مصدر عزة المسلم


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، قادنا إلى الهدى، وقادنا إلى العزة والكرامة، ونقلنا الله عز وجل به من درك الغواية، والذل والتفرق إلى قمة العز والمجد والوحدة، فجزاه الله تعالى عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.

عزة المسلم أيها الإخوة ليست مما يحتاج إلى تأكيد، فإن نصوص القرآن والسنة حافلة ببيان عزة المسلم، وأنه هو الأعلى بمجرد كونه مسلماً، من دون إضافة أي شيء آخر، بمعنى أن العزة للمسلم تنبع من ذاته، لا من الأشياء التي يمتلكها، فليست عزته بشبابه، أو قوته، أو صحته، أو منصبه، أو ماله، أو غير ذلك كلا، بل عزته تنبع من إسلامه، فإذا كان مسلماً، كان عزيزاً، ولذلك قال الله عز وجل وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] بغض النظر عن أي شيء آخر، وعن أي مواصفات أخرى، وهذا هو الذي فهمه المسلمون الأولون.

قصة أسامة بن زيد

وأكتفي هنا بضرب مثل واحد لكم، وهذا المثل حديث صحيح رواه الحاكم وغيره، في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه: {حينما ذهب حكيم بن حزام رضي الله عنه إلى السوق، فوجد حلة تباع -أي: ثوباً يباع- فقال: لمن هذا؟

قالوا: هذه حلة ذي يزن ملك من ملوك اليمن، فاشتراها بخمسين ديناراً، ثم جاء بها إلى حبيبه وصديقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهداها إليه، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر بها، فما رؤي من ذي حلة أجمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، ثم خلعها صلى الله عليه وسلم -لأنه كان معرضاً عن الدنيا- وألبسها أسامة بن زيد حبه وابن حبه، فلبسها أسامة ومشى بها في السوق، فمر من عنده حكيم بن حزام قبل إسلامه، فتعجب وقال: أسامة بن زيد رجل كان أسمر دميم الخلقة، صغير السن، وأبوه كان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا فيه، ومع ذلك يلبس حلة ذي يزن! فقال له أسامة بن زيد: نعم! والله لأنا خير من ذي يزن، وأمي خير من أمه، وأبي خير من أبيه}.

إذاً: أسامة الشاب الذي لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره يشعر على قلة ذات يده أنه أعظم منـزلة من ذي يزن ملك اليمن، لا لشيء، إلا لأن أسامة مسلم وهذا كافر، هذا هو الفارق بينهما، وهذا هو مصدر العزة بكل اختصار.

وأكتفي هنا بضرب مثل واحد لكم، وهذا المثل حديث صحيح رواه الحاكم وغيره، في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه: {حينما ذهب حكيم بن حزام رضي الله عنه إلى السوق، فوجد حلة تباع -أي: ثوباً يباع- فقال: لمن هذا؟

قالوا: هذه حلة ذي يزن ملك من ملوك اليمن، فاشتراها بخمسين ديناراً، ثم جاء بها إلى حبيبه وصديقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهداها إليه، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر بها، فما رؤي من ذي حلة أجمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، ثم خلعها صلى الله عليه وسلم -لأنه كان معرضاً عن الدنيا- وألبسها أسامة بن زيد حبه وابن حبه، فلبسها أسامة ومشى بها في السوق، فمر من عنده حكيم بن حزام قبل إسلامه، فتعجب وقال: أسامة بن زيد رجل كان أسمر دميم الخلقة، صغير السن، وأبوه كان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا فيه، ومع ذلك يلبس حلة ذي يزن! فقال له أسامة بن زيد: نعم! والله لأنا خير من ذي يزن، وأمي خير من أمه، وأبي خير من أبيه}.

إذاً: أسامة الشاب الذي لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره يشعر على قلة ذات يده أنه أعظم منـزلة من ذي يزن ملك اليمن، لا لشيء، إلا لأن أسامة مسلم وهذا كافر، هذا هو الفارق بينهما، وهذا هو مصدر العزة بكل اختصار.

ولا شك أن هناك جوانب يمكن أن نلقي عليها الضوء بشكل أكبر، وأكثر، وأوسع، وسأتحدث عن قضية الإيمان التي ربط الله عز وجل العزة بها.

فلا شك أن من شروط الإسلام أن يؤمن الإنسان بأن هذا الدين الذي يدين به هو الحق ولا حق سواه.

الإيمان بالعقيدة الصحيحة

أولاً: يعتقد المسلم بأن اليهود على حق -مثلاً- أو النصارى على حق، أو الشيوعيين على حق، أو أي أمة، أو طائفة أخرى على حق، حينئذ يخرج من دائرة الإسلام، ويدخل في دائرة الكفر، فهذا اليقين العميق الراسخ بأن المسلم هو على الحق، وأن من عداه على الباطل، يجعله في موقف العزة التي لا تقبل الشك، ولا تقبل التردد، ولذلك تجد أن المؤمن من هذا المنطلق يشعر بالعزة في كل الظروف.

أ- قصة موسى مع فرعون:

إنَّ موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه من أتباعه من بني إسرائيل، لما كان فرعون يطاردهم ويحاربهم، وكانت معه الجيوش الجرارة، والقوى الهائلة، والمؤمنون المسلمون مع موسى لم يكونوا يملكون من القوة إلا النـزر اليسير، مع ذلك يقول الله عز وجل له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى [طه:68] لا تخف يا موسى من قواهم، وإمكانياتهم، وبطشهم، ووسائلهم المادية، لأنه ما دام الله تعالى معك، فكل شيء ممكن، حتى الخوارق يمكن يجريها الله عز وجل لك، فمتى ما كنت متحققاً بهذا الشرط الإيماني لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا [طه:68-69] وكما قال الشاعر:

إذا جاء موسى وألقى العصا      فقد بطل السحر والساحر

فهم يكيدون، ويخططون، ويجمعون، ويتألبون، ويتنادون، ويتداعون، ويرسمون، ويدرسون، ويفعلون، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:14-17].

ب- قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام:

هذه القوة والعزة يشعر بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين يلقى في النار؛ لأن الإيمان في قلبه راسخ رسوخ الجبال الراسيات، فلا يبالي بهم ويقول: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:67] قوة، إمكانيات مذهلة، النار تتأجج، حتى يلقى إبراهيم في النار، أي إنسان عنده تردد، أو تلجلج في إيمانه، قد يخشى لأنه الآن يلقى في النار، يوضع في المنجنيق، ليقذف في النار، لم يبق شيء، وضعفاء الإيمان حينئذ قد يتساءلون لماذا لم تتدخل القدرة الإلهية؟!

