التوكل على الله


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده تمام التوكل عليه، وبين أنه وحده الذي يستحق أن يعتمد عليه، وأن يسأل في اللأواء وأن تبسط إليه أكف الضراعة، وأنه وحده الذي يغيث المضطر ويجيبه إذا دعاه، وأنه ليس أحد من خلقه قادراً على ذلك؛ فقد قال الله تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14]، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالتوكل عليه: وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم:12].

وهذا التوكل له أثر عجيب في تقوية الإنسان؛ فإن الإنسان إذا علم أن الخلائق جميعاً لا تملك لأحد نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً؛ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ [الحج:73]؛ هان عليه أمر الحوادث جميعاً، وتعلق بالرب جل جلاله فأراد تحسن العلاقة به والاتصال به وبذل كل حقوقه، وبذلك يكون قلبه حياً مرتبطاً بالله جل جلاله، وهو الحي القيوم.

وهذه القوة العجيبة التي ينالها الإنسان تقتضي منه الشجاعة في الحق، وتقتضي منه كذلك التغلب على الخلق؛ فهذا التوكل على الرب جل جلاله يقتضي من العباد قوة عجيبة ينتصرون بها على الخلائق؛ لأن العبد إذا علم أن ما قدر له قد كتب وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن من سوى الله لا يملك له نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً؛ لن يتأثر بضغوط المخلوقين ولن يخضع لهم؛ لعلمه أن مراده وحاجته عند الله، وأن ما آتاه الله لا يستطيع أحد أن يمنعه منه؛ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]، مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38].

وهذه القوة تقتضي من الإنسان الانتصار على نفسه؛ لأن النفس إنما تضعف بسبب الفقر والحاجة أو بسبب المذلة للمخلوفين؛ فما يعتري الإنسان من الضعف سببه الطمع في المخلوق أو الخوف منه؛ فإذا كان الإنسان متحرراً من الخوف من المخلوقين، متحرراً من الطمع فيهم؛ حينئذ سينال هذه القوة التي تغنيه عن المخلوقين؛ فلا يذل لأي ضغط من ضغوطهم؛ ولذلك قال الحكيم:

أنى أذل لمخلوق على طمع هلا سألت الذي أعطاه يعطيني

وكذلك فإن هذه القوة أيضاً تقتضي انتصاراً على الأعداء؛ لأن كثيراً من الهزيمة إنما هو أمر نفسي؛ فهزيمة هذه الأمة الآن أمام أعدائها هي من الأمور النفسية، فإن الأعداء كانوا من قبل أكثر من الآن وأقوى، ولنتذكر أيام الخندق مثلاً كم كان عدد هذه الأمة؟! وكم كانت طاقتها؟! وكم كان أعداؤها؟! وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:9-15]؛ فعندما توكل المؤمنون على الله سبحانه وتعالى واعتمدوا عليه وحده؛ نصرهم الله على أعدائهم فلم تبق لأعدائهم باقية.

التوكل على الله من دروس الزمان التي تتكرر؛ فإبراهيم الخليل عليه السلام عندما تألب عليه قومه وكانت عداوتهم تبدأ بالأقربين؛ فأول من عاداه أبوه الذي نجله وأهل بيته، وتألبوا عليه جميعاً؛ حتى كانت المرأة إذا أرادت أن يولد لها ولد أو أن تبرأ من مرض تنذر لأصنامها أن تأتي بحطب تزيد به النار التي تشعل لإبراهيم عليه السلام، وجمعوا الحطب من مختلف أرجاء بلادهم، وبنوا ذلك المبنى الشاهق فملئوه بالحطب وأضرموا فيه النار مدة من الزمن، ثم جعلوا إبراهيم في المنجنيق مكتوفاً ورموا به في النار؛ فقال: (حسبي الله ونعم الوكيل). وعندما رفع إبراهيم في المنجنيق عرض له جبريل عليه السلام فقال: هل لك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم. فإبراهيم عليه السلام متصل بالله سبحانه وتعالى متوكل عليه، لا يتوكل على أحد من المخلوقين حتى لو كان جبريل روح القدس، أمين الوحي عليه السلام، وعندما يعرض له ويسأله: هل لك حاجة؟ يقول: أما إليك فلا، فليس له حاجة إلى أي مخلوق؛ وبهذا نال الخلة، والخلة هي أن تخالط محبة الله تعالى شغاف قلب العبد بحيث لا يبقى فيه مكان لمحبة شيء آخر.

وإبراهيم عليه السلام بهذا قد نصره الله سبحانه وتعالى فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70]، فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ [الصافات:98]؛ فنصره الله عليهم وأعزه وقواه، وقد امتحنه الله سبحانه وتعالى في هذا التوكل بعدة امتحانات لكنه نجح فيها جميعاً؛ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، امتحانات عجيبة جداً في التوكل على الله تعالى؛ فلم يخالج قلبه طمع في مخلوق أو خوف منه.

