السنة بين المحبة والاتباع


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فإن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وموالاته، ونصب الحرب على أعدائه لأمر واجب على الأعيان، ولا يتم إيمان العبد إلا بهذا.

قال بعض العلماء: إن العبد إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن معنى وتفسير هذه الكلمة المباركة هو أن الله عز وجل هو المعبود بحق، ولا معبود بحق سواه، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام لا شريك له في الاتباع.

وهنا نكتة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما يتعلق بخطبة الحاجة، قال: لما بدأ الكلام بدأ بصيغة الجمع: (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره) إلا في الشهادة لم يقل: ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنه لا يقوم أحد نيابة عن أحد بهذا الأمر، بل لا بد أن يشهد كل عبد بذاته: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فلا يستقيم إيمانه إلا إذا شهد هو بنفسه: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

إن الناظر في جيل الصحابة الأوائل يرى أن أعظم ما يميزهم المحبة العظيمة التي غرست فيهم الاتباع، اتباع أولئك الصحابة وتعظيمهم لكلام النبي عليه الصلاة والسلام.

جاء في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام لما هاجر إلى المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري ، وكان دار أبي أيوب على طابقين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي أيوب : (السفل أرفق بنا -أي اجعلنا في أسفل الدار- إنه يغشاني أصحابي فالسفل أرفق بنا) وكان أبو أيوب في الطابق العلوي، وذات ليلة وهو يمشي في الليل فزع، فقال: أنا أمشي على سقف يعلو النبي صلى الله عليه وسلم!! وانكمش هو وأهل داره في زاوية حتى الصباح، استعظم أن يمشي على السطح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام تحته، قال: (وانكسر حب لنا)، هذه الزيادة ليست في صحيح مسلم، إنما في نفس الحديث عند البيهقي في باب النبوة وغيره.

قال: (وانكسر حبٌّ لنا -الحب: هو الجرة العظيمة- قال: فجففت الماء بلحافي، اللحاف الذي يتغطى به هو وامرأته والله ما لنا غيره، خشية أن تسقط قطرة ماء على النبي عليه الصلاة والسلام، فلما أصبح الصباح قال: يا رسول الله! لا أعلو سقيفة أنت تحتها. فصعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلى).

حتى إنه لما كان يرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام فيأكل منه، فيرجع إليهم ما تبقى منه فيأكلون، فيسأل أبو أيوب : أين مواضع يده؟ وإذا شرب يقول: أين موضع فمه من الإناء؟ فيتحرى مواضع فمه ويده صلى الله عليه وسلم فيأكل من الموضع الذي أكل، وكذلك يتحرى في الشرب موضع فمه صلى الله عليه وسلم في الإناء فيشرب هو وامرأته منه، فأرسل له يوماً بصلاً، فلم يأكل منه النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، فلما صعد الرجل بالطعام إلى أبي أيوب ورأى البصل كما هو فزع ونزل وقال: (يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا، ولكني أُناجَى فأكره ذلك) -يعني يكره أن يؤذي الملك، فماذا قال أبو أيوب ؟ رغم أن البصل حلال، والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينهه عن ذلك، قال: لا جرم يا رسول الله! أكره الذي تكره، وامتنع من أكل البصل.

كذلك في الصحيح أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال لأبنائه يوماً، وأبناؤه هم: عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وسالم ، وحمزة ، وبلال ، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، وفي لفظ: (إذا استأذنت أمة أحدكم أن تخرج إلى المسجد فلا يمنعها). فقال أحد أبنائه -وهو بلال : والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً! الدغل: جمعه أدغال، وهو المكان كثير الشجر، كأنه يقول: إن بعض النساء قد يتخذن من الخروج إلى المسجد ذريعة فيقضين مآربهن، فيقول: لنمنعهن حتى لا يتخذنه دغلاً وحجة، يعني: -كما لو دخل رجل في الأدغال وراء شجرة أو نحو ذلك- فحصبه عبد الله بن عمر بحصيات، وقال له: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وتعارضه! والله لا رأيتك أبداً، فيذكرون أنه ما دخل عليه حتى مات.

هذا لأن ابن عبد الله بن عمر اعترض على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في اعتراضه سوء أدب من وجهة نظر والده، بغض النظر عن أنه متأول، ولا يقصد أن يرد برأيه الحديث، وإنما كان عنده علة جعلته يتلفظ بهذا القول، لكنه كان قولاً فجاً في نظر عبد الله بن عمر ، فلم يتحمل منه هذا.

الآن يعترضون ليس على حديث نبوي بل على آيات القرآن الكريم، وبطبيعة الحال هم لا يعترضون على ذات الآية إنما على معناها ومؤداها.

وهذا محمد الغزالي المصري في كتابه الأخير -وهو من أشأم الكتب التي صدرت في هذا العصر- لمّا أتى على حديث أبي ذر ، الذي رواه عنه عبد الله بن الصامت ، وأخرجه مسلم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والكلب الأسود والحمار، قال أبو ذر : يا رسول الله! فما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: الكلب الأسود شيطان) . فهذا بيان واضح للتفرقة، وأبو ذر استشكل الكلب الأسود، لماذا الكلب الأسود؟ فقال له: (الكلب الأسود شيطان) .