لكن ربك عز وجل حكيم عليم يجري قدره متى شاء، ويلقى إبراهيم في النار في تلك اللحظة، فيأتي قدر الله قال تعالى: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] فيكونون هم الأخسرين الأسفلين، ويكون إبراهيم هو القوي العزيز بإذن الله تعالى، قال الشاعر:

sh= 9901241>خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعيم

جـ- محمد صلى الله عليه وسلم:

محمد عليه الصلاة والسلام يقوم ليعلن دعوته في قريش، يا صباحاه، يا صباحاه، فيجتمع إليه الناس فيقول: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الدنيا كلها معسكرين، الأول فيه محمد صلى الله عليه وسلم، ليس معه إلا أناس لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، والدنيا كلها في معسكر آخر، تحالف عالمي، الفرس والروم والهند، والسند، والصين، وكل الدنيا، بل حتى قريش والعرب التي بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي مع المعسكرات الغربية والشرقية ضد نبينا صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يدير الله عز وجل أمور الكون، وينقل نبيه صلى الله عليه وسلم من نصر إلى نصر، ومن عز إلى عز، ومن تمكين إلى تمكين، حتى لم يمت عليه الصلاة والسلام، حتى أنـزل الله عز وجل قوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3].

د- امرأة فرعون وماشطة ابنة فرعون:

قد يقال هؤلاء الأنبياء، فنقول وأتباع الأنبياء أيضاً، هذه امرأة فرعون، امرأة في قصر الطاغية فرعون تعرض عن زينة فرعون، ودنياه، وجاهه، وماله، ومنصبه، وترفع رأسها إلى السماء، قال تعالى: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11] وأعجب من ذلك ماشطة بنت فرعون، ولها قصة، رواها ابن عباس وغيره، وهي عجب من العجب، أن ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله، فرفعت البنت رأسها، وقالت: أبي، الله أبي، قالت: لا ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين، فقالت: أخبر والدي بهذا، قالت: أخبريه، فجاءت إلى أبيها وقالت: الماشطة تقول كذا وكذا، فدعاها فقالت: نعم، ربي وربك الله، امرأة تتحدى أكبر طاغية في التاريخ!! وما انتهى التحدي عند هذا الحد كان لها أطفال، فأحضر الطاغية الجبار قدراً نقره من نحاس وأوقد عليه حتى أصبح جمرة تتلهب محمرة، ثم أخذ ابنها من على كتفها ليلقيه في هذا القدر، فينحلس فيه كما تنحلس الحبة، وما هي إلا لحظة حتى يتجمع ويتمزق وينتهي، ويصبح فحمة سوداء، فتقول له بكل ثبات: لي إليك حاجة، قال: ما حاجتك؟

قالت: أن تجعلني وأولادي وعظام أولادي في قبر واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ليس هناك مانع، ثم يأخذ الآخر، ويجره وقد أمسك بثوبها، فيلقي به -أيضاً- في القدر، أي صبر هذا؟!

ثم يأخذ الثالث ليلقي به على أثره قال تعالى: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:10-14] وأدرك فرعون شؤم هذه الفعلة الشنعاء، وما ماثلها من الأفعال الشنيعة التي تجلى فيها طغيانه، فإذا الله عز وجل يأخذه أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].

هـ- قصة أصحاب الأخدود والغلام المؤمن:

قصة أصحاب الأخدود والغلام المؤمن، وهي في الصحيح، الغلام يكون على كتف أمه، فلما ترددت بعض التردد أن تلقى في هذه النار، يقول: يا أماه اصبري، فإنك على الحق، فتصبر ويلقى بها وبولدها في هذه النار، وفي النهاية يكتب الله عز وجل لهم النصر، فكانوا منتصرين، وسر انتصارهم هو أنهم يموتون على الإسلام.

إنَّ النصر الدنيوي المادي -أيها الإخوة- قد يتحول إلى هزيمة، والمنتصر الغالب اليوم قد يهزم غداً، لكن هذا النصر الذي حققته ماشطة بنت فرعون، أو امرأة فرعون، أو حققه المؤمنون الذين ألقوا في الأخدود، بالله عليكم هل هذا النصر يمكن أن يتحول إلى هزيمة يوماً من الأيام؟!

كلا والله، لقد أصبحوا معالم على مدى التاريخ، تقول للناس: إن العقائد الراسخة العميقة في النفوس والضمائر، لا يستطيع الحديد والنار أن يفلها بحال من الأحوال، هذا هو النصر، قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52].

و- قصة خبيب بن عدي:

ومن هذه الأمة والأمثلة من هذه الأمة كثيرة: خبيب بن عدي رضي الله عنه حين أمسك به المشركون من قريش، وأسروه، ثم جاءوا به ليقتلوه ويصلبوه على جذع نخلة في مكة، تلفت فلم يجد حوله إلا شانئ معارض مبغض، وهو رجل وحيد أعزل، مكبل بالقيود ليضرب الآن بالسهام فما الذي فعل؟!

هل ضعف؟

أبداً، استأذنهم أن يصلي ركعتين فصلى ركعتين، ومن ذلك سن صلاة ركعتين عند القتل، ثم قام، وتلفت إليهم، يقول وهو ينظر إليهم:

لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا     قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

وكلهم مبدي العدواة جاهد     عليَّ لأني في وثاق بمضيع

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم      وقربت من جذع طويل ممنع

يتفرجون على هذا المشهد:

إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي     وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي     فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي

وقد خيروني الكفر والموت دونه     وقد هملت عيناي من غير مجزع

ما بكى خوفاً من الموت، أبداً:

وما بي حذار الموت إني لميت     ولكن حذاري جَحْمُ نار ملفع

ولست أبالي حين أقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ     يبارك على أوصال شلو ممزع

ولست بمبد للعدو تخشعاً     ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي

ز- عزة المسلم على مدار التأريخ:

من الذي أثبت صلابته على مدى التاريخ؟!

هذا تاريخ الدنيا مكتوب كله، قولوا لنا أي أمة، أي شعب، أي ملة من الملل، تملك من البطولات، وتملك من الصبر، وتملك من التضحية، وتملك من الجهاد، مثلما يوجد في رصيد هذه الأمة؟!

نتحدى الدنيا كلها من يتحملون عقائد، وملل، ونحل، وينتحلون مذاهب من العلمانية، والقومية، والحداثية، والشيوعية وغيرها، لكن هؤلاء ما أسرع ما يدخلون في جحورهم ويهربون، أما المؤمنون فهم أصبر الناس عند المصيبة، وأكثرهم تحملاً لما يلقون في ذات الله عز وجل، لأن العزة تنبع في قلوبهم، فلا حيلة في دفعها.