وعندما رزق ولداً بعد أن تجاوز ستاً وثمانين سنة لم يرزق فيها بولد رزقه الله إسماعيل عليه السلام، وكان أكمل الناس صورة وأحسنهم خلقاً وأبرهم بأبويه، ولما بلغ معه السعي وكان يساعده في العمل رأى في النوم أنه يذبحه، فلم يكن من إبراهيم إلا أن بادر لتلبية أمر الله سبحانه وتعالى حتى لو كان رؤيا في المنام؛ فعرض ذلك على ولده فأجاب بكل ثبات وصدق: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، فأضجعه إبراهيم وتله للجبين على طرف جبهته يريد أن يذبحه من قفاه حتى لا يرى السكين وقت الذبح، فغمض إبراهيم عينيه ففداه الله تعالى بكبش كبير سمين، فكان فداءً لإسماعيل عليه السلام فجرت السكين في ذبحها على الكبش وإذا إسماعيل واقف عنده.

وكذلك فإن إبراهيم امتحن قبل هذا -قبل ذبح إسماعيل- بأن يضعه هو وأمه بواد غير ذي زرع ليس فيه أحد، ما فيه إلا الحيات والعقارب والسباع، ليس فيه ماء ولا مرعى؛ فلما حمل الجارية وابنها إلى ذلك الواد الموحش وأراد في آخر النهار وقد أقبل ظلام الليل أن يتركهم بين تلك الجبال الموحشة؛ رفعت إليه الجارية رأسها فقالت: آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه، أي: نعم؛ فقالت: إذاً لا يضيعنا؛ فكل آل إبراهيم تربوا على هذا التوكل على الله سبحانه وتعالى وتمام الثقة به بحيث لا يخالجهم طمع في مخلوق ولا خوف منه؛ فهذه الجارية الصغيرة قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.

وكذلك فإنه عليه السلام بعد هذا لما أمر ببناء الكعبة وأمر ببناء بيت المقدس قد تكلف أعباءً جساماً في ذلك، وكان في ذلك صادقاً مع الله سبحانه وتعالى متوكلاً عليه، وقد تعرض لأذى الملوك، ومع ذلك لم يتأثر بما قدموه؛ فعندما جاء إلى ملك الشام الذي كانت تخضع له البلاد والعباد وتذل له، وأحضر إليه إبراهيم عليه السلام جادله في ربه؛ قال له هذا الملك الجبار: من ربك يا إبراهيم؟! قال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258]مر؛ فقال الجبار: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، فجاء بسجينين فأعدم أحدهما -قتله- وأطلق سراح الآخر؛ فقال: أنا أحييت هذا وقتلت هذا؛ فأنا أحيي وأميت، قال إبراهيم: فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258]، ولم يجد جواباً بعد أن سأله هذا السؤال: : فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ [البقرة:258].

وكذلك بعد إبراهيم كان هذا التوكل سمة أنبياء الله وسمة المؤمنين الصادقين، رجالاً كانوا أو نساءً؛ فمن أمثلة تمام التوكل في النساء أم موسى عليه السلام، فإن الله أوحى إلى أنبيائه السابقين أن رجلاً من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم سيكون سبب هلاك طواغيت مصر وزوال حكم الفراعنة، ووصلت هذه المعلومة إلى الفراعنة فكانوا يتناقلونها، ثم علم فرعون مصر في أيام موسى أنه من سيزول ملك مصر في عهده؛ فأراد أن يذل بني إسرائيل؛ فكان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، وكل مولود ذكر يقتله ويترك نساءهم، وقد أذلهم بأنواع العمل والمهانة وأراد أن يفشي فيهم الجهل والتخلف؛ فجعلهم جميعاً من طبقة المزارعين الذين ليس لهم حظ في التقدم ولا في الدراسة ولا في العلم؛ فاشتغل بنو إسرائيل بذلك.

أركان الطغيان التي امتلكها فرعون

وقد اجتمع الطغيان لملك مصر إذ ذاك؛ فهو أولاً مغرور بنفسه يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ويظن أن الخلائق جميعاً سيصدقونه في كل ما يقول؛ فهذا أول ركن من أركان الطغيان: أن يكون الإنسان مغروراً ويرى أن الناس سيصدقونه في كل ما يقول، ولو قال لهم: إن الشمس تطلع من الغرب لصدقوه، وقد كان أهل مصر إذ ذاك قد خضعوا لسلطانه وذلوا لكبريائه؛ فإذا استخفهم أطاعوه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54].

والركن الثاني من أركان الطغيان إذ ذاك: وزيره الذي يخيل إليه أن ما هو عليه هو الصواب؛ فالمقربون منه ويمثلهم إذ ذاك هامان يرونه أن الحق هو ما لديه، وأن كل ما يطلبه من الطلبات فهم سيوفرونه حتى لو كان بناءً يصل إلى السماء.

وكذلك الركن الثالث من أركان الطغيان: رجال الأعمال الذين يسخرون أعمالهم لخدمة الطواغيت ويساعدونهم بها في إذلال الناس وجعلهم يخنعون للظالمين، ويمثل أولئك قارون الذي أوتي من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة؛ فسخر ذلك للدعاية لذلك الطاغي الملك.

والركن الرابع من أركان الطغيان: هو رجال الدين الذين يتأولون لكل ما يقوله الملك ويجعلونه أمراً مقدساً، ويضفون عليه قداسة ويبحثون له عن أدلة وتخريجات، ويمثلهم إذ ذاك السحرة الذين يرون أن ملك فرعون وعزته محل للتقديس؛ فيقسمون بذلك، قالوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء:44].

والركن الخامس من أركان الطغيان: الجنود الذين يطيعون أمر الطاغي؛ فيذللون له العباد ويظلمون له ويجمعون له المكوس والضرائب، ويمثلهم إذ ذاك جنود فرعون الحاشرين الذين يحشرون الناس.