فيأتي الغزالي فيقول: بل الكلاب كلها سواء، يعني: لا فرق بين الكلب الأسود والأحمر والأصفر. كيف هذا وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما استشكله أبو ذر وقال له: إنه شيطان؟! فيأتي هذا فيقول: لا، ليس شيطاناً، بل الكلاب كلها سواء، لا فرق بين أصفر وأحمر وأبيض، فهذا رد صريح للأحاديث النبوية، وهناك العشرات الذين يردون الأحاديث، بل أكثر!

ومن الأمثلة أيضاً: لما ذكر الغزالي حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام)، تدرون ماذا قال؟ لقد قال: لا يعقل أن الحبة السوداء تستخدم في (الأنفلونزا)، أو تستخدم في (المغص)، أو تستخدم في مثل هذه الأشياء، فلا بد أن الحديث ليس على ظاهره، فيقول وهذا كقوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25]، يقول: فهل دمرت كل شيء؟ مع أن لفظ (كل) من ألفاظ العموم، إذاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحبة السوداء شفاء من كل داء) فنحن نعتقد أن الحبة السوداء شفاء من كل داء، ولسنا نعتقد أن الحبة السوداء هي التي تدفع الداء، إنما هي سبب، قد يرفع الله عز وجل الداء بشربة ماء، وقد لا يرتفع المرض بأخذ جميع أنواع العلاجات التي صنعت لرفع هذا المرض، فالمسألة مسألة أسباب فقط، والله تبارك وتعالى هو الشافي.

هناك امرأة مغربية ذهبت إلى أطباء الدنيا، وقرروا أن عندها سرطان، وأن الحالة ميئوس منها، وقالوا: لم يبق من عمرها إلا ثلاثة أشهر فقط، وقالوا لأهلها: متعوها وأكلوها وشربوها كل ما تريد؛ لأنه لم يبق من عمرها إلا ثلاثة أشهر فقط، فقال الأهل للمرأة: أي شيء في نفسك وتريدينه من أكل أو شرب أو غيرهما سنوفره لكِ، قالت: أريد أن أذهب إلى الحرم، وأقضي بقية عمري هناك، وذهبوا بها إلى الحرم، ولم تكن تأكل ولا تشرب، وإنما كانت تشرب من ماء زمزم فقط، وكانت تأكل بعض حبات الفاكهة ونحو ذلك، مرت ثلاثة أشهر والمرأة لا شيء عندها.. أربعة أشهر.. خمسة أشهر.. ستة أشهر.. أين ذهب المرض؟ لا تدري، شعرت أنها في صحة جيدة، عرضت نفسها على أطباء المملكة، قالوا: إنك لا تشتكين من أي علة، قالت: هؤلاء لا يعرفون شيئاً، الأطباء الكبار قرروا أن بها سرطاناً، وأطباء المملكة يقولون: ليس بها شيء، أبناؤها لم يصدقوا ما قرره أطباء المملكة، فأخذوها وطاروا بها إلى الأطباء هناك، فبحثوا فلم يجدوا العلة، أين ذهب المرض؟

لا يعرفون، قالوا لها: عند أي طبيب تعالجت، وأي دواء أخذت؟! قالت: ما أخذت شيئاً سوى أنني كنت في الحرم، وكل طعامي وشرابي كان من ماء زمزم. فهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى رفع هذا الداء بماء زمزم.

كما قلنا: قد يرتفع العلاج بشربة ماء، وهذا ما حدث لـأبي ذر في قصة إسلامه، أنه اختفى من المشركين في المسجد الحرام، ونزل إلى ماء زمزم، ولم يكن له شرب ولا أكل إلا من ماء زمزم، حتى قال أبو ذر : (حتى تكسرت عكن بطني). يعني: صار اللحم طبقات بعضها فوق بعض من شرب ماء زمزم، (حتى تكسرت عكن بطني ولم أجد على كبدي سخفة جوع).

ماء زمزم هو الماء الوحيد الذي إن شربته قام مقام الطعام، بخلاف الماء العادي إذا كنت جائعاً فلا تستطيع أن تستسيغ الماء، بخلاف ماء زمزم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه طعام طعم، وشفاء سقم) أي: ماء زمزم.

فمن الذي يقول بقول الغزالي؟ مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الحبة السوداء شفاء من كل داء) فنحن نعتقد أنها شفاء من كل داء إلا السام، -وهو الموت- واحتجاجه بالآية في غاية العجب؛ لأن الآية تقول: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] فيقول: فهل دمرت كل شيء؟ تمام الآية: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] فدل على أن المساكن استثنيت من هذا التدمير.

انظروا إلى الجرأة على حديث النبي عليه الصلاة والسلام! فاتباع وتوقير كلام النبي عليه الصلاة والسلام فرع -بلا شك- عن المحبة، لو كان هؤلاء يحبون النبي عليه الصلاة والسلام كما كان يحبه السلف الأوائل لوقفوا عند قوله، ولم يتقدموا بين يديه بقول، فضلاً عن أن يخالفوا قوله، فإن مخالفة قوله عليه الصلاة والسلام جريمة عظيمة.

