خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/452"> الشيخ أبو إسحاق الحويني . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/452?sub=36178"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
ماذا بعد رمضان؟!
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعملنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد..
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
شرط الاستطاعة لامتثال الأمر والنهي
فهذه العبادة التي أمرنا بها الله عز وجل يجب علينا أن نأتي بها في مكاننا، فإن عجزنا فإلى مكان آخر، لم يخلقك الله تبارك وتعالى لتكون عابداً له في بلدك، بل لو اقتضى الأمر أن تخرج من بلدك ومن أهلك ومن مالك لتحقق العبادة وجب عليك ذلك، فإن لم تفعل ولم تأت ما أمرت به فالله تبارك وتعالى يقول: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:56-57] إنما ذكر الموت بعد السياحة في البلدان طلباً للعبادة، كأنه يريد أن يقول لك: كن عبداً لله ومت حيث شئت، المهم أن تحقق العبودية لله، فلا يشترط أن تموت بأرضك وبين أهلك وخلانك: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57] وذكر هذا بعد قوله تبارك وتعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56] أي: حقق العبادة حيثما كنت.
وقد رأيت وأنا أقرأ ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه حقق هذا المعنى، فأيام كان طليقاً كان يدعو إلى الله عز وجل ويواجه الفرق المبتدعة، وفعل هذا الرجل بالمبتدعة ما لم تفعله كتائب من العلماء، فلما سجن وجد المسجونين يلعبون ويلهون، ويقضون أوقاتهم في العبث، فأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار، وقام فيهم بما يجب أن يقوم به العالم، فجمعهم على الصلاة، وأمهم، وشرع يعطي دروس العلم في التفسير والحديث والفقه، فاجتمع المسجونون عليه حتى ذكر الذين ترجموه أن كثيراً من المسجونين لما جاءهم الإفراج أبوا أن يخرجوا، وخرج من بين هؤلاء المسجونين علماء، فهذا الرجل قام بحق العبودية حتى وهو في السجن، فلا يضرك أين ذهبت، المهم أن تكون عبداً لله عز وجل.
دواعي الفتور في العبادة
في ليلة السابع والعشرين من رمضان وأنا ذاهب إلى المسجد في الساعة الواحدة لفت نظري هذا العام أن أغلب المساجد ملأى بالناس، وهذا ليس وقت سعي للعبادة، وليس وقت مكوث في المساجد، إذاً: لماذا عمّر الناس المساجد في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ طلباً لليلة القدر، إذاً: فالناس أذكياء! ويعرفون مصالحهم، ويقبلون إذا وجدوا الأجر، لذلك تركوا فرشهم الدافئة في هذا الشتاء وذهبوا إلى المساجد يصلون لله عز وجل، بينما ليلة ثماني وعشرين لا تجد أحداً في المساجد إلا العمّار الراتبون، ما معنى هذا الكلام؟ أيضحكون على الله؟ أول ما يظن أنه أخذ ليلة القدر يذهب لينام، لماذا هذا التفريط؟ إذاً: الناس تعرف دراسة الجدوى، يعرفون المكاسب والخسارة، لكن بكل أسف لم يحسبوها صحيحة هذه المرة.
إن الله تبارك وتعالى حي قيوم يقبل العمل، سواء عملته في الليل أو في النهار، عملته في رمضان أو عملته في شوال، فهو تبارك وتعالى قيوم قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد:33]، وهو تبارك وتعالى يعاملنا بالفضل، فبرغم قصر أعمار هذه الأمة إلا أنها أكثر الأمم أجراً، فقصر أعمارها وبارك في أعمالها؛ حتى أن الحسنة الواحدة تضاعف إلى سبعمائة ضعف، وهذا لا نعلمه لأمة من الأمم قط إلا لأمة المسلمين، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، حتى إن العبد قد يفعل الشيء الذي لا يلتفت إليه فينجو به غداً؛ لأن الله عز وجل قبله منه، ومن الأدلة الكثيرة على ذلك قول الله تبارك وتعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] وألف شهر تعني: (838) سنة وبضعة أشهر وعدة أيام، فإذا قمت ليلة القدر وأصبتها فعلاً فقد أضيف إلى عمرك القصير ثمانون عاماً، فإذا سددك الله عز وجل وكل رمضان أدركت ليلة القدر -إذا قمت العشر الأواخر بجد واجتهاد- فكل سنة تعبد الله عز وجل فيها ثمانون عاماً محسوبة إلى عمرك، فإذا لقيت الله عز وجل تلقاه بعمر قد يصل إلى ألفين أو ثلاثة آلاف عام، فيكتب لك أجر عابد ثلاثة آلاف عام، وهذا لو قدرنا أن رجلاً منذ فرض عليه الصيام من سن الثامن عشر عاماً مثلاً ومات وهو ابن ستين سنة، وصام خمسة وأربعين رمضان، وأدرك في كل رمضان ليلة القدر، فإذا ضربت خمسة وأربعين في ثلاثة وثمانين يصبح معك أكثر من ثلاثة آلاف، فكأنك عبدت الله عز وجل أكثر من ثلاثة آلاف عام، برغم أن عمرك الفعلي لا يجاوز ثلاثين عاماً عند الله عز وجل، فالعمر الفعلي الذي تحاسب عليه أمام الله لا يتجاوز ثلاثين عاماً، إذا مت على رأس ستين سنة، وهذه هي دراسة الجدوى لعمر إنسان مات وسنه ستين سنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك).