وكيف لا يكون المؤمنون أعزة، وهم يملكون هذا الإيمان الراسخ العميق بدينهم، في الوقت الذي تجد أصحاب الأديان، والملل، والنحل الأخرى، والمناهج الأرضية، يعيشون غيابة الفكر، في يوم من الأيام اكتسحت الناصرية الأمة العربية، وفي يوم آخر اكتسحت القومية، وصار المنادون بها كثراً، وصدرت الكتب والمجلات، وعقدت المؤتمرات والقيل والقال، لكنهم لما جاءوا ليتحدثوا عن القومية -مثلاً- عقدوا مؤتمراً لبحث القومية ما هي القومية، وفي النهاية عجزوا، فمن الطرائف والنكت أن واحداً منهم، قال لهم: القومية شيء جيد كثيراً، هذه هي القومية، إذن ليس عندهم فكر يجمعون الناس عليه، ليس عندهم تصور صحيح يلتئمون حوله، أحياناً تجمعهم الأهداف والمطامع الدنيوية، وكل غريب للغريب نسيب، وأحياناً يجمعهم أنهم من الشذاذ الذين رفضتهم الأمة، وتخلت عنهم يوم تخلوا عنها، ودانوا بدين غير دينها، فاجتمعوا ووحدهم الهم الواحد، لكنهم سرعان ما يتفرقون، لأنهم لا يحملون فكراً معيناً، ما هو الفكر، وما هي الفلسفة التي تحملها أمريكا التي تتزعم العالم اليوم؟!

هل عند أمريكا دين تدعو إليه؟!

هل عند أمريكا فلسفة واضحة للحياة؟!

أبداً، عندهم المصلحة، والمنفعة، واللذة، والشهوة، هذا كل ما لديهم، هذه أمورهم وحولها يدندنون.

حـ- المسلمون لديهم منهج حياة:

إذاً: ليس لدى غير المسلمين منهج، أما نحن المسلمين فنفتخر بأننا نعلم تفاصيل الحياة على ضوء كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، حتى قال يهودي لـأبي الدرداء كما في الصحيح: {علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو نستنجي برجيع أو عظم، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار} أي: أجاب أبو الدرداء على هذا الاستفزاز بجواب مناسب، اليهودي أو المشرك يسخر من أبي الدرداء حتى قضاء الحاجة الرسول عليه الصلاة والسلام قال لكم كيف يكون هذا، قال له: نعم أنت تسخر، لكن هذا حقيقة، حتى هذه القضية الإسلام نظمها وهذبها، وجعل هناك ضوابط تضبطها من عدم استقبال القبلة، وعدم استدبارها، وطريقة الاستجمار، إلى غير ذلك، فما بالك بشئون الحياة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والعلمية إلى آخرها، الذي نظم هذا الأمر اليسير هل يمكن أن يغفل عما هو أكبر منه؟!

كلا، ثم كل هذه الأشياء لم تكن خاصة بمرحلة زمنية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل ظلت الأجيال تتوارثها، حتى أنك لما تقرأ كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تجد أدق التفاصيل وأعجبها، مثلاً كم شعرة بيضاء في لحية الرسول عليه الصلاة والسلام هذا مضبوط، وكيف كان لباس الرسول عليه الصلاة والسلام هذا مضبوط، وكيف يحرك أصبعه في الصلاة هذا مضبوط، وطريقة الركوع، والسجود، بل ما هو أعجب من ذلك، كيف كان يغتسل الرسول عليه الصلاة والسلام، كيف كان يتوضأ، كيف يكون مع أهله في الفراش، فضلاً عن قضية إدارة الحروب، والمعارك، وهو في حال السلم عليه الصلاة والسلام، والسفر والإقامة، والعبادة، وأمور الدنيا، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، إلى غير ذلك كل شيء مضبوط.

إذاً: دين مهيمن على كل شئون الحياة، ولكل مراحل التاريخ، أفلا يحق لمن يملك هذا التصور الواضح أن يعتز ويفتخر به حين يجد أن أمم الدنيا كلها لا تمتلك أي فكر على الإطلاق، إلا فكراً محدوداً بمرحلة من الزمان، ومرحلة من المكان، وإيانا وإياكم أن ننخدع بلحظة محدودة.

ط- اندثار الشيوعية:

خذ الشيوعية: مضى على الشيوعية أكثر من خمسين أو ستين سنة، والناس يتخيلون أن الشيوعية أصبحت مبدأ قوياً صلباً له وجوده وله كيانه، فإذا بها بعد ذلك تسقط وتنهار في لحظة من نهار، حتى إنه في أحد المعارض في ألمانيا، معرض للصور، أحد الفنانين رسم مُنَظِّر الشيوعية - كارل ماركس - وهو يخاطب الرفاق، ويقول لهم: عفواً أيها الرفاق إنها كانت مجرد فكرة، يقول: أنتم كبرتموها قليلاً، وما كنت أقصد أن الشيوعية بهذا الحجم، إنما كانت مجرد نكتة، وأنتم أخذتموها بالجد، وعظمتموها، واعتمدتموها، حتى أصبحت شيئاً، والنهاية انكشفت وانهارت، إذاً: العالم لا يملك شيئاً، لكن نحن المسلمين نملك على الأقل المنهج الصحيح.

الإيمان بالله ورسوله

من جوانب الإيمان التي تغرس العزة في المسلم: إيمان بالله عز وجل يجعله يستقي من مصدر العزة، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] كذلك إيمانه بالمرسلين مثلاً يجعله أيضاً يحس بأنه في موكب قادته هم قادة البشرية، فهو من أتباع موسى، وعيسى، ونوح، وآدم وغيرهم من أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهو على نهجهم، وعلى طريقتهم، وملتهم، ودينهم، وعقيدتهم واحدة لا تتغير.

الإيمان بالملائكة

حين تنظر إلى قضية الملائكة، فإن الملائكة مصدر عزة، فإن كنتم تكاثروننا بالبشر، وتقولون -مثلاً- أمريكا كذا مائة مليون، أو روسيا كذا مائة مليون! فعندنا نحن رصيد من الملائكة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله عز وجل أو راكع أو قائم} فإذا كانت القضية قضية عدد، فهؤلاء الملائكة من يحصيهم؟!

والبيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] ثم ليس هؤلاء مجرد أرقام، هؤلاء ملائكة، وهم مسخرون بالدعاء للمؤمنين، قال تعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7] إلى آخر الآيات، أما هؤلاء الأرقام التي تفاخروننا بها من الروس، والأمريكان، واليهود، والنصارى، والبعثيين، إلى آخره، فهؤلاء أرقام بلا رصيد، فهم مثل الأصفار، أرأيتم لو أن إنساناً جمع أصفار الدنيا كلها، هل تصل إلى أن تصبح رقماً واحداً صحيحاً؟!