والركن السادس من أركان الطغيان: رجال الصحافة الذين يشيعون في الناس ثقافة الانهزام والخنوع للطاغية، ويذللونهم له ويجعلونهم يقدسونه ويقدسون أوامره ويجتمعون له، ويمثلهم كذلك الذين كانوا يدعون الناس للاجتماع فيقولون: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الشعراء:40].

فاجتمعت هذه الأركان جميعاً لـفرعون فأكمل الطغيان في الأرض، ووصل إلى مقام لم يصل إليه طاغية قبله؛ لأنه لم يقل أحد قبله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24].

تربية موسى في قصر فرعون

عندما ولد موسى لأمه كانت تخاف عليه هذا الطاغية خوفاً شديداً، وقد ملئ قلبها بمحبة موسى عليه السلام وعرفت أنه الرسول المنقذ، وذلك بما قذف الله في قلبها من الإلهام أن ولدها هذا سيكون من المرسلين؛ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ [القصص:7]، فلما اشتد خوفها عليه خالفت سنة النساء؛ فعادة المرأة إذا خافت على ولدها أن تضمه إلى صدرها، وهي خالفت ذلك فرمته في البحر، رمته في مكان الخوف عندما أمرها الله بذلك فجعلته في تابوت ورمته في أمواج البحر، فاضطربت الأمواج وتلاطمت دونه وهي تراه يحمله التيار وينخفض به حتى أوصله إلى قصر فرعون .

والمكان مخوف موحش قبل أن يصل إلى قصر الطاغية، وهو أمواج البحر، ونهاية الأمر تصل إلى بؤرة الطغيان، إلى قصر فرعون على الشاطئ، فرآه فرعون من شرفة له فاشتد غضبه، فظن أن القمامات أصبحت ترمى في النهر فيأتي بها إلى قصره؛ فأمر باجتلاب ذلك التابوت؛ فجيء به فإذا فيه ذلك الولد، فلما فتحوا التابوت اجتمع عليه أهل القصر، وستر الله موسى ومنعه منهم بما ألقى في قلب امرأة فرعون من محبته؛ فحببه الله إليها حباً شديداً، فلم تتمالك أن أمسكت موسى وأخذت به وقالت: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9]، فقال فرعون : (أما لك فنعم وأما لي فلا) فإنه ليس قرة عين له، ولكن الله حال بينه وبينه بمحبة تلك المرأة له.

وحرم الله عليه المراضع فكانوا يعرضون عليه ثدي النساء فلا يقبلها، ويعرضون عليه كل أنواع التغذية فلا يقبلها، واشتد الكرب بأمه وطال انتظارها لوعد الله وهي صادقة مصدقة متوكلة على الله سبحانه وتعالى، لكن أصبح فؤادها فارغاً، بعد أن أنهت الصبر فأرسلت أخته فقالت: قصيه أي: ابحثي عنه؛ فذهبت أخته فإذا الناس يجتمعون في السوق على ذلك الولد الذي جيء به من القصر، ويسأل في المراضع؛ فكل مرضعة تعرض عليه فيمتنع من ثديها؛ فقالت هذه البنت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]، فاجتمع عليها زبانية فرعون وطواغيته فقالوا: وما يدريك أنهم له ناصحون؟ هل تعرفينه؟ فقالت: لا، ولكني أعرف أن أهل البيت يحبون مراد الملك ويريدون أن ينتفعوا، فاستيقنوا أن ما قالته حق؛ فحملوه معها فأدخلته على أمها، فلما وضعته في حجرها التقم الثدي فارتضع، فلمعت الوجوه من حوله مشرقة بارقة وهي ترى أمراً عجيباً، وقد عرضت عليه المراضع كلها فامتنع منها وهو يمسك هذا الثدي بلهفة ثم يرتضع منه.

فلما قبل ثديها دعيت في نفس الوقت إلى القصر فاستقبلها زوجة الملك، فعرضت عليها أن تقيم في القصر لإرضاع هذا الولد، وأن تجرى عليها نفقتها وراتبها، فقالت: إن لي بعلاً وأهلاً ولا أريد السكنى إلا في بيتي، ولكني مستعدة للتعامل؛ فإذا أرجعتيه معي فسأرضعه، فأرجعته معها فجاءت به إلى بيتها قريرة العين، لا تخاف عليه طغيان الطاغية، وقد أصبحت تنال راتباً من القصر، وأصبحت موظفة لدى آل فرعون في هذه المهمة التي هي قرة عينها وهي إرضاع ولدها.