إن الفرق بيننا وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يظهر في قوله تبارك وتعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ [الأعراف:169] ورثوا الكتاب!

هناك فرق بين الذي قاتل من أجل آيات الكتاب وبين الذي ورثه، أنت ترى أن الرجل قد يخلِّف ثروة طائلة لأولاده، فترى كثيراً من أولئك الورثة ينفق هذا المال كله الذي جمعه والده في عشرات السنين، ويأتي الولد ويضيعه في عشية أوضحاها دون أن يذرف عليه دمعة، إنما الذي جمعه بكده وعرقه لا ينفق منه درهماً واحداً ولا ديناراً إلا إن علم أن هذا هو موضعه فيه؛ لأنه تعب عليه.

كذلك الصحابة.. ما كانوا ليخالفوا الكتاب أبداً، ولم يكونوا ليخالفوا قول النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم تحملوا الأذى من أجله، وما وصلنا الكتاب ولا السنة إلا على أشلاء أولئك الصحابة، والحروب التي خاضوها واستعذبوا الموت في سبيل الله عز وجل، من أجل أن يوصلوا إلينا هذا البيان نقلاً أميناً صحيحاً غير محرف، بخلاف أولئك الذين ورثوا الكتاب ترى أحدهم يحتج بالآية في غير موضعها، بل وبضد موضعها أحياناً، وتهون عليه، ويجاهر ويكابر.

هناك بعض أصحاب محلات الحلاقة يكتبون على جدران محلاتهم قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية:8] وهذه الظاهرة موجودة عندنا في بعض محلات الحلاقة، ماذا يقصدون بكتابة هذه الآية؟ إنهم يقصدون بذلك أنه عندما يحلق اللحية مرتين يصير الوجه ناعماً والخد أملساً، فهذه الآية ساقها الله تبارك وتعالى مساق المدح لأهل الجنة، وهؤلاء يضعون الآية في غير موضعها بل ضد موضعها، لماذا هانت عليهم آيات القرآن الكريم إلى هذا الحد؟! لأنهم ورثوا الكتاب، لم يحسوا بقيمة هذا القرآن.

كذلك ترى مكتوباً في محل عصير أو شراب: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] ، هل هذا هو الشراب الطهور الذي أراده الله تبارك وتعالى من الآية؟!

بل وترى بعض الذين يحملون القرآن الكريم -أي: يحفظونه عن ظهر قلب- مخالفات عجيبة.

حدثت عندنا قصة وهي: أن أحد الأثرياء ماتت والدته، فأراد أن يأتي بأشهر قارئ ليقرأ لها، فأتى بقارئ كبير ومشهور جداً، وإنما يسمع الناس صوته في الإذاعة، ولم تكتحل أعينهم برؤياه، فلما علموا أن القارئ الإمام سيقرأ في العزاء أتوا من كل حدب وصوب، ومن كل فج بعيد؛ حتى يرون هذا القارئ.

هذه القصة حدثت قبل عشر سنوات، يعني من نحو خمسة عشر عاماً، فلما ذهبوا ليتعاقدوا معه، قالوا له: بكم تقرأ ثلاثة أرباع؟

قال: أقرؤها بأربعمائة جنيه، الأربعمائة جنيه في ذلك الوقت كانت قيمة عالية، قالوا له: خذ المال، قال: أرسلوها إلى البنك الفلاني، انظروا! وكأن هذا القارئ لم يقرأ قط قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276]! وكأنه لم يقرأ قط قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278]، كأنه لم يقرأ هذه الآيات! بل قال: أرسلوها إلى البنك الفلاني، وجاء الرجل وقرأ، والناس ينصتون ليس لآيات القرآن، إنما ينصتون للصوت، هم منسجمون مع الصوت، حتى أن قارئاً كان يقرأ: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32] قام رجل وقال: الله يزيدك.. يزيده ماذا؟! أكثر من سبعين ذراعاً!!

وأحياناً تقرأ هذه الآية: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:71] يقول بعض الحاضرين: اللهم اجعلنا منهم، هو لا يدري زمر الجنة من زمر النار، إنما يسمع للتطريب فقط، فانسجم الناس، المهم طلبوا ربعاً رابعاً، قال: أنا مرتبط بأعمال، حسن! خذ ما شئت من المال، الذي طلب منه مواصلة القراءة هو ذلك الرجل الثري؛ لأن الحاضرين في عزاء والدته عدد ضخم جداً، وهم يتفاخرون بذلك، أبى، فقال له بعض الناس: لماذا تغالي في أجرك؟! أربعمائة جنيه في ثلاثة أرباع! لماذا تغالي في أجرك؟! فقال -ما أدري مازحاً أم جاداً، مع أن المزاح في هذا لا يجوز- قال: ألم يقل الله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:41] أنا أعتقد أن هذا الرجل لو قصد واعتقد هذا المعنى لكفر، فإن الدنيا كلها التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، لو وضعت الدنيا في كفة ووضع شطر آية في كفة، لا يشك أحد أن هذه الآية بل وشطر الآية أفضل من الدنيا كلها، وهل يظن أن هذا الرجل لو غالى حتى أخذ أموال الدنيا كلها أنه وفى هذا القرآن حقه؟! فإذا كان هذا حال الذين يقرءون القرآن كله، ويحفظونه عن ظهر قلب.. فكيف بغيرهم؟!

