رسالة إلى موسوسة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد..

فأولاً: مكان وزمان هذا التسجيل: قمت بتسجيل هذه المادة في يوم الإثنين (4) ذي القعدة لعام (1410هـ) في ضحى ذلك اليوم، وفي تمام الساعة الثامنة في منـزلي وعلى أجهزة تسجيلات القادسية الإسلامية بـبريدة جزاهم الله خيراً.

ثانيا: فكرة هذا الشريط: لقد سبق أن تكلمت عن موضوع الوسواس في محاضرة وزعت ونشرت، بعنوان: رسالة إلى موسوسة، والحمد لله تعالى استفاد منها جمع طيب من الشبان والفتيات وغيرهم ممن ابتلوا بالوسواس في مناطق شتى، ولعل الله تعالى نفع بها خلقاً منهم.

ثم كان ثمة اتصالات ومراسلات وأسئلة حول هذه الأمور. وفي الواقع أنني لم أشعر أن ثمة شيئاً جديداً أريد أن أضيفه إلى ما سبق، فإنني قد أفرغت جل ما عندي في تلك المحاضرة، ولكن نـزولاً على رغبة إحدى الأخوات التي ألحت على تسجيل مادة تكون قريبة منها، تراجعها كلما اشتد بها الأمر، أو زادت الحاجة إليها، وكنت أماطل وأُسوّف في هذا الطلب زماناً طويلاً، حتى شعرت أن الأمر لازم، واستخرت الله تعالى في تسجيل هذا الشريط لبعض الإضافات وبعض الإضاءات التي ربما تكون ذكرت هناك عرضاً فأذكرها هاهنا بشيء من الإيضاح والبسط والتفصيل.

ولا يغب عن بالك -أيتها الأخت الكريمة- أن تسجيل هذا الشريط إنما تم لعلاج حالات مستعصية أو صعبة، ومثل هذه الحالات لا شك تحتاج إلى قدر من الشدة والقسوة وقد يتطلب الأمر فيها ذكر علاجات لا تصلح لكل إنسان، إنما تصلح لإنسان وصل إلى ذلك المستوى، فإن الوسواس والعياذ بالله إذا تغلغل في النفس واستقر فيها، ضربت جذوره في القلب، وتأصل وأصبح من غير اليسير إزالته إلا بجهد جهيد، وبعلاج شديد وقد يكون له في ذلك ما ليس لغيره.

وأول النقاط التي رأيت من المصلحة إثارتها في هذا الشريط، حول نفسية الموسوس:

ما هي المشاعر التي يعيشها الموسوس؟ والغرض من ذلك، لأن كثيراً من الموسوسين يظنون أن الناس لا يحيطون ولا يعرفون مشاعرهم، وما يدور في نفوسهم، فإذا تبين للمريض أن الطبيب عالم بشكواه، مدرك لمعاناته، فإنه يزداد به ثقة وقناعة، ولهذا لو أتى إنسان إلى طبيب، فذكر له مبادئ المرض؛ فقال له الطبيب: أنت تجد كذا، وتجد كذا، أو تجد كذا وتجد كذا، فكانت ظنون الطبيب مصيبة في الواقع، فإن هذا يجعل المريض يثق به، ويطمئن إلى علاجه فيكون هذا من أسباب قبوله للدواء وانتفاعه به، بخلاف ما لو خرج من عنده، وهو يقول إن هذا الطبيب لم يعرف ألمي وشكواي ومرضي، ولذلك ربما صرف لي علاجاً لا يناسبني، فلا بد أن يدرك الموسوس أن الذي وصف له الدواء عارف بالحال التي يعاينها، والنفسية التي يعيشها، والخواطر التي تتردد في نفسه -أستغفر الله- وليس هذا من باب معرفته بغيب مكنون مستور عنه، ولكن من باب التجربة، فإن ما يعيشه موسوس يعيشه أكثر الموسوسين، وكثير من هؤلاء كتبوا لي أوراقاً ودفاتر وكتباً ومذكرات يطول الوقت بقراءتها، فضلاً عن عرضها، يذكرون ما يعانون فيها، وعدد آخر منهم التقيت بهم بصفة شخصية، فصاروا يتحدثون عما يجدون، فوجدت هناك قواسم مشتركة عند هؤلاء توجد عند إنسان فإذا قلتها لآخر وجدتها عنده سواء بسواء.

فإلى الأخت التي ألحت في تسجيل هذا الشريط: أن تنظري -أيتها الأخت الكريمة- إلى مدى انطباق هذا الوصف الذي سوف أذكره على ما تجدينه في نفسك.

التردد الذي لا يكاد يكون معه يقين

أبرز صفة في الموسوس، هي صفة التردد والشك، فهو يشك في كل شيء، بحيث أن اليقين في نفسه عزيز لا يكاد يوجد، فهو يشك هل صليت؟! هل توضأت؟! هل قمت بهذا العمل؟! هل أحدثت؟! ربما نقضت أثناء الوضوء، فيعيده من جديد، وهكذا، ثم إذا انتهى -مثلاً- من الوضوء وبدأ بالصلاة، رجع يشك في الوضوء، وربما يقول: بنيت على أمر غير صحيح في هذه العبادة وما بني على باطل فهو باطل، إذاً فيرجع ليتوضأ مرة أخرى، ثم يرجع ليصلي مرة أخرى، وهكذا فهو في شك مريب لا يكاد يزول عنه بحال من الأحوال.

فإذا طالت شكواه وامتد به المرض، واكفهرت في وجهه الأحداث، فزع إلى مفتٍ من المفتين، أو عالم من العلماء يسأله، فإذا سأله بدأت الشكوك تتناوبه مرة أخرى: ربما المفتي لم يفهم مسألتي، ولم يعطني فرصة لأعرض له بالضبط ماذا أعاني، ولذلك فهو لا يدري بالضبط ماذا عندي، وربما أفتاني بأمر لا يتعلق بي، ثم إن هذا المفتي أفتاني بحسب اجتهاده هو لكن أنا غير معذور في قبول فتواه، مادام أنني أتوقع أنه لم يعلم بما عندي، ويمكن أن هذا المفتي أجابني يظن أن عندي وسواساً، والذي عندي في الواقع ليس بوسواس، بل هو أمر حقيقي أنا أعرفه وإن لم يعرفه الناس، وهكذا بسبب اتساع دائرة الشك في قلب الموسوس، حتى أصبح يشك في كل شيء، يشك في نفسه وأعماله، يشك في وضوئه، وصلاته، يشك في نيته، وصيامه، يشك هل بلغ الكلام للناس، أو لم يبلغ، هل قال أو ما قال، هل فهم الناس ما يريد أو لم يفهموا. يشك في الفتوى، ويشك في الشك أيضاً.