فلو قدرنا أن إنساناً يموت على رأس ستين عاماً، فهو لا يحاسب حتى يبلغ، والبلوغ قد يصل إلى خمسة عشر عاماً، ثم هو ينام ثمان ساعات في اليوم، إذاً: ثمان ساعات تطرح من ستين سنة تذهب عشرون سنة، تقضى في النوم وخمسة عشر سنة إلى سن البلوغ، وهذه خمسة وثلاثون سنة، فلو قدرت ساعات النوم أيضاً في البلوغ وتختصر خمس سنوات، إذاً: ثلاثون عاماً.
إذاً: رجل يموت وعمره ستون سنة يحاسب عند الله على ثلاثين عاماً فقط، فهل ثلاثون عاماً مهما فعلت فيها توصلك؟ لا توصلك. ولو عمرت عمر نوح عليه السلام لا توصلك، ولو عمرت عمر إبليس الذي قال لله عز وجل: أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14]، فلو عمرت من أول ما خلق آدم إلى أن ينفخ في الصور فلن تدخل الجنة بعملك أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لن ينجي أحدكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
وهناك قصة ضعيفة الإسناد أذكرها على سبيل التقريب لا الاحتجاج، وقد ذكرها الحاكم في المستدرك مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: (أن عبداً عبد الله عز وجل في جزيرة ستمائة عام، فأنبت الله عز وجل له قحط رمان في الصخر، وأخرج له بقدر الإصبع عيناً عذبة من الماء المالح، فكان يأكل من الرمان ويشرب من الماء ويعبد الله، فسأل الله يوماً أن يقبضه وهو ساجد، فعندما جاء أجله قبضه الله وهو ساجد، ثم قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: يا رب بل بعملي! قال: برحمتي! قال: بل بعملي! فقال الله عز وجل: قايسوا نعمي على عبدي بعبادته -ومسألة القيامة مسألة موازين- فأتوا بنعمة البصر ووضعوها في كفة، ووضعوا عبادة ستمائة عام في كفة، فطاشت الستمائة عام في العبادة أمام نعمة البصر، فقال الله عز وجل: خذوه إلى النار، فجعل العبد يستجير ويستغيث ويقول: يا رب، أدخل الجنة برحمتك!! فقال: أوقفوه. فوقف، قال: عبدي! من خلقك ولم تك شيئاً؟ برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من الذي أخرج لك قحط رمان في الصخر برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرج لك الماء العذب من الماء المالح، برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من قواك على عبادة ستمائة عام، برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: فبرحمتي أدخل الجنة، يا عبدي كنت نعم العبد)!!
وهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد إلا أن الأحاديث الصحيحة تنطق على مقتضاه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرته آنفاً: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فوضع الله عز وجل الآصار التي فرضها على بني إسرائيل عن هذه الأمة، كما قال الله عز وجل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157] كان الواحد من بني إسرائيل إذا أصابه البول قرضه بالمقاريض، لا يكفي فيه الغسل ولا يطهره ماء، وإنما يقرضه بالمقاريض، ووضع الله عز وجل هذا الإصر عن هذه الأمة، بل إن الرجل إذا فقد الماء تيمم وصلى وأجزأته صلاته ولا يلزمه الإعادة، وإذا فقد الطهورين معاً صلى بلا وضوء ولا تيمم، وإذا قابله قاطع طريق فأخذ ثيابه كلها وتركه عارياً صلى عارياً وأجزأته صلاته، ولا تلزمه الإعادة، وهذا كله من التيسير الذي امتن الله عز وجل به على هذه الأمة.