أبداً، فلو ملأتم الدنا ما عدلتم مؤمناً، فالصفر صفر، وليس هناك فائدة في كثرة العدد إذا كانت أصفاراً لا تنفع.

الإيمان باليوم الآخر

إذا نظرنا إلى الإيمان باليوم الآخر، نقول: مد نظرك لا تقتصر على الدنيا، هل تفاخرنا أن الروس مكنوا خمسين سنة، أو الأمريكان ستين، أو مائة سنة، أو مائتين سنة، تفاخرونا بهذا! نحن نفترض لك بأنهم مكثوا في الدنيا كل الدنيا، أليس عندنا الآخرة؟!

أنا لا أدعو إلى ترك الدنيا والغفلة عنها؛ لأننا متعبدون بالجهاد في هذه الحياة، متعبدون بإقامة دين الله عز وجل على هذا الوجود، متعبدون بقيادة البشرية كلها، هذا لا شك فيه، لكنني أريد أن ندرك أن مصدر العزة ليس مجرد كوننا متقدمين، أو متحضرين، أو كوننا نمتلك الصناعة، والتقنية، لا،مصدر العزة أمر وراء ذلك، فإذا كانت لهم الدنيا -جدلاً- فإن لنا الآخرة، ويجب أن نحرص نحن المسلمين على أن تكون لنا الدنيا والآخرة، هذه هي الأصول.

أولاً: قضية الجهاد:

إنَّ قضية الجهاد في سبيل الله عز وجل تدخل في موضوع الإيمان بالآخرة، لأن المؤمن يجاهد فيفقد آخر ما يملك في الدنيا، ومع ذلك تجده يقدم نفسه بكل بسالة وإقدام، وكثيراً ما أقف -أيها الإخوة- وأتعجب من قصة حرام بن ملحان التي رواها البخاري في صحيحه، وكثيراً ما أوردها من باب الحب:

أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره      هو المسك ما كررته يتضوع

فهذا الصحابي الجليل يطعنه رجل من خلفه بالخنجر، فيفور الدم من بطنه، فماذا صنع؟

الزوجات، والإماء، والأموال، والأملاك، والدنيا، والعمر، كلها راحت، هل فقد العزة؟

هل ندم؟

أرأيتم أي إنسان مثلاً شيوعي، أو علماني، أو بعثي، إذا فقد الدنيا ماذا بقي له؟

ما بقي له شيء لأن كل همه على هذه الدنيا، ولهذا يقول:

خذ من الدنيا بحظ     قبل أن ترحل عنها

فهي دار لست تلقى     بعدها أطيب منها

أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، لكن المؤمن يموت وهو يـبتسم، كما قال الشاعر:

sh= 9901255>آية المؤمن أن يلقى الردى باسم الوجه سروراً ورضا

ولست أبالي حين أقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

فـحرام بن ملحان رضي الله عنه لما طعن استقبل الدم بيديه، ثم رشق الدم على رأسه ووجهه، وقال: [[فزت ورب الكعبة الله أكبر]] وفي بعض الروايات أن الذي قتله هو جبار بن سلمى، وقيل إنه عامر بن الطفيل، المهم إن كان جبار بن سلمى، فتقول بعض الروايات: أنه بدأ يفكر في معنى: فزت ورب الكعبة، فاز بماذا؟!

إن الرجل قد مات وانتهى، وهذا ليس تمثيل الآن، فالرجل يتكلم عن صدق وحقيقة، فهداه هذا إلى الله عز وجل فأسلم.

وكيف لا يكون الأمر كذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين أيضاً في أحاديث كثيرة مثلاً: {موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {قاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما -ما بين المشرق والمغرب- ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها} ما رأيك في الذي يؤمن بهذه المعاني، هل يخسر شيئاً إذا فقد الدنيا؟!

ولذلك انظر كيف يسارع المؤمنون إلى الموت، وكأن الواحد منهم سيلقي حبيباً عزيزاً طالما اشتاق إلى لقائه: [[واهٍ لريح الجنة، إني لأجد ريحها من دون أحد]] يقطع إرباً إرباً وهو يبتسم، إنَّ هذه معجزة، هذه آية من آيات الله عز وجل لا يملكها شيوعي، ولا علماني، ولا حداثي، ولا يهودي، ولا نصراني، لأن هؤلاء القوم ليس عندهم غير هذه الحدود الأربعة، أو الستة، ليس عندهم شيء وراء هذه الدنيا، ولذلك يغرقون في اللذة؛ لأنه ليس عندهم غيرها، المؤمن يمكن أن يؤجل لذة الدنيا؛ لأنه يطمع في لذة الآخرة، وأنتم تعلمون أن الله عز وجل أباح من اللذات من الحلال ما يغني عن الحرام، لكن ما دام أن نساء الجنة بالشكل الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد آمنا به وصدقناه، وشهدنا بأن ما جاءنا به حق {أنه لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض، لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها -الخمار والطرحة إن صح التعبير- خير من الدنيا وما فيها} من يوم خلقت الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

الإيمان بمستقبل الإسلام

من مصادر العزة فيما يتعلق بموضوع الإيمان أيضاً قضية الإيمان بمستقبل الإسلام، مع أن هذا كله من مصادر العزة، وهي أمور ترتبط بالآخرة، وبالإيمان بالله عز وجل وملائكته، وكتبه، ورسله، مع ذلك فإن من مصادر العزة إيماننا بأن المستقبل لهذا الدين، بأن المستقبل للإسلام، أما المستقبل الأخروي -فكما ذكرت لكم وأسلفت- لكن حتى المستقبل الدنيوي هو للإسلام، وليس بالضرورة حين أقول المستقبل للإسلام أنه أنا أو أنت لا بد أن نرى هذا بأعيننا، هذا ليس شرطاً، لأننا لسنا نحن الذين نملي ما يجب أن يكون، قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68] المهم أن الدين الذي نحمله هو الغالب المنتصر، قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173] فحتى المستقبل في هذه الدنيا هو للإسلام، ولهذا الدين.

في آخر الدنيا هناك البشارات النبوية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، من نـزول عيسى ابن مريم، وخروج المهدي، وجهاد المؤمنين معهم، وقبل ذلك هناك بشائر وبشائر، وبشائر كثيرة، وقد ذكرت لبعض الإخوة موقفاً -أيضاً- من المواقف التي يجب أن نقف عندها.