ولهذا تلاحظين ولع الموسوسين بالتفاصيل، فهم حريصون على أن يتحدثوا إليك عن كل دقيق وجلي، وعن كل شيء، وعن جميع الجزئيات والخطرات والأفكار التي دارت في ضمائرهم، والأحوال التي عاشوها، ويتمنى الواحد منهم أن يعطيك تاريخاً مفصلاً لحياته، خاصةً منذ بدأ يعاني من موضوع الوسواس إلى حال التاريخ، ويفصل ويكرر بصورة مملة جداً، لأنه كلام يعرفه من قبل، ومكرر، وغير ذي جدوى، لكن الموسوس يخيل إليه أن هذا كان ضرورياً؛ لأن الوسواس مع الأسف تعدى حتى إلى السؤال، فأصبح وهو سائل موسوساً في سؤاله فيذكر أشياء كثيرة لا تعلق لها بالموضوع ولا قيمة لها.

وربما أقول: إن كثيراً من الأسئلة الذي يوجهها الموسوس إلى العلماء، والمشايخ، ربما إنه لا يحتاج إلى السؤال عنها أصلاً، فإجابتها معروفة وجاهزة وحاضرة، بل -مع الأسف الشديد- ربما يكون هذا الموسوس سمع الفتوى الواحدة من عشرة علماء، وبالنسبة للأخوات يتصلن بالهاتف على عشرات المشايخ في أنحاء البلاد، وتعيد السؤال نفسه، وتكرره، وتظن أنه يمكن أنه لم يجبها الجواب الصحيح، ويمكن لم يفهم، وربكت أجابها مراعاة لكونها موسوسة ولم يعطها الجواب الشرعي الأصلي، فإذا عملت بالجواب الذين تظن أنه لمراعاة حالها ثم بعد فترة قالت: ربما زال عني الوسواس، إذاً أرجع إلى الوضع الطبيعي مثل غيري من الناس، وهكذا تظل في أمر مريج، وقد تختلف إجابات أهل العلم، لأنه ربما أن بعضهم لا يعلم أنها موسوسة، أو يختلف اجتهادهم في هذا تبعاً لاختلافهم في أمور كثيرة، الفتوى قد تتغير من عالم لآخر بحسب اجتهاده، فهذا الاختلاف -أيضا- يوقعها في حيرة، وقد تأخذ نفسها بالأشد، ويكون في ذلك من العنت عليها ما فيه، وكثيراً ما تقول الموسوسة: الناس لا ينفعونك، وهؤلاء المفتون لا يمكن أن ينقذوك من النار، وقد أموت بلا وضوء، بلا صلاة، بلا صيام، بلا حج، وهكذا سيظل هذا لهيباً في قلبها يحرقها، والواقع أن الذي يوقد هذا اللهيب، وهذا الجمر ويضع عليه هذا الحطب، هو شخص اسمه إبليس، وهو الذي يحتاج إلى أن يعلن الموسوس وتعلن الموسوسة عليه حرباً لا هوادة فيها حتى يخرج من قلبه.

إذاً: فأول صفة للموسوس هي صفة التردد والشك، الذي لا يكاد يوجد معه يقين، ولذلك فإن الموسوس يقال له: إنه لا يطلب منه اليقين في سائر أموره الشرعية، كما يطلب من غيره في كثير منها، بل إنه يكفي أن يعمل بما يغلب على ظنه في مثل هذه الأمور، وما ظهر له وما تيسر دون أن يحتاج إلى يقين في ذلك، وقد ذكر أهل العلم أن موسوساً جاء إلى أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي رحمه الله وهو من أذكياء الفقهاء وعظمائهم، فقال له: إني أنغمس في الماء، ثم أخرج وأخشى ألاَّ أكون بلَّغت الماء إلى جسدي للاغتسال من الجنابة، فقال له أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: اذهب فإنه لا وضوء عليك ولا غسل ولا صلاة، فقيل له في ذلك يرحمك الله: كيف أفتيته بهذا؟! قال: هذا مجنون!! والواقع -وأرجو ألا تكون الكلمة حارة- أن الوسواس شعبة من الجنون في كثير من الأحيان، وأنك تشك في استقامة عقل من أمامك من الموسوسين حين تسمع منه بعض الأسئلة، وبعض التفاصيل، وبعض الاستفسارات، وتجد منه بعض التلون، فأنت تدخله من باب فيخرج من باب آخر، ويعرض إليك الموضوع الواحد بعشرين صورة وكأنه لا يعي ولا يعقل ولا يفقه، وكأنه لا يدرك شيئاً، ولهذا فكأنه مولعٌ أبداً بالحديث عما يعاني غير ملتفت إلى ما يسمع، وما يراد له أن يسمع.

ضعف النفسية

أما الصفة الثانية المتعلقة بنفسية الموسوس والموسوسة فهي: صفة الضعف، ضعف النفسية، وأيضاً ضعف النفسية هو من أسباب الوسواس -كما بسطته هناك في الشريط المشار إليه أولاً- فإن الشيطان إنما يتسلط أكثر على من يكون في نفسيته ضعف وخور وعجز، ولذلك يلاحظ الكثير أنه يمكن أن يقال إلى حد ما: إن الوسواس مرض وراثي، فإذا وجدت وسواساً متأصلاً في شخص، فابحث في أقاربه وأجداده، وأخواله تجد شيئاً من ذلك عندهم قلَّ أو كثر، فيكون له جذور في نفسية العائلة كلها، وهذا لا يعني بالضرورة وبشكل دائم أن معنى ذلك أن أسباب الوسواس قائمة في النفس ولا سبيل إلى إزالتها!! وإنما أقول هذا الكلام لأن الإنسان إذا عرف من أين أُتي، ومن أين تسلل إليه الشيطان فإنه -بإذن الله تعالى- يستطيع أن يسد المنافذ التي دخل منها الشيطان، حتى يتمكن من العلاج.