ولقد نعلم علماً ضرورياً أن جل الصحابة كانوا يحفظون القرآن كاملاً، لكن الفرق بيننا وبينهم كبير.

السر في كون الصحابة فاقوا من بعدهم

أثُر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، وإنه يأتي أقوام يتعلمون القرآن ثم يتعلمون الإيمان)، هذا هو الفرق: تعلم الإيمان أولاً، فإذا جاءته آية أو جاءه حديث لا يفقه معناه لا يعترض، لأنه آمن أولاً فيسلِّم، بخلاف الذي يقرأ القرآن بغير إيمان كامل فإنه يمكن أن يعترض على آيات، أو يمكن أن يرد أحاديث كثيرة.

فلذلك عبد الله بن مسعود كأنه بهذا القول يشير إلى خطورة تعلم المرء القرآن قبل تعلم الإيمان، أو تعلم العلم قبل تعلم الإيمان، لقد وصلت استهانة الناس بالقرآن إلى حد أنهم حرفوا النص، لا أقول حرفوا التأويل، إنما حرفوا النص.

بعض أقطاب الصوفية وأظنه ابن عربي أو رجل يشابهه لما جاء يفسر قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] -الصوفية يفسرون القرآن بالإشارة- قال: تفسير الآية ليس كما يتبادر إلى أذهانكم، وإنما معنى الآية هكذا: (من ذل ذي يشف ع)، أتى بلفظ آخر للآية:

(من ذل): من الذل.

(ذي): اسم إشارة، أي: من ذل نفسه.

(يشف) أي: من الكبر والبطر والرياء والعجب.

(ع): فعل أمر: من وعى، أي: ع هذا الكلام، هل الآية هكذا لفظاً ومعنى..؟! سبحان الله..! هانت عليهم آيات القرآن الكريم؛ لأن الأمر كما قال تعالى: وَرِثُوا الْكِتَابَ [الأعراف:169] ، وهذا رجل وارث، ما قاتل على آيات الكتاب حتى يعز عليه أن يحرف المعنى، لأن مسألة تحريف اللفظ هذه مسألة خطيرة جداً.

صحيح أن ألفاظ القرآن الكريم يحمل وجوهاً كثيرة، والآية الواحدة قد تحتمل أكثر من معنى، لكن ليس إلى هذا الحد الذي يعود على معنى الفقه بالإبطال، إذا كان التأويل سائغاً معتبراً لا يخرج عن حد اللفظ اللغوي، وكان معنىً سائغاً لائقاًً كهذا التفسير اللائق لقوله تبارك وتعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] هذه الآية معناها: أن المساجد لله تبارك وتعالى، فلا تخلط فيها شيئاً من الدنيا، ولذلك يمنع فيها البيع والشراء، وهيشات الأسواق، والنزاع والخصومة، وإنشاد الضالة، وهذه المعاني في المسجد... إلى آخره.

فالمعنى السائغ اللائق هو كما قال بعض العلماء: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ المساجد هنا: جمع مسجَد، أي: أن أعضاءك السبعة التي تسجد بها لله، فلا تسجد بها لأحد غير الله، لا تأت وتخرَّ على الأرض ساجداً أمام أي إنسان مهما كان عظيماً، كما يفعل بعض الجهلاء، كما حدث مع شاه إيران لما خرج من المطار أتى رجل وقبل نعله وسجد له.

وهذا المعنى الذي قاله هؤلاء العلماء في هذه الآية معنى لاائق؛ لأن اللغة تدل عليه، لا يجوز لأحد أن يسجد لأحد من البشر على هذه الأعضاء السبعة، بل هذه الأعضاء إنما يسجد بها المرء لربه تبارك وتعالى.

فإذا كان اللفظ محتملاً للمعنى ولا يخرج عن دلالته اللغوية فإنه جائز، لكن ليس إلى هذا الحد الذي يصل إلى إبطال الآية ذاتها، مثل لفظ: (من ذل ذي يشف ع) مع أن الآية خلاف هذا تماماً، إنما تجرءوا على فعل هذا الفعل المنكر، وهانت عليهم آيات القرآن الكريم؛ لأنهم ورثوا الكتاب.