حرم الله عز وجل على بني إسرائيل الطيبات: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] حرم عليهم الخبائث وحرم عليهم شطراً من الطيبات فضيق عليهم الحلال، فكان البحث عن الحلال في أيامهم في غاية المشقة، وهذه الأمة لطف الله عز وجل بها، ووضع الآصار التي وضعها على بني إسرائيل عن هذه الأمة.
إذاً: فالله عز وجل يعاملنا بالفضل، فما الذي غرك به وجعلك تُجبر عنه بعد رمضان؟ ألا يحصي عليك بعد رمضان، أو يغفل عنك فلا يراك؟!! لماذا نعامل الله عز وجل هذه المعاملة؟ ولماذا لا نقبل عليه دائماً في كل يوم وشهر؟ هذا عقوق لله عز وجل، وإن الكريم لا يجب عليك أن تعقه فهذا لؤم، ويوشك الله تبارك وتعالى أن يعاقب الذي حلم عليه كثيراً فلم يرجع.
معاملة الله تعالى لعباده مبنية على الفضل
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: (إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً؟ قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء)، فهم كانوا أكثر عملاً، من الصباح إلى منتصف النهار مدة طويلة، ومع ذلك عجزوا، أي: ما أتموا ما فرض الله عز وجل عليهم فأعطوا قيراطاً قيراطاً، أي: وزعوا الأجر على العاملين، ولذلك كرر لفظة القيراط كما لو أردت أن تقول: إنك أعطيت فلاناً حقه كاملاً فتقول: أعطيته حقه درهماً درهماً، أي: ليس له عندك حق، فتكرير القيراط إشارة إلى أن كل عامل أخذ أجره على قدر ما عمل.
وأخذ علماؤنا من هذا الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً) أن المرء إذا كلف بأمر فعجز لظروفه الخاصة فإنه يأخذ أجره، ففي بني إسرائيل يأخذ قيراطاً قيراطاً، وعندنا يأخذ أجره كاملاً، وهذا من جملة معاملة الله إيانا بالفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث في الصحيحين-: (إذا سافر العبد أو مرض كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً)، فإذا كان له ورد من الليل يصليه، أو كان له قيام، أو كان له صدقة، فإذا سافر العبد فلم يستطع أن يعمل مثلما يعمله في بلد الإقامة كتب له أجره كاملاً كما لو كان مقيماً، وإذا مرض العبد فعجز عن القيام بما كان يفعله في حال الصحة كتب الله عز وجل له ذلك كاملاً: ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ النساء:70].
العودة إلى الله وترك التمرد على أمره ونهيه
أيها المسلم: إن ترك الذنب أهون عليك من طلب التوبة، فإنك قد لا توفق لتوبة، وقد تتوب فلا يقبل منك، فلماذا تلقي بنفسك في المجهول، وقد قدمنا في أول الكلام أنه ما من نهي نهى الله العبد عنه إلا وبإمكانه أن يتبعه، ترك الذنب إذاً خير لك، وأقرب سبيلاً وأشد من طلب التوبة.
أيها الإخوة الكرام! إنه ينبغي علينا أن نحقق العبودية لله تبارك وتعالى في أنفنسا وأولادنا، نعم شهر رمضان شهر طاعات، ولكن الله تبارك وتعالى يحب العبد إذا عبده في وقت غفلة الناس، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، وهو حديث زيد بن أرقم في صحيح مسلم، والفصيل هو ولد الناقة الصغير الذي لم يستوِ خفه فهو لا يتحمل حرارة الأرض فيمشي على الأرض قفزاً، هذا الوقت يقدر بأنه قبل الظهر بنحو ساعة ونصف أو ساعة وربع، فإذا صليت لله عز وجل في هذا الوقت فقد عبدت الله في وقت قلما يسجد له فيه ساجد، من الذي يصلي قبل الظهر بساعة ونصف؟ الناس في معايشهم يسعون في الأرض، فإذا عبدت الله عز وجل في هذا الوقت فقلما يسجد لله فيه ساجد، فلك من قبل الظهر بنحو ساعة ونصف إلى قبل الظهر بساعة إلا ربع، فإذا كان قبل الظهر بنحو ساعة إلا ربع تمتنع من الصلاة؛ لأن هذا وقت الزوال إلى أن يؤذن للظهر، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة صلاة الأوابين، والأوابون: جمع أواب وهو الرجاع إلى الله عز وجل، وهذه منزلة من المنازل العظيمة التي إذا حققها العبد كان ناجياً لا محالة، لو ثبت أنه في رتبة الأوابين، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الأوابين لذلك.