أبرز صفة في الموسوس، هي صفة التردد والشك، فهو يشك في كل شيء، بحيث أن اليقين في نفسه عزيز لا يكاد يوجد، فهو يشك هل صليت؟! هل توضأت؟! هل قمت بهذا العمل؟! هل أحدثت؟! ربما نقضت أثناء الوضوء، فيعيده من جديد، وهكذا، ثم إذا انتهى -مثلاً- من الوضوء وبدأ بالصلاة، رجع يشك في الوضوء، وربما يقول: بنيت على أمر غير صحيح في هذه العبادة وما بني على باطل فهو باطل، إذاً فيرجع ليتوضأ مرة أخرى، ثم يرجع ليصلي مرة أخرى، وهكذا فهو في شك مريب لا يكاد يزول عنه بحال من الأحوال.

فإذا طالت شكواه وامتد به المرض، واكفهرت في وجهه الأحداث، فزع إلى مفتٍ من المفتين، أو عالم من العلماء يسأله، فإذا سأله بدأت الشكوك تتناوبه مرة أخرى: ربما المفتي لم يفهم مسألتي، ولم يعطني فرصة لأعرض له بالضبط ماذا أعاني، ولذلك فهو لا يدري بالضبط ماذا عندي، وربما أفتاني بأمر لا يتعلق بي، ثم إن هذا المفتي أفتاني بحسب اجتهاده هو لكن أنا غير معذور في قبول فتواه، مادام أنني أتوقع أنه لم يعلم بما عندي، ويمكن أن هذا المفتي أجابني يظن أن عندي وسواساً، والذي عندي في الواقع ليس بوسواس، بل هو أمر حقيقي أنا أعرفه وإن لم يعرفه الناس، وهكذا بسبب اتساع دائرة الشك في قلب الموسوس، حتى أصبح يشك في كل شيء، يشك في نفسه وأعماله، يشك في وضوئه، وصلاته، يشك في نيته، وصيامه، يشك هل بلغ الكلام للناس، أو لم يبلغ، هل قال أو ما قال، هل فهم الناس ما يريد أو لم يفهموا. يشك في الفتوى، ويشك في الشك أيضاً.

ولهذا تلاحظين ولع الموسوسين بالتفاصيل، فهم حريصون على أن يتحدثوا إليك عن كل دقيق وجلي، وعن كل شيء، وعن جميع الجزئيات والخطرات والأفكار التي دارت في ضمائرهم، والأحوال التي عاشوها، ويتمنى الواحد منهم أن يعطيك تاريخاً مفصلاً لحياته، خاصةً منذ بدأ يعاني من موضوع الوسواس إلى حال التاريخ، ويفصل ويكرر بصورة مملة جداً، لأنه كلام يعرفه من قبل، ومكرر، وغير ذي جدوى، لكن الموسوس يخيل إليه أن هذا كان ضرورياً؛ لأن الوسواس مع الأسف تعدى حتى إلى السؤال، فأصبح وهو سائل موسوساً في سؤاله فيذكر أشياء كثيرة لا تعلق لها بالموضوع ولا قيمة لها.

وربما أقول: إن كثيراً من الأسئلة الذي يوجهها الموسوس إلى العلماء، والمشايخ، ربما إنه لا يحتاج إلى السؤال عنها أصلاً، فإجابتها معروفة وجاهزة وحاضرة، بل -مع الأسف الشديد- ربما يكون هذا الموسوس سمع الفتوى الواحدة من عشرة علماء، وبالنسبة للأخوات يتصلن بالهاتف على عشرات المشايخ في أنحاء البلاد، وتعيد السؤال نفسه، وتكرره، وتظن أنه يمكن أنه لم يجبها الجواب الصحيح، ويمكن لم يفهم، وربكت أجابها مراعاة لكونها موسوسة ولم يعطها الجواب الشرعي الأصلي، فإذا عملت بالجواب الذين تظن أنه لمراعاة حالها ثم بعد فترة قالت: ربما زال عني الوسواس، إذاً أرجع إلى الوضع الطبيعي مثل غيري من الناس، وهكذا تظل في أمر مريج، وقد تختلف إجابات أهل العلم، لأنه ربما أن بعضهم لا يعلم أنها موسوسة، أو يختلف اجتهادهم في هذا تبعاً لاختلافهم في أمور كثيرة، الفتوى قد تتغير من عالم لآخر بحسب اجتهاده، فهذا الاختلاف -أيضا- يوقعها في حيرة، وقد تأخذ نفسها بالأشد، ويكون في ذلك من العنت عليها ما فيه، وكثيراً ما تقول الموسوسة: الناس لا ينفعونك، وهؤلاء المفتون لا يمكن أن ينقذوك من النار، وقد أموت بلا وضوء، بلا صلاة، بلا صيام، بلا حج، وهكذا سيظل هذا لهيباً في قلبها يحرقها، والواقع أن الذي يوقد هذا اللهيب، وهذا الجمر ويضع عليه هذا الحطب، هو شخص اسمه إبليس، وهو الذي يحتاج إلى أن يعلن الموسوس وتعلن الموسوسة عليه حرباً لا هوادة فيها حتى يخرج من قلبه.

إذاً: فأول صفة للموسوس هي صفة التردد والشك، الذي لا يكاد يوجد معه يقين، ولذلك فإن الموسوس يقال له: إنه لا يطلب منه اليقين في سائر أموره الشرعية، كما يطلب من غيره في كثير منها، بل إنه يكفي أن يعمل بما يغلب على ظنه في مثل هذه الأمور، وما ظهر له وما تيسر دون أن يحتاج إلى يقين في ذلك، وقد ذكر أهل العلم أن موسوساً جاء إلى أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي رحمه الله وهو من أذكياء الفقهاء وعظمائهم، فقال له: إني أنغمس في الماء، ثم أخرج وأخشى ألاَّ أكون بلَّغت الماء إلى جسدي للاغتسال من الجنابة، فقال له أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: اذهب فإنه لا وضوء عليك ولا غسل ولا صلاة، فقيل له في ذلك يرحمك الله: كيف أفتيته بهذا؟! قال: هذا مجنون!! والواقع -وأرجو ألا تكون الكلمة حارة- أن الوسواس شعبة من الجنون في كثير من الأحيان، وأنك تشك في استقامة عقل من أمامك من الموسوسين حين تسمع منه بعض الأسئلة، وبعض التفاصيل، وبعض الاستفسارات، وتجد منه بعض التلون، فأنت تدخله من باب فيخرج من باب آخر، ويعرض إليك الموضوع الواحد بعشرين صورة وكأنه لا يعي ولا يعقل ولا يفقه، وكأنه لا يدرك شيئاً، ولهذا فكأنه مولعٌ أبداً بالحديث عما يعاني غير ملتفت إلى ما يسمع، وما يراد له أن يسمع.