موقف امرأة فرعون والرجل من آل فرعون مع موسى عليه السلام

فلما تم رضاعه أعد له مكان سكنه في القصر، فكان يسكن فيه في عزة وقوة حتى بلغ أشده، ولم يخضع لـفرعون ولا لأهل بيته ولم يذل لأحد منهم، ولم يكن بينه علاقة إلا مع تلك الزوجة التي هي امرأة فرعون ، وقد أحبته فدعاها إلى الإيمان فانقاد قلبها للإيمان بالله وحده، ولكنها كانت تكتم ذلك مع شاب آخر من آل فرعون من أهل القصر، وقد دعاه موسى أيضاً فاستجاب لدعوة الله وآمن به وكان يكتم إيمانه، شخصان فقط من أهل ذلك القصر الذي هو مليء بالحشم والخدم لم يؤمن منه إلا شخصان: امرأة فرعون التي صارت مضرباً للمثل في الإيمان: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم:11]، وإلا ذلك الرجل الذي يكتم إيمانه وهو: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ [غافر:28]، ولكن كتمانهما لإيمانهما كان له أثر وثمرة؛ فامرأة فرعون أرادت به الدفاع عن موسى فدافعت عنه قبل إيمانها، ثم دافعت عنه أشد دفاع بعد إيمانها، وكان كلما توعده فرعون أو أحد من زبانيته وطواغيته هبت هي للدفاع عنه وقامت بنصرته، وذلك الرجل أيضاً جاء دوره بعد إعلان موسى للرسالة بعد رجوعه من هجرته فإنهم جميعاً تألبوا عليه.

وقد اجتمع الطغيان لملك مصر إذ ذاك؛ فهو أولاً مغرور بنفسه يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ويظن أن الخلائق جميعاً سيصدقونه في كل ما يقول؛ فهذا أول ركن من أركان الطغيان: أن يكون الإنسان مغروراً ويرى أن الناس سيصدقونه في كل ما يقول، ولو قال لهم: إن الشمس تطلع من الغرب لصدقوه، وقد كان أهل مصر إذ ذاك قد خضعوا لسلطانه وذلوا لكبريائه؛ فإذا استخفهم أطاعوه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54].

والركن الثاني من أركان الطغيان إذ ذاك: وزيره الذي يخيل إليه أن ما هو عليه هو الصواب؛ فالمقربون منه ويمثلهم إذ ذاك هامان يرونه أن الحق هو ما لديه، وأن كل ما يطلبه من الطلبات فهم سيوفرونه حتى لو كان بناءً يصل إلى السماء.

وكذلك الركن الثالث من أركان الطغيان: رجال الأعمال الذين يسخرون أعمالهم لخدمة الطواغيت ويساعدونهم بها في إذلال الناس وجعلهم يخنعون للظالمين، ويمثل أولئك قارون الذي أوتي من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة؛ فسخر ذلك للدعاية لذلك الطاغي الملك.

والركن الرابع من أركان الطغيان: هو رجال الدين الذين يتأولون لكل ما يقوله الملك ويجعلونه أمراً مقدساً، ويضفون عليه قداسة ويبحثون له عن أدلة وتخريجات، ويمثلهم إذ ذاك السحرة الذين يرون أن ملك فرعون وعزته محل للتقديس؛ فيقسمون بذلك، قالوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء:44].

والركن الخامس من أركان الطغيان: الجنود الذين يطيعون أمر الطاغي؛ فيذللون له العباد ويظلمون له ويجمعون له المكوس والضرائب، ويمثلهم إذ ذاك جنود فرعون الحاشرين الذين يحشرون الناس.

والركن السادس من أركان الطغيان: رجال الصحافة الذين يشيعون في الناس ثقافة الانهزام والخنوع للطاغية، ويذللونهم له ويجعلونهم يقدسونه ويقدسون أوامره ويجتمعون له، ويمثلهم كذلك الذين كانوا يدعون الناس للاجتماع فيقولون: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الشعراء:40].

فاجتمعت هذه الأركان جميعاً لـفرعون فأكمل الطغيان في الأرض، ووصل إلى مقام لم يصل إليه طاغية قبله؛ لأنه لم يقل أحد قبله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24].

عندما ولد موسى لأمه كانت تخاف عليه هذا الطاغية خوفاً شديداً، وقد ملئ قلبها بمحبة موسى عليه السلام وعرفت أنه الرسول المنقذ، وذلك بما قذف الله في قلبها من الإلهام أن ولدها هذا سيكون من المرسلين؛ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ [القصص:7]، فلما اشتد خوفها عليه خالفت سنة النساء؛ فعادة المرأة إذا خافت على ولدها أن تضمه إلى صدرها، وهي خالفت ذلك فرمته في البحر، رمته في مكان الخوف عندما أمرها الله بذلك فجعلته في تابوت ورمته في أمواج البحر، فاضطربت الأمواج وتلاطمت دونه وهي تراه يحمله التيار وينخفض به حتى أوصله إلى قصر فرعون .

والمكان مخوف موحش قبل أن يصل إلى قصر الطاغية، وهو أمواج البحر، ونهاية الأمر تصل إلى بؤرة الطغيان، إلى قصر فرعون على الشاطئ، فرآه فرعون من شرفة له فاشتد غضبه، فظن أن القمامات أصبحت ترمى في النهر فيأتي بها إلى قصره؛ فأمر باجتلاب ذلك التابوت؛ فجيء به فإذا فيه ذلك الولد، فلما فتحوا التابوت اجتمع عليه أهل القصر، وستر الله موسى ومنعه منهم بما ألقى في قلب امرأة فرعون من محبته؛ فحببه الله إليها حباً شديداً، فلم تتمالك أن أمسكت موسى وأخذت به وقالت: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9]، فقال فرعون : (أما لك فنعم وأما لي فلا) فإنه ليس قرة عين له، ولكن الله حال بينه وبينه بمحبة تلك المرأة له.