ففي الصحيحين، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام، في حديث ابن عمر: {تقاتلون اليهود، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله} هذا حديث متفق عليه، لكن هناك رواية في هذا الحديث في غاية العجب، ذكرها الطبراني والبزار وأبو نعيم وغيرهم عن نهيك بن سريج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا المشركين على نهر بـالأردن، أنتم شرقي النهر وهم غربيه، حتى يقاتل بقيتكم المسيح الدجال} على نهر بـالأردن، إذاً: هناك تحديد، وهذا حديث حسنه الهيثمي والغماري، ومن ضعف الحديث فما أصاب، لأن هذا الحديث ضعفه ليس شديداً، والواقع يقويه، وينطق بأنه حديث صحيح بلا شك، ولا ريب، لأن الراوي يقول: [[ولم أكن أدري أين الأردن يومئذٍ]] إذاً هناك جولة قادمة منتصرة، هذه والله الذي لا إله غيره نقول ولا نستثني: إنها آتية، ولكن لا يمنع -أيضاً- أن هناك جولات، وجولات، وجولات يكون الإسلام فيها هو الغالب المنصور، وكم كاد الأعداء، وحاولوا فكان كيدهم في مصلحة الإسلام، وهذا أمر معروف على مدى التاريخ، كانوا يكيدون ويضعون التدابير والمكر بدون أن تأتي النتائج، وهذا المكر كله كان في مصلحة الإسلام والمسلمين.

ثانياً: اختيار الله لأمة العرب:

في موضوع مستقبل الإسلام هناك النصوص العامة، قال تعالى: الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49] وقال تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] وقال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [غافر:51] وقال تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88] إلى غير ذلك، وكذلك الأحاديث، وقد نتحدث عنها في مناسبة خاصة.

ولكن هناك أيضاً نصوص خاصة أرى أن من المهم أن نتحدث عنها، خاصة في هذه الظروف التي تعيشها بلادنا في هذه الأيام، فإن الله عز وجل يخلق ما يشاء، ويختار من الأمم من يشاء، ويختار من البلاد ما يشاء، فلا نشك في أن الله عز وجل اختار أمة العرب وفضلها، وهذا الكلام يجب أن يكون موضع اتفاق، نحن نقول العرب لا لأنهم عرب، لكن لأن الله عز وجل جعل الرسالة فيهم، ولو تخلو لاختار الله عز وجل من غيرهم من يقوم بهذه الرسالة، قال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89] لكن الأمة العربية التي بعث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم كانت من أكثر الناس إخلاصاً لهذا الدين ودعوة إليه، ولا يزال المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يكنون لهذا الجنس من الاحترام والتقدير ما لا يكنونه لغيره، ولذلك قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كما في سنن أبي داود: [[والله يا معشر العرب، إن لم تقوموا بهذا الدين، لغيركم أجدى أن يقوم به]] فضلاً عن أن الرسول عليه الصلاة والسلام خص قبائل بأسمائها وأعيانها، أنَّ لهم دوراً تاريخياً مشهود.

ثالثاً: جزيرة العرب هي جزيرة الإسلام:

أذكر منها قصة بني تميم لما قال أبو هريرة رضي الله عنه أن فيهم خصالاً ثلاثاً: لا أزال أحبهم بعد ثلاث سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: {أنهم أشد أمتي على المسيح الدجال}.

إنَّ هذه الأمم، وهذه الشعوب، وهذه القبائل، وهذه الأجناس التي أخلصت الولاء للإسلام في الماضي، هي نفسها مخلصة للإسلام في الحاضر والمستقبل، لا شك في هذا ولا ريب، فالله عز وجل قد اختارها لهذا الدين، وكذلك هذه البقاع التي تقطنها تلك الأمم، وتلك الشعوب، وتلك الأجناس، وتلك القبائل، هي بلاد الإسلام، منها بدأ وإليها يعود.

والكلام فيه أحاديث كثيرة، أذكر منها -مثلاً- قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة، كما في حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بـالحزورة لما أخرج من مكة، فالتفت إلى مكة وقال: {والله إنك لأحب البلاد إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} وقال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85] الدجال حين يخرج لا يدخل مكة ولا المدينة، الجزيرة العربية كم فيها من النصوص؟

{إن الدين ليأرز بين المسجدين} يأرز أي: كلما ظلم الدين في الدنيا كان مرجعه بين المسجدين، يتردد بين المسجدين، بين مكة والمدينة، حتى إن أهل العلم أو بعضهم لما ذكروا البيت العتيق، قالوا: إنما سمي البيت العتيق بهذا الاسم؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط، وهذا هو التاريخ ينطق، حتى أنه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} هذه جزيرة الإسلام، هذه أرض الإسلام، وهذه هي القضية التي أود أن أركز عليها دائماً وأبداً، وأن تكون عقيدة مستقرة في نفوسنا، وأن نملأ مجالسنا، نملأ أفواهنا، ومنابرنا، ومجالسنا، وكتبنا، ومحاضراتنا، بالحديث عنها، يجب أن يدخل أعداء الإسلام في جحورهم، لا مكان لهم في هذه الجزيرة، فإن أحبوا أن يكونوا مع المسلمين في استقامتهم وصلاحهم ودينونتهم لله عز وجل فأهلاً بهم وسهلاً، وأما إذا أصروا فعليهم أن يخنسوا، ويدخلوا في جحورهم، فإن هذه الجزيرة لم تخلق لغير الإسلام.

ثالثاً: راية التوحيد في الجزيرة مرفوعة:

تصفح تاريخ هذه الجزيرة منذ أن بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يكاد يوجد وقت إلا وتجد في هذه الجزيرة لا أقول راية، بل رايات مرفوعة تنادي بالتوحيد الخالص، تنادي بالإسلام الصحيح، تنادي بالدعوة إلى الكتاب والسنة، وتجمع الناس على كلمة الحق، هذه جزيرة الإسلام منها بدأ وإليها يعود، وأهل هذه البلاد هم أهل الإسلام، والأحداث تثبت هذا، فإن أهل هذه البلاد يحملون بحمد الله من صدق العواطف، وقوة الغيرة، والغضب لله ولرسوله، الشيء الكبير، ولست أُهوِّن من شأن غيرهم، ففي كل بلاد المسلمين خير كثير، ولكن الواقع الذي أجد نفسي مضطراً أن أقوله في هذا الوقت، ومحتاجاً أن أقوله، إن كثيراً من البلاد قد فعل فيه الاستعمار فعله، ووجد من أبناء تلك البلاد من يجعلهم صنائع، -طابوراً خامساً يقومون بالنيابة عنه بتنفيذ مخططاته- أما في بلادنا فقد فشل، وأصبح هؤلاء الذين -أحياناً- يربيهم الأعداء في جامعاتهم، ومؤسساتهم، إذا عادوا عاد

أولاً: يعتقد المسلم بأن اليهود على حق -مثلاً- أو النصارى على حق، أو الشيوعيين على حق، أو أي أمة، أو طائفة أخرى على حق، حينئذ يخرج من دائرة الإسلام، ويدخل في دائرة الكفر، فهذا اليقين العميق الراسخ بأن المسلم هو على الحق، وأن من عداه على الباطل، يجعله في موقف العزة التي لا تقبل الشك، ولا تقبل التردد، ولذلك تجد أن المؤمن من هذا المنطلق يشعر بالعزة في كل الظروف.