أما الصفة الثانية المتعلقة بنفسية الموسوس والموسوسة فهي: صفة الضعف، ضعف النفسية، وأيضاً ضعف النفسية هو من أسباب الوسواس -كما بسطته هناك في الشريط المشار إليه أولاً- فإن الشيطان إنما يتسلط أكثر على من يكون في نفسيته ضعف وخور وعجز، ولذلك يلاحظ الكثير أنه يمكن أن يقال إلى حد ما: إن الوسواس مرض وراثي، فإذا وجدت وسواساً متأصلاً في شخص، فابحث في أقاربه وأجداده، وأخواله تجد شيئاً من ذلك عندهم قلَّ أو كثر، فيكون له جذور في نفسية العائلة كلها، وهذا لا يعني بالضرورة وبشكل دائم أن معنى ذلك أن أسباب الوسواس قائمة في النفس ولا سبيل إلى إزالتها!! وإنما أقول هذا الكلام لأن الإنسان إذا عرف من أين أُتي، ومن أين تسلل إليه الشيطان فإنه -بإذن الله تعالى- يستطيع أن يسد المنافذ التي دخل منها الشيطان، حتى يتمكن من العلاج.

من مظاهر الضعف عند الموسوس -ضعف النفسية-: أنكِ تجدينه عاجزاً عن المقاومة، عاجزاً عن الإصرار، عاجزاً عن التنفيذ، وقد يسمع الكلام ويعزم حين يسمع الوعظ، والتوبيخ، واللوم، والعتاب، ويجد المشكلات التي تواجهه في حياته، والتي ربما تدمر حياته تدميراً، فقد يعزم عزيمة صادقة على أنه سيفعل، حتى إنه يحدثني أحد الشباب، وقد جاء إليَّ يشتكي من الوسواس وفي يديه وقدميه ووجهه احمرارٌ شديد من أثر الدلك والعرك بالماء، والبقاء على ذلك فترة طويلة، فلما حدثته وعاتبته وشددت عليه في الموضوع، يقول لي فيما بعد: كنت أتمنى أن تنهي الحديث حتى أخرج من عندك لأتوضأ الوضوء الطبيعي الذي لا تكلف فيه؛ كأنني أحس أنه لا يعيقني عن هذا الوضوء الطبيعي الذي تأمرني به إلا أن أخرج من عندك فقط، لكن لما خرجت شعرت بأن الشيطان قد أجلب عليَّ من جديد، بخيله ورجله وحاصرني، فرجعت إلى الأمور من جديد، وعدت لا أستطيع أن أفعل إلا ما كنت أفعل، فسرعان ما يخور وينهار، وتضيع النصائح الموجهة إليه أدراج الرياح عند أول موقف عملي من المواقف التي يوسوس فيها، عند الوضوء -مثلاً- عند النية، عند التكبير، عند الصلاة، عند أي أمر من الأمور التي يوسوس فيها، كأن المواعظ السابقة كلها لم تكن.

فعند أول نفخة من فم إبليس اللعين تتبخر كل هذه التوجيهات وكل هذه التعليمات، فكأن الإنسان يصب في إناء مفتوح لا يستقر فيه الماء، بل ينـزل ويضيع في التراب، ولذلك فإن الموسوس -أيضاً- بحاجة إلى أن يتمالك ويتماسك ويحاول أن يقوي إرادته بقدر المستطاع، حتى يتمكن من تنفيذ هذه الأوامر والتوجيهات التي أسديت إليه، وحتى يستطيع أن ينتصر على كيد الشيطان ووسواسه، وإلا فالواقع أن الناس لا يملكون له شيئاً.

أختي الموسوسة: أنت تؤمنين بالله تعالى، وأن إخبار الله تعالى صدق مطلق لا شك فيه، إذاً فاسمعي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76] وانظري -أيتها الأخت- إلى الجن الذين نخافهم، ونهابهم، ونرهبهم، وما زال الإنس يرهبونهم منذ الجاهلية، وضعفاء الإيمان يرهبونهم، مع ذلك انظري كيف ينهارون ويتهالكون عند بعض القراء والوعاظ، وكيف يسمع لهم بكاء ونحيب وصراخ، وكأن الواحد منهم طفل يخشى من كل شيء، ويخشى من أي تهديد، فهذا هو واقعهم، هم ضعفاء وكيدهم ضعيف ومخاوفهم شديدة، ويسهل استفزازهم والاستخفاف بهم، ولذلك ذكر الله تعالى عن الجن أنهم كانوا في الجاهلية إذا استعاذ بهم الإنس كبروا وأصابهم الرهق: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] وأحد الأوجه في تفسير الآية أن الإنسي من العرب في الجاهلية كان إذا نـزل هذا الوادي استعاذ من سفهاء قومه، أي: من الجن، فيبيت العرب آمنين في هذا الوادي، لكن الجن يصيبهم الرهق، أي: العجب والغرور، ينتفخون في أنفسهم إذا رأوا أن هؤلاء الإنس الآن يخافون منهم ويستعيذون منهم، فيصيبهم العجب والغرور.

إذاً: نفس الوضع تعيشه الموسوسة -الآن- إلى حدٍ ما، فالشيطان حين يرى كيف ضحك بالموسوسة، وكيف صار يسخر منها، فيؤذيها وينفث في قلبها عند الوضوء، ثم يجلس من بعيد يتفرج عليها، وهو يقهقه ويضحك، ثم إذا تخلصت منه بعد جهد جهيد، بعدما تجلس زماناً طويلاً في دورات المياه، ثم تخرج بعد ذلك لتتوضأ، فإنه يبدأ ينفث في قلبها، ويضحك، وقد يأتي معه بكوكبة من أصحابه يشاهدون الموقف، وهم يقهقهون ويضحكون على هذا الإنسي المسكين، كيف سخروا به، وضحكوا منه، وسلبوا منه عقله، ويحاولون أن يسلبوا منه دينه.

فيا سبحان الله!!

الجني أو الشيطان، الذي قال الله فيه: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76] وأمر بقتاله.

كيف يضعف أمامه مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، ويفترض أن عنده قدراً من التوكل على الله تعالى، والثقة به، والاعتماد عليه؟!

كيف تسلل الشيطان؟

وكيف استقر؟

وكيف بقي هذه المدة الطويلة؟

هاهنا السؤال.

وقد تضافر على ذلك عوامل عديدة منها:

الغفلة عن ذكر الله تعالى قائمةً، وقاعدةً، ومضطجعةً، وذاهبةً، وآيبةً، وداخلةً، وخارجةً، وفي كل حال.