الفرق بيننا وبين الصحابة في الاختلاف

الصحابة الأوائل كانوا يختلفون عن هؤلاء اختلافاً كبيراً، لذلك فنحن نشبه بُعْدَ المسلمين عن تطبيق الإسلام بمثلث حاد الزاوية، النقطة لا أبعاد فيها، مثل إذا وضعت نقطاً برأس القلم فليس فيها طول ولا عرض، وإن كان فيها أبعاد فهي أبعاد قصيرة جداً لا تكاد تذكر، فلو قلنا: هذه النقطة هي العهد النبوي، كانوا كلهم شيئاً واحداً، حتى لو حدث خلاف فهذا الخلاف ينتهي بسرعة؛ لأن الصحابة ما كانوا يقصدون الخلاف ولا يتعبدون به، إنما الخلاف شيء طارئ رغماً عنهم، حدث بسبب اختلاف وجهات النظر، ولكنهم كانوا يرجعون بسرعة إذا ظهر الحق.

كما في الصحيحين (أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما اختلفا في شيء، وكان في أبي بكر رضي الله عنه حدة، فكأنما احتد على عمر ، فرجع أبو بكر فقال لـعمر : اغفر لي. فقال: لا أغفر لك. فانصرف أبو بكر وندم عمر أن أبا بكر قال: اغفر لي، قال: لا أغفر لك، فذهب إلى بيت أبي بكر فلم يجده، فأبو بكر كان قد توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد رفع شيئاً من ثوبه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما صاحبكم هذا فقد غامر -يشير إلى أن هيئة أبي بكر هيئة غير عادية- فجاء وقال: يا رسول الله! اختلفت مع عمر في شيء من الحديث، فقلت له: اغفر لي. قال: لا أغفر لك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً، فقعد، -فلما سأل عنه عمر فلم يجده توجه إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام- فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام تغير وجهه، وقال له ولهم جميعاً: جئتكم فقلتم لي: كذبت، وقال أبو بكر : صدقت! وواساني بماله ومنعتموني! فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟)، قال: فما أوذي بعدها.

الآن يختلف بعض الإخوة مع أخيه في مسألة فرعية، فتراه يترك المسجد الذي يصلي فيه مع أخيه، وإذا رآه قادماً من طريق أخذ في طريق آخر، وإذا ذُكِرَ أخوه ذمه، وقد ينهشه.. لماذا؟ لأنه مختلف معه، تراه يراقبه في صلاته: هل يحرك الإصبع أم يشير بها؟ هل يشير أم يرفع عند النفي والإثبات؟! هل يقبض بعد القيام من الركوع الثاني أم يرسل، قضايا فرعية يتعاملون فيها كالقضايا الأصولية، وهذه مصيبة عظيمة!

إن الدافع هو جهل أولئك بالخلاف وأدب الخلاف وأدبه، كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون في المسائل العظيمة، وأظن خلافهم في اختيار الخليفة بعد النبي عليه الصلاة والسلام في سقيفة بني ساعدة مشهوراً، وكان كفيلاً بتدمير الدعوة، لأنه كان من الأنصار من هو مصر على -بلغة العصر- أن يرشح نفسه بمقابل أبي بكر الصديق ، أو في مقابل المهاجرين، حتى قال قائلهم: (منا أمير ومنكم أمير)، وأصروا على ذلك في بداية الأمر، ولكن لأن الله تبارك وتعالى يعلم أنهم أخلصوا دينهم لله، وأنهم لا يتعبدون بالخلاف ولا يختارونه، فأصلح ذات بينهم، وزال الخلاف، فلما قضي الأمر لم تجدهم يعترضون على اختيار أبي بكر خليفة، ويقول: لا، أنا معترض، وهذه وجهة نظري.

الآن لو حدث كمثل الأمثلة التي ضربتها لا يتحمل الناس بعضهم بعضاً فيها، هؤلاء لم يتحمل بعضهم بعضاً في القضايا الفرعية فكيف بالقضايا الأصولية؟!

وفي حديث عبد الله بن مسعود لما أتم عثمان في منى أربعاً، وهو في الصحيحين، لكن الجملة التي أريدها في سنن أبي داود، وفي مسند الإمام أحمد: (لما بلغ ذلك عبد الله بن مسعود أن عثمان يتم استرجع). وفي مسند الإمام أحمد بسند فيه ضعف: (أن أبا ذر لما بلغه ذلك حوقل واسترجع أن يتم أربعاً) ولكن لما أقيمت الصلاة قاموا يصلون خلفه أربعاً، قيل لـعبد الله بن مسعود في ذلك قال: (الخلاف شر).

لأن الخلاف الذي ينتج عنه خروج عبد الله بن مسعود على عثمان بن عفان ، مع أن عثمان اجتهد في هذه المسألة، فأداه اجتهاده إلى ذلك ووافقته عائشة عليه، فإنه أعظم ألف مرة من المصلحة الحادثة التي يحصلها من لا يصلي خلف عثمان أربعاً، أيختلفون بين يدي الله في مناسك الحج؟ أهذا هو الفقه؟!