أ- قصة موسى مع فرعون:

إنَّ موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه من أتباعه من بني إسرائيل، لما كان فرعون يطاردهم ويحاربهم، وكانت معه الجيوش الجرارة، والقوى الهائلة، والمؤمنون المسلمون مع موسى لم يكونوا يملكون من القوة إلا النـزر اليسير، مع ذلك يقول الله عز وجل له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى [طه:68] لا تخف يا موسى من قواهم، وإمكانياتهم، وبطشهم، ووسائلهم المادية، لأنه ما دام الله تعالى معك، فكل شيء ممكن، حتى الخوارق يمكن يجريها الله عز وجل لك، فمتى ما كنت متحققاً بهذا الشرط الإيماني لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا [طه:68-69] وكما قال الشاعر:

إذا جاء موسى وألقى العصا      فقد بطل السحر والساحر

فهم يكيدون، ويخططون، ويجمعون، ويتألبون، ويتنادون، ويتداعون، ويرسمون، ويدرسون، ويفعلون، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:14-17].

ب- قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام:

هذه القوة والعزة يشعر بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين يلقى في النار؛ لأن الإيمان في قلبه راسخ رسوخ الجبال الراسيات، فلا يبالي بهم ويقول: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:67] قوة، إمكانيات مذهلة، النار تتأجج، حتى يلقى إبراهيم في النار، أي إنسان عنده تردد، أو تلجلج في إيمانه، قد يخشى لأنه الآن يلقى في النار، يوضع في المنجنيق، ليقذف في النار، لم يبق شيء، وضعفاء الإيمان حينئذ قد يتساءلون لماذا لم تتدخل القدرة الإلهية؟!

لكن ربك عز وجل حكيم عليم يجري قدره متى شاء، ويلقى إبراهيم في النار في تلك اللحظة، فيأتي قدر الله قال تعالى: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] فيكونون هم الأخسرين الأسفلين، ويكون إبراهيم هو القوي العزيز بإذن الله تعالى، قال الشاعر:

sh= 9901241>خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعيم

جـ- محمد صلى الله عليه وسلم:

محمد عليه الصلاة والسلام يقوم ليعلن دعوته في قريش، يا صباحاه، يا صباحاه، فيجتمع إليه الناس فيقول: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الدنيا كلها معسكرين، الأول فيه محمد صلى الله عليه وسلم، ليس معه إلا أناس لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، والدنيا كلها في معسكر آخر، تحالف عالمي، الفرس والروم والهند، والسند، والصين، وكل الدنيا، بل حتى قريش والعرب التي بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي مع المعسكرات الغربية والشرقية ضد نبينا صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يدير الله عز وجل أمور الكون، وينقل نبيه صلى الله عليه وسلم من نصر إلى نصر، ومن عز إلى عز، ومن تمكين إلى تمكين، حتى لم يمت عليه الصلاة والسلام، حتى أنـزل الله عز وجل قوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3].

د- امرأة فرعون وماشطة ابنة فرعون:

قد يقال هؤلاء الأنبياء، فنقول وأتباع الأنبياء أيضاً، هذه امرأة فرعون، امرأة في قصر الطاغية فرعون تعرض عن زينة فرعون، ودنياه، وجاهه، وماله، ومنصبه، وترفع رأسها إلى السماء، قال تعالى: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11] وأعجب من ذلك ماشطة بنت فرعون، ولها قصة، رواها ابن عباس وغيره، وهي عجب من العجب، أن ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله، فرفعت البنت رأسها، وقالت: أبي، الله أبي، قالت: لا ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين، فقالت: أخبر والدي بهذا، قالت: أخبريه، فجاءت إلى أبيها وقالت: الماشطة تقول كذا وكذا، فدعاها فقالت: نعم، ربي وربك الله، امرأة تتحدى أكبر طاغية في التاريخ!! وما انتهى التحدي عند هذا الحد كان لها أطفال، فأحضر الطاغية الجبار قدراً نقره من نحاس وأوقد عليه حتى أصبح جمرة تتلهب محمرة، ثم أخذ ابنها من على كتفها ليلقيه في هذا القدر، فينحلس فيه كما تنحلس الحبة، وما هي إلا لحظة حتى يتجمع ويتمزق وينتهي، ويصبح فحمة سوداء، فتقول له بكل ثبات: لي إليك حاجة، قال: ما حاجتك؟

قالت: أن تجعلني وأولادي وعظام أولادي في قبر واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ليس هناك مانع، ثم يأخذ الآخر، ويجره وقد أمسك بثوبها، فيلقي به -أيضاً- في القدر، أي صبر هذا؟!

ثم يأخذ الثالث ليلقي به على أثره قال تعالى: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:10-14] وأدرك فرعون شؤم هذه الفعلة الشنعاء، وما ماثلها من الأفعال الشنيعة التي تجلى فيها طغيانه، فإذا الله عز وجل يأخذه أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].

هـ- قصة أصحاب الأخدود والغلام المؤمن:

قصة أصحاب الأخدود والغلام المؤمن، وهي في الصحيح، الغلام يكون على كتف أمه، فلما ترددت بعض التردد أن تلقى في هذه النار، يقول: يا أماه اصبري، فإنك على الحق، فتصبر ويلقى بها وبولدها في هذه النار، وفي النهاية يكتب الله عز وجل لهم النصر، فكانوا منتصرين، وسر انتصارهم هو أنهم يموتون على الإسلام.

إنَّ النصر الدنيوي المادي -أيها الإخوة- قد يتحول إلى هزيمة، والمنتصر الغالب اليوم قد يهزم غداً، لكن هذا النصر الذي حققته ماشطة بنت فرعون، أو امرأة فرعون، أو حققه المؤمنون الذين ألقوا في الأخدود، بالله عليكم هل هذا النصر يمكن أن يتحول إلى هزيمة يوماً من الأيام؟!

كلا والله، لقد أصبحوا معالم على مدى التاريخ، تقول للناس: إن العقائد الراسخة العميقة في النفوس والضمائر، لا يستطيع الحديد والنار أن يفلها بحال من الأحوال، هذا هو النصر، قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52].

و- قصة خبيب بن عدي:

ومن هذه الأمة والأمثلة من هذه الأمة كثيرة: خبيب بن عدي رضي الله عنه حين أمسك به المشركون من قريش، وأسروه، ثم جاءوا به ليقتلوه ويصلبوه على جذع نخلة في مكة، تلفت فلم يجد حوله إلا شانئ معارض مبغض، وهو رجل وحيد أعزل، مكبل بالقيود ليضرب الآن بالسهام فما الذي فعل؟!

