الهجرة النبوية [7]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد تقدم الكلام عن الهجرة إلى أن وصلنا إلى الغار، وما كان من أحداث خارجه وداخله، وأثر السكينة التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيده بجنود لم تروها، واستعراض ذلك على سبيل الإجمال، وإنزال السكينة في جميع الأزمات من بداية الهجرة إلى بدر، والأحزاب، والحديبية، وحنين، وفي المقابل إنزال الرعب في قلوب الأعداء، وأن السكينة هي أقوى عوامل النصر، والرعب والهلع هو أشد عوامل الهزيمة.

كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه قد أعطى عبد الله بن أريقط الديلي راحلتين، وواعده بعد ثلاثة أيام لكي يأتي بهما إلى غار ثور، فجاء على الموعد، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حينما انقطع الطلب عنهم، فقدم أبو بكر رضي الله تعالى عنه خير الراحلتين للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي الناقة القصواء التي ظلت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: (لا أركب جملاً ليس لي، قال: هي لك يا رسول الله، قال: الثمن! قال: هي لك من عندي، قال: الثمن! قال: إني اشتريتهما بثمانمائة درهم، قال: هي عليَّ بذلك).

فركب صلى الله عليه وسلم ناقته، وركب أبو بكر ومضى ابن أريقط يقود الركب ويسير بهم في طريق غير مأهول.

وعامر بن فهيرة الذي كان يأتي بالغنم في الليل ليسقيهما من اللبن، ويمحو أثر عبد الله بن أبي بكر قال: أنا أرافقكما؛ فاصطحباه معهما لخدمتهما، وكان أبو بكر رضي الله تارة يمشي وتارة يركب، فيتعاقب على الجمل هو وعامر بن فهيرة ، وانفرد صلى الله عليه وسلم براحلته، ومضيا على بركة الله.

وأخذ الدليل بهما إلى جهة الساحل، وكانت عادة أهل مكة إذا أرادوا قصد المدينة أن يبتعدوا عن الساحل؛ لأن الاقتراب من الساحل يطيل عليهم السفر، ولهذا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة في الحج في تسعة أيام، لكن رحلة الهجرة ظلت خمسة عشر يوماً؛ لأنه أخذ بهم طريقاً غير مأهول.

ويمكن أن نقول: إن الترتيبات للهجرة قد انتهت إلى الخروج من الغار، ولكن بقيت أحداث الطريق، وتلك الأحداث بمثابة معالم على الطريق.

أحداث خيمة أم معبد

أول حدث: مرور صلى الله عليه وسلم بعد عسفان بامرأة يقال لها أم معبد ، كانت تجلس وتطعم وتسقي من مر بها، وكان بيتها نائياً عن بيوت الحي.

فلما قدم صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رأيا بيتاً متطرفاً فقصدا إليه، فوجدا فيه تلك المرأة، فسألها أبو بكر رضي الله عنه: هل عندكِ من لحم أو لبن أو تمر أو شيء تعطينا إياه من باب الإكرام للضيف، أو حتى ما نشتريه بالثمن، قالت: لو كان عندي شيء ما أحوجتكما إلى السؤال، إن كنت يا هذا تريد اللحم فعليك بسيد الحي، أما أنا فامرأة ليس عندي شيء، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شاة ضعيفة خلفها لا تستطيع أن تلحق بالغنم، قال: (ما شأن تلك العنز في طرف البيت؟ قالت: إنها ضعيفة، قال: عليَّ بها).

وفي بعض الروايات: أنهما تنحيا جانباً في ظل شجرة ونزلا، فجاء غلام لـأم معبد كانت قد قالت له: يا هذا خذ الشاة والشفرة، واذهب بها إلى هذين فقل لهما: اذبحاها وكلا وأطعمانا، فقال صلى الله عليه وسلم: (رد الشفرة وائتني بالقدح، قال: إنها كنز، قال: رد الشفرة وائتني بقدح، فذهب وقال: إنه يقول: رد الشفرة وائتني بقدح).