فعندنا مثلاً المفتي لما يرى أن هلال رمضان لم يره، بينما في بلد مجاور لنا رأوا الهلال، فيقول هذا المفتي: إن لكل بلد رؤية خاصة، وهذان قولان معروفان عند أهل العلم: اختلاف المطالع واتحادها، وإن كان الراجح اتحاد المطالع، لكن الرأي الآخر قال به علماء، واختاره هذا المفتي، فلا نخالفه في هذا الأمر لعموم البلوى بالمخالفة، حدث عندنا في حلوان منذ أربع سنوات: أن السعودية رأت الهلال قبلنا بيوم، وصادف -ولعلكم تذكرون- العيد يوم الجمعة، فبعض الذين لا يتبعون المفتي بعد صلاة الجمعة وقف على المنبر وأخذ ماءً وشرب، بينما هذا اليوم كان هو المتمم لرمضان عندنا، الناس جميعاً صُوَّم، وهذا وقف على المنبر وشرب، وقال: اليوم يوم العيد ولا يحل صيام يوم العيد!

لقد حدث خلاف كادت أن تطير فيه رقاب، ما هي المصلحة؟

وهل هناك مصلحة أن يذهب أناس يصلون العيد وإخوانهم في نفس البلد يتمون صيام رمضان؟!

إذا كان من المسائل التي رجح بها القائلون باتحاد المطالع، قالوا: إذا اجتمعت الأمة المسلمة على يوم عيد واحد وعلى يوم صوم واحد، فهذا أدعى أن يحس بعضهم ببعض، فلا شك أن أهل البلد الواحد أكثر إحساساً بهذا الأمر من أهل البلدان المتفرقة، يعني: إذا كان العيد في تلك البلاد، ونحن لا زلنا صائمين، فإننا لا نحس أن هناك مخالفاً؛ لأننا جميعاً صُوَّم، إنما إذا كنا في البلد الواحد وأقوام يصلون العيد، وأقوام يتمون صوم رمضان! هذا بلا شك من الجهل، كما قال بعض العلماء: لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف.

فالصحابة الأوائل كان عندهم من فقه النفس وفقه الأحكام الشرعية ما يعقلهم من مثل هذا الزلل الذي يقع فيه كثير من الشباب اليوم، أضف إلى ذلك الإخلاص، يوجد الآن أقوام يتعبدون بالخلاف، وهذه مصيبة كبيرة، بل بدعة قبيحة جداً، أن يتعبد عبد بالخلاف.

الفرق بيننا وبين الصحابة في حفظ القرآن

كان الصحابة كتلة واحدة؛ لأنهم تعلموا الإيمان والقرآن جميعاً، وما كانوا يتجاوزون آية من آيات القرآن إلا ويعملون بها، ويقول بعض العلماء: لعل هذا هو السبب الذي جعلهم لا يحفظون القرآن كله، الذين يحفظون القرآن الآن ليسوا أذكى منهم ولا أحفظ، والعرب الأوائل اشتهروا بالحفظ، كانوا يحفظون المعلقات، ويحفظون الأمثال، هكذا كان الحفظ! أيعجزون أن يحفظوا آي الذكر، ويحفظوا أقوالاً مركبة معقدة كالصخر؟! أفلا يحفظون آيات الذكر الحكيم التي يحفظها الطفل الصغير؟! وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].

أنا أعرف رجالاً عاشوا وهم يحفظون القرآن، وماتوا وهم لا يعرفون تفسير المعوذتين! وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] الواحد منهم لا يعرف ما هو الغاسق، ولا يعرف ما معنى وقب، وكذلك الطفل الصغير لا يعرف لكنه يحفظ، فهذه بركة في القرآن الكريم أن يحفظه الكل، أفيعجز أولئك الصحابة الذين كانوا يحفظون الأقوال الجامدة من أن يحفظوا القرآن الكريم؟!

لا يعجزون، إذاً لماذا مات أغلبهم ولم يحفظوا القرآن الكريم كله؟ لأنهم لم يكونوا يتجاوزون الآية ولا الآيتين ولا الثلاث إلا بعد أن يعملوا بها. وهذا -كما قلت:- أحد الفروق التي تميز أولئك الصحابة العظام وبين جيلنا الآن.

أثُر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، وإنه يأتي أقوام يتعلمون القرآن ثم يتعلمون الإيمان)، هذا هو الفرق: تعلم الإيمان أولاً، فإذا جاءته آية أو جاءه حديث لا يفقه معناه لا يعترض، لأنه آمن أولاً فيسلِّم، بخلاف الذي يقرأ القرآن بغير إيمان كامل فإنه يمكن أن يعترض على آيات، أو يمكن أن يرد أحاديث كثيرة.

فلذلك عبد الله بن مسعود كأنه بهذا القول يشير إلى خطورة تعلم المرء القرآن قبل تعلم الإيمان، أو تعلم العلم قبل تعلم الإيمان، لقد وصلت استهانة الناس بالقرآن إلى حد أنهم حرفوا النص، لا أقول حرفوا التأويل، إنما حرفوا النص.

بعض أقطاب الصوفية وأظنه ابن عربي أو رجل يشابهه لما جاء يفسر قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] -الصوفية يفسرون القرآن بالإشارة- قال: تفسير الآية ليس كما يتبادر إلى أذهانكم، وإنما معنى الآية هكذا: (من ذل ذي يشف ع)، أتى بلفظ آخر للآية:

(من ذل): من الذل.

(ذي): اسم إشارة، أي: من ذل نفسه.

(يشف) أي: من الكبر والبطر والرياء والعجب.

(ع): فعل أمر: من وعى، أي: ع هذا الكلام، هل الآية هكذا لفظاً ومعنى..؟! سبحان الله..! هانت عليهم آيات القرآن الكريم؛ لأن الأمر كما قال تعالى: وَرِثُوا الْكِتَابَ [الأعراف:169] ، وهذا رجل وارث، ما قاتل على آيات الكتاب حتى يعز عليه أن يحرف المعنى، لأن مسألة تحريف اللفظ هذه مسألة خطيرة جداً.

صحيح أن ألفاظ القرآن الكريم يحمل وجوهاً كثيرة، والآية الواحدة قد تحتمل أكثر من معنى، لكن ليس إلى هذا الحد الذي يعود على معنى الفقه بالإبطال، إذا كان التأويل سائغاً معتبراً لا يخرج عن حد اللفظ اللغوي، وكان معنىً سائغاً لائقاًً كهذا التفسير اللائق لقوله تبارك وتعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] هذه الآية معناها: أن المساجد لله تبارك وتعالى، فلا تخلط فيها شيئاً من الدنيا، ولذلك يمنع فيها البيع والشراء، وهيشات الأسواق، والنزاع والخصومة، وإنشاد الضالة، وهذه المعاني في المسجد... إلى آخره.

فالمعنى السائغ اللائق هو كما قال بعض العلماء: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ المساجد هنا: جمع مسجَد، أي: أن أعضاءك السبعة التي تسجد بها لله، فلا تسجد بها لأحد غير الله، لا تأت وتخرَّ على الأرض ساجداً أمام أي إنسان مهما كان عظيماً، كما يفعل بعض الجهلاء، كما حدث مع شاه إيران لما خرج من المطار أتى رجل وقبل نعله وسجد له.

وهذا المعنى الذي قاله هؤلاء العلماء في هذه الآية معنى لاائق؛ لأن اللغة تدل عليه، لا يجوز لأحد أن يسجد لأحد من البشر على هذه الأعضاء السبعة، بل هذه الأعضاء إنما يسجد بها المرء لربه تبارك وتعالى.

فإذا كان اللفظ محتملاً للمعنى ولا يخرج عن دلالته اللغوية فإنه جائز، لكن ليس إلى هذا الحد الذي يصل إلى إبطال الآية ذاتها، مثل لفظ: (من ذل ذي يشف ع) مع أن الآية خلاف هذا تماماً، إنما تجرءوا على فعل هذا الفعل المنكر، وهانت عليهم آيات القرآن الكريم؛ لأنهم ورثوا الكتاب.

الصحابة الأوائل كانوا يختلفون عن هؤلاء اختلافاً كبيراً، لذلك فنحن نشبه بُعْدَ المسلمين عن تطبيق الإسلام بمثلث حاد الزاوية، النقطة لا أبعاد فيها، مثل إذا وضعت نقطاً برأس القلم فليس فيها طول ولا عرض، وإن كان فيها أبعاد فهي أبعاد قصيرة جداً لا تكاد تذكر، فلو قلنا: هذه النقطة هي العهد النبوي، كانوا كلهم شيئاً واحداً، حتى لو حدث خلاف فهذا الخلاف ينتهي بسرعة؛ لأن الصحابة ما كانوا يقصدون الخلاف ولا يتعبدون به، إنما الخلاف شيء طارئ رغماً عنهم، حدث بسبب اختلاف وجهات النظر، ولكنهم كانوا يرجعون بسرعة إذا ظهر الحق.

كما في الصحيحين (أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما اختلفا في شيء، وكان في أبي بكر رضي الله عنه حدة، فكأنما احتد على عمر ، فرجع أبو بكر فقال لـعمر : اغفر لي. فقال: لا أغفر لك. فانصرف أبو بكر وندم عمر أن أبا بكر قال: اغفر لي، قال: لا أغفر لك، فذهب إلى بيت أبي بكر فلم يجده، فأبو بكر كان قد توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد رفع شيئاً من ثوبه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما صاحبكم هذا فقد غامر -يشير إلى أن هيئة أبي بكر هيئة غير عادية- فجاء وقال: يا رسول الله! اختلفت مع عمر في شيء من الحديث، فقلت له: اغفر لي. قال: لا أغفر لك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً، فقعد، -فلما سأل عنه عمر فلم يجده توجه إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام- فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام تغير وجهه، وقال له ولهم جميعاً: جئتكم فقلتم لي: كذبت، وقال أبو بكر : صدقت! وواساني بماله ومنعتموني! فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟)، قال: فما أوذي بعدها.

الآن يختلف بعض الإخوة مع أخيه في مسألة فرعية، فتراه يترك المسجد الذي يصلي فيه مع أخيه، وإذا رآه قادماً من طريق أخذ في طريق آخر، وإذا ذُكِرَ أخوه ذمه، وقد ينهشه.. لماذا؟ لأنه مختلف معه، تراه يراقبه في صلاته: هل يحرك الإصبع أم يشير بها؟ هل يشير أم يرفع عند النفي والإثبات؟! هل يقبض بعد القيام من الركوع الثاني أم يرسل، قضايا فرعية يتعاملون فيها كالقضايا الأصولية، وهذه مصيبة عظيمة!