ومنها: ضعف العلم الشرعي، بحيث إن الإنسان التبست عند ه الأمور، وأصبح لا يعرف حدود ما أنـزل الله على رسوله، ولا يعرف المطلوب منه في كثير من الأمور.

ومنها: ضعف النفس -كما أشرت.

ومنها: وجود أسباب كثيرة أشرت إليها في مطلع الدراسة الثابتة في موضوع الوسواس لا داعي لإعادتها الآن.

المهم أن الإنسان بحاجة إلى إزالة هذه الأسباب، والتخلص من كيد الشيطان، والعمل بشريعة الرحمن جل وعلا، والثقة أولاً بأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، ولا بد أن تؤمن الموسوسة بهذه الآية حق الإيمان، ولا بد أن تضعها نصب عينيها وتعرضها على نفسها مرة بعد أخرى، وكلما عرض لها عارض الوسواس في وضوء، أو صلاةٍ أو نيةٍ أو تكبيرٍ أو صومٍ أو حجٍ أو غسلٍ أو غيرها تذكرت هذه الآية، من الذي يوسوس لها؟ إنه الشيطان، وهذا مفروغ منه لأن الموسوس أول ما يقول: عندي وسواس، وابتليت بوسواس الشيطان -أعاذنا الله منه-.

إذاً، هو يعرف الموضوع من الأصل، هذا لا إشكال فيه من حيث الإجمال، لكن إذا جاء إلى التفاصيل نسي أنه موسوس، وبدأ يتكلم عن التفاصيل كأنه يريد أن يستبرئ لدينه، وهو في الأول يعرف أن هذا كان من الشيطان، وأن الشيطان هو الذي يدفعه إلى ذلك.

إذاً: فتذكري -أيتها الأخت الكريمة- أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وتذكري أن الشيطان ما استقر وباض وفرخ في قلبك إلا بسبب أنك استجبت له أول الأمر، وهذا لا بد أن تعرفيه جيداً.

أيضاً في هذا المجال يقول الله عز وجل حكاية عن قول الشيطان الأكبر يوم القيامة: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22] إذاً لم يكن للشيطان سلطان على الإنسان، إلا أنه دعاه فاستجاب له فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22].

فالوسواس ذنب وإثم يجب التوبة منه والمسارعة بذلك والإقلاع عنه، وإن ترتب على ذلك حزن مؤقت للإنسان بسبب تركه لأمر اعتاده، فإنه يعقب هذا الحزن سعادة طويلة في الدارين بإذن الله تعالى.

أختي الموسوسة: اعلمي تبعاً لذلك أن طول بقاء الوسواس في نفسك ليس في صالحك، والوقت ليس في صالحك،كل يوم، بل كل ساعة، بل كل دقيقة تقضينها وأنت في حال وسواس؛ فإن الشيطان يزداد فيها رسوخاً واستقراراً في قلبك، ويبني فيها أبراجاً جديدة، وحصوناً جديدة، وقصوراً جديدة في قلبك، فإذا حاولت التخلص منه وجدت أن القوى الشيطانية قد تغلغلت وتمكنت، وإذا كنت تقولين هذا قد حصل الآن، فالوسواس -مثلاً- معي منذ ست سنوات، فإنني أقول: وأيضاً إذا زاد الأمر عن ست سنوات كان أصعب، ومع أن الوسواس له ست سنوات، فإن الله تعالى يقول في كتابه: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76] وهذه الآية لا يزال مفعولها سارياً حتى بعد ست سنوات، أو قبل ست سنوات، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهي حكم قطعي ثابت لا يتخلف أبداً.

أختي الموسوسة: واعلمي أيضاً تبعاً لذلك أن المكث في الأماكن القذرة، ومأوى الشيطان مما يزيد الوسواس في قلبك، فمع الأسف الموسوسون ربما يجلس الواحد منهم ساعتين في دورة المياه، في انتظار قطرة من بول يظن أنها تخرج، وفي انتظار أن يستكمل ذلك، ثم يتوضأ، أو يستجمر ويستنجى، ثم يعيد مرة أخرى، وثالثة، وعاشرة وهكذا يكرر.

وقد يقوم ويقعد ويتنحنح، ويتحرك ويقفز إلى غير ذلك بحجة إخراج ما في جوفه من هذا البول وغيره، ثم إذا بدأ في موضوع التطهر وإزالة النجاسة، أصابه من ذلك ما قرب وما بعد، وينسى هذا المسكين المغفل أن الشيطان يكسب منه في ذلك مكاسب عديدة منها: إيذاؤه بهذا الوسواس، وتفويت العبادة عليه، وتبغيض العبادة إليه، وشغله بأمور تضره ولا تنفعه.

ومنها: أن مكثك في دورة المياه وفي الخلاء هو في مصلحة الشيطان؛ فهذه الحمامات تقيم فيها الشياطين؛ لأنه يقيم في الأماكن القذرة، وفي الأماكن الرديئة، وفي الأماكن الخربة، وفي أماكن النجاسات والقاذورات، وفي أعطان الإبل، ومباركها.

فالشيطان يجلس وينام ويستقر -إن كان له ذلك- في الأماكن التي تناسبه وتلائمه، فإذا جاء إلى الأماكن التي يوجد فيها الخير، والذكر، والقرآن، والعلم، والحديث والصلاة، وتتردد فيها الملائكة، صاعدة هابطة، فإنه يخاف -كما أشرت- قبل قليل ويبتعد، فهو لا يستطيع المواجهة، بل يتهرب إلى هذه الأماكن القذرة، ولذلك:

أولاً: لا بد من الاعتصام بالأذكار عند دخولها اعتصاماً جيداً، فتقول: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، ويستعيذ بالله من الشياطين ذكرانهم وإناثهم، ومن مكرهم، وكيدهم، ثم يجلس في دورة المياه بقدر ما يحتاج ولا يزيد، فإن طول مكثك فيها لا شك أنه ليس في صالحك بل هو في صالح الشيطان.