وفي بعض الروايات قال: (عليَّ بتلك الشاة، فقالت: هي كنز) وبعضها يقول: (أتأذنين لي بحلبها؟ قالت: احلبها إن كان بها حلب)، فأخذها فمسح على ظهرها وعلى ضرعها ودعا الله وأخذ يحلب في الإناء، فملأ الإناء فأعطى أبا بكر وأعطى من معه، ثم شرب وقال: (ساقي القوم آخرهم شرباً) ثم عاود وحلب وملأ الإناء وقال للغلام: (اذهب بهذا لأمك).

وفي بعض الروايات الأخرى: أنه طلب منه شاة فجاء بعنز ضعيف ودعا وحلبها وأعطى أبا بكر فشرب، قال: ائت بغيرها، فجاء بالثانية كذلك وحلب وسقى صاحبهما عامر بن فهيرة، وقال: ائت بغيرها، فحلب فشرب، وهكذا إلى أربع من العنز الضعاف.

فيحلب ويسقي أصحابه ثم يحلب لـأم معبد ، وفي آخر أمر تلك الشاة، تقول أم معبد وكان الوقت فيه قحط وجوع، فبقيت تلك الشاة عندنا بحلبها إلى زمن عمر رضي الله تعالى عنه، وفي عام الرمادة لم يكن في الحي حليب أبداً إلا تلك الشاة، تحلب لهم ولجيرانهم، ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي الأثر: جاء أبو معبد ووجد الحليب قال: يا أم معبد من أين لكِ هذا وليس عندكِ حلوب؟

قالت: مرّ بنا رجل كريم الوجه سمح طلق، وأخذت تعدد صفاته، ومن أراد هذه الصفات فليرجع إليها في كتب السيرة؛ فكل ما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات جمال الذات وجمال الصفات جاءت بها تلك العجوز، فقال: لئن كنتِ صدقتِ فيما قلتِ فلعله صاحب قريش الذي يطلبونه، قالت: إنه رجل مبارك.

وكانوا يسمونه: حالب الحوائل، والحائل هي التي ليس فيها شيء فهو يحلبها، وكانوا يسمونه: الرجل المبارك، حتى إنه بعد ذلك كثر غنمها، وجاءت إلى المدينة ومر بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فعرفه الغلام، قال: هذا صاحب الرجل المبارك، فدعته فقالت: أين صاحبك؟ قال: هو ذاك، قالت: ماذا يكون؟ قال: نبي الله، قالت: خذني إليه، فجاء بها إليه وأدخلها عليه وأعلنت إسلامها، وكساها وأطعمها وأعطاها، وقيل إن أبا معبد جاء أيضاً، بل إن أبا معبد قيل إنه أراد أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم.

إن الدارس للسيرة والمستأنس بأحداثها يقف هنا وقفة:

قوم متخففون من الزاد، جاءوا إلى صاحبة خيمة، فأرسلت إليهما فاعتذرت، ثم بطوعها واختيارها أرسلت الشاة والشفرة، وجعلتهما كأنهما أصحاب بيت: (اذبحا وكلا وأطعمانا)، فلم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرضى بذبح الشاة واكتفى بحلبها، وهنا تساؤلات، لماذا لم يذبح وصاحبتها تريد أن تأكل معهم، وقد جادت بها عن طيب نفس؟

هنا يقول القائل: تلك بداية الرحلة، وهي رحلة دعوة وليست رحلة احتلال، أو اعتداء، أو اغتصاب، ولكنها رحلة دعوة إلى الفطرة السمحاء، والدين الإسلامي دين الفطرة، ولكأنه صلى الله عليه وسلم يقول للعالم: إن رحلتي في الهجرة رحلة سلم وخير وبركة وفطرة ونماء، وليست رحلة إراقة للدماء ولو كان لشاة، وتظل الشاة تحلب لقومها عدة سنين بعد ذلك.