وحرم الله عليه المراضع فكانوا يعرضون عليه ثدي النساء فلا يقبلها، ويعرضون عليه كل أنواع التغذية فلا يقبلها، واشتد الكرب بأمه وطال انتظارها لوعد الله وهي صادقة مصدقة متوكلة على الله سبحانه وتعالى، لكن أصبح فؤادها فارغاً، بعد أن أنهت الصبر فأرسلت أخته فقالت: قصيه أي: ابحثي عنه؛ فذهبت أخته فإذا الناس يجتمعون في السوق على ذلك الولد الذي جيء به من القصر، ويسأل في المراضع؛ فكل مرضعة تعرض عليه فيمتنع من ثديها؛ فقالت هذه البنت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]، فاجتمع عليها زبانية فرعون وطواغيته فقالوا: وما يدريك أنهم له ناصحون؟ هل تعرفينه؟ فقالت: لا، ولكني أعرف أن أهل البيت يحبون مراد الملك ويريدون أن ينتفعوا، فاستيقنوا أن ما قالته حق؛ فحملوه معها فأدخلته على أمها، فلما وضعته في حجرها التقم الثدي فارتضع، فلمعت الوجوه من حوله مشرقة بارقة وهي ترى أمراً عجيباً، وقد عرضت عليه المراضع كلها فامتنع منها وهو يمسك هذا الثدي بلهفة ثم يرتضع منه.

فلما قبل ثديها دعيت في نفس الوقت إلى القصر فاستقبلها زوجة الملك، فعرضت عليها أن تقيم في القصر لإرضاع هذا الولد، وأن تجرى عليها نفقتها وراتبها، فقالت: إن لي بعلاً وأهلاً ولا أريد السكنى إلا في بيتي، ولكني مستعدة للتعامل؛ فإذا أرجعتيه معي فسأرضعه، فأرجعته معها فجاءت به إلى بيتها قريرة العين، لا تخاف عليه طغيان الطاغية، وقد أصبحت تنال راتباً من القصر، وأصبحت موظفة لدى آل فرعون في هذه المهمة التي هي قرة عينها وهي إرضاع ولدها.

فلما تم رضاعه أعد له مكان سكنه في القصر، فكان يسكن فيه في عزة وقوة حتى بلغ أشده، ولم يخضع لـفرعون ولا لأهل بيته ولم يذل لأحد منهم، ولم يكن بينه علاقة إلا مع تلك الزوجة التي هي امرأة فرعون ، وقد أحبته فدعاها إلى الإيمان فانقاد قلبها للإيمان بالله وحده، ولكنها كانت تكتم ذلك مع شاب آخر من آل فرعون من أهل القصر، وقد دعاه موسى أيضاً فاستجاب لدعوة الله وآمن به وكان يكتم إيمانه، شخصان فقط من أهل ذلك القصر الذي هو مليء بالحشم والخدم لم يؤمن منه إلا شخصان: امرأة فرعون التي صارت مضرباً للمثل في الإيمان: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم:11]، وإلا ذلك الرجل الذي يكتم إيمانه وهو: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ [غافر:28]، ولكن كتمانهما لإيمانهما كان له أثر وثمرة؛ فامرأة فرعون أرادت به الدفاع عن موسى فدافعت عنه قبل إيمانها، ثم دافعت عنه أشد دفاع بعد إيمانها، وكان كلما توعده فرعون أو أحد من زبانيته وطواغيته هبت هي للدفاع عنه وقامت بنصرته، وذلك الرجل أيضاً جاء دوره بعد إعلان موسى للرسالة بعد رجوعه من هجرته فإنهم جميعاً تألبوا عليه.

كان موسى ينتصر لبني إسرائيل ويعلم نسبه فيهم ويعلم علاقته بأسرته ولكنه يكتمها، فحصل شجار في السوق بين رجل من القبط من أقارب فرعون ورجل من بني إسرائيل من أقارب موسى؛ فمر بهما موسى فاستنصره الإسرائيلي على القبطي فوكزه موسى فقضى عليه؛ فمات القبطي، فاجتمع فرعون وقادة الأقباط وقرروا التخلص من موسى وقتله، فأتاه رجل من طرف المدينة وهو يسعى؛ فقال: إني لك من الناصحين، اخرج، وبين له أن أهل القرية يتألبون عليه ويريدون قتله.

خروج موسى إلى مدين

خرج موسى من تلك المدينة خائفاً يترقب، العدو من ورائه والبحر من أمامه؛ فاتجه إلى جهة مدين وهو يسير من غير زاد ولا ماء ولا صحبة ولا قرين ولا يعرف البلاد ولم يرها من قبل، ولكنه كان واثقاً بالله متوكلاً عليه، فلما اتجه إلى جهة مدين قال: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22]، فدعا الله سبحانه وتعالى بالهداية حين اتجه إلى سبيل لا يعرفه ولم تره عيناه قط.

قال تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص:23] أي: عدد كبير من الخلائق يضج بهم الماء وهم يسقون، ومن ورائهم امرأتين تذودان؛ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص:23] فلم يعرج على تلك الخلائق المزدحمة على الماء؛ لأنه يخاف أن يعرف وهو مختف؛ فعدل إلى المرأتين فقال: قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]، فانتظر حتى أصدر الرعاء وصدر الناس عن الماء وغطوه بالصخرة الصماء الكبيرة، فجاء هو فذكر اسم الله وحمل الصخرة فوضعها بعيداً عن الماء؛ فسقى للمرأتين ثم رجعتا وتركتاه فعدل إلى شجرة فجلس تحت ظلها: فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].

