛ فخرج وترك جميع أمواله ولم يأخذ إلا قوساً تنكبها وكنانة ملأها بالسهام، فخرج وهو عاصب حاجبيه قد سقطا على عينيه من الكبر، فتبعه رجال أهل مكة، فلما اقتربوا منه صاح في وجوههم؛ فقال: يا أهل مكة! تعلمون أنه ليس بيني وبينكم رحم، وإنما تطلبون مالي وقد تركت لكم جميع أموالي وما خرجت إلا بهذه الكنانة وفيها هذه السهام؛ فنثرها، والله لن تصلوا حتى ينفد ما لدي من السهام، ولا يصدر سهم منها إلا في كبد أحدكم، فقال أبو سفيان : لقد صدقكم الشيخ وأنصفكم؛ فلا خير فيكم بعد أن يقتل منكم هذا العدد فارجعوا، فرجعوا وتركوه يخرج مهاجراً إلى الله ورسوله.

وكذلك امرأتان مؤمنتان شهد الله لهما بالإيمان، وهما حمنة بنت جحش و أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وقد خرجتا مهاجرتين من مكة إلى المدينة تحملان قربة فيها ماء، ليس لهما زاد إلا هذه القربة، وليس لهما راحلة تركبانها، وهما تسيران في الأرض الموحشة التي فيها السباع والأعداء واللصوص.

إن محبة الله تقتضي عبادته والإقبال عليه، وتقتضي تعلق القلب به، وأن تكون معه في كل أوقاتك، وأن تستشعر أنه ينظر إليك جل جلاله؛ ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك )؛ فهذا تحقيق المحبة لله.

والمحبة تقتضي الولاء له، ومعنى الولاء لله أن تحبه حباً شديداً بكل عاطفتك وقلبك، فإذا جاء أمره جل جلاله في مقابل مصلحة لك عرفت أن المصلحة يرمى بها عرض الحائط عندما تخالف أمر الله، وإذا جاء نهيه يخالف هواك؛ فإنك ترمي بهواك عرض الحائط، وهذا المقام متفاوت، وأهله متفاوتون فيه؛ فأعلى مقامات المحبة: الخلة، وقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً، واتخذ محمداً صلى الله عليه وسلم خليلاً كما قال: ( ولكن الله خليل صاحبكم )، والخلة معناها: أن تتخلل محبة الله القلب بحيث لا يبقى فيه محل لشيء آخر.

فـإبراهيم عليه السلام لما رزقه الله إسماعيل وبشره به، وبشره بأنه ولد عليم وأنه حليم، وبلغ معه السعي بعد أن كان ينتظره مدة طويلة، فعندما ولد له وهو في غاية الجمال وكمال الصورة؛ أمر أن يتركه وأمه عند غروب الشمس بواد غير ذي زرع، موحش بعيد من الأحياء، وأن تكون بينه وبينه مسافة شهر على الأقل للخيل؛ فذهب به وبأمه وتركهما بوادي مكة وليس لهما إلا ماء يسير في قربة؛ فكر راجعاً إلى الشام بعد أن ادلهم الظلام بين الجبال الشامخة والأودية السحيقة؛ فرفعت إليه الجارية رأسها فقالت: ( يا إبراهيم! آلله آمرك بهذا؟ فأشار برأسه -أي: نعم- قالت: إذاً لا يضيعنا ) فـإبراهيم معتمد على محبته لله؛ ولذلك يمكن أن يتخلص من كل محبوب إذا عارض محبة الله جل جلاله وأمره.

وبعد ذلك لما بلغ معه السير والسعي أمر في المنام أن يذبحه، فعرض ذلك على الولد فاستسلم استسلام الطائع المقاد، وقال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ[الصافات:102]، فتشهدا شهادة الحق؛ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ[الصافات:103]، وبدأ يباشر الذبح؛ فداه الله بذبح عظيم أنزله من السماء، فلما فتح إبراهيم عينيه إذا هو قد ذبح كبشاً لم يكن رآه من قبل ولا رأى ضخامته وجسامته، وإذا إسماعيل قائم عنده.

وهكذا كان حال محمد صلى الله عليه وسلم؛ فمن تمام محبته لله جل جلاله أنه لا يأنس بشيء كأنسه بالصلاة ومناجاة الله جل جلاله، قال: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة )، وكان يقول: ( أرحنا بها يا بلال )، ولا يشتاق إلى شيء اشتياقه للصلاة؛ لأن فيها مناجاة الملك الديان جل جلاله.