من آداب الضيف مع مضيفه

وهنا ناحية أدبية: إذا كان تكلف المضيف لضيفه وقرب إليه الشاة، واستطاع الضيف أن يخفف على مضيفه مئونة الضيافة، فإن هذا من كرم الأخلاق، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام كما يقول أبو هريرة.

إني لأُصرع من الجوع ويمر بي فلان وفلان، وينظر إليَّ ولا يدري ما بي، حتى مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أبا هر ماذا بك؟ فنظرت إليه، وقال: بك الجوع، قلت: بلى يا رسول الله، قال: الحق، وجئنا إلى عمر ، فقال: يا عمر ما الذي أخرجك؟ قال: أخرجني الجوع، قال: الحق، ومر بفلان وفلان، قال: ومشى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل حائط فلان، فسأل عنه رسول الله، فقال أهله: ذهب يستعذب لنا الماء.

ولم تكن المياه العذبة متوفرة في المدينة، وكان أحسن بئر في المدينة به ماء عذب بئر رومة، الذي يسمونه بئر عثمان، وكان لرجل يهودي وكان يتحكم في بيع الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة وله الجنة؟) فذهب عثمان ، وساومه على البئر فأبى، فاحتال له عثمان وقال: بعني نصفه بقيمته، فوافق.

فكان يوماً لـعثمان ويوماً لليهودي، وهذه قسمة عادلة، فقام عثمان ونادى في المدينة، اليوم الذي لي أبيحه للجميع يأخذونه في سبيل الله، فكان الناس يأخذون الماء مجاناًً في يوم عثمان ، وفي يوم رومة يبيعه لهم، فصاروا يأخذون في يوم عثمان ما يكفيهم ليومين، ثم ساوم اليهودي عثمان على أن يشتري النصف الآخر ولو بربع الباقي، فاشتراه عثمان وصار بئر عثمان.

قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، ثم ما لبث أن جاء وقال: ما رأيت أكرم ضيوفاً مني اليوم؛ رسول الله وأصحابه، فذهب فقطع تمراً من نخله، ووضعه أمامهم، وأخذ الشفرة وذهب ليذبح، فقال له رسول الله: تجنب الحلوب وذات الولد، فوجهه وأرفق به؛ لأن الحلوب تحلب لأصحاب البيت، وذات الولد ترضع ولدها، فذهب وذبح غير الحلوب وغير ذات الولد، وشوى وطبخ وقدم لرسول الله وأصحابه، ثم قال رسول الله : (والله لتسألن يومئذ عن النعيم، ظل بارد ورطب وتمر ولحم وماء عذب، والله لتسألن يومئذٍ عن النعيم.

نسأل الله تعالى أن يتم علينا نعمه، وأن يوزعنا شكرها، نسأل الله العلي القدير أن يديمها لنا وأن يتمها علينا وأن يوزعنا شكرها، وأن يجعلها عوناً لنا على طاعته.

فهنا قال: (رد الشفرة وائت بالإناء) وهنا قال له: (واذبح وتجنب ذات الضرع والولد) لقائل أن يقول: إنما وجد في الخيمة امرأة، والمرأة لها رجل، والمال مال الرجل في الغالب؛ فلعله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن تتصرف المرأة في مال زوجها في غيبته، بينما الذي ذبح في البستان صاحب المال.

وكذلك أم معبد تقول: ونحن في حالة قحط وضعف، فلذلك يذبح شاتهم، لكن هذا في بستان ونخيل وثمار وبه ذات الولد وغيرها، فالحال هنا حال يسار، فلا مانع أن تقبل مكرمة مضيفك إذا كان ذا يسار، لكن لا كما يفعل البدو في البادية من تعنت وتعصب وأنه لابد أن تذبح للضيف.

الفرق بين البخل والإسراف في الضيافة

ومن العجب ما يذكره زميل لي، كان أبوه أمير قرية، وجاءه ضيف قبل أذان الظهر فذبح له، وأذن المؤذن، فصلوا ورجعوا، فوجد ضيفاً قد أتى وقد طبخت الذبيحة، ثم قدمت للضيوف فإذا بالضيف الثاني يمتنع عن الأكل، قال: هذه ليست ذبيحتي، هذه ذبيحة الأول، كيف آكل على حساب الأول!

انظروا إلى أي حد بلغ التشدد، وإلى أي حد وصل التعصب، فأخذ العصا وقال: أقسم بالله! إما أن تأكل مع هذا وإلا لا تدخل بيتي بعد اليوم.

فليست المسألة بالتعصب ولا بالعادات الشديدة، وليست هي بمسألة التكفير، وليست هي بمسألة الشح والبخل، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا الدرس هنا في تلك الخيمة بأنه لم يرد إراقة الدم في بداية طريق الهجرة الخيرة ويراعي ظروف المضيفة، بينما هنا في المدينة لما وجد اليسار ووجد صاحب المال قبل المكرمة.

وأيضاً مما يذكر في هذا الباب:

أن رجلاً صنع طعاماً ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءوا فأكلوا قليلاً وامتنع البعض، فقال صلى الله عليه وسلم: (أخوكم تكلف لكم فكلوا).

سمعت أن أحد آل الشيخ، دعا الملك عبد العزيز في ذلك الوقت، وجاء بعض الناس يجعلون أنفسهم كأنهم على شبع فينال الواحد من بعض الطعام قليلاً ثم يرفع يده، والعار عندهم إذا واحد رفع يده ومد آخر يده بعده، لأنه يقال: هذا قنوع وهذا جشع.

فكان الشيخ عبد الله يغفر الله له حاضراً وهم جالسون، وأراد شخص أن يرفع يده، فأخذ بالعصا وأقسم بالله، وقال: يا عبد العزيز والله ما واحد يرفع يده قبل أن يشبعوا كلهم، وإلا والله أشبعته بالعصا، فأكلوا حتى شبعوا.

ثم قال: الذي شبع يقوم ولا على البقية من أن يأكلوا حتى يشبعوا، اتركهم لحريتهم، المهم أن من لم يشبع يأكل ولا عار عليه، حتى سموها فيما بعد عادة سعودية، الذي شبع يقوم والذي ما شبع يأكل ولا عار على واحد منهما.

على كلٍ مراعاة آداب الطعام ومراعاة آداب الضيافة والإرفاق بالمضيف من مكارم أخلاق الضيف.

أول حدث: مرور صلى الله عليه وسلم بعد عسفان بامرأة يقال لها أم معبد ، كانت تجلس وتطعم وتسقي من مر بها، وكان بيتها نائياً عن بيوت الحي.

فلما قدم صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رأيا بيتاً متطرفاً فقصدا إليه، فوجدا فيه تلك المرأة، فسألها أبو بكر رضي الله عنه: هل عندكِ من لحم أو لبن أو تمر أو شيء تعطينا إياه من باب الإكرام للضيف، أو حتى ما نشتريه بالثمن، قالت: لو كان عندي شيء ما أحوجتكما إلى السؤال، إن كنت يا هذا تريد اللحم فعليك بسيد الحي، أما أنا فامرأة ليس عندي شيء، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شاة ضعيفة خلفها لا تستطيع أن تلحق بالغنم، قال: (ما شأن تلك العنز في طرف البيت؟ قالت: إنها ضعيفة، قال: عليَّ بها).

وفي بعض الروايات: أنهما تنحيا جانباً في ظل شجرة ونزلا، فجاء غلام لـأم معبد كانت قد قالت له: يا هذا خذ الشاة والشفرة، واذهب بها إلى هذين فقل لهما: اذبحاها وكلا وأطعمانا، فقال صلى الله عليه وسلم: (رد الشفرة وائتني بالقدح، قال: إنها كنز، قال: رد الشفرة وائتني بقدح، فذهب وقال: إنه يقول: رد الشفرة وائتني بقدح).

وفي بعض الروايات قال: (عليَّ بتلك الشاة، فقالت: هي كنز) وبعضها يقول: (أتأذنين لي بحلبها؟ قالت: احلبها إن كان بها حلب)، فأخذها فمسح على ظهرها وعلى ضرعها ودعا الله وأخذ يحلب في الإناء، فملأ الإناء فأعطى أبا بكر وأعطى من معه، ثم شرب وقال: (ساقي القوم آخرهم شرباً) ثم عاود وحلب وملأ الإناء وقال للغلام: (اذهب بهذا لأمك).

وفي بعض الروايات الأخرى: أنه طلب منه شاة فجاء بعنز ضعيف ودعا وحلبها وأعطى أبا بكر فشرب، قال: ائت بغيرها، فجاء بالثانية كذلك وحلب وسقى صاحبهما عامر بن فهيرة، وقال: ائت بغيرها، فحلب فشرب، وهكذا إلى أربع من العنز الضعاف.

فيحلب ويسقي أصحابه ثم يحلب لـأم معبد ، وفي آخر أمر تلك الشاة، تقول أم معبد وكان الوقت فيه قحط وجوع، فبقيت تلك الشاة عندنا بحلبها إلى زمن عمر رضي الله تعالى عنه، وفي عام الرمادة لم يكن في الحي حليب أبداً إلا تلك الشاة، تحلب لهم ولجيرانهم، ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي الأثر: جاء أبو معبد ووجد الحليب قال: يا أم معبد من أين لكِ هذا وليس عندكِ حلوب؟

قالت: مرّ بنا رجل كريم الوجه سمح طلق، وأخذت تعدد صفاته، ومن أراد هذه الصفات فليرجع إليها في كتب السيرة؛ فكل ما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات جمال الذات وجمال الصفات جاءت بها تلك العجوز، فقال: لئن كنتِ صدقتِ فيما قلتِ فلعله صاحب قريش الذي يطلبونه، قالت: إنه رجل مبارك.

وكانوا يسمونه: حالب الحوائل، والحائل هي التي ليس فيها شيء فهو يحلبها، وكانوا يسمونه: الرجل المبارك، حتى إنه بعد ذلك كثر غنمها، وجاءت إلى المدينة ومر بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فعرفه الغلام، قال: هذا صاحب الرجل المبارك، فدعته فقالت: أين صاحبك؟ قال: هو ذاك، قالت: ماذا يكون؟ قال: نبي الله، قالت: خذني إليه، فجاء بها إليه وأدخلها عليه وأعلنت إسلامها، وكساها وأطعمها وأعطاها، وقيل إن أبا معبد جاء أيضاً، بل إن أبا معبد قيل إنه أراد أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم.

إن الدارس للسيرة والمستأنس بأحداثها يقف هنا وقفة:

قوم متخففون من الزاد، جاءوا إلى صاحبة خيمة، فأرسلت إليهما فاعتذرت، ثم بطوعها واختيارها أرسلت الشاة والشفرة، وجعلتهما كأنهما أصحاب بيت: (اذبحا وكلا وأطعمانا)، فلم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرضى بذبح الشاة واكتفى بحلبها، وهنا تساؤلات، لماذا لم يذبح وصاحبتها تريد أن تأكل معهم، وقد جادت بها عن طيب نفس؟

هنا يقول القائل: تلك بداية الرحلة، وهي رحلة دعوة وليست رحلة احتلال، أو اعتداء، أو اغتصاب، ولكنها رحلة دعوة إلى الفطرة السمحاء، والدين الإسلامي دين الفطرة، ولكأنه صلى الله عليه وسلم يقول للعالم: إن رحلتي في الهجرة رحلة سلم وخير وبركة وفطرة ونماء، وليست رحلة إراقة للدماء ولو كان لشاة، وتظل الشاة تحلب لقومها عدة سنين بعد ذلك.

وهنا ناحية أدبية: إذا كان تكلف المضيف لضيفه وقرب إليه الشاة، واستطاع الضيف أن يخفف على مضيفه مئونة الضيافة، فإن هذا من كرم الأخلاق، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام كما يقول أبو هريرة.

إني لأُصرع من الجوع ويمر بي فلان وفلان، وينظر إليَّ ولا يدري ما بي، حتى مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أبا هر ماذا بك؟ فنظرت إليه، وقال: بك الجوع، قلت: بلى يا رسول الله، قال: الحق، وجئنا إلى عمر ، فقال: يا عمر ما الذي أخرجك؟ قال: أخرجني الجوع، قال: الحق، ومر بفلان وفلان، قال: ومشى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل حائط فلان، فسأل عنه رسول الله، فقال أهله: ذهب يستعذب لنا الماء.

ولم تكن المياه العذبة متوفرة في المدينة، وكان أحسن بئر في المدينة به ماء عذب بئر رومة، الذي يسمونه بئر عثمان، وكان لرجل يهودي وكان يتحكم في بيع الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة وله الجنة؟) فذهب عثمان ، وساومه على البئر فأبى، فاحتال له عثمان وقال: بعني نصفه بقيمته، فوافق.

فكان يوماً لـعثمان ويوماً لليهودي، وهذه قسمة عادلة، فقام عثمان ونادى في المدينة، اليوم الذي لي أبيحه للجميع يأخذونه في سبيل الله، فكان الناس يأخذون الماء مجاناًً في يوم عثمان ، وفي يوم رومة يبيعه لهم، فصاروا يأخذون في يوم عثمان ما يكفيهم ليومين، ثم ساوم اليهودي عثمان على أن يشتري النصف الآخر ولو بربع الباقي، فاشتراه عثمان وصار بئر عثمان.

قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، ثم ما لبث أن جاء وقال: ما رأيت أكرم ضيوفاً مني اليوم؛ رسول الله وأصحابه، فذهب فقطع تمراً من نخله، ووضعه أمامهم، وأخذ الشفرة وذهب ليذبح، فقال له رسول الله: تجنب الحلوب وذات الولد، فوجهه وأرفق به؛ لأن الحلوب تحلب لأصحاب البيت، وذات الولد ترضع ولدها، فذهب وذبح غير الحلوب وغير ذات الولد، وشوى وطبخ وقدم لرسول الله وأصحابه، ثم قال رسول الله : (والله لتسألن يومئذ عن النعيم، ظل بارد ورطب وتمر ولحم وماء عذب، والله لتسألن يومئذٍ عن النعيم.

نسأل الله تعالى أن يتم علينا نعمه، وأن يوزعنا شكرها، نسأل الله العلي القدير أن يديمها لنا وأن يتمها علينا وأن يوزعنا شكرها، وأن يجعلها عوناً لنا على طاعته.

فهنا قال: (رد الشفرة وائت بالإناء) وهنا قال له: (واذبح وتجنب ذات الضرع والولد) لقائل أن يقول: إنما وجد في الخيمة امرأة، والمرأة لها رجل، والمال مال الرجل في الغالب؛ فلعله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن تتصرف المرأة في مال زوجها في غيبته، بينما الذي ذبح في البستان صاحب المال.

وكذلك أم معبد تقول: ونحن في حالة قحط وضعف، فلذلك يذبح شاتهم، لكن هذا في بستان ونخيل وثمار وبه ذات الولد وغيرها، فالحال هنا حال يسار، فلا مانع أن تقبل مكرمة مضيفك إذا كان ذا يسار، لكن لا كما يفعل البدو في البادية من تعنت وتعصب وأنه لابد أن تذبح للضيف.