وبينما هو على ذلك الحال في الانتظار، في انتظار الواثق بالله المتوكل عليه جاءته إحداهما تمشي على استحياء، قالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]؛ فذهب وكان يمشي أمامها وهي ترمي له الحجارة إلى جهة بيتها حتى دخل على أبيها الشيخ الكبير الصالح، فلما جلس بين يديه سأله عن خبره؟ ولماذا خرج من أهله؟ فقص عليه خبره، فقال له الشيخ: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25]، فقالت له إحدى البنتين: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، فعرض عليه الأجرة بأن يزوجه إحدى ابنتيه وأن يخدمه ثمان سنين، وإذا أتم عشراً فذلك تفضل منه؛ فقبل ذلك موسى فكان معه في تلك الهجرة الربانية التي تربى فيها موسى على القوة والعمل، ولم يكن ليستطيع ذلك لو دام في قصر فرعون ، فلو بقي في قصر فرعون لم يتعود على السقي والرعي، ( وما من نبي إلا وقد رعى الغنم ).

لقد أراد الله الهجرة لموسى من عدة أوجه؛ فإن فيها رفعاً لقدره والتمكين له؛ فلا يمكن أحد إلى نصرة الدين ما لم يؤذ في سبيل الله وما لم يخرج من بيته، سواءً كان ذلك بنفي أو بسجن أو بسياحة؛ ولهذا قال الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195] .

آيات الله التي أعطاها لموسى عليه السلام

ثم بعد هذا رحل بأهله إلى جهة مصر، وقد انقطع عنه خبر أمه فترة من الزمن، وهو يريد الوصول إلى أمه وأخيه هارون ويريد إنقاذ بني إسرائيل برسالة الله سبحانه وتعالى ودينه، فلما نزل في ليلة ظلماء في مكان موحش من صحراء سيناء رأى ضوءاً باهراً في جهة الشرق؛ فقال لأهله: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:10] أي: قد رأيت ناراً، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه:10]، فذهب إلى تلك النار في تلك الليلة الظلماء الباردة الشديدة البرد في صحراء سيناء، وهذه المنطقة دائماً شديدة البرودة كما قال الشاعر:

وهو الشتاء وصيفهن شتاء

فالصيف فيها من الشتاء.

فلما أتى ذلك المكان الذي رأى منه النار جاءه الوحي من عند الله تعالى؛ فجاءه الخطاب من السماء: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه:12-14]؛ فناداه الله عز وجل بالتوحيد وبين له أنه اختاره من العبيد وكلفه بهذه المهمة النبيلة العظيمة؛ فكلمه الله كفاحاً دون ترجمان، فسمع كلام الله من جهة تلك البقعة المقدسة من الشجرة بجانب الواد المقدس وهو طوى، فملأ الله قلبه من الإيمان واليقين والنور والعلم وقواه قوة رهيبة، وآتاه من آياته الظاهرة الباهرة نوراً في يمينه، فكان إذا أدخلها في جيبه وأخرجها كانت نوراً يشع من غير سوء، ليس فيها برص، وخرجت بيضاء من غير سوء؛ فيضيء لنورها الأفق، فهو جاء من أجل البحث عن قبس يستدل به؛ فآتاه الله نوراً في يده كلما أدخلها في جيبه فأخرجها أضاءت.

والآية الثانية هي عصاه؛ أمر أن يلقيها فألقاها فإذا هي حية تسعى، فارتاع لها فولى مدبراً ولم يعقب؛ فناداه الله تعالى: لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [النمل:10-11]، وأمره الله أن يأخذ تلك العصا، تلك الحية، قال: قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:21]؛ فأمسك موسى تلك الحية بكل توكل على الله سبحانه وتعالى وإيمان به فرجعت عصاً كما كانت.

تكليف الله لموسى بالرسالة وموقفه مع فرعون

ثم كلف بالرسالة ولكن موسى تذكر أعباءها وما يتعلق بها من التكاليف الشاقة، وتذكر أن في لسانه عقدة، ولا يتقن لغة الأقباط أو ليس يؤديها كما يحبون، وأن أخاه هارون كان خبيراً بلغة الأقباط، فسأل الله تعالى أن يجعل الرسالة إلى هارون، فأشركه الله معه في أمره وجعله رسولاً معه مكملاً لرسالته وجعله ردءاً له، مصدقاً له؛ ففي نفس الليلة جاء الوحي إلى هارون وهو نائم بمصر بأن موسى قد أرسل الله إليه وأنه هو رسول معه وأنه مصدق لموسى متبع له.

فلما دخل موسى مصر استقبله هارون بالتصديق وقد جاءه الخبر من السماء، فأول ما دخل مصر استقبله زبانية الملك فأحضروه إلى فرعون ؛ فبدأ يقرعه وقد عرف علاقته ببني إسرائيل وسمع عن رسالة أخيه هارون، فبين له أن بني إسرائيل كانوا خاضعين له أذلة له؛ فقال: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:22]! فسأله عن إلهه، فبين له أن ربه هو رب السماوات والأرض؛ فقال: ألسماوات والأرض رب غيري؟! فبين له أن الله هو ربه ورب كل شيء، وحينئذ ازداد الطغيان لدى فرعون وغضب غاية الغضب، وأراد أن يتخلص من موسى وأن يبطش به، فبين له موسى أنه قد جاء بآية تدل على صدقه، فقال: ما هي؟ فأدخل يده فأخرجها بيضاء من غير سوء، ورمى عصاه فإذا هي حية تسعى، فارتاع الملك وعرف أن هذا أمر خارق للعادة لا يتصوره، فجمع برلمانه واستشارهم في الأمر؛ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ [الشعراء:25]، وحينئذ أشاروا إليه أن يؤخر الحسم في أمره: أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [الأعراف:111-112]، فجمعوا له السحرة من مختلف المدائن، فلما اجتمع حوله كبار السحرة وهم أهل الكهنوت ورجال الدين، وهم يصدقون الملك ويقسمون بعزته، جاء دور الصحافة فانطلقوا يجمعون الناس يقولون: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الشعراء:39-40].