إن مثل قلب الموسوس في ظني وتقديري وحسابي -خاصة إذا طال معه الوسواس- أشبه ما يكون بمجموعة من اللصوص احتلوا بلداً، وطردوا منه أهله، وهم يتوقعون أن يغير عليهم أهل البلد ليستردوا أرضهم صباحاً أو مساءً، فماذا يفعل أولئك اللصوص؟

لا شك أنهم سوف يحفرون الخنادق، وسوف يحصنون المدينة، وسوف يضعون أجهزة للمراقبة، وسوف يضعون كمائن، وسوف يبنون مباني ضخمة بقدر ما يسمح لهم الوقت، حتى يتحصنوا بها من القوة التي سوف تهاجمهم صباحاً أو مساءً، وهكذا الشيطان تقريباً، قد احتل قلبك، أو مواقع كثيرة من قلبك، فلذلك هو يتحصن ويبني له معاقل، وأسواراً وحصوناً منيعة يوماً بعد يوم، وكل الوساوس كذلك، ولهذا لا بد أن تضعي هذا في الاعتبار، وتفكري جيداً في النقطة الثانية في موضوع الوسواس التي أريد أن أطرحها الآن، وهي بيت القصيد وهي قضية كيف أعالج الوسواس؟!

وفيما يتعلق بالعلاج فإني أشير إلى النقاط التالية:-

الذكر والدعاء

أولاً: لا بد من الاستعاذة والذكر والدعاء: فإن الدعاء حرز، أي: حرز من كيد الشيطان وتزيينه، ولا بد من التوكل على الله تعالى؛ فإن الله هو القوي الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وهو القادر الذي لا يعجزه شيء، ولهذا فإن العبد يفر إلى الله تعالى من كل ما يخاف، ويرغب إليه تعالى في كل ما يرجو: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ))[الذريات:50].

أيتها الأخت المؤمنة: فري إلى الله، اهربي إلى الله تعالى، اهربي إليه من كيد الشيطان، لوذي وعوذي بجنابه وكنفه جل وعلا، واصدقي في ذلك، فإن الله تعالى لا يمكن أن يدع عبده الذي صدق في الولاء له، والتوكل عليه والإنابة إليه والرغبة أن يدعه للشيطان، ووسواس الشيطان، واحرصي على الأذكار والأدعية الواردة في السنة النبوية: أذكار النوم، أذكار اليقظة، أذكار الصباح، أذكار المساء، أذكار الدخول والخروج، والوضوء، والصلاة، أذكار العبادات من صوم وحج وغيرها، احرصي على ضبط هذه الأذكار، وترديدها بيقظة قلب وحضور في مناسبتها.

عدم الاكتراث بالوساوس

ثانياً: عدم الاكتراث بوساوس وخواطر الشيطان وتخييلاته وشكوكه أياً كانت هذه الوساوس: وساوس في الله تعالى، أو في اليوم الآخر، أو في القرآن، وكثير ما تشتكي إليّ بعض الأخوات أشياء من ذلك كثيرة جداً.

فأهم علاج بعد الاعتماد على الله تعالى واللجوء إليه، هو عدم الاكتراث بذلك، لا يكترث الإنسان بتردده في طهارة، أو صلاة، أو صوم، أو نية، بل يستمر على ما هو بصدده، ويدع هذه الوساوس جانباً، فإن شدة اهتمامك بذلك، وشدة خوفك منه، وكثرة تفكيرك فيه، وانشداد أعصابك، ووصول هذا الأمر في نفسك إلى حد أنه أصبح ينغص عليه حياتك هذا في حد ذاته يعتبر مكسباً للشيطان، فإذا نظر إليك وأنتِ مسكينة مكفهرة، قلقة، كئيبة، فإنه يسر بذلك ويفرح أيما فرح، ويكفيه هذا نجاحاً، فالشيطان كالكلب إذا حارشته نبحك، وإذا أعرضت عنه ولى وتركك.

إنني أرثي لحال بعض الأخوات، وأحزن لحزنهن ممن تكتئب من هذا الوسواس بشدة، وتخاف، وتفزع، وتقلق، وتوجل، فتتكلم ونظراتها تتقطع بالبكاء، والنحيب، والشهيق، والحزن، كلا، بعدما تستخدمين الوسائل الشرعية من الأذكار اهدئي واطمئني، والأمر أهون من ذلك، والشيطان لا يمكن أن يبلغ بك ما تخافين ما دمت قد اعتصمت بالله تعالى فلا تخافي ولا تحزني.

حاولي أن تقللي من الاكتراث والخوف من هذا الوسواس، ولا تعطيه من الأهمية هذا الحجم الكبير، الذي هو واقع الآن، وقللي من مخاوفك تجاهه، فإن هذا من أعظم وسائل علاجه، فإنك بذلك تسحبين الفتيل؛ لأن الشيطان لا يعرف ما في قلبك، حتى لو كان في قلبك شيء من الخوف، لكنك أظهرت التجلد فإنك تخدعين الشيطان بذلك، فيظن أنه ما نجح معك، الله هو الذي يعلم خفايا النفوس، أما الشيطان فلا يعلم الغيب، ولذلك قد يكون في قلب الإنسان خوف، لكن يظهر الجلد، والصبر، حتى يصبح صبوراً، جلداً، والشيطان ينخدع بذلك.

استشعار الذنب

الأمر الثالث: من وسائل العلاج استشعار الذنب، وأن الوسواس ذنب يتاب منه فهو ذنب من وجوه عديدة.

أولاً: مخالفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم: حيث إن الموسوس لم يسعه ما وسع ملايين المسلمين عبر العصور، الذين حجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام حجة الوداع مائة وأربعة عشر ألفاً، ما فيهم موسوس، والتابعون كذلك، ثم هذه الأمة الممتدة في شعاب الزمن جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل.

تصوري كم رجل وكم امرأة عاشوا على ظهر الأرض منذ البعثة إلى اليوم، إنهم خلق لا يحصيهم إلا الله عز وجل ألا يسعك ما وسع هؤلاء الملايين؟! بل ألوف الملايين من الأمم التي هي أحسن هدياً، وأكثر صدقاً، وأصلح قلباً، وأوسع علماً، وأقل تكلفاً، ألا لا وسَّع الله على من لا يسعه ما وسع هذه الأمة منذ نبيها صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين هم خير القرون، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الأشهاد، ألا لا وسَّع الله على من لم يسعه من الهدي ما وسع هؤلاء.

فليحذر الإنسان أن يكون عرضة لدعوة المؤمنين عليه بالضيق، وأن يعاقب على هذا الأمر الذي يفعله تديناً، ومع ذلك هو عرضة لعقاب الله تعالى وأخذه له في الدنيا والآخرة، فإن هذا يعاقب عاجلاً، ومن عقوباته العاجلة:

أنه إذا لم يسارع بالإنقاذ وإخراج نفسه من هذه الورطات؛ فإن الأمر قد يزيد في شأنه، وقد يصبح يوماً من الأيام وكأنه يشعر أن لا علاج له، وإن كنا نؤمن قطعاً أنه ما أنـزل الله من داء إلا له دواء علمه من علمه وجهله من جهله، هذا نؤمن به ولا شك.