هل ضعف؟

أبداً، استأذنهم أن يصلي ركعتين فصلى ركعتين، ومن ذلك سن صلاة ركعتين عند القتل، ثم قام، وتلفت إليهم، يقول وهو ينظر إليهم:

لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا     قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

وكلهم مبدي العدواة جاهد     عليَّ لأني في وثاق بمضيع

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم      وقربت من جذع طويل ممنع

يتفرجون على هذا المشهد:

إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي     وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي     فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي

وقد خيروني الكفر والموت دونه     وقد هملت عيناي من غير مجزع

ما بكى خوفاً من الموت، أبداً:

وما بي حذار الموت إني لميت     ولكن حذاري جَحْمُ نار ملفع

ولست أبالي حين أقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ     يبارك على أوصال شلو ممزع

ولست بمبد للعدو تخشعاً     ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي

ز- عزة المسلم على مدار التأريخ:

من الذي أثبت صلابته على مدى التاريخ؟!

هذا تاريخ الدنيا مكتوب كله، قولوا لنا أي أمة، أي شعب، أي ملة من الملل، تملك من البطولات، وتملك من الصبر، وتملك من التضحية، وتملك من الجهاد، مثلما يوجد في رصيد هذه الأمة؟!

نتحدى الدنيا كلها من يتحملون عقائد، وملل، ونحل، وينتحلون مذاهب من العلمانية، والقومية، والحداثية، والشيوعية وغيرها، لكن هؤلاء ما أسرع ما يدخلون في جحورهم ويهربون، أما المؤمنون فهم أصبر الناس عند المصيبة، وأكثرهم تحملاً لما يلقون في ذات الله عز وجل، لأن العزة تنبع في قلوبهم، فلا حيلة في دفعها.

وكيف لا يكون المؤمنون أعزة، وهم يملكون هذا الإيمان الراسخ العميق بدينهم، في الوقت الذي تجد أصحاب الأديان، والملل، والنحل الأخرى، والمناهج الأرضية، يعيشون غيابة الفكر، في يوم من الأيام اكتسحت الناصرية الأمة العربية، وفي يوم آخر اكتسحت القومية، وصار المنادون بها كثراً، وصدرت الكتب والمجلات، وعقدت المؤتمرات والقيل والقال، لكنهم لما جاءوا ليتحدثوا عن القومية -مثلاً- عقدوا مؤتمراً لبحث القومية ما هي القومية، وفي النهاية عجزوا، فمن الطرائف والنكت أن واحداً منهم، قال لهم: القومية شيء جيد كثيراً، هذه هي القومية، إذن ليس عندهم فكر يجمعون الناس عليه، ليس عندهم تصور صحيح يلتئمون حوله، أحياناً تجمعهم الأهداف والمطامع الدنيوية، وكل غريب للغريب نسيب، وأحياناً يجمعهم أنهم من الشذاذ الذين رفضتهم الأمة، وتخلت عنهم يوم تخلوا عنها، ودانوا بدين غير دينها، فاجتمعوا ووحدهم الهم الواحد، لكنهم سرعان ما يتفرقون، لأنهم لا يحملون فكراً معيناً، ما هو الفكر، وما هي الفلسفة التي تحملها أمريكا التي تتزعم العالم اليوم؟!

هل عند أمريكا دين تدعو إليه؟!

هل عند أمريكا فلسفة واضحة للحياة؟!

أبداً، عندهم المصلحة، والمنفعة، واللذة، والشهوة، هذا كل ما لديهم، هذه أمورهم وحولها يدندنون.

حـ- المسلمون لديهم منهج حياة:

إذاً: ليس لدى غير المسلمين منهج، أما نحن المسلمين فنفتخر بأننا نعلم تفاصيل الحياة على ضوء كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، حتى قال يهودي لـأبي الدرداء كما في الصحيح: {علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو نستنجي برجيع أو عظم، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار} أي: أجاب أبو الدرداء على هذا الاستفزاز بجواب مناسب، اليهودي أو المشرك يسخر من أبي الدرداء حتى قضاء الحاجة الرسول عليه الصلاة والسلام قال لكم كيف يكون هذا، قال له: نعم أنت تسخر، لكن هذا حقيقة، حتى هذه القضية الإسلام نظمها وهذبها، وجعل هناك ضوابط تضبطها من عدم استقبال القبلة، وعدم استدبارها، وطريقة الاستجمار، إلى غير ذلك، فما بالك بشئون الحياة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والعلمية إلى آخرها، الذي نظم هذا الأمر اليسير هل يمكن أن يغفل عما هو أكبر منه؟!

كلا، ثم كل هذه الأشياء لم تكن خاصة بمرحلة زمنية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل ظلت الأجيال تتوارثها، حتى أنك لما تقرأ كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تجد أدق التفاصيل وأعجبها، مثلاً كم شعرة بيضاء في لحية الرسول عليه الصلاة والسلام هذا مضبوط، وكيف كان لباس الرسول عليه الصلاة والسلام هذا مضبوط، وكيف يحرك أصبعه في الصلاة هذا مضبوط، وطريقة الركوع، والسجود، بل ما هو أعجب من ذلك، كيف كان يغتسل الرسول عليه الصلاة والسلام، كيف كان يتوضأ، كيف يكون مع أهله في الفراش، فضلاً عن قضية إدارة الحروب، والمعارك، وهو في حال السلم عليه الصلاة والسلام، والسفر والإقامة، والعبادة، وأمور الدنيا، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، إلى غير ذلك كل شيء مضبوط.

إذاً: دين مهيمن على كل شئون الحياة، ولكل مراحل التاريخ، أفلا يحق لمن يملك هذا التصور الواضح أن يعتز ويفتخر به حين يجد أن أمم الدنيا كلها لا تمتلك أي فكر على الإطلاق، إلا فكراً محدوداً بمرحلة من الزمان، ومرحلة من المكان، وإيانا وإياكم أن ننخدع بلحظة محدودة.

ط- اندثار الشيوعية:

خذ الشيوعية: مضى على الشيوعية أكثر من خمسين أو ستين سنة، والناس يتخيلون أن الشيوعية أصبحت مبدأ قوياً صلباً له وجوده وله كيانه، فإذا بها بعد ذلك تسقط وتنهار في لحظة من نهار، حتى إنه في أحد المعارض في ألمانيا، معرض للصور، أحد الفنانين رسم مُنَظِّر الشيوعية - كارل ماركس - وهو يخاطب الرفاق، ويقول لهم: عفواً أيها الرفاق إنها كانت مجرد فكرة، يقول: أنتم كبرتموها قليلاً، وما كنت أقصد أن الشيوعية بهذا الحجم، إنما كانت مجرد نكتة، وأنتم أخذتموها بالجد، وعظمتموها، واعتمدتموها، حتى أصبحت شيئاً، والنهاية انكشفت وانهارت، إذاً: العالم لا يملك شيئاً، لكن نحن المسلمين نملك على الأقل المنهج الصحيح.

