خطب ومحاضرات
أسباب الهداية [1،2]
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونؤمن به ونتوكل عليه، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره واتبع منهجه وسنته، وعنا وعن جميع المسلمين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
نعمة الهداية
إن نعمة الهداية تلحقك آثارها في الساعات الحرجة، واللحظات الصعبة حينما تزول الحجب وتنكشف الحقائق وتبدو الأمور على وضعها الطبيعي، دنيا زائلة.. شباب فاني.. حياة منتهية.. آخرة مقبلة.. ملائكة نازلة.. وملك الموت موكل بقبض روحك ونقلك من هذا الدار إلى الدار الآخرة، هنالك تنفعك نعمة الهداية، فيثبتك الله بالإيمان: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].. إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:30] هذا الكلام عند الموت، أي: لا تخافوا مما أمامكم ولا تحزنوا على من خلفكم، فهناك اطمئنان على المستقبل والماضي والحاضر، فالمستقبل لا تخافوا منه، والماضي لا تحزنوا عليه، والحاضر: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] لماذا؟ قالوا: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ [فصلت:31] لأنكم كنتم أولياء الله في الدنيا، فنحن أولياؤكم في الدنيا والآخرة: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:31-32].
إن نعمة الهداية تنفعك في القبر المظلم الموحش، في القبر الذي نحن اليوم في غفلة عنه، نسكن القصور وننسى القبور، نعيش في النور وننسى ظلمات القبور، نرقد على الأسرة والفرش وفي غرف النوم الطويلة العريضة وننسى اللحد وظلمته، والقبر وضغطته، والسؤال وشدته، في تلك اللحظات تأتيك نعمة الهداية، ويلقنك الله عز وجل حجتك ويثبتك؛ لأنك كنت في الدنيا ثابتاً غير متزعزع أو متذبذب أو متلون، وإنما ثابت ثبوت الجبال الشوامخ، ثابت على دين الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [إبراهيم:27].
إذاً: من ثبت هنا ثبَّته الله في القبر، وعلى الصراط، وفي عرصات القيامة، حتى يدخله الله دار الثابتين -جعلنا الله وإياكم منهم- ومن زاغ هنا وانحرف، انحرف في القبر، وعند الموت، وعلى الصراط، وفي العرصات، حتى يدخل دار المنحرفين، أجارنا الله وإياكم منها.
وفي القبر لن تنطق الشهادات ولا المناصب ولا الكراسي الدوارة، ولا العمارات والبنوك والمؤسسات، ولا العضلات، ولكن تنطق فقط القلوب المؤمنة المهتدية التي عرفت الله في هذه الدنيا.
وفي عرصات القيامة مروراً بالجسر الرهيب المضروب على متن جهنم .. الجسر العظيم الذي جاءت مواصفاته في الأحاديث الصحيحة بأنه: أدق من الشعر، وأحد من السيف، وأحر من الجمر، وأروغ من الثعلب، والناس مأمورون كلهم بالسير عليه، إذ لا وصول إلى الجنة إلا من خلاله، ووسائل النقل ووسائل العبور هي العمل الصالح، فمن جاء بوسيلة نقل جيدة عبر، ومن جاء بغير وسيلة نقل خسر وهوى في النار.
إن نعمة الهداية تجعلك تعبر الصراط، قيل لبعض السلف وقد رُؤي في منامٍ: ما صنع الله بك؟ قال: وضعت قدمي الأولى على الصراط والثانية في الجنة. أي: أنه ليس هناك تأخر أبداً، ولعله لم يكن لديه في الدنيا شيء سوى الإيمان والعمل الصالح، فترى في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بأسباب نعمة الهداية.
إذاً نعمة الهداية عظيمة، نعمة لا تعدلها نعمة، والنعم كلها من الله، يقول الله عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] ويقول: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].
نعمة المال والولد والزوجات والمناصب والرتب، والعافية والصحة، والأرزاق والأمن، كل هذه نعم، نحمد الله الذي لا إله إلا هو عليها، ونسأله المزيد من فضله، لكنها نعم مؤقتة، فهي تنفعك إذا كنت حياً، لكن إذا خرجت من الدنيا فليس معك شيء من ذلك، وهناك فقط نعمة واحدة هي التي تنفعك هنا وهناك، والعقل يفرض عليك إذا كنت عاقلاً، أن تهتم بالنعمة التي تنفعك في الدنيا، وعند الموت، وفي القبر، وعلى الصراط، وتنفعك وبالعرصات وإلى أن تدخل الجنة؛ فعليك أن تعطي للنعم الأخرى بقدر ما تنفعك.
نعمة المال
ولكن إذا بُسطت عليك الدنيا وفتحت لك، فلا تردها إذا جاءت من الحلال، ولكن اعمل لها (تحويلة) إلى الآخرة: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ [القصص:77] أي: بهذه الأموال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77] فقال هذا المغرور التعس، الغبي الجهول: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78] يقول: أنا صاحب عقلية تجارية، أنتهز الفرص وأغتنم المناسبات، وكلما أتيحت لي فرصة اغتنمتها، ولذا أُثريت وأصبحت صاحب مال، وما علم المسكين أن في هذه الدنيا من هو أشد قوة وأعظم عقلاً منه، ولكنه يعيش فقيراً.