ومن تمام محبة الله جل جلاله: محبة كل من يحب الله أو يحبه الله؛ فنحن الآن نحب جبريل و إسرافيل و ميكائيل و محمداً صلى الله عليه وسلم و إبراهيم و موسى و عيسى و نوحاً ، وبقية أنبياء الله وملائكته حباً شديداً، وما رأيناهم ولا عرفناهم؛ وما ذاك إلا لأنهم أحبوا الله جل جلاله وعبدوه عبادته التي يستحقها، ونحن عاجزون عنها؛ فنحن نحب كل من يحب الله وكل من يعبد الله عبادته التي يستحقها.

ولذلك يتفاوت الناس في هذا الولاء؛ فأبلغ العباد ولاءً، أي: أبلغ من نحبه من العباد هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أحب العباد إلى الله وأفضلهم عنده؛ فلذلك لا يمكن أن تستوي محبتنا له بمحبتنا لأي كائن آخر، أياً كان ذلك الكائن، لابد أن نحبه حباً متميزاً كما قال الله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا[النور:63]، لابد أن نفديه بأنفسنا وأهلينا وأن يكون أولى من أنفسنا؛ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ[الأحزاب:6]؛ ولذلك قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )، وقال لـعمر : ( حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك ).

وهذا الحب حققه أصحابه رضوان الله عليهم، وحققه كبراء هذه الأمة من العصور كلها؛ فهذا عبيدة بن الحارث بن المطلب رضي الله عنه يوم بدر لما ضربه عتبة بن ربيعة على ساقه فأطن ساقه؛ فخرج مخه حمل وهو يجود بنفسه فوضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا رسول الله، وددت لو أن أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:

كذبتم وبيت الله تحلي محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل )

وهكذا كانت تمام محبتهم له؛ فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه من تمام محبته له أنه عندما خرج معه في الهجرة كان تارة يسير أمامه، ثم يتذكر أن الطلب يأتي من الخلف فيتأخر عنه، ثم يتذكر أنه قد يأتي من اليمين فيكون عن يمينه، ثم يتذكر أنه قد يأتي من الشمال فيكون عن شماله، ولما دخل الغار جاء أبو بكر فكان يسد بأقدامه كل فجوة في الغار؛ يخاف أن تكون فيها حية أو عقرب يريد أن تبث سمومها في جسده، ليكون فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا علي بن أبي طالب فقد فداه بنفسه لما تألب عليه المشركون يريدون أن يقتلوه أو أن يحسبوه؛ فجاء علي فلبس لباسه واضطجع على فراشه يريد أن يكون جسده فداءً لجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ[الأنفال:30].

وكذلك بقية الصحابة رضوان الله عليهم؛ فهذا خبيب بن عدي رضي الله عنه لما أسره المشركون يوم الرجيع وباعوه بمكة إلى أهلها، وكان ذلك في الشهر الحرام؛ فحبس في قيود الحديد حتى ينتهي الشهر الحرام، فلما انتهى خرجوا به خارج حدود الحرم ليقتلوه ويصلبوه، فقال له أبو سفيان بن حرب : يا خبيب ! أتحب أنك الآن بين ذويك وأهلك بالمدينة وأن ابننا محمداً عندنا نقتله ونصلبه؟ فانتفض خبيب وقال: والله ما أود لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه الذي هو فيه يشاك بشوكة وأنني بين أهلي! ولما حملوه ليصلبوه أنشد بيتيه المشهورين:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي

وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

وكذلك القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتلهم عامر بن الطفيل ببئر معونة سألوا الله أن يبلغ سلامه للنبي صلى الله عليه وسلم وهم يقتلون واحداً واحداً.

وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري رضي الله عنه لما أخذه مسيلمة الكذاب فقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، بملء فيه، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: أنا أصم! فقطع يمينه، ثم أعاد إليه السؤال فقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: أنا أصم! فقطع شماله.. حتى قطعه إرباً إرباً وهو ثابت على قوله لا يغيره.

ومن تمام محبتهم له: محبتهم لكل ما يتعلق به، وولائهم له صلى الله عليه وسلم ودفاعهم عنه؛ فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه قال لـعروة بن مسعود رضي الله عنه بالحديبية لما قال: ( يا محمد، ما أرى معك إلا أشابة من الناس، جدير أن يفروا عنك ويتركوك، وإن قومك قد لبسوا جلود النمور وصحبوا العوذ المطافيل، يعاهدون الله ألا تدخلها عنوة أبداً قال له أبو بكر : امصص بظر اللات! ويلك أنفر ونترك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ) فهذا ليس معقولاً ولا يمكن أن يتصور أصلاً.

وهذا الولاء لله جل جلاله يقتضي أن يكون الإنسان مستعداً لحماية دين الله بنفسه؛ فيقول ما قال موسى بن عمران : وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:84]، فإذا هددت بيضة الإسلام فإنه يكون مستعداً لاستقبال الرصاص بصدره ويقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] كما قال موسى عليه السلام، ويكون مستعداً لحماية الدين بأي وجه؛ بماله، بنفسه، بأهله.. بكل ما لديه.

وانظروا إلى ذلك الشيخ الكبير صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، فقد كان من كبار التجار بمكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ضاقت الأرض بما رحبت على صهيب حين فقد النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وأرد أن يهاجر إليه بالمدينة؛ فخرج وترك جميع أمواله ولم يأخذ إلا قوساً تنكبها وكنانة ملأها بالسهام، فخرج وهو عاصب حاجبيه قد سقطا على عينيه من الكبر، فتبعه رجال أهل مكة، فلما اقتربوا منه صاح في وجوههم؛ فقال: يا أهل مكة! تعلمون أنه ليس بيني وبينكم رحم، وإنما تطلبون مالي وقد تركت لكم جميع أموالي وما خرجت إلا بهذه الكنانة وفيها هذه السهام؛ فنثرها، والله لن تصلوا حتى ينفد ما لدي من السهام، ولا يصدر سهم منها إلا في كبد أحدكم، فقال أبو سفيان : لقد صدقكم الشيخ وأنصفكم؛ فلا خير فيكم بعد أن يقتل منكم هذا العدد فارجعوا، فرجعوا وتركوه يخرج مهاجراً إلى الله ورسوله.

وكذلك امرأتان مؤمنتان شهد الله لهما بالإيمان، وهما حمنة بنت جحش و أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وقد خرجتا مهاجرتين من مكة إلى المدينة تحملان قربة فيها ماء، ليس لهما زاد إلا هذه القربة، وليس لهما راحلة تركبانها، وهما تسيران في الأرض الموحشة التي فيها السباع والأعداء واللصوص.

وهذا الولاء به يذاق طعم الإيمان وحلاوته، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار )، والثلاثة كلها عاطفية تتعلق بالمحبة والكره.

الأولى: محبة الله ورسوله حباً شديداً لا يعدله حب آخر.

الثانية: أن يحب الإنسان إنساناً لا يحبه إلا لله، ليس بينه وبينه نسب ولا يرجو منه نفعاً مادياً، وليس بينهما أية علاقة إلا أنه يرى أنه يحب الله فيحبه من أجل محبته لله.

الثالثة: أن يكره الكفر؛ فيكره أن يعود فيه كما يكره أن يحمل ويرمى في النار، أي: أشد أنواع الكراهة.

هذا الولاء شرطه الله على المؤمنين وندبهم إليه؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ[المائدة:51-53]، ثم يقول بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[المائدة:54-57].

وقد نعى الله على اليهود الإخلال بهذا الولاء والبراء؛ فقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[المائدة:78-81]، كما حذر الله المؤمنين منه في آيات كثيرة من الإخلال بهذا الولاء والبراء؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا[النساء:144]، وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:28]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ[الممتحنة:1]، وقال قبل ذلك: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[المجادلة:22]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ[النساء:144]، التي في سورة التوبة يقول فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ[التوبة:23-24].

الأخوة بين المؤمنين

بين النبي صلى الله عليه وسلم لوازم هذا الولاء والبراء؛ فبين ما يقتضيه من حق الأخوة؛ لأن الولاء الديني بين المؤمنين أساسه النسب الديني الذي هو الأخوة بين المؤمنين، وقد أكدها الله بقوله: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]، وبين استمرارها في الآخرة فقال: إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[الحجر:45-47]؛ فأثبت الأخوة أيضاً في الدار الآخرة مع أنها حاصلة في الدنيا في قوله: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]. وبين استمرار هذا الولاء ومقتضياته بقوله: وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ[التوبة:71].

وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بضعاً، وشبك بين أصابعه )، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم )، ومثل قوله: ( ذمة المؤمنين واحدة )، وكل ذلك يقتضي أن هذا الولاء يقتضي التعاون على البر والتقوى، ويقتضي المحبة في الله والمساعدة على طاعته.