ثانياً: أيضاً وجه كون الوسواس ذنباً من جهة الإسراف: فإن الموسوس يسرف في استخدام الماء: في الغسل والوضوء، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أبصر الناس، وأطهر الناس، وأعبد الناس، وأصلح الناس، وزوجه عائشة رضي الله عنها أخذت عن الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، فكيف كانت تغتسل؟ هل تعجبين أيتها الأخت إذا قلت لك ما في صحيح مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وعائشة {كانوا يغتسلون بثلاثة أمداد} أي: أقل من صاع، غسل وهم أوفى منَّا شعراً، وأكبر منَّا أجساماً، وأعمق منَّا علماً، وأقل منَّا تكلفاً، وأحرص منَّا على الخير، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

فالذي لا يسعه هذا الهدي ولا يعجبه هذا المسلك؛ فليختر لنفسه طريقاً آخر غير الطريق الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدياً آخر غير الهدي الذي سار عليه عليه الصلاة والسلام.

ومن أحبت منكن -أيتها الأخوات المؤمنات- أن تحشر في زمرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ترد حوضه، وأن تكون معه في الجنة، فلتلزم هديه وغرْزَه، ولتحاذر كل الحذر أن يجرها الشيطان إلى هدي آخر أو إلى طريق آخر غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: التقصير في العبادة من أوجه: كون الوسواس ذنباً فهو مدعاة للتقصير في العبادة، والإخلال بما أوجب الله تعالى، فما هو الذي أباح لكِ -أيتها الموسوسة- أن تقطعي صلاتكِ بعدما شرعت فيها؟ فإن هذا عبث وتلاعب بالعبادة، كيف تقولين: الله أكبر وأنت مستقبلة القبلة، ثم بعدما تُكبري تقولي: هاه!! يمكن أني لم أنو؛ ويمكن أني نسيت ولم أغسل اليد اليمنى أو اليسرى، أو لم أمسح الرأس، ويمكن أن بقعة لم يصبها الماء، ويمكن يمكن... ثم تفرض من هذه الفرضيات الخيالية التي لا تنتهي أبداً، ثم تقطع صلاتها، وتذهب لتتوضأ مرة أخرى، أو تقول: ربما لم أنوِ، أو لم أكبِّر، أو إذا تعدت عملاً قالت: قد لا يكون فعلته، يمكن، يمكن، … وهكذا.

ما هو الدين الذي أباح لها ذلك؟! أي شريعة أباحت لها ذلك؟! وأي نص أباح لها ذلك؟! هل نحن نعبد الله بأهوائنا وبأمزجتنا وبميولنا وآرائنا الشخصية، أو نعبد الله تعالى بما شرع؟! نحمد الله تعالى الذي لم يترك مجالاً في أمور الشرع إلا وبينّه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فهاتِ لنا -بالله عليك- إذا كنت تعرفين نصاً يؤيد ما تزعمين وتفعلين.

كل الناس يرغبون أن يرضوا الله تعالى وأن يطيعوه، وأن يسيروا على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان عندك من العلم والمعرفة بطريقة العبادة والوضوء والغسل والصلاة والصيام والنية ما ليس عندهم فهات، هات حتى يشاركك غيرك في هذا الخير الذي تزعمين أنه عندك ولم يصل إلينا، أما إذا كنت تعرفين أنه باطل فلا داعي لأن نخدع أنفسنا، ونسأل أسئلة باطلة.. لا يسأل عنها، فالباطل يترك جملة وتفصيلاً، ولا يلزم أن يعرف الإنسان تفاصيل الباطل حتى يتركه، بل الباطل باطل يترك بدون سؤال.

رابعاً: ومن أوجه كون الوسواس ذنباً وإثماً يتاب منه، ويستغفر منه: أن فيه إساءة للآخرين وظلماً لهم، وبخساً لحقوقهم، فالزوجة تسيء إلى زوجها، وتمنعه حقه، فهي أبداً إما في دورة المياه، وإما تصلي، وإما في غرفتها تبكي مع نفسها فتمنع زوجها من الاستمتاع الذي أباحه الله تعالى لهم، وهذا ظلم له، والزوج إذا كان مبتلى بالوسواس، فهو يسيء للآخرين، يسيء لزوجته، فهو يفكر أبداً في الطلاق، ويقول:

أظنه خرج مني، أو فكرت فيه، أو نويته، ونية الموسوس لا عبرة بها؛ لأنها ليست نية في الواقع، وكل شيء يخطر في باله يتحول إلى نية في ظنه، فيأتي ويقول: أنا نويت الطلاق ولم أنطق به، وقد يأتي إلى إنسان لا يعرف حاله فيقول: نويت الطلاق ولم أنطق به، فيقول له: ما دام أنك نويت الطلاق فهو واقع: {إنما الأعمال بالنيات} ويظن هذا المسكين أنه طلق زوجته، وقد يراجعها بناء على أن الطلاق الأول حصل، فيقول:

ما دام حصلت الرجعة إذاً الطلاق حاصل من باب الأولى، وهكذا يظل المسكين في سلسلة من الأوهام والظنون والأخطاء، والسبب كله هو جهل هذا الإنسان، وعدم معرفته بحاله، ولا بحكم الله تعالى في أمثاله، فيسيء هذا الموسوس إلى زوجته، ويمنعها حقوقها من الاستمتاع المباح، والمعاشرة بالمعروف بسبب هذا الكيد الشيطاني، وهذا الوسواس الذي تغلغل في قلبه.

خامساً: من أوجه كون الوسواس ذنباً: أن فيه تشويهاً لسمعة الدين، وتشويهاً للمتدينين، وإنه ليسوءنا جميعاً معشر أهل الإسلام، ومعشر المنسوبين إلى الخير، يسوءنا أن يكون الموسوسون من بيننا، وأن يحسبون علينا، لأن الناس إذا أرادوا أن يذموا إنساناً، أو يسخروا منه قالوا: فلان موسوس، فيكفي هذا ذنباً له، وحطاً من قدره.

إذا قيل: موسوس، تصورنا إنساناً يتحرك بصورة معينة، ويتردد في كل شيء، ويشك في كل شيء، وله حالة خاصة، ونفسية خاصة، فهو يسيء إلى سمعة الدين ومظهر المتدينين، ويمنع كثيراً من الناس من الالتزام بهذا السبب.

إذاً فأنتِ -أيتها الأخت الموسوسة- من حيث تشعرين أو لا تشعرين أسأت إلى الدين والمتدينين، فيجب أن تكفي عن هذا الأمر، وأن تعيدي التصور الصحيح عن المتدينين، وتزيلي هذا المظهر السيئ وهذه السمعة السيئة التي نَمت إليهم من خلال فعلك وأفعال أمثالك من الموسوسين والموسوسات.

فضلاً عن الانقطاع عن مصالح الدنيا والآخرة، الموسوس لا يقرأ القرآن إلا قليلاً، ولا يذكر الله إلا قليلاً، ولا يصوم إلا قليلاً، ولا يصلي إلا قليلاً، لأنه مشغول بهذه الوساوس التي انقطع بسببها حتى عن مصالحه الدينية، أما المصالح الدنيوية فحدّث ولا حرج، فالموسوس ربما فكر في ترك الوظيفة، وترك الدراسة، وترك أشياء كثيرة والتفرغ لهذا الوسواس.

والأخوات المبتليات بهذا الأمر يقال فيهن ما يقال في الذكران، فالموسوسة تترك التدريس، وتترك الوظيفة وما فيها من إصلاح وخير وبر ونفع للخلق وهداية، وتنقطع لهذا الأمر، وتترك مصالحها الدنيوية فقد لا تقوم -كما أسلفت- بحقوق زوجها من طبخ، وتنظيف للمنـزل، وغسل للثياب وكيها، وإصلاح شئونها، والقيام على أطفالها، لماذا؟ لأنها مشغولة بهذا الأمر الذي استحوذ عليها وأصبح يمنعها من كل شيء.

وهذا لا شك إثم يُتاب منه، وباب التوبة مفتوح كما قال الرسول عليه السلام: {لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها}.

سادساً: ومن أخطر ما يجعل كون الوسواس إثماً، أنه مخالفة صريحة واضحة صارخة لنصوص الكتاب والسنة التي بين الله تعالى فيها رفع الحرج، وهي كثيرة: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5] وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن هذا الدين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، والقصد القصد تُبلغوا} أين القصد؟! وأين اليسر؟! وأين التسديد؟! وأين المقاربة؟! بل هو -والله- الحرج كل الحرج، والشدة كل الشدة، والعسر كل العسر، والجور كل الجور، وليس فيه رائحة التيسير، والرفق، والقصد.

ويا ترى هل تؤمن الأخت الموسوسة بنصوص الكتاب والسنة المصرحة بنفي الحرج، ونفي العسر، وهداية الرسول صلى الله عليه وسلم لليسرى، وتيسيره لها؟! لا شك أنها تؤمن ما دامت مسلمة.

إذاً: الحال التي تعيشها هل تعتقد أنها يسر؟! كلا والله، بل هي الحرج كل الحرج، والله عز وجل خفف عن الخلق في الشرع أموراً دون ما تعانيه الموسوسة بمراحل كثيرة، ومع ذلك يسَّر عليهم فيها، وخفف عليهم فيها بنفي الحرج عنه، وبيان الفسحة في الدين، فما بالنا نشدد على أنفسنا في أمور يسرها الله تعالى علينا فيما دونها كثيراً كثيرا.

فليحذر الإنسان أن يكون مشرعاً لنفسه غير ما أنـزل الله، وحاكماً لنفسه بغير ما أنـزل الله، ومختاراً غير طريق الله، ومبتغياً هدياً وسنةً غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، ليحذر من ذلك، وليستشعر أن هذا ذنب، ينبغي أن يسارع في التوبة منه.

الحزم القاطع الصارم على ترك الوسواس

العلاج الرابع: هو الحزم القاطع الصارم الذي لا تردد فيه، والإصرار على أن يرفض الإنسان جميع صور الوسواس، وأن يكتفي من الوضوء، والغسل، والطهارة والصلاة، والنية، وغيرها، بمثل ما عليه المؤمنون، والعلماء، والصالحون ويقتصد في ذلك، فإذا نجح في هذا وقاوم الأمر وأصر عليه فالحمد لله، وإلا فإني أقولها صريحة للأخت الموسوسة ولكل الموسوسين من ورائها: لا داعي لاستهلاك أوقاتكم وأوقات الآخرين لطلب نصيحة لا تنفذونها، وتوجيه لا تعملون به، وتأكدوا جيداً أنه ليس هناك وصفة طبية يتعاطاها الموسوس عبارة عن حبة في الصباح، وحبة في الظهر، وحبة في المساء تصرف لكم ثم يكون فيها زوال الوسواس! وإن كان بعض هذه قد ينفع أحياناً، لكن فيما يتعلق بزوال الوسواس في القلب، ليس هناك وصفة طبية يتعاطها الإنسان ثم تزول، إنما هي توجيهات ونصائح وإرشادات وتقوية لعزيمة الإنسان وإرادته يترتب عليها أن يخلص من هذا الأمر، فإذا عجز الإنسان عن ذلك -لا أقول عجز- لكن إذا لم يفعل ولم ينفذ فلا يظن أن الناس يملكون له أكثر من ذلك.

أولاً: لا بد من الاستعاذة والذكر والدعاء: فإن الدعاء حرز، أي: حرز من كيد الشيطان وتزيينه، ولا بد من التوكل على الله تعالى؛ فإن الله هو القوي الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وهو القادر الذي لا يعجزه شيء، ولهذا فإن العبد يفر إلى الله تعالى من كل ما يخاف، ويرغب إليه تعالى في كل ما يرجو: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ))[الذريات:50].

أيتها الأخت المؤمنة: فري إلى الله، اهربي إلى الله تعالى، اهربي إليه من كيد الشيطان، لوذي وعوذي بجنابه وكنفه جل وعلا، واصدقي في ذلك، فإن الله تعالى لا يمكن أن يدع عبده الذي صدق في الولاء له، والتوكل عليه والإنابة إليه والرغبة أن يدعه للشيطان، ووسواس الشيطان، واحرصي على الأذكار والأدعية الواردة في السنة النبوية: أذكار النوم، أذكار اليقظة، أذكار الصباح، أذكار المساء، أذكار الدخول والخروج، والوضوء، والصلاة، أذكار العبادات من صوم وحج وغيرها، احرصي على ضبط هذه الأذكار، وترديدها بيقظة قلب وحضور في مناسبتها.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع