شرح العقيدة الطحاوية [82]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة ):

وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية، فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، فغير الله يحب في الله لا مع الله ].

تطرق هنا لأصلين متلازمين:

الأصل الأول: هو مسألة الولاء والبراء، أو الولاية والبراءة.

الأصل الثاني: وهو ملازم للأول، وهو الحب والبغض، فلا شك أن المسلم لا بد أن يكون له حال تعامله مع الناس ولاء وبراء، ومحبة وبغض، حتى مع المسلمين، وسيذكر الشارح -لكن بكلام متفرق- أن هناك ولاءً كاملاً وهناك ولاءً جزئياً، وأن هناك براءً كاملاً وهناك براءً جزئياً، والولاء الكامل فيه المحبة الكاملة والولاء الجزئي فيه المحبة الجزئية، والبراء الكامل فيه البغض الكامل، والبراء الجزئي فيه البغض الجزئي، فالولاء والبراء يتجزأان، وتجزئة الولاء والبراء وجعله درجات هو الفارق بين أهل السنة وبين الخوارج من جهة، وبينهم وبين المرجئة من جهة أخرى، فالمرجئة لا يجزئون الولاء والبراء، والخوارج لا يجزئون الولاء والبراء، فالخوارج إذا تبرءوا من مسلم أو من غير مسلم تبرءوا منه جملة وتفصيلاً، فالمسلم الذي يرتكب الكبيرة يتبرءون منه تبرؤاً كاملاً ويعاملونه معاملة الكافر، وهذا شطط وتنطع في الدين وخروج عن مقتضى السنة، وبدعة مغلظة.

وكذلك المرجئة يرون للمسلم -وإن كان عاصياً فاجراً- الولاء الكامل، وهذا أيضاً شطط وتفريط.

إذاً: فالقاعدة أن الكافر الخالص يجب البراء الكامل منه ومن كفره، ويجب البغض الكامل له ولكفره، أما من كان مسلماً وكان مرتكباً للمعاصي والآثام والبدع فإن له من الولاية بقدر ما يأتيه من الإيمان والصلاح، وله من البراءة -وكذلك البغض- بقدر ما فيه من المعصية أو الفجور أو البدعة، ما لم يخرج من الملة، فإذا خرج من الملة وجب البراء الكامل منه والبغض الكامل له.

فصاحب البدع المغلظة والآثام والجرائم والمظالم الشنيعة يغلب في حقه البغض والبراء، ومن كان دون ذلك فله من الحق وعليه بقدر طاعته ومعصيته.

إذاً: فتفصيل القاعدة في الولاء والبراء، وترتيب الولاء والبراء على درجات لا يكون إلا عند أهل السنة، أما بقية الفرق فما بين مفَرِّط ومُفْرِط.

وأؤكد على أن الحب والبغض مرتبط بالولاء والبراء، فقد يجتمع في المسلم الواحد الحب والبغض، بل أغلب المسلمين يجتمع في حقهم الحب والبغض، تحبهم في الله بقدر ما فيهم من الطاعة والاستقامة والخير، وتبغض الواحد منهم بقدر ما فيه من المعصية والانحراف، بمعنى أنه يجتمع في الشخص الواحد الولاء والبراء، وأغلب المسلمين يقعون في التقصير، فعلى هذا يشترك فيهم الولاء والبراء والحب والبغض.

قال رحمه الله تعالى: [ فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضائه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق لمحبوبه في كل حال، والله تعالى يحب المحسنين ويحب المتقين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ونحن نحب من أحبه الله، والله لا يحب الخائنين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المستكبرين، ونحن لا نحبهم أيضاً، ونبغضهم موافقه له سبحانه وتعالى.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).

فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته، ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4] ].

الفرق بين محبة الله تعالى والمحبة في الله

مما تحسن الإشارة إليه هنا أن هناك فرقاً بين محبة الله وبين المحبة في الله، ذلك أن محبة الله عز وجل لا تجوز إلا له سبحانه، التي هي محبة التقديس والعبادة، فمحبة التقديس والعبادة لا تجوز إلا لله سبحانه.

والنوع الثاني: هو المحبة في الله، بمعنى: أن يكون عند المسلم ميل فطري غريزي للخير وأهل الخير، فهذا أمر مشروع، بل ينبغي أن يكون لكل من يستحق المحبة، فكل مؤمن له من المحبة -كما ذكرت سابقاً- بقدر ما فيه من الولاية والخير.

وكون المسلم يحب الله ثم يحب أولياء هذا أمر لا تناقض فيه، فإن محبة الله إنما هي محبة التعظيم والتقديس والعبادة، أما محبة العباد فهي المحبة الفطرية، لكن المسلم المستقيم على الحق ترتبط محبته بما يحبه الله، والذي ليس عند استقامة قد يحب ما لا يحب الله، وهذا انحراف، لكنه إذا أحب غير الله محبة تقديس وعبادة وقع في الشرك، وإذا أحب غير الله محبة ميل وغريزة شهوانية ونحوها فهذا هوى، لكنه دون الشرك.

إذاً: محبة الله لا يشرك فيها غيره، وهي محبة التقديس ومحبة العبادة، أما المحبة الأخرى الغريزية فمنها ما هو مرتبط بالدين، ومنها ما هو غريزي بحت، فالمحبة التي ترتبط بالدين هي محبة الخير وأهل الخير وما يحبه الله عز وجل، والمحبة الغريزية البحتة حي محبة الأشياء، فالله عز وجل فطر العباد على محبة الأولاد والأموال والأزواج، فهذه محبة غريزية جائزة إذا لم يتعد فيها الإنسان حدود ما يشرع، فإذا تعدى فيها حدود ما يشرع وقع إما في البدعة وإما في الشرك وإما في الشهوة.

قال رحمه الله تعالى: [ والحب والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر، فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة، والحب والبغض، فيكون محبوباً من وجه مبغوضاً من وجه، والحكم للغالب، وكذلك حكم العبد عند الله؛ فإن الله قد يحب الشيء من وجه ويكرهه من وجه آخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه)، فبين أنه يتردد؛ لا أن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه وتعالى يحب ما يحب عبده المؤمن، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال: (وأنا أكره مساءته)، وهو سبحانه قضى بالموت، فهو يريد كونه، فسمى ذلك ترددا، ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك؛ إذ هو يفضي إلى ما هو أحب منه ].

بيان عقيدة أهل السنة في رد علم ما اشتبه إلى عالمه جل جلاله

قال رحمه الله تعالى: [ قوله: ( ونقول: (الله أعلم) فيما اشتبه علينا علمه ):

تقدم في كلام الشيخ رحمه الله أنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه، ومن تكلم بغير علم فإنما يتبع هواه، وقد قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:3-4]، وقال تعالى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد علم ما لم يعلم إليه، فقال تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:26]، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الكهف:22].

وقد قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أطفال المشركين: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، وقال عمر رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، فلو رأيتني يوم أبي جندل فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي فأجتهد ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب، وقال: اكتب ( بسم الله الرحمن الرحيم )، قال: اكتب: باسمك اللهم، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب وأبيت، فقال: يا عمر ! تراني قد رضيت وتأبى؟!).

وقال أيضاً رضي الله عنه: السنة ما سنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة.

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي -أو: بما لا أعلم-؟!

وذكر الحسن بن علي الحلواني : حدثنا عارم حدثنا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر ، ولم يكن بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر رضي الله عنه، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً ولا في السنة أثراً، فاجتهد برأيه ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله ].

درجات أخذ أهل السنة بالنصوص

في هذا المقطع إشارة إلى أصل عظيم كثيراً ما يخفى على الناس، خاصة في الآونة الأخيرة، وهو من أعظم أصول أهل السنة، ومن أعظم المناهج التي تعد من الفوارق الكبرى بين أهل السنة وبين أهل البدع والأهواء، ذلك أن أهل السنة يأخذون بالنصوص على أصول الاجتهاد، سواء كانت اجتهادية أو كانت توقيفية، والأخذ بالنصوص على ثلاث درجات:

فإذا كان النص من النصوص الواضحة التي لا تشتبه على أحد، مثل نص شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فهذا أمر بيِّن تقوم به الحجة على كل العباد الذي يسمعون ويعقلون.

وإن كان من النصوص التي تخفى على أكثر الناس ولا يعرفها إلا المجتهدون فيجب الرجوع فيها إلى أهل العلم وأهل الاختصاص الذين هم أهل الذكر، كما بين الله تعالى ذلك.

وإذا كان من النصوص التي لا يعلمها إلا الله تعالى؛ فليسلم وليرد النص إلى عالمه، وهو الله عز وجل، بأن يقول: آمنت بأن كلام الله حق وأن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، ويذعن لذلك ويجعل نفسه مستسلماً بحيث لو فهم النص عمل به، فهو مؤمن به حتى ولو لم يفهمه، بمعنى أنه اشتمل على الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، هذا هو الأصل، وأغلب نصوص الشرع من الدرجتين الأوليين، أغلبها مما يفهمه عامة الناس أو يفهمه العلماء، والذي يشتبه في الغالب هو بعض نصوص الغيب ونصوص العقيدة.

بيان وجه الفرق بين أهل السنة ومن خالفهم في رد ما اشتبه من النصوص إلى عالمه

أما كون هذه القاعدة هي الفارق بين أهل السنة والجماعة فيمكن أن نستعرض هذا بإيجاز، فنقول: إن الخوارج حينما تواردت عليهم نصوص الوعيد اشتبه عليهم الأمر نظراً لقلة علمهم، وما ردوا نصوص الوعيد إلى نصوص الوعد أولاً؛ لأنَّ مداركهم ضعفت عن ذلك، ولم يرجعوا إلى العلماء، وربما رجعوا لكنهم لم يسلموا لأهل العلم من الصحابة، ذلك أن الخوارج كانوا من الفئات التي تستهين بالعلماء، لا ترى لأحد من الناس فضل علم، لذلك كانوا يلمزون الصحابة ويرون أنهم علماء دنيا وأنهم قعدوا عن الجهاد.. إلى آخره، فلما لمزوا الصحابة ولمزوا العلماء تركوهم وجفوهم، فلما جفوهم وكلهم الله إلى مداركهم الضعيفة، فقالوا على الله بغير علم، ولم تتسع مداركهم للجمع بين النصوص، فغلبوا نصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، فصاروا وعيدية يكفرون بالذنوب، وصار هذا منهجاً باطلاً ابتليت به الأمة إلى يومنا هذا.

ثم جاءت القدرية، فالقدرية حينما جاءت نصوص القدر ولم يفهموها ما ردوها إلى أهل العلم.

ولذلك وصف معبد الجهني -وهو أول قدري- بأنه طلب العلم وكان عنده تعجل وتسرع، وأنه لم يستوعب العلم من العلماء، فأخذ نصوص القدر برأيه وضعفت مداركه عن الجمع بين نصوص القدر، فتوافق رأيه مع رأي بعض فئات من النصارى والصابئة والمجوس، ففرح بذلك وظن أن هذا مذهب من المذاهب التي تقتدى، فأعلن القول بالقدر؛ ولم تستوعب مداركه نصوص القدر، ولم يعرف قواعد الجمع بين النصوص، ولم يرجع إلى العلماء، وما سلم لله عز وجل، بل خاض في القدر برأيه، فصار مذهبه من أخبث المذاهب إلى يومنا هذا.

وهكذا بقية الفرق، كلهم على هذا المنهاج، ومن متأخريهم أهل الكلام الذين خالفوا السلف في الصفات، فأهل الكلام حينما جاءتهم نصوص الصفات وما استوعبوا منهج السلف في تقرير صفات الله عز وجل ما فهموا ولا أذعنوا لأهل العلم، بل اتهموا أهل العلم بالحشوية، واتهموهم بأنهم عندهم سلامة قلوب وسذاجة ونوع من الغباء والغفلة... إلى آخره.

فلما اتهموا أهل العلم وأئمة الدين في ذلك استقلوا عنهم، وما استوعبت مداركهم الإيمان بالصفات، بل اشتبهت عليهم، فعدوها من المتشابهات مع الأسف، وإلى اليوم يعد أهل الكلام نصوص صفات الله عز وجل من النصوص المتشابهة، وليتهم حينما اشتبهت عليهم ردوها إلى عالمها، ولو فعلوا لأحسنوا؛ لأن هذا منتهى مداركهم، لكن ما فعلوا، بل خاضوا فتكلموا في صفات الله بغير علم، وقالوا -مثلاً-: لا يعقل أن يكون الرحمن على العرش استوى، لا بد أن يكون المعنى غير ذلك، فلما قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأنها اشتبهت. فلما اشتبهت ما ردوها إلى عالمها، بل خاضوا فيها، وما اتفقوا على رأي في هذا الأمر.

فصفات الله عز وجل الذاتية كاليد والقدم... إلى آخره، والصفات الفعلية كلها أولوها، فلما قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأنها اشتبهت، فقيل لهم: أما تعرفون القاعدة في الاشتباه؟ إن الذي يشتبه يرجع للعلماء، فإن فهمتم قول العلماء وإلا فالعيب في عقولكم، فردوا الأمر إلى عالمه وقولوا: آمنا بما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: مسألة الخوض في المتشابه هي الفارق بين أهل الأهواء وبين أهل السنة، فأهل السنة أولاً ليس عندهم اشتباه، لكن إذا اشتبه عليهم شيء قالوا: آمنا بما جاء عن الله على مراد الله عز وجل، وأهل الأهواء كلهم خاضوا في المتشابه، فكانت أصولهم كلها تقوم على هذا الأصل.

مما تحسن الإشارة إليه هنا أن هناك فرقاً بين محبة الله وبين المحبة في الله، ذلك أن محبة الله عز وجل لا تجوز إلا له سبحانه، التي هي محبة التقديس والعبادة، فمحبة التقديس والعبادة لا تجوز إلا لله سبحانه.

والنوع الثاني: هو المحبة في الله، بمعنى: أن يكون عند المسلم ميل فطري غريزي للخير وأهل الخير، فهذا أمر مشروع، بل ينبغي أن يكون لكل من يستحق المحبة، فكل مؤمن له من المحبة -كما ذكرت سابقاً- بقدر ما فيه من الولاية والخير.

وكون المسلم يحب الله ثم يحب أولياء هذا أمر لا تناقض فيه، فإن محبة الله إنما هي محبة التعظيم والتقديس والعبادة، أما محبة العباد فهي المحبة الفطرية، لكن المسلم المستقيم على الحق ترتبط محبته بما يحبه الله، والذي ليس عند استقامة قد يحب ما لا يحب الله، وهذا انحراف، لكنه إذا أحب غير الله محبة تقديس وعبادة وقع في الشرك، وإذا أحب غير الله محبة ميل وغريزة شهوانية ونحوها فهذا هوى، لكنه دون الشرك.

إذاً: محبة الله لا يشرك فيها غيره، وهي محبة التقديس ومحبة العبادة، أما المحبة الأخرى الغريزية فمنها ما هو مرتبط بالدين، ومنها ما هو غريزي بحت، فالمحبة التي ترتبط بالدين هي محبة الخير وأهل الخير وما يحبه الله عز وجل، والمحبة الغريزية البحتة حي محبة الأشياء، فالله عز وجل فطر العباد على محبة الأولاد والأموال والأزواج، فهذه محبة غريزية جائزة إذا لم يتعد فيها الإنسان حدود ما يشرع، فإذا تعدى فيها حدود ما يشرع وقع إما في البدعة وإما في الشرك وإما في الشهوة.

قال رحمه الله تعالى: [ والحب والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر، فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة، والحب والبغض، فيكون محبوباً من وجه مبغوضاً من وجه، والحكم للغالب، وكذلك حكم العبد عند الله؛ فإن الله قد يحب الشيء من وجه ويكرهه من وجه آخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه)، فبين أنه يتردد؛ لا أن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه وتعالى يحب ما يحب عبده المؤمن، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال: (وأنا أكره مساءته)، وهو سبحانه قضى بالموت، فهو يريد كونه، فسمى ذلك ترددا، ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك؛ إذ هو يفضي إلى ما هو أحب منه ].




استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [68] 3352 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [43] 3119 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [64] 3025 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [19] 2986 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2849 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [23] 2840 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [45] 2825 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [80] 2786 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [92] 2780 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [95] 2751 استماع