أقسام الولاء للمؤمنين

ثم بعد ذلك لابد من الولاء للمؤمنين جميعاً، وهو ينقسم إلى قسمين: ولاء عام، وولاء خاص؛ فالولاء العام بمعنى: محبة المؤمنين جميعاً ومحبة الخير لهم جميعاً، أحياءً وأمواتاً، وكذلك الدعاء لهم جميعاً، وأن يشعر الإنسان بانتمائه لهذه الأمة وأنه من أفرادها؛ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[المؤمنون:52]؛ فلابد أن نستشعر جميعاً أننا لبنات من لبنات بناء هذه الأمة وصرحها الكبير؛ فعلى كل إنسان منا أن يعلم ما للأمة من الحقوق عليه، وأن عليه أن يسعى لتقدم هذه الأمة بين الأمم والتمكين لها ونصرتها.

ثم بعد ذلك الولاء الخاص للعاملين للإسلام والداعين إليه والساعين لإعلاء كلمة الله ورفع لواء هذا الدين؛ فلهم ولاء خاص زائد على الولاء العام الذي هو لكل المؤمنين، وقد ذكرنا دليله في خواتيم سورة الأنفال في قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[الأنفال:72].

محبة المؤمنين جميعاً ومحبة الخير لهم

وهذا الولاء للمؤمنين يقتضي محبتهم أجمعين ومحبة الخير لهم، سواءً من عرفته منهم ومن لم تعرفه، وأن تحس بآمالهم وآلامهم؛ فلا يمكن أن يتألم أهل غزة أو أهل العراق أو أهل أفغانستان أو أهل كشمير أو أهل الصومال أو أهل السودان ويبقى غيرهم من الأمة في أمان، لابد أن يشعر الإنسان بحال المعذبين في السجون وبحال الأيامى واليتامى والضعفة من المسلمين، ولا بد أن يحس بحقوقهم وأنهم إخوان له، وأنه لا يمكن أن ينعم بأرغد عيش وهم يعانون ما يعانون من أنواع الويلات والبلاء.

الدعاء لهم وبذل الجهد في تخفيف معاناتهم

واستشعار ذلك يقتضي من الإنسان الدعاء لهم وبذل الجهود في تخفيف معاناتهم بكل ما يستطيعه ولو بكلمة؛ فإن الإنسان لا يكلف إلا بما يطيقه؛ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا[الطلاق:7]، والإنسان إذا أحس بآلام الأمة وجروحها النازفة؛ كثيراً ما تأخذه حرقة وغيرة شديدة، ويريد أن يتصرف فيما لا يستطيع التصرف فيه، وإذا تذكر أنه لم يكلف إلا بما يطيق فإن ذلك سيرده إلى صوابه، ويعلم أنه مخاطب بما يستطيعه، وليس مخاطباً بما سوى ذلك ولا تكليف له به، وما لم يكلف الإنسان به فاعتداؤه عليه هو من تجاوز الأدب في الإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فما هو عاجز عنه ليس مما يعنيه، وقد قال أبو العلاء :

أرى العنقاء تكبر أن تصاد فعاند من تطيق له عنادا

فكل يدفع بحسب طاقته وقدرته، ولو شاء الله لجعل طاقة الناس متحدة، ولو شاء لمنعهم أجمعين مما يتصرفون فيه، ولو شاء لأعطاهم أكثر مما أعطاهم، له الحكمة البالغة جل شأنه؛ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].

فلابد أن نستشعر حال المسلمين جميعاً وأن نسعى لتخفيف معاناتهم كل بحسب طاقته؛ فإذا كان الإنسان يستطيع بذل دعاء؛ فيجب عليه ألا يقصر في ذلك، وإذا كان يستطيع بذل شفاعة فيجب عليه ألا يقصر في ذلك، وإذا كان يستطيع بذل جاه أو مال وجب عليه ذلك، وإذا كان يستطيع بذل قوة فيجب عليه أن يفعل ذلك إذا كان قادراً عليه وكان مجدياً، وإذا كان يستطيع نفعهم بأي أمر آخر حتى ولو بقراءة القرآن عليهم والرقى الشرعية كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه قال: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، لما سئل عن الرقى قال: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )؛ فكل نفع للمسلمين داخل في إطار الولاء لهم، وهذا الولاء معناه: المحبة والنصرة في الدين، فقد لا تكون تحب إنسان لذاته؛ فشكله لا يعجبك، أو طبعه لا يعجبك، أو لا تتفاهم معه في لغته، لكن لابد أن تحبه من أجل دينه، بقدر التزامه بهذا الدين؛ فإذا كان صالحاً، تاركاً للمحرمات، مقبلاً على الطاعات؛ تحبه بقدر ذلك حباً شديداً، وإذا كان فاسقاً عاصياً؛ تكرهه بقدر معصيته، وتحبه بقدر إيمانه، فيجتمع فيه الولاء والبراء بقدر كل واحد منهما، أي: بقدر ما فيه من الطاعة والمعصية.