إذاً: نفهم من هذا الحديث أنك إذا كنت في فقر فتصدقت فقد حققت أعظم العبادة؛ لأنها كانت عن فقر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، فإذا كنت فقيراً ولأهلك عليك نفقة واجبة فلا تتصدق مع هذه القلة إلا على أهلك، هم أولى من غيرهم، إذا كان عليك نفقة واجبة فقد وجب عليك، فإذا لم تكن عليك نفقة واجبة فأولو الأرحام أولى، لكن الشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة جهد المقل).
إذاً: كلما عبدت الله عز وجل وأجبرت نفسك على ذلك كان ذلك أسد لك؛ لأن هذا عنوان الحب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
من القواعد المقررة في ديننا قول الله عز وجل: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وقول الله عز وجل: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6] فكل أمرٍ أمر الله عز وجل به عباده على سبيل الوجوب فبإمكانهم أن يفعلوه، وكل نهي نهاهم عنه فبإمكانهم أن ينتهوا عنه، فليس هناك أمر فوق مقدور العبد أبداً: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] وليس هناك نهي يعجز العبد عن فعله قط، وهذا شيء مؤكد لا يختلف فيه اثنان قط، والأمر والنهي معاً يشكلان العبادة مع توحيد الله عز وجل، فالعبادة: هي التوحيد، ومقتضى هذا التوحيد من الأمر والنهي، فمن لم يأت بالعبادة -التوحيد ومقتضاه- فإنه لم يعبد الله عز وجل، إذ إن الله قد خلق الخلق ليعبدوه؛ كما قال تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] في الرحلة إلى الله أكثر من مركب يُمتطى، فهناك من يمتطي مركب الرجاء، وهناك من يمتطي مركب الخوف، وأعظم الواصلين إلى الله عز وجل هم الذين يمتطون مطية المحبة إليه تبارك وتعالى، فلا تكلف أبداً مع المحبة.
فهذه العبادة التي أمرنا بها الله عز وجل يجب علينا أن نأتي بها في مكاننا، فإن عجزنا فإلى مكان آخر، لم يخلقك الله تبارك وتعالى لتكون عابداً له في بلدك، بل لو اقتضى الأمر أن تخرج من بلدك ومن أهلك ومن مالك لتحقق العبادة وجب عليك ذلك، فإن لم تفعل ولم تأت ما أمرت به فالله تبارك وتعالى يقول: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:56-57] إنما ذكر الموت بعد السياحة في البلدان طلباً للعبادة، كأنه يريد أن يقول لك: كن عبداً لله ومت حيث شئت، المهم أن تحقق العبودية لله، فلا يشترط أن تموت بأرضك وبين أهلك وخلانك: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57] وذكر هذا بعد قوله تبارك وتعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56] أي: حقق العبادة حيثما كنت.
وقد رأيت وأنا أقرأ ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه حقق هذا المعنى، فأيام كان طليقاً كان يدعو إلى الله عز وجل ويواجه الفرق المبتدعة، وفعل هذا الرجل بالمبتدعة ما لم تفعله كتائب من العلماء، فلما سجن وجد المسجونين يلعبون ويلهون، ويقضون أوقاتهم في العبث، فأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار، وقام فيهم بما يجب أن يقوم به العالم، فجمعهم على الصلاة، وأمهم، وشرع يعطي دروس العلم في التفسير والحديث والفقه، فاجتمع المسجونون عليه حتى ذكر الذين ترجموه أن كثيراً من المسجونين لما جاءهم الإفراج أبوا أن يخرجوا، وخرج من بين هؤلاء المسجونين علماء، فهذا الرجل قام بحق العبودية حتى وهو في السجن، فلا يضرك أين ذهبت، المهم أن تكون عبداً لله عز وجل.