يقول أهل العلم: كان هناك رجل فقير وكان عقيماً، لكنه عاقل ولبيب، وكان هذا الفقير مبتلىً بالفقر أي: ليس عنده شيء، لم يستطع أن يجمع عبر شهور مبلغاً من المال ليشتري به حذاءً، فنزل إلى السوق يمشي على قدمين حافيتين، ومعه درهمين في جيبه قد رصدهما لشراء الحذاء، وفي الطريق التقى برجل يسوق أمامه أربعين حماراً، وكانت الحمير هي وسائل النقل الشائعة، أي: هي السيارات المنتشرة في عهدهم، وكان ذلك الرجل خلف الأربعين حماراً يضربها ويطردها من هنا إلى هنا، فلحقه الفقير قائلاً: يا أخ العرب! لمن هذه الحمير؟ قال: لي. قال: كلها لك. قال: نعم. كلها لي، فقال: هلا ركبت واحداً منها، لماذا تمشي وهي أمامك وكلها لك؟ قال الرجل: يا أخي! أنت لا تعلم ما هي المشكلة، قال: وما هي؟ قال: إذا ركبت عليها صارت تسعة وثلاثين حماراً، وإذا نزلت زادت وكانت أربعين حماراً.
فهذا المغفل لا يعرف أن يعد حميره؛ إذا ركب على حمار عد الذي أمامه ونسي الذي تحته، فإذا نزل صارت كلها أمامه فأصبحت أربعين حماراً، فقال: إذاً نمشي وتزيد حماراً ولا تنقص، فتعجب هذا الرجل الحكيم وقال: سبحان الله! هذا الرجل لا يعرف أن يعد حميره وعنده أربعين حماراً، وأنا عندي عقلية عظيمة وليس لدي أحذية ألبسها.
إذاً الرزق ليس بالعقلية، ولا بالفرص، وإنما بتقسيم الله، يقول الله عز وجل: وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32] فالمال نعمة، ولكنه نعمة إذا استغل في طاعة الله.
ولكي يكون نعمة فإن هناك شروط:
أولاً: أن يجمع من الحلال، ويُنفق في الحلال، وأن يخرج منه الحقوق والواجبات، وإلا تحول المال إلى لعنة في الدنيا قبل الآخرة، يقول الله عز وجل في سورة التوبة: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا [التوبة:55] أي: بالأموال والأولاد فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].
ويذكر الإمام أحمد في مسنده حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (التقى مؤمنان على باب الجنة: مؤمن غني، ومؤمن فقير) أما لو كان الغني فاجراً، فإنه ليس له طريق إلى الجنة؛ لأن هناك (تحويلة) من الصراط على جهنم، لكن هذا مؤمن استطاع أن يعبر الطرق كلها وأن ينجو إلى أن وقف على باب الجنة بإيمانه، ولكن عنده مال، والآخر فقير وعنده إيمان، قال: (فأدخل الله المؤمن الفقير لتوه) هذا الفقير عنده إيمان ولكن ليس لديه متاع، عندما تسافر الآن من الرياض إلى جدة ، وتأتي إلى الكونترول فتجد أن هناك لوحة مكتوب عليها: الركاب بغير عفش لا أحد يؤخرهم، يعطون البطاقة ويدخلون مباشرة، لكن إذا جئت عندهم ولديك عشرة كراتين وشنط، عندها يقولون لك: على جنب، قف هنا والتزم بالطابور .. افتح وزن .. ويتعبونك من أجل رحلة ساعة أو ساعتين.
حسناً! والذي لديه رحلة مدى الحياة إلى الآخرة، كيف ينجو؟ كيف يكون تعبه في الطريق؟ فالأموال مسئولية وعهدة على صاحبها.
قال: (وحبس المؤمن الغني ما شاء الله أن يحبس) أي: حبس للسؤال فقط، فليس هناك عذاب؛ لأنه ناجح، قال: (ثم أدخله الله الجنة، فالتقى به صاحبه الفقير المؤمن -التقى به في الجنة- فقال: يا أخي! لقد تأخرت عليّ حتى خشيت عليك) يقول هذا المؤمن الفقير: والله إني خفت عليك، فقد ظننت أنك ذهبت إلى النار، ما الذي أخرك؟ ما الذي حبسك عني؟ (قال: يا أخي! حبسني مالي، حبست محبساً سال مني من العرق ما لو أن ألف بعير أكلت من حمض النبات، ثم وردت عليه لصدرت عنه رواء) ألف بعير! هذا مقدار ما سال من العرق، البعير إذا أكل من حمض النبات لا يرويه برميل، فما بالك بألف برميل في سين وجيم! ليس هناك أذى ولا مطرقة، وإنما فقط سؤال عند الباب، فكم جلس هذا الغني؟ خمسمائة سنة، أي: نصف يوم بحساب اليوم الآخر: (يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم، بخمسمائة عام) أي: بنصف يوم؛ لأن الله عز وجل يقول: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
إذاً نقول للناس: لا تردوا المال إذا كان من الحلال، ولكن استعينوا به على الحلال، أكرموا منه الضيف، صلوا به الأرحام، تفقدوا به الجيران، ابنوا به المساجد، أنفقوا منه في ميادين البر والإحسان، أمدوا بها المجاهدين المحتاجين إلى هذا المال، الذين يلتحفون السماء، ويفترشون الأرض، ويأكلون فتات العيش، ويجاهدون بنحورهم في سبيل الله، وأنتم لديكم أموال فأنفقوها في سبيل الله.
يقول تعالى: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41] ويقول: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ [القصص:77] وبعد ذلك ليس هناك مانع من أن تبني لك عمارة أو تشتري لك سيارة، أو تتزوج لك بزوجة جميلة، أو أن تأثث لك بيتاً بأحسن الأثاث، أو أن تأكل من أحسن الطعام، أو تلبس من أحسن الثياب (فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).. (وإن الله جميل يحب الجمال) والله عز وجل يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].
إذاً: المال نعمة لكن بشرطه، وشرطه: أن يكون من الحلال، أما إذا كان من الحرام فالله لا يقبل منك به عمل؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فإن لم يصرفه في الحلال، ويُخرج منه الحقوق والواجبات تحول هذا المال إلى نقمة.
أكثر الناس الآن أصحاب الأموال (المليونيرات) تجده مبسوطاً؛ لأنه إذا دخل مجلساً فبمجرد أن يدخل من هناك والمجلس كله ينتفض له، ويقولون: وعليك السلام! ولو ما قال السلام عليكم، لماذا؟ لأن المال والشيكات والمنزلة الاجتماعية سلمت، وإذا جاء إلى مكانه تجد الكل يقولون: هنا يا أبا عبد الله، هنا يا أبا محمد، لكن إذا دخل الفقير وقال: السلام عليكم بأعلى صوته ما قالوا وعليك السلام، وإذا كان هناك من يرد السلام لقال: وعليك السلام بينه وبين نفسه، ولا أحد يقول تعال هنا، لماذا؟ لأن المال له قيمة هنا، لكن في الآخرة تؤخذ هذه الأموال على جنب: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
نعمة الولد
ليس هناك شخص في بلادنا الآن إلا وهو يحرص كل الحرص على إلحاق ولده بالمدارس النظامية، حتى قبل السن القانونية، فبعضهم يأتي بولده وعمره أربع سنوات، يقول: سجلوه، اجعلوه مستمعاً، فيقولون: لا يجوز، النظام من ست سنوات فما فوق، فيقول: لا. أرجوكم.. من فضلكم.. الولد مستعجل على الدراسة.. لماذا؟ هل حباً في العلم أو الدين؟ لا. بل تعلم العلم لغير الدين، فيريد أن ينجح بسرعة من أجل أن يتخرج بسرعة، ويأخذ مرتبه بسرعة، أو يأخذ نجمة أو وظيفة بسرعة، الدنيا فقط، لكن هل جاء بهذا الولد إلى المسجد وقال للشيخ: علمه كتاب الله، وإذا غاب عن المسجد هل يغضب كما يغضب إذا غاب عن المدرسة؟ لا. فلو غاب عن المدرسة لقطَّع جلده، ولكن في العصر تجده يقول: لا تذهب يا ولدي فلديك واجبات، هل واجبات الدنيا أهم من واجبات القرآن، هل حرص الإنسان على الدنيا أهم من حرصه على الدين؟ هذه مصيبة!
علم ولدك القرآن، وأدخله مدارسه، فإنه قد جاء في الحديث: إن الرجل والمرأة يوم القيامة يكسوان حلة لا تقوم لها الدنيا، ضوؤها أعظم من ضوء الشمس، فيقولان: بم هذا يا رب؟ فيقال: بإقرائكما ولدكما القرآن.
هذه جائزة الأم المثالية التي تقرأ كلام الله، والتي تريد أن تقرأ كلام الله، وقد سمعت أنه يوجد هنا في هذا الحي المبارك مدرسة للنساء، وهي مدرسة لتعليم القرآن الكريم على كافة المستويات، ابتدائي للصغار، وبعد ذلك محو الأمية للنساء اللاتي لا يعرفن القراءة ولا الكتابة، وللمثقفات والمدرسات والجامعيات على كل المستويات، وما يلزم الشخص منا إلا أن يقول لزوجته أو ابنته: اذهبي إلى هذه المدرسة، وسجلي من بعد العصر إلى المغرب، وهذه نعمة في هذا الوقت الضائع، الذي تضيعه النساء في القيل والقال والتمشيات، وأذهب عند فلانة، وآكل مع فلانة! يأكلون لحوم البشر، ويذاكرون في الموضات والتقليعات والتفصيلات والكلام الفاضي، بل سمعت أن النساء الآن لهن اهتمام بالرياضة أعظم من الرجال، فكل واحدة معها لاعب مفضل، وإذا قيل لها: من لاعبك المفضل؟ قالت: فلان. إذاً: لا نعيب على الرجال إذا لعبوا أو أحبوا الكرة؛ لأنهم يلعبون أصلاً، لكن المرأة ما علاقتها بالكرة؟! وهذه مصيبة والله يا إخوان، ما بقي إلا هذه! تضاربت امرأتان، قالت إحداهما: فلان أحسن، فقالت الأخرى: لا. ذاك أحسن. فلا حول ولا قوة إلا بالله!
فإقراء القرآن للأولاد وللبنات وللزوجات فضيلة، والحجة قائمة والحمد لله، ففي كل حي بل في كل مسجد مدرسة لتحفيظ كتاب الله، ولكن لا نرى فيها أبناء الذوات والشخصيات، بل نرى فيها الصغار والضعفة من الناس، الذين يرجون بذلك وجه الله عز وجل، ولكن البقية مشغولون بغير دين الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
فالولد نعمة إذا هداه الله في الدنيا، وبعد موتك لأنه سيدعو لك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -ذكر منها-: وولد صالح) أي: ليس أي ولد، شرط، فإذا كان ولداً فاسداً ثم دعا لك رجعت دعوته على وجهه، كيف يدعو وهو فاسد؟ لا يشفِّعه الله إذاً، ولكن: (ولد صالح يدعو له).
فالمال نعمة بقيده، والولد نعمة إذا هداه الله تعالى.
نعمة الوظيفة والمنصب
أولاً: ما تعاليت بها على الناس ولا تكبرت، كما يصنع بها بعض الموظفين، أو رؤساء الأقسام، أو مدراء الإدارات؛ إذا دخل الإدارة فإنه من عند الباب يرفع (بشته) ويكون رأسه في السماء، وإذا مر على الناس أخذ ينظر فيهم ولا يسلم، فإذا قيل له: لماذا لا تسلم؟ قال: السلام ينقص من شخصيتي، ويضعف هيبتي أمام الناس، فأنا أريد أن أحتفظ بشخصية قوية من أجل أن يخاف الناس مني، ويسيرون العمل بشكل مضبوط، فتجده لا يسلم على الفراشين ولا الموظفين الصغار، وإذا دخل عليه أحد وهو جالس على الطاولة، رفع عينيه دون أن يرفع رأسه، كأنه يريد أن ينطحه، وإذا سلم عليه أحد لا يرد عليه السلام إلا همساً، وإذا أعطوه المعاملة، ما قبلها ولا مد يده لها، بل يقول: ضعها على الطاولة، ماذا تريد؟ الله أكبر! ما هذا الكبرياء والتغطرس بالوظيفة، فلو أن الوظيفة بقيت لغيرك ما وصلت إليك، والكرسي كما يقولون دوار. فكرسي الحلاق كل يوم عليه شخص، فلم يبق لغيرك حتى يبقى لك، إذاً لماذا تنتفخ؟ لماذا تتكبر على عباد الله بهذه الوظيفة وهي عارية عندك؟! لماذا لم تستخدمها في طاعة الله؟ فإذا دخلت إدارتك فلا تأت عند الباب إلا وقد بدأت بالسلام: السلام عليكم .. السلام عليكم ورحمة الله .. صبحكم الله بالخير .. كيف حالكم؟ فإذا دخلت المكتب فسلم على الفراش، وإذا جاءك أي شخص مراجع له عمل عندك، فعليك أن تقطع عملك وأن ترفع رأسك إليه، فتقوم إذا حياك، لا تحيه وأنت جالس، بل حيه على الهيئة التي هو عليها، إن كان هو جالس فأنت جالس، وإن كان هو واقف فأنت واقف، كن مثله، وبعد ذلك تصافحه وتقول له: أي خدمات يا أخي، ماذا تريد؟ أي غرض، غرضك اعتبره منتهياً، ولو ما انتهى، وإذا لم ينته تقول له: الله يوفقك ويبارك فيك ويرزقك ويكثر من أمثالك.
هكذا تكون عابداً لله عز وجل بالوظيفة، وبعد ذلك إذا أذَّن المؤذِن للظهر وفي يدك أعظم معاملة، أو في أذنك أعظم مكالمة، أو كان عندك أهم اجتماع، فعندها تقفل القلم، وتضع السماعة، وتلغي الاجتماع وتقول: إلى الله، دعانا الله.
لكن بعض المدراء لا يعقد الاجتماعات إلا في وقت الصلاة، وهذا اجتماع يخيم عليه الشيطان؛ لأنه ضاعت من أجله فريضة الله عز وجل، فالوظيفة هذه نعمة إذا سخرتها في طاعة الله، فنصرت بها الضعيف، أو أقمت بها الحق، أو قدمت بها خدمة للمسلمين، فخدمتهم فيما يتعلق بعملك، فبششت لهم، وقضيت حوائجهم، وسعيت في مصلحتهم، عندها تكون هذه الوظيفة رحمة عليك في الدنيا وعزة وسعادة في الآخرة.
لكنّ هذه الوظيفة تكون فقط إلى الموت، وأما القبر فإنك لا تدخله بوظيفتك، هل سمعتم أن ضابطاً دخل القبر بنجومه على كتفيه؟ أو مديراً دخل ببشته أو طاولته؟ أو تاجراً دخل بشيكاته وصناديقه؟ لا. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94] أي: يخرج الغني والفقير، والقوي والضعيف، والأمير والمأمور، والملك والمملوك، كلهم يقوم في البدلة الرسمية الموحدة، وهي الكفن: الإزار والرداء واللفافة: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94] أي: ما جئتم بشيء، فقط جئتم بالعمل، والعمل من أين أخذتموه؟ من النعمة التي أرسلت لكم وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
هذا هو الدين وهذه هي الهداية، فمن أخذ بها نفعته في الآخرة، ومن تركها ضل في الدنيا وشقي في الآخرة، يقول ابن عباس: [تكفل الله عز وجل لمن عمل بالقرآن ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة] فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ) أي: من سار على هذه الهداية فلا يضل ولا يشقى * وَمَنْ أَعْرَضَ [طه:123-124] أي: الذي لا يريد الهداية، والطريق الواضحة أمامه، فأعلامها واضحة، وأماراتها واضحة، كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يحيد ولا يزيغ عنها إلا هالك، فهذا قد أعرض أو رفض.
قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [طه:124] هذا الذي أعرض لابد أن أعطيه الفطور في الدنيا والعشاء في النار، ما هو الفطور؟ قال تعالى: إِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124] هذا الفطور وهو الوجبة العاجلة، ثم ماذا قال جل ذكره: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] وهذا هو العشاء.
تصوروا أن شخصاً يُحشر أعمى، ويؤمر بالسير على الصراط وهو أعمى، فكيف يمشي على الصراط؟ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [طه:125] نعم. فالجزاء من جنس العمل: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا [طه:126] أي: هناك في الدنيا: فَنَسِيتَهَا [طه:126] تعاميت عنها.. تجاهلتها.. فكل شيء له في ميزانك وفي برنامجك مكان إلا القرآن والدين والهداية لا تريدها، فللمباريات وللتمشيات مكان، وللبلوت والكيرم وللدوام وللنوم وللطعام مكان، ولكن للعلم .. للقرآن .. للصلاة .. لهداية الله .. لا. عندما تأتي هذه الأشياء يصبح البرنامج مزحوماً ولا فيه فراغ، فتجده يقول: والله أنا مشغول، حسناً! تعال ندوة، قال: أنا مشغول، ماذا عندك؟ ليس عنده شيء، أشغل نفسه بما لا يشغله الله به، أشغل نفسه بما يضره في الدنيا والآخرة والعياذ بالله، قال عز وجل: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:126].
أيها الإخوة في الله: إن نعمة الهداية نعمة لا تعدلها نعمة، نعمة تلحقك آثارها في هذه الدنيا فتعيش سعيداً، إذ لا سعادة بغير هداية: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12].. وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37].. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:28-29].
إن نعمة الهداية تلحقك آثارها في الساعات الحرجة، واللحظات الصعبة حينما تزول الحجب وتنكشف الحقائق وتبدو الأمور على وضعها الطبيعي، دنيا زائلة.. شباب فاني.. حياة منتهية.. آخرة مقبلة.. ملائكة نازلة.. وملك الموت موكل بقبض روحك ونقلك من هذا الدار إلى الدار الآخرة، هنالك تنفعك نعمة الهداية، فيثبتك الله بالإيمان: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].. إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:30] هذا الكلام عند الموت، أي: لا تخافوا مما أمامكم ولا تحزنوا على من خلفكم، فهناك اطمئنان على المستقبل والماضي والحاضر، فالمستقبل لا تخافوا منه، والماضي لا تحزنوا عليه، والحاضر: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] لماذا؟ قالوا: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ [فصلت:31] لأنكم كنتم أولياء الله في الدنيا، فنحن أولياؤكم في الدنيا والآخرة: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:31-32].
إن نعمة الهداية تنفعك في القبر المظلم الموحش، في القبر الذي نحن اليوم في غفلة عنه، نسكن القصور وننسى القبور، نعيش في النور وننسى ظلمات القبور، نرقد على الأسرة والفرش وفي غرف النوم الطويلة العريضة وننسى اللحد وظلمته، والقبر وضغطته، والسؤال وشدته، في تلك اللحظات تأتيك نعمة الهداية، ويلقنك الله عز وجل حجتك ويثبتك؛ لأنك كنت في الدنيا ثابتاً غير متزعزع أو متذبذب أو متلون، وإنما ثابت ثبوت الجبال الشوامخ، ثابت على دين الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [إبراهيم:27].
إذاً: من ثبت هنا ثبَّته الله في القبر، وعلى الصراط، وفي عرصات القيامة، حتى يدخله الله دار الثابتين -جعلنا الله وإياكم منهم- ومن زاغ هنا وانحرف، انحرف في القبر، وعند الموت، وعلى الصراط، وفي العرصات، حتى يدخل دار المنحرفين، أجارنا الله وإياكم منها.
وفي القبر لن تنطق الشهادات ولا المناصب ولا الكراسي الدوارة، ولا العمارات والبنوك والمؤسسات، ولا العضلات، ولكن تنطق فقط القلوب المؤمنة المهتدية التي عرفت الله في هذه الدنيا.
وفي عرصات القيامة مروراً بالجسر الرهيب المضروب على متن جهنم .. الجسر العظيم الذي جاءت مواصفاته في الأحاديث الصحيحة بأنه: أدق من الشعر، وأحد من السيف، وأحر من الجمر، وأروغ من الثعلب، والناس مأمورون كلهم بالسير عليه، إذ لا وصول إلى الجنة إلا من خلاله، ووسائل النقل ووسائل العبور هي العمل الصالح، فمن جاء بوسيلة نقل جيدة عبر، ومن جاء بغير وسيلة نقل خسر وهوى في النار.
إن نعمة الهداية تجعلك تعبر الصراط، قيل لبعض السلف وقد رُؤي في منامٍ: ما صنع الله بك؟ قال: وضعت قدمي الأولى على الصراط والثانية في الجنة. أي: أنه ليس هناك تأخر أبداً، ولعله لم يكن لديه في الدنيا شيء سوى الإيمان والعمل الصالح، فترى في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بأسباب نعمة الهداية.
إذاً نعمة الهداية عظيمة، نعمة لا تعدلها نعمة، والنعم كلها من الله، يقول الله عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] ويقول: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].
نعمة المال والولد والزوجات والمناصب والرتب، والعافية والصحة، والأرزاق والأمن، كل هذه نعم، نحمد الله الذي لا إله إلا هو عليها، ونسأله المزيد من فضله، لكنها نعم مؤقتة، فهي تنفعك إذا كنت حياً، لكن إذا خرجت من الدنيا فليس معك شيء من ذلك، وهناك فقط نعمة واحدة هي التي تنفعك هنا وهناك، والعقل يفرض عليك إذا كنت عاقلاً، أن تهتم بالنعمة التي تنفعك في الدنيا، وعند الموت، وفي القبر، وعلى الصراط، وتنفعك وبالعرصات وإلى أن تدخل الجنة؛ فعليك أن تعطي للنعم الأخرى بقدر ما تنفعك.
إذا كانت نعمة المال تنفعك في الدنيا، فاشتغل بالمال بقدر ما ينفعك في الدنيا، والباقي حوله إلى الآخرة، كما قال الناصحون لقارون .. فإن قارون كان ثرياًً، بل كان من أثرى أهل الأرض، مفاتحه التي هي مفاتيح المخازن لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76] أي: إن العصبة الرجال لا يستطيعون أن يحملوا مفاتيح المخازن، فلما خرج متبختراً متزيناً مفتخراً بهذا المال، قال له قومه: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76]، أي: لا تفرح بالدنيا إذا سيقت لك، بل احزن منها وخف، فإنها استدراج لك وابتلاء واختبار، والله زوى الدنيا عن أنبيائه ورسله إكراماً لهم، وبسطها على أعدائه والعصاة من عباده إضلالاً لهم، ولم يبسطها إلا لنبي واحد وهو: سليمان، فاعتبرها بلية وقال: لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40] فلم يعتبرها نعمة، وإنما اعتبرها مصيبة وابتلاء واختباراً، فقالوا له: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76].
ولكن إذا بُسطت عليك الدنيا وفتحت لك، فلا تردها إذا جاءت من الحلال، ولكن اعمل لها (تحويلة) إلى الآخرة: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ [القصص:77] أي: بهذه الأموال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77] فقال هذا المغرور التعس، الغبي الجهول: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78] يقول: أنا صاحب عقلية تجارية، أنتهز الفرص وأغتنم المناسبات، وكلما أتيحت لي فرصة اغتنمتها، ولذا أُثريت وأصبحت صاحب مال، وما علم المسكين أن في هذه الدنيا من هو أشد قوة وأعظم عقلاً منه، ولكنه يعيش فقيراً.
يقول أهل العلم: كان هناك رجل فقير وكان عقيماً، لكنه عاقل ولبيب، وكان هذا الفقير مبتلىً بالفقر أي: ليس عنده شيء، لم يستطع أن يجمع عبر شهور مبلغاً من المال ليشتري به حذاءً، فنزل إلى السوق يمشي على قدمين حافيتين، ومعه درهمين في جيبه قد رصدهما لشراء الحذاء، وفي الطريق التقى برجل يسوق أمامه أربعين حماراً، وكانت الحمير هي وسائل النقل الشائعة، أي: هي السيارات المنتشرة في عهدهم، وكان ذلك الرجل خلف الأربعين حماراً يضربها ويطردها من هنا إلى هنا، فلحقه الفقير قائلاً: يا أخ العرب! لمن هذه الحمير؟ قال: لي. قال: كلها لك. قال: نعم. كلها لي، فقال: هلا ركبت واحداً منها، لماذا تمشي وهي أمامك وكلها لك؟ قال الرجل: يا أخي! أنت لا تعلم ما هي المشكلة، قال: وما هي؟ قال: إذا ركبت عليها صارت تسعة وثلاثين حماراً، وإذا نزلت زادت وكانت أربعين حماراً.
فهذا المغفل لا يعرف أن يعد حميره؛ إذا ركب على حمار عد الذي أمامه ونسي الذي تحته، فإذا نزل صارت كلها أمامه فأصبحت أربعين حماراً، فقال: إذاً نمشي وتزيد حماراً ولا تنقص، فتعجب هذا الرجل الحكيم وقال: سبحان الله! هذا الرجل لا يعرف أن يعد حميره وعنده أربعين حماراً، وأنا عندي عقلية عظيمة وليس لدي أحذية ألبسها.
إذاً الرزق ليس بالعقلية، ولا بالفرص، وإنما بتقسيم الله، يقول الله عز وجل: وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32] فالمال نعمة، ولكنه نعمة إذا استغل في طاعة الله.
ولكي يكون نعمة فإن هناك شروط:
أولاً: أن يجمع من الحلال، ويُنفق في الحلال، وأن يخرج منه الحقوق والواجبات، وإلا تحول المال إلى لعنة في الدنيا قبل الآخرة، يقول الله عز وجل في سورة التوبة: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا [التوبة:55] أي: بالأموال والأولاد فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].
ويذكر الإمام أحمد في مسنده حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (التقى مؤمنان على باب الجنة: مؤمن غني، ومؤمن فقير) أما لو كان الغني فاجراً، فإنه ليس له طريق إلى الجنة؛ لأن هناك (تحويلة) من الصراط على جهنم، لكن هذا مؤمن استطاع أن يعبر الطرق كلها وأن ينجو إلى أن وقف على باب الجنة بإيمانه، ولكن عنده مال، والآخر فقير وعنده إيمان، قال: (فأدخل الله المؤمن الفقير لتوه) هذا الفقير عنده إيمان ولكن ليس لديه متاع، عندما تسافر الآن من الرياض إلى جدة ، وتأتي إلى الكونترول فتجد أن هناك لوحة مكتوب عليها: الركاب بغير عفش لا أحد يؤخرهم، يعطون البطاقة ويدخلون مباشرة، لكن إذا جئت عندهم ولديك عشرة كراتين وشنط، عندها يقولون لك: على جنب، قف هنا والتزم بالطابور .. افتح وزن .. ويتعبونك من أجل رحلة ساعة أو ساعتين.
حسناً! والذي لديه رحلة مدى الحياة إلى الآخرة، كيف ينجو؟ كيف يكون تعبه في الطريق؟ فالأموال مسئولية وعهدة على صاحبها.
قال: (وحبس المؤمن الغني ما شاء الله أن يحبس) أي: حبس للسؤال فقط، فليس هناك عذاب؛ لأنه ناجح، قال: (ثم أدخله الله الجنة، فالتقى به صاحبه الفقير المؤمن -التقى به في الجنة- فقال: يا أخي! لقد تأخرت عليّ حتى خشيت عليك) يقول هذا المؤمن الفقير: والله إني خفت عليك، فقد ظننت أنك ذهبت إلى النار، ما الذي أخرك؟ ما الذي حبسك عني؟ (قال: يا أخي! حبسني مالي، حبست محبساً سال مني من العرق ما لو أن ألف بعير أكلت من حمض النبات، ثم وردت عليه لصدرت عنه رواء) ألف بعير! هذا مقدار ما سال من العرق، البعير إذا أكل من حمض النبات لا يرويه برميل، فما بالك بألف برميل في سين وجيم! ليس هناك أذى ولا مطرقة، وإنما فقط سؤال عند الباب، فكم جلس هذا الغني؟ خمسمائة سنة، أي: نصف يوم بحساب اليوم الآخر: (يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم، بخمسمائة عام) أي: بنصف يوم؛ لأن الله عز وجل يقول: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
إذاً نقول للناس: لا تردوا المال إذا كان من الحلال، ولكن استعينوا به على الحلال، أكرموا منه الضيف، صلوا به الأرحام، تفقدوا به الجيران، ابنوا به المساجد، أنفقوا منه في ميادين البر والإحسان، أمدوا بها المجاهدين المحتاجين إلى هذا المال، الذين يلتحفون السماء، ويفترشون الأرض، ويأكلون فتات العيش، ويجاهدون بنحورهم في سبيل الله، وأنتم لديكم أموال فأنفقوها في سبيل الله.
يقول تعالى: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41] ويقول: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ [القصص:77] وبعد ذلك ليس هناك مانع من أن تبني لك عمارة أو تشتري لك سيارة، أو تتزوج لك بزوجة جميلة، أو أن تأثث لك بيتاً بأحسن الأثاث، أو أن تأكل من أحسن الطعام، أو تلبس من أحسن الثياب (فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).. (وإن الله جميل يحب الجمال) والله عز وجل يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].
إذاً: المال نعمة لكن بشرطه، وشرطه: أن يكون من الحلال، أما إذا كان من الحرام فالله لا يقبل منك به عمل؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فإن لم يصرفه في الحلال، ويُخرج منه الحقوق والواجبات تحول هذا المال إلى نقمة.
أكثر الناس الآن أصحاب الأموال (المليونيرات) تجده مبسوطاً؛ لأنه إذا دخل مجلساً فبمجرد أن يدخل من هناك والمجلس كله ينتفض له، ويقولون: وعليك السلام! ولو ما قال السلام عليكم، لماذا؟ لأن المال والشيكات والمنزلة الاجتماعية سلمت، وإذا جاء إلى مكانه تجد الكل يقولون: هنا يا أبا عبد الله، هنا يا أبا محمد، لكن إذا دخل الفقير وقال: السلام عليكم بأعلى صوته ما قالوا وعليك السلام، وإذا كان هناك من يرد السلام لقال: وعليك السلام بينه وبين نفسه، ولا أحد يقول تعال هنا، لماذا؟ لأن المال له قيمة هنا، لكن في الآخرة تؤخذ هذه الأموال على جنب: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
الولد أيضاً نعمة، لكن لا ينفع إلا إذا أصلحه الله هنا، فإذا رزقك الله ولداً صالحاً وربيته على كتاب الله وسنة رسوله، وعلمته القرآن .. مثل هذ الولد المبارك الذي قرأ أمامكم فهذا ينفع الله به، نسأل الله أن يثبِّته على الإيمان وجميع أبناء المسلمين. وأنا أرجو أن يكون وقوف هذا الولد دعوة لكم يا من حضر في أن تعلموا أولاكم القرآن، إن هذا النموذج القرآني العظيم، الذي وقف أمامكم دعوة صامتة لكم، فلعلكم لديكم أولاد، بل بالتأكيد أن لديكم أولاداً، لكن هل أقرأتموهم هذه القراءة؟ هل ألحقتموهم بالمساجد؟ هل حرصتم على قراءة القرآن في المساجد كحرصكم على قراءة العلم في المدارس؟
ليس هناك شخص في بلادنا الآن إلا وهو يحرص كل الحرص على إلحاق ولده بالمدارس النظامية، حتى قبل السن القانونية، فبعضهم يأتي بولده وعمره أربع سنوات، يقول: سجلوه، اجعلوه مستمعاً، فيقولون: لا يجوز، النظام من ست سنوات فما فوق، فيقول: لا. أرجوكم.. من فضلكم.. الولد مستعجل على الدراسة.. لماذا؟ هل حباً في العلم أو الدين؟ لا. بل تعلم العلم لغير الدين، فيريد أن ينجح بسرعة من أجل أن يتخرج بسرعة، ويأخذ مرتبه بسرعة، أو يأخذ نجمة أو وظيفة بسرعة، الدنيا فقط، لكن هل جاء بهذا الولد إلى المسجد وقال للشيخ: علمه كتاب الله، وإذا غاب عن المسجد هل يغضب كما يغضب إذا غاب عن المدرسة؟ لا. فلو غاب عن المدرسة لقطَّع جلده، ولكن في العصر تجده يقول: لا تذهب يا ولدي فلديك واجبات، هل واجبات الدنيا أهم من واجبات القرآن، هل حرص الإنسان على الدنيا أهم من حرصه على الدين؟ هذه مصيبة!
علم ولدك القرآن، وأدخله مدارسه، فإنه قد جاء في الحديث: إن الرجل والمرأة يوم القيامة يكسوان حلة لا تقوم لها الدنيا، ضوؤها أعظم من ضوء الشمس، فيقولان: بم هذا يا رب؟ فيقال: بإقرائكما ولدكما القرآن.
هذه جائزة الأم المثالية التي تقرأ كلام الله، والتي تريد أن تقرأ كلام الله، وقد سمعت أنه يوجد هنا في هذا الحي المبارك مدرسة للنساء، وهي مدرسة لتعليم القرآن الكريم على كافة المستويات، ابتدائي للصغار، وبعد ذلك محو الأمية للنساء اللاتي لا يعرفن القراءة ولا الكتابة، وللمثقفات والمدرسات والجامعيات على كل المستويات، وما يلزم الشخص منا إلا أن يقول لزوجته أو ابنته: اذهبي إلى هذه المدرسة، وسجلي من بعد العصر إلى المغرب، وهذه نعمة في هذا الوقت الضائع، الذي تضيعه النساء في القيل والقال والتمشيات، وأذهب عند فلانة، وآكل مع فلانة! يأكلون لحوم البشر، ويذاكرون في الموضات والتقليعات والتفصيلات والكلام الفاضي، بل سمعت أن النساء الآن لهن اهتمام بالرياضة أعظم من الرجال، فكل واحدة معها لاعب مفضل، وإذا قيل لها: من لاعبك المفضل؟ قالت: فلان. إذاً: لا نعيب على الرجال إذا لعبوا أو أحبوا الكرة؛ لأنهم يلعبون أصلاً، لكن المرأة ما علاقتها بالكرة؟! وهذه مصيبة والله يا إخوان، ما بقي إلا هذه! تضاربت امرأتان، قالت إحداهما: فلان أحسن، فقالت الأخرى: لا. ذاك أحسن. فلا حول ولا قوة إلا بالله!
فإقراء القرآن للأولاد وللبنات وللزوجات فضيلة، والحجة قائمة والحمد لله، ففي كل حي بل في كل مسجد مدرسة لتحفيظ كتاب الله، ولكن لا نرى فيها أبناء الذوات والشخصيات، بل نرى فيها الصغار والضعفة من الناس، الذين يرجون بذلك وجه الله عز وجل، ولكن البقية مشغولون بغير دين الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
فالولد نعمة إذا هداه الله في الدنيا، وبعد موتك لأنه سيدعو لك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -ذكر منها-: وولد صالح) أي: ليس أي ولد، شرط، فإذا كان ولداً فاسداً ثم دعا لك رجعت دعوته على وجهه، كيف يدعو وهو فاسد؟ لا يشفِّعه الله إذاً، ولكن: (ولد صالح يدعو له).
فالمال نعمة بقيده، والولد نعمة إذا هداه الله تعالى.
استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اتق المحارم تكن أعبد الناس | 2930 استماع |
كيف تنال محبة الله؟ | 2929 استماع |
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً | 2805 استماع |
أمن وإيمان | 2678 استماع |
حال الناس في القبور | 2676 استماع |
توجيهات للمرأة المسلمة | 2605 استماع |
فرصة الرجوع إلى الله | 2572 استماع |
النهر الجاري | 2478 استماع |
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله | 2468 استماع |
مرحباً شهر الصيام | 2403 استماع |