من جوانب الإيمان التي تغرس العزة في المسلم: إيمان بالله عز وجل يجعله يستقي من مصدر العزة، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] كذلك إيمانه بالمرسلين مثلاً يجعله أيضاً يحس بأنه في موكب قادته هم قادة البشرية، فهو من أتباع موسى، وعيسى، ونوح، وآدم وغيرهم من أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهو على نهجهم، وعلى طريقتهم، وملتهم، ودينهم، وعقيدتهم واحدة لا تتغير.

حين تنظر إلى قضية الملائكة، فإن الملائكة مصدر عزة، فإن كنتم تكاثروننا بالبشر، وتقولون -مثلاً- أمريكا كذا مائة مليون، أو روسيا كذا مائة مليون! فعندنا نحن رصيد من الملائكة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله عز وجل أو راكع أو قائم} فإذا كانت القضية قضية عدد، فهؤلاء الملائكة من يحصيهم؟!

والبيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] ثم ليس هؤلاء مجرد أرقام، هؤلاء ملائكة، وهم مسخرون بالدعاء للمؤمنين، قال تعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7] إلى آخر الآيات، أما هؤلاء الأرقام التي تفاخروننا بها من الروس، والأمريكان، واليهود، والنصارى، والبعثيين، إلى آخره، فهؤلاء أرقام بلا رصيد، فهم مثل الأصفار، أرأيتم لو أن إنساناً جمع أصفار الدنيا كلها، هل تصل إلى أن تصبح رقماً واحداً صحيحاً؟!

أبداً، فلو ملأتم الدنا ما عدلتم مؤمناً، فالصفر صفر، وليس هناك فائدة في كثرة العدد إذا كانت أصفاراً لا تنفع.

إذا نظرنا إلى الإيمان باليوم الآخر، نقول: مد نظرك لا تقتصر على الدنيا، هل تفاخرنا أن الروس مكنوا خمسين سنة، أو الأمريكان ستين، أو مائة سنة، أو مائتين سنة، تفاخرونا بهذا! نحن نفترض لك بأنهم مكثوا في الدنيا كل الدنيا، أليس عندنا الآخرة؟!

أنا لا أدعو إلى ترك الدنيا والغفلة عنها؛ لأننا متعبدون بالجهاد في هذه الحياة، متعبدون بإقامة دين الله عز وجل على هذا الوجود، متعبدون بقيادة البشرية كلها، هذا لا شك فيه، لكنني أريد أن ندرك أن مصدر العزة ليس مجرد كوننا متقدمين، أو متحضرين، أو كوننا نمتلك الصناعة، والتقنية، لا،مصدر العزة أمر وراء ذلك، فإذا كانت لهم الدنيا -جدلاً- فإن لنا الآخرة، ويجب أن نحرص نحن المسلمين على أن تكون لنا الدنيا والآخرة، هذه هي الأصول.

أولاً: قضية الجهاد:

إنَّ قضية الجهاد في سبيل الله عز وجل تدخل في موضوع الإيمان بالآخرة، لأن المؤمن يجاهد فيفقد آخر ما يملك في الدنيا، ومع ذلك تجده يقدم نفسه بكل بسالة وإقدام، وكثيراً ما أقف -أيها الإخوة- وأتعجب من قصة حرام بن ملحان التي رواها البخاري في صحيحه، وكثيراً ما أوردها من باب الحب:

أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره      هو المسك ما كررته يتضوع

فهذا الصحابي الجليل يطعنه رجل من خلفه بالخنجر، فيفور الدم من بطنه، فماذا صنع؟

الزوجات، والإماء، والأموال، والأملاك، والدنيا، والعمر، كلها راحت، هل فقد العزة؟

هل ندم؟

أرأيتم أي إنسان مثلاً شيوعي، أو علماني، أو بعثي، إذا فقد الدنيا ماذا بقي له؟

ما بقي له شيء لأن كل همه على هذه الدنيا، ولهذا يقول:

خذ من الدنيا بحظ     قبل أن ترحل عنها

فهي دار لست تلقى     بعدها أطيب منها

أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، لكن المؤمن يموت وهو يـبتسم، كما قال الشاعر:

sh= 9901255>آية المؤمن أن يلقى الردى باسم الوجه سروراً ورضا

ولست أبالي حين أقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

فـحرام بن ملحان رضي الله عنه لما طعن استقبل الدم بيديه، ثم رشق الدم على رأسه ووجهه، وقال: [[فزت ورب الكعبة الله أكبر]] وفي بعض الروايات أن الذي قتله هو جبار بن سلمى، وقيل إنه عامر بن الطفيل، المهم إن كان جبار بن سلمى، فتقول بعض الروايات: أنه بدأ يفكر في معنى: فزت ورب الكعبة، فاز بماذا؟!

إن الرجل قد مات وانتهى، وهذا ليس تمثيل الآن، فالرجل يتكلم عن صدق وحقيقة، فهداه هذا إلى الله عز وجل فأسلم.

وكيف لا يكون الأمر كذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين أيضاً في أحاديث كثيرة مثلاً: {موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {قاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما -ما بين المشرق والمغرب- ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها} ما رأيك في الذي يؤمن بهذه المعاني، هل يخسر شيئاً إذا فقد الدنيا؟!

ولذلك انظر كيف يسارع المؤمنون إلى الموت، وكأن الواحد منهم سيلقي حبيباً عزيزاً طالما اشتاق إلى لقائه: [[واهٍ لريح الجنة، إني لأجد ريحها من دون أحد]] يقطع إرباً إرباً وهو يبتسم، إنَّ هذه معجزة، هذه آية من آيات الله عز وجل لا يملكها شيوعي، ولا علماني، ولا حداثي، ولا يهودي، ولا نصراني، لأن هؤلاء القوم ليس عندهم غير هذه الحدود الأربعة، أو الستة، ليس عندهم شيء وراء هذه الدنيا، ولذلك يغرقون في اللذة؛ لأنه ليس عندهم غيرها، المؤمن يمكن أن يؤجل لذة الدنيا؛ لأنه يطمع في لذة الآخرة، وأنتم تعلمون أن الله عز وجل أباح من اللذات من الحلال ما يغني عن الحرام، لكن ما دام أن نساء الجنة بالشكل الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد آمنا به وصدقناه، وشهدنا بأن ما جاءنا به حق {أنه لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض، لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها -الخمار والطرحة إن صح التعبير- خير من الدنيا وما فيها} من يوم خلقت الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.