إن الدافع هو جهل أولئك بالخلاف وأدب الخلاف وأدبه، كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون في المسائل العظيمة، وأظن خلافهم في اختيار الخليفة بعد النبي عليه الصلاة والسلام في سقيفة بني ساعدة مشهوراً، وكان كفيلاً بتدمير الدعوة، لأنه كان من الأنصار من هو مصر على -بلغة العصر- أن يرشح نفسه بمقابل أبي بكر الصديق ، أو في مقابل المهاجرين، حتى قال قائلهم: (منا أمير ومنكم أمير)، وأصروا على ذلك في بداية الأمر، ولكن لأن الله تبارك وتعالى يعلم أنهم أخلصوا دينهم لله، وأنهم لا يتعبدون بالخلاف ولا يختارونه، فأصلح ذات بينهم، وزال الخلاف، فلما قضي الأمر لم تجدهم يعترضون على اختيار أبي بكر خليفة، ويقول: لا، أنا معترض، وهذه وجهة نظري.

الآن لو حدث كمثل الأمثلة التي ضربتها لا يتحمل الناس بعضهم بعضاً فيها، هؤلاء لم يتحمل بعضهم بعضاً في القضايا الفرعية فكيف بالقضايا الأصولية؟!

وفي حديث عبد الله بن مسعود لما أتم عثمان في منى أربعاً، وهو في الصحيحين، لكن الجملة التي أريدها في سنن أبي داود، وفي مسند الإمام أحمد: (لما بلغ ذلك عبد الله بن مسعود أن عثمان يتم استرجع). وفي مسند الإمام أحمد بسند فيه ضعف: (أن أبا ذر لما بلغه ذلك حوقل واسترجع أن يتم أربعاً) ولكن لما أقيمت الصلاة قاموا يصلون خلفه أربعاً، قيل لـعبد الله بن مسعود في ذلك قال: (الخلاف شر).

لأن الخلاف الذي ينتج عنه خروج عبد الله بن مسعود على عثمان بن عفان ، مع أن عثمان اجتهد في هذه المسألة، فأداه اجتهاده إلى ذلك ووافقته عائشة عليه، فإنه أعظم ألف مرة من المصلحة الحادثة التي يحصلها من لا يصلي خلف عثمان أربعاً، أيختلفون بين يدي الله في مناسك الحج؟ أهذا هو الفقه؟!

فعندنا مثلاً المفتي لما يرى أن هلال رمضان لم يره، بينما في بلد مجاور لنا رأوا الهلال، فيقول هذا المفتي: إن لكل بلد رؤية خاصة، وهذان قولان معروفان عند أهل العلم: اختلاف المطالع واتحادها، وإن كان الراجح اتحاد المطالع، لكن الرأي الآخر قال به علماء، واختاره هذا المفتي، فلا نخالفه في هذا الأمر لعموم البلوى بالمخالفة، حدث عندنا في حلوان منذ أربع سنوات: أن السعودية رأت الهلال قبلنا بيوم، وصادف -ولعلكم تذكرون- العيد يوم الجمعة، فبعض الذين لا يتبعون المفتي بعد صلاة الجمعة وقف على المنبر وأخذ ماءً وشرب، بينما هذا اليوم كان هو المتمم لرمضان عندنا، الناس جميعاً صُوَّم، وهذا وقف على المنبر وشرب، وقال: اليوم يوم العيد ولا يحل صيام يوم العيد!

لقد حدث خلاف كادت أن تطير فيه رقاب، ما هي المصلحة؟

وهل هناك مصلحة أن يذهب أناس يصلون العيد وإخوانهم في نفس البلد يتمون صيام رمضان؟!

إذا كان من المسائل التي رجح بها القائلون باتحاد المطالع، قالوا: إذا اجتمعت الأمة المسلمة على يوم عيد واحد وعلى يوم صوم واحد، فهذا أدعى أن يحس بعضهم ببعض، فلا شك أن أهل البلد الواحد أكثر إحساساً بهذا الأمر من أهل البلدان المتفرقة، يعني: إذا كان العيد في تلك البلاد، ونحن لا زلنا صائمين، فإننا لا نحس أن هناك مخالفاً؛ لأننا جميعاً صُوَّم، إنما إذا كنا في البلد الواحد وأقوام يصلون العيد، وأقوام يتمون صوم رمضان! هذا بلا شك من الجهل، كما قال بعض العلماء: لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف.

فالصحابة الأوائل كان عندهم من فقه النفس وفقه الأحكام الشرعية ما يعقلهم من مثل هذا الزلل الذي يقع فيه كثير من الشباب اليوم، أضف إلى ذلك الإخلاص، يوجد الآن أقوام يتعبدون بالخلاف، وهذه مصيبة كبيرة، بل بدعة قبيحة جداً، أن يتعبد عبد بالخلاف.