موقف سحرة فرعون وتوكلهم على الله

لما اجتمع الناس وقد وعدهم موسى يوماً معلوماً هو يوم الزينة، يوم عيد من أعيادهم، يلبسون فيه زينتهم ويركبون فيه أحسن مراكبهم، وخرج فيه الملك بكل زينته وقد أخرج معه مقتنياته من الذهب وكل ما لديه من أنواع السلاح، وخرج إلى مكان مستو في القاهرة، في أرض مصر، فاجتمع الناس ينظرون فجاء السحرة فتقدم كبيرهم فقال لموسى: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ [الأعراف:115] فقال موسى: أَلْقُوا [الأعراف:116] فألقوا حبالهم وعصيهم، وجاءوا في ذلك الوقت بسحر عظيم، فارتاع له الناس جميعاً وامتلأت قلوبهم من الهول؛ حين رأوا الحبال مثل الحيات ورأوا العصي مثل التنانين، فألقى موسى عصاه فأكلت كل ما رموا به، أكلت كل عصيهم وحبالهم وكل ما أفكوه من السحر؛ فلما رأى السحرة ذلك قذف الله في قلوبهم الإيمان جميعاً في لحظة واحدة، فامتلأت قلوبهم بالإيمان والتصديق، وعلمهم الله خلاصة علم الأولين والآخرين في جملة واحدة، فكل ما في المكتبات من الكتب وكل ما أنزل على الأنبياء من الوحي وكل ما يدرسه الدارسون من العلم نتيجته جملة واحدة: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:74-76]؛ فخروا سجداً لله تعالى وقالوا: آمنا برب موسى وهارون؛ فغضب الملك غضباً شديداً، وتوعدهم وهددهم أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأن يصلبهم في جذوع النخل، فما كان منهم إلا أن أعلنوا كلمة التوكل على الله تعالى فقالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72-73]، فأعلنوا موقفهم المشرف الذي فيه تمام التوكل على الله سبحانه وتعالى وتمام معرفته والانصياع لأمره وازدراء الطاغية وحكمه وما لديه من وسائل الإغراء والتهديد، فنصرهم الله تعالى على فرعون.

توكل موسى عليه السلام عندما أدركه فرعون بجنوده

وجاء الوحي إلى موسى أن ينقذ بني إسرائيل فيخرج بهم في الليل من مصر مهاجرين إلى جهة البحر، ولكن بني إسرائيل كانوا أهل خور وضعف، قد ضعفت قواهم أمام طاغوت الطاغية، فقد تربوا على خدمة فرعون وجنوده وأهل بيته، وتربوا على حياة المذلة والمسكنة، فلم يستطيعوا التخلص من ذلك، فخرج بهم موسى مهاجرين من مصر في الليل فلما بدى الفجر إذا ماء البحر أمامهم ينشق عنه ضوء الصبح، البحر الأحمر يلتطم أمامهم بأمواجه، فلما رأوه وقد سمعوا ضوضاء جند فرعون من ورائهم وقد جمعوا مئات الآلاف من الجنود وجاءوا من ورائهم بكل أسلحتهم ودوابهم؛ ما كان من بني إسرائيل إلا الرجوع إلى ما كانوا يألفونه من ضعف التوكل على الله فقالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] فنبه موسى على التوكل على الله فقال: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، قال بكل ثقة وتوكل على الله وطمأنينة: كلا، لن ندرك أبداً، إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] فهو يعلم أن معه الله، ومن معه الله لو اجتمعت السماوات السبع والأرضون السبع وجميع الخلائق أن تكيده لجعلها الله دكاً ولن تضره بشيء؛ فلذلك قال: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] فأمره الله أن يضرب البحر بعصاه؛ فضربه؛ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63] كالجبل العظيم، فمر بنو إسرائيل من تلك الفجاج اليابسة وهم يسلكون طريقاً في البحر يبساً، لا يخافون دركاً ولا يخشونه.

فلما مروا تبعهم فرعون بجنوده وقد تريث ساعة وهو ينظر ويتعجب؛ فقال: إذا كان بنو إسرائيل قد تجاسروا على العبور فلا بد أن نتجاسر نحن عليه فلنقتفي آثارهم، فلما توسط هو وجنوده البحر ولم يبق أحد منهم في اليبس، ودخلوا جميعاً في البحر؛ أمر الله البحر فالتطم عليهم فغرقوا جميعاً، فلم تبق منهم باقية، وقد طفت على الماء ثيابهم وبعض سلاحهم وذهبوا هم وبعض حليهم؛ فجعل عدد من ضعفة العقول من بني إسرائيل ومن الطامعين في الدنيا يجمعون تلك الثياب والحلي والسلاح، وعندما أدرك الغرق فرعون قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ [يونس:90]، فأجابه الله تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:91-92] وما زال بدن فرعون إلى اليوم آية وقد شاهدناه ورأيناه بأعيننا، وأنجى الله تعالى موسى ومن معه وأراهم مصارع أعدائهم، وهذا هو تمام التوكل على الله عز وجل.

خرج موسى من تلك المدينة خائفاً يترقب، العدو من ورائه والبحر من أمامه؛ فاتجه إلى جهة مدين وهو يسير من غير زاد ولا ماء ولا صحبة ولا قرين ولا يعرف البلاد ولم يرها من قبل، ولكنه كان واثقاً بالله متوكلاً عليه، فلما اتجه إلى جهة مدين قال: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22]، فدعا الله سبحانه وتعالى بالهداية حين اتجه إلى سبيل لا يعرفه ولم تره عيناه قط.

قال تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص:23] أي: عدد كبير من الخلائق يضج بهم الماء وهم يسقون، ومن ورائهم امرأتين تذودان؛ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص:23] فلم يعرج على تلك الخلائق المزدحمة على الماء؛ لأنه يخاف أن يعرف وهو مختف؛ فعدل إلى المرأتين فقال: قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]، فانتظر حتى أصدر الرعاء وصدر الناس عن الماء وغطوه بالصخرة الصماء الكبيرة، فجاء هو فذكر اسم الله وحمل الصخرة فوضعها بعيداً عن الماء؛ فسقى للمرأتين ثم رجعتا وتركتاه فعدل إلى شجرة فجلس تحت ظلها: فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].

وبينما هو على ذلك الحال في الانتظار، في انتظار الواثق بالله المتوكل عليه جاءته إحداهما تمشي على استحياء، قالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]؛ فذهب وكان يمشي أمامها وهي ترمي له الحجارة إلى جهة بيتها حتى دخل على أبيها الشيخ الكبير الصالح، فلما جلس بين يديه سأله عن خبره؟ ولماذا خرج من أهله؟ فقص عليه خبره، فقال له الشيخ: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25]، فقالت له إحدى البنتين: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، فعرض عليه الأجرة بأن يزوجه إحدى ابنتيه وأن يخدمه ثمان سنين، وإذا أتم عشراً فذلك تفضل منه؛ فقبل ذلك موسى فكان معه في تلك الهجرة الربانية التي تربى فيها موسى على القوة والعمل، ولم يكن ليستطيع ذلك لو دام في قصر فرعون ، فلو بقي في قصر فرعون لم يتعود على السقي والرعي، ( وما من نبي إلا وقد رعى الغنم ).

لقد أراد الله الهجرة لموسى من عدة أوجه؛ فإن فيها رفعاً لقدره والتمكين له؛ فلا يمكن أحد إلى نصرة الدين ما لم يؤذ في سبيل الله وما لم يخرج من بيته، سواءً كان ذلك بنفي أو بسجن أو بسياحة؛ ولهذا قال الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195] .

ثم بعد هذا رحل بأهله إلى جهة مصر، وقد انقطع عنه خبر أمه فترة من الزمن، وهو يريد الوصول إلى أمه وأخيه هارون ويريد إنقاذ بني إسرائيل برسالة الله سبحانه وتعالى ودينه، فلما نزل في ليلة ظلماء في مكان موحش من صحراء سيناء رأى ضوءاً باهراً في جهة الشرق؛ فقال لأهله: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:10] أي: قد رأيت ناراً، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه:10]، فذهب إلى تلك النار في تلك الليلة الظلماء الباردة الشديدة البرد في صحراء سيناء، وهذه المنطقة دائماً شديدة البرودة كما قال الشاعر:

وهو الشتاء وصيفهن شتاء

فالصيف فيها من الشتاء.

فلما أتى ذلك المكان الذي رأى منه النار جاءه الوحي من عند الله تعالى؛ فجاءه الخطاب من السماء: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه:12-14]؛ فناداه الله عز وجل بالتوحيد وبين له أنه اختاره من العبيد وكلفه بهذه المهمة النبيلة العظيمة؛ فكلمه الله كفاحاً دون ترجمان، فسمع كلام الله من جهة تلك البقعة المقدسة من الشجرة بجانب الواد المقدس وهو طوى، فملأ الله قلبه من الإيمان واليقين والنور والعلم وقواه قوة رهيبة، وآتاه من آياته الظاهرة الباهرة نوراً في يمينه، فكان إذا أدخلها في جيبه وأخرجها كانت نوراً يشع من غير سوء، ليس فيها برص، وخرجت بيضاء من غير سوء؛ فيضيء لنورها الأفق، فهو جاء من أجل البحث عن قبس يستدل به؛ فآتاه الله نوراً في يده كلما أدخلها في جيبه فأخرجها أضاءت.

والآية الثانية هي عصاه؛ أمر أن يلقيها فألقاها فإذا هي حية تسعى، فارتاع لها فولى مدبراً ولم يعقب؛ فناداه الله تعالى: لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [النمل:10-11]، وأمره الله أن يأخذ تلك العصا، تلك الحية، قال: قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:21]؛ فأمسك موسى تلك الحية بكل توكل على الله سبحانه وتعالى وإيمان به فرجعت عصاً كما كانت.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4061 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4001 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع