شرح زاد المستقنع علاج الجريمة في الشريعة الإسلامية


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

التدابير كثيرة، لكن يمكن أن نلخص جوانب منها ونتكلم عنها، وهي تبرز القليل من الكثير، والغيض من الفيض، ومن ذا الذي يستطيع أن يكشف تلك الأسرار والعلوم والمعارف التي هي تنزيل من حكيم حميد؟! من يستطيع أن يصل إلى هذه الأسرار والحكم والفوائد التي حار فيها العلماء، وحار فيها الحكماء، وكشف كنوزها أولو العلم وأولو البصيرة والراسخون في التفاسير وشروح الأحاديث، وبينوا الحكم والأسرار والفوائد؟!

لكننا نستطيع أن نجمل شيئاً منها في ثلاثة جوانب مهمة، فهناك تدابير وقائية جعلها لله عز وجل للمسلم:

إما أن تكون للإنسان في نفسه.

أو تكون في أقرب الناس منه، وهم أهله وذووه والداه وولده، وزوجته ومن هو مسئول عنهم.

وإما أن تكون فيمن يخالط، وهي البيئة والمجتمع.

الوازع الديني

هذه الثلاثة الجوانب تبدأ بنفسية الإنسان، هذه النفسية المؤمنة التي خاطبها الله عز وجل فأيقظها من منامها، ونبهها من غفلتها وأرشدها من ضلالتها، وهداها من غوايتها، هذه التدابير المتعلقة بالنفس تدور حول قضية حساسة جداً، وهي القضية التي تسمى بالوازع الديني.

فليس هناك سياج أعظم ولا أكمل ولا أتم من هذا السياج الذي وضعه الله عز وجل بينه وبين عبده، إذ هو سرٌ في القلوب لا يطلع عليه إلا الله جل جلاله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

الوازع الديني هو القوة الإيمانية الرهيبة التي لو خلا العبد معها بحد من حدود الله عز وجل؛ ما استطاع أن يفكر في اقترافه فضلاً عن أن تمتد له يد، أو تلتبس جارحة من جوارحه بذلك الحد الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

الوازع الديني قوة خفية في الإنسان وهي خشية الغيب، كخشية الشهادة، فخشية الغيب تظهر إذا خلا العبد بحرمة من حرمات الله عز وجل؛ فإن هذه الخشية تحمله على أن يتركها؛ كما لو أنه على رءوس الأشهاد، وخشية الغيب هي التي لم تكن معها خائنة عين.

هذا الوازع الديني ما فتئت نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحركه، وتوقظه وتنبهه، وتجعله أميناً على ولي الله المؤمن، وعلى الأمة من إماء الله عز وجل أن تخون أمانتها أو تضيع رسالتها ودينها وشرفها وعرضها وكرامتها، هذا الوازع الديني، تضافرت نصوص الكتاب والسنة على إحيائه وإذكاء جذوته، ولذلك تجد المسلمين في سائر العصور والدهور يمتازون بهذه القضية، وفي جميع العصور والدهور لن تجد أطهر ولا أنقى ولا أتقى ولا أفضل ولا أكمل من مجتمعات المسلمين، حتى ولو فسدت مجتمعات الأرض فإنك تجد أقرب المجتمعات إلى الخير وأحسنها وأفضلها -بالنسبة لغيرها- مجتمعات المسلمين.

وكلما قوي باعث هذا الوازع وكلما قويت جذوته في النفوس؛ استحكم الإيمان في القلب، وكلما عظمت الهيبة للرب سبحانه أصبح الإنسان بعيداً عن مقارفة الذنب والتلبس بالعيب.

تنمية الوازع الديني

الوازع الديني له روافد تغذيه، وقد غرسه الله ونماه في نفس المؤمن في كل حد من الحدود التي مضت معنا، بل في كل حرمة من حرمات الله عز وجل، لن تقرأ آية في كتاب الله، ولن تسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا وجدت إشارة تحكي ذلك المعنى الخفي العظيم.

لو بدأنا مثلاً بالنصوص في الكتاب والسنة، وكيف حركت في النفوس وازع الدين في اتقاء هذه الجرائم، والبعد عن التلبس بالجريمة، وكيف أن القرآن خاطب بأحسن الخطاب ووجه بأكمل التوجيه ووعظ بأحسن الوعظ: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء:58]، وكيف تمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، تقيم الإنسان على هذا المنهج الذي ينفر بسببه ويبتعد عما حرم الله.

ميزة هذا الوازع الديني أنه يثمر شيئاً ينتهي إلى شيء، فالوازع الديني يثمر القناعة الذاتية، والقناعة الذاتية تنشأ عنها النفرة، وهي من أعظم الأسباب التي تحول بين العبد وبين حدود الله ومحارمه، فالذي عنده وازع ديني وقويت فيه جذوة الإيمان والدين -ولا يمكن أن تقوى إلا بالإيمان ولا يقوى الإيمان إلا مع قناعة- وصحبه قناعة ذاتية؛ فعندها لا يستطيع أن يصغي بأذنه أو ينظر بعينه أو يمد يداً أو يخطو خطوة إلى شيء حرمه الله عز وجل عليه.

هذه الأمور كلها اجتمعت في عبارات النصوص في الكتاب والسنة، أروع وأجمل وأجل وأكمل ما أنت راءٍ وسامع من خطاب يوجه إلى عبدٍ أو إلى أمة لكي يحال بينه وبين حرمة الله عز وجل.

هذه الثلاثة الجوانب تبدأ بنفسية الإنسان، هذه النفسية المؤمنة التي خاطبها الله عز وجل فأيقظها من منامها، ونبهها من غفلتها وأرشدها من ضلالتها، وهداها من غوايتها، هذه التدابير المتعلقة بالنفس تدور حول قضية حساسة جداً، وهي القضية التي تسمى بالوازع الديني.

فليس هناك سياج أعظم ولا أكمل ولا أتم من هذا السياج الذي وضعه الله عز وجل بينه وبين عبده، إذ هو سرٌ في القلوب لا يطلع عليه إلا الله جل جلاله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

الوازع الديني هو القوة الإيمانية الرهيبة التي لو خلا العبد معها بحد من حدود الله عز وجل؛ ما استطاع أن يفكر في اقترافه فضلاً عن أن تمتد له يد، أو تلتبس جارحة من جوارحه بذلك الحد الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

الوازع الديني قوة خفية في الإنسان وهي خشية الغيب، كخشية الشهادة، فخشية الغيب تظهر إذا خلا العبد بحرمة من حرمات الله عز وجل؛ فإن هذه الخشية تحمله على أن يتركها؛ كما لو أنه على رءوس الأشهاد، وخشية الغيب هي التي لم تكن معها خائنة عين.

هذا الوازع الديني ما فتئت نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحركه، وتوقظه وتنبهه، وتجعله أميناً على ولي الله المؤمن، وعلى الأمة من إماء الله عز وجل أن تخون أمانتها أو تضيع رسالتها ودينها وشرفها وعرضها وكرامتها، هذا الوازع الديني، تضافرت نصوص الكتاب والسنة على إحيائه وإذكاء جذوته، ولذلك تجد المسلمين في سائر العصور والدهور يمتازون بهذه القضية، وفي جميع العصور والدهور لن تجد أطهر ولا أنقى ولا أتقى ولا أفضل ولا أكمل من مجتمعات المسلمين، حتى ولو فسدت مجتمعات الأرض فإنك تجد أقرب المجتمعات إلى الخير وأحسنها وأفضلها -بالنسبة لغيرها- مجتمعات المسلمين.

وكلما قوي باعث هذا الوازع وكلما قويت جذوته في النفوس؛ استحكم الإيمان في القلب، وكلما عظمت الهيبة للرب سبحانه أصبح الإنسان بعيداً عن مقارفة الذنب والتلبس بالعيب.

الوازع الديني له روافد تغذيه، وقد غرسه الله ونماه في نفس المؤمن في كل حد من الحدود التي مضت معنا، بل في كل حرمة من حرمات الله عز وجل، لن تقرأ آية في كتاب الله، ولن تسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا وجدت إشارة تحكي ذلك المعنى الخفي العظيم.

لو بدأنا مثلاً بالنصوص في الكتاب والسنة، وكيف حركت في النفوس وازع الدين في اتقاء هذه الجرائم، والبعد عن التلبس بالجريمة، وكيف أن القرآن خاطب بأحسن الخطاب ووجه بأكمل التوجيه ووعظ بأحسن الوعظ: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء:58]، وكيف تمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، تقيم الإنسان على هذا المنهج الذي ينفر بسببه ويبتعد عما حرم الله.

ميزة هذا الوازع الديني أنه يثمر شيئاً ينتهي إلى شيء، فالوازع الديني يثمر القناعة الذاتية، والقناعة الذاتية تنشأ عنها النفرة، وهي من أعظم الأسباب التي تحول بين العبد وبين حدود الله ومحارمه، فالذي عنده وازع ديني وقويت فيه جذوة الإيمان والدين -ولا يمكن أن تقوى إلا بالإيمان ولا يقوى الإيمان إلا مع قناعة- وصحبه قناعة ذاتية؛ فعندها لا يستطيع أن يصغي بأذنه أو ينظر بعينه أو يمد يداً أو يخطو خطوة إلى شيء حرمه الله عز وجل عليه.

هذه الأمور كلها اجتمعت في عبارات النصوص في الكتاب والسنة، أروع وأجمل وأجل وأكمل ما أنت راءٍ وسامع من خطاب يوجه إلى عبدٍ أو إلى أمة لكي يحال بينه وبين حرمة الله عز وجل.

خذ -مثلاً- جريمة القتل، إذا أخذت جريمة القتل ونظرت كيف خاطب الله عز وجل عباده بتعظيم النفس المحرمة، وكيف جاءت النصوص في القرآن تربي ذلك الوازع الديني العظيم وتذكي جذوته في النفوس، علمت أنها أصدق عبارة وأصدق كلمة، وأتم بيان يكون في التوجيه وفي الوعظ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، أي مؤمن يقرأ هذه الآية ويتأمل هذا الكلام من الله سبحانه وتعالى يتعظ.

وَمَنْ: صيغة من صيغ العموم، أي: ولو كان أغنى الناس في الأرض، وأشرف الناس، وأعلى الناس، ولفظ: (مؤمن) نكرة، أي: ولو كان أفقر خلق الله، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا، ولم يفرق الله بين الناس، لا بأحسابهم ولا بأنسابهم ولا بصورهم ولا بأشكالهم ولا بمراتبهم ولا بوظائفهم.

وعبر بالإيمان الذي هو حرمة من حرمات الله عز وجل ويجب أن تتقى.

مُتَعَمِّدًا أي: قاصداً الجريمة وطالباً إزهاق نفس بدون حق.

فَجَزَاؤُهُ ليس له جزاء إلا هذا الجزاء، وانظر! كيف جاء التعبير بالجزاء؛ لأنه عندما تأتي كلمة (جزاء) فالنفوس دائماً تطمع، فلما تأت العقوبة في سياق تطميع يكون هذا مثل الصدمة.

فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ أي: ما له جزاء إلا هذا، وهذا فيمن استحل قتل المؤمن، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، ولا يخلد إلا من استحل، فالمستحل يكفر، وعندها يكون من الخالدين أبداً، لكن لو أنه لم يستحلّ، وتعمد القتل فهو إلى مشيئة الله: إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، كما دلت على ذلك النصوص، وهو مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكبي الكبائر.

فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ، وليس هذا فحسب؛ بل خَالِدًا فِيهَا، تصور مؤمناً كلما ذكر النار طار فزعاً منها، وكلما مر عليه اسم النار فزع وخاف، ما الذي أبكى عيون الصالحين، وأسهر جفونهم في جوف الليل: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا [السجدة:16]، خوفاً من جهنم، خوفاً من النار، فإذا بالله عز وجل يأتي بها جزاءً في القتل، هذه جهنم التي وصف الله أغلالها وعذابها، وشدتها وبلاءها وكربها، فما رأت عين ولا سمعت أذن أعظم ولا أشد من عذاب الله في جهنم.

قال تعالى: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، وليس الجزاء أنه خالد فيها فقط، بل: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، الغضب: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81]، ولعنه: وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء:52] اللهم إنا نعوذ بك من لعنتك.

فإذا أصابت اللعنة قلباً خُتم عليه والعياذ بالله، إلا أن يتداركه الله برحمته.

وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، قف عند قوله: وَأَعَدَّ، وقف عند قوله: عَذَابًا نكرة، وعَظِيمًا، والعظيم من الله عظيم!

فالنفس المؤمنة التي تقرأ هذه الآية، ماذا يحدث لها؟

ثم يخاطب الله عباده في هذه الجريمة أفراداً وجماعات شباباً وشيباً؛ ذكوراً وإناثاً: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151]، أسلوب آخر من أساليب الزجر، يقول الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا، ما قال: لا تقتل، فما خاطب خطاب الفرد، بل خاطب خطاب الجماعة حتى يشمل طبقات المجتمع كلها ويشمل الصغير والكبير، وأن تعلم أن العزيز والذليل في حكم الله سواء.

وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ [الأنعام:151]، العبد حينما يتذكر كلمة (حرمة) يعرف أنها من أعظم الأشياء والحرمة لها حرمة، قال سبحانه: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30] فهو خير له في دينه ودنياه وآخرته، فكون الله عز وجل يحرم القتل، ويجعل القتل لشيء محرم له حرمة، تنفر النفس بمجرد ما تقرأ هذا الشيء، وتحس أن بينك وبينه حواجز تنبني عليها تقوى الله والخوف منه جل وعلا، ثم يقول الله عز وجل في آية ثالثة: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وأسلوب النهي يتضمن التحريم.

(لا تقتلوا أنفسكم)، ما قال: لا تذبحوا، وإنما قال: لا تقتلوا؛ لأن القتل أعم من الذبح؛ لأن الذبح يكون بالإضجاع ولكن القتل يكون على أية صورة، سواء قتل قائماً، أو قاعداً، أو مضطجعاً، بسكين، أو برمي، أو غيره، كله يسمى قتلاً: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ.

وما أبلغه من تعبير بقوله: (أنفسكم) جعل الله المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فمن قتل مؤمناً فكأنما قتل المؤمنين، مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32].

هذا الأسلوب الرباني في النهي عن هذه الجريمة التي تتعلق بالاعتداء على النفس، من شأنه أنه إذا قرأه الإنسان متأملاً متدبراً اقتنع بالحكم، وحصل عنده وراء هذه القناعة ما نريده من النفرة مما حرم الله.

وكون هذه الخطابات: تشريعاً، ووصفاً، وبيان عاقبة، فهذه الثلاث الأسس ما اكتملت في خطاب ولا توجيه؛ إلا كان له أطيب الأثر في النفوس، فجاء الحكم بالتحريم: وَلا تَقْتُلُوا، فإنه نهي يقتضي التحريم، وجاء الخطاب بوصف النفس المقتولة: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ [الأنعام:151]، وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، وهذا يجعل عند الإنسان تعظيماً لهذه النفس المحرمة، ثم بيان العاقبة.

فأنت حينما تنهى، وتصف المنهي عنه بأن له حرمة، وتصف أن اقتراف هذه الحرمة يعود بالعواقب الوخيمة والنهايات الأليمة، فإن ذلك أبلغ ما يكون تأثيراً في النفوس، إذ هو تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، فلذلك جاء الأسلوب لهذه الجريمة في هذه الآيات، وأما في السنة، فهناك أحاديث كثيرة، لكن سنقتصر على آيات القرآن في حد جريمة القتل.

جريمة الاعتداء على العقل:

أعز ما مع الإنسان بعد نفسه ودينه؛ عقله، الذي هو نور يميز به بين الحق والباطل، والهدى والضلال؛ الاعتداء عليه إما بشرب المسكرات والمخدرات، وإما بغيرها. فكلما هم بها العبد إذا بالقرآن يأتي بأبلغ العبارة وأصدق الإشارة ويهز القلوب هزاً؛ فتحصل الاستجابة ويعمل على التخلص من الخمور، ويسعى للإقلاع عن المسكرات وتجنب سبيلها.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:90]، فكون الآية تصدر بخطاب فيه وصف التشريف والتكريم فما ذلك إلا لأنه أدعى للاستجابة؛ لأنه لا يستجيب لربك الاستجابة التامة الكاملة إلا أهل الإيمان، ولذلك خصهم الله بندائه، وشرفهم بدعوته.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمِنُوا : لأن المؤمن ينظر إلى الآخرة، ينظر إلى الحساب.. إلى العذاب.. إلى الجنة.. إلى النار.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ [المائدة:90]: أسلوب الحصر والقصر، كأنه يقول: هذه الخمر، ما فيها إلا كذا، بخلاف أن يقول: الخمر كذا وكذا، وابتدأ بها قبل الميسر والأوثان، فقال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ [المائدة:90]، فجعلها قبل الشرك لأنها طريق إليه؛ ولأنها أم الخبائث، ومن فقد عقله فإنه قد يشرك بالله عز وجل ويرتد ويسب الدين، وينتهك الحرمات ويسفك الدماء المحرمة، ولربما قتل أمه وأباه، والعياذ بالله.

فإذاً: هي أم الخبائث، فقدمها قائلاً: إِنَّمَا الْخَمْرُ، قبل الشرك بالله عز وجل والميسر، والأنصاب والأزلام: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90]، فجاءت نكرة، والعرب إذا جاءت بالنكرة فإنها تشير بذلك إلى استغراق الشيء في الوصف، أي: إنها الرجس كله، فعندما تقول: فلان رجل، يعني جميع صفات الرجولة فيه، فلما قال الله: الخمر رجس، فجميع صفات الأرجاس الحسية فيها، فليس هناك أخبث منها، ولا أنتن منها، والأرجاس المعنوية التي فيها الكفر بالله عز وجل وسب الدين وفيها قتل النفس المحرمة، فالأرجاس القولية والفعلية كلها في الخمر.

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ ثم يقول تعالى: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، والمؤمن بينه وبين الشيطان نفرة؛ لأن الله قال له: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53]، وإذا علمت أن هذا من عدوك فهل ترضى به؟

فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، أمر باجتنابه، ولم يقل: لا تشربوا الخمر، وإنما قال: فَاجْتَنِبُوهُ، ومعنى المجانبة ألا يشرب من باب أولى، فهذا نهي عن الاقتراب منها، بخلاف ما إذا قال: لا تشربها، فإنه قد يطلي بها، وقد يتعطر بها، لكن قال: فَاجْتَنِبُوهُ، فجاء النهي عاماً بالترك، وعدم التلبس بهذه الخمرة التي حرمها الله ورسوله.

فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، كونه يرتب الفلاح على ترك الخمر، فوالله ما ترك الخمر عبدٌ لله مؤمناً موقناً صادقاً مستجيباً لله عز وجل إلا أفلح وأنجح.

إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، وهذا من بيان الآثار السيئة للجريمة: أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ، والله عز وجل يريد القلوب أن تجتمع وأن تأتلف، والأرواح أن تتصافى، وكل نصوص القرآن والسنة تجمع المؤمنين ولا تفرقهم، وتحبب بعضهم إلى بعض ولا تبغضهم ولا تُبغِّض المؤمن للمؤمن.

إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91]، فما شربت الخمر إلا سَب شاربها ولعن وقذف، ووقع في حدود الله عز وجل وانتهكها، فقال الله: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، لما قال: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، جاء الله عز وجل بوصفين خبيثين في الخمر:

الأول: يضر بالناس، وفيه إضاعة لحقوق الناس، والثاني: يضر بحق الله وفيه إضاعة لحق الله، أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ، فجمع الله فيها بين الشرين، فيما بين العبد وربه وفيما بينه وبين الناس.

فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ؟! عبارة جميلة وأسلوب بلاغي رفيع، ما ملك الصحابة حينما سمعوا هذه الآية إلا أن صاحوا وصاح عمر رضي الله عنه: انتهينا انتهينا، ورد في رواية أنه جثا على ركبتيه وقال: انتهينا يا رب! انتهينا يا رب! فهذه الخمر التي كانت مفتونة بها النفوس استلت بالآيات البينات من كتاب الله عز وجل؛ فما بال الذي يقترف معصية من المعاصي ويقال: يا أخي! اتق الله واترك، فيقول: لا أقدر! كان بعض الصحابة يشرب الخمر، والخمر من أشد ما يكون فطم الإنسان عنها، ولكن قال الله: اتركها فتركها، وقال الله: اجتنبها فاجتنبها، كمال الاستجابة من كمال التوحيد وكمال الإيمان.

الاعتداء على الأعراض: الله عز وجل يعظم حرمات العرض في جريمة الاعتداء على العرض القولية والفعلية.

الاعتداء الفعلي على العرض بالزنا ونحوه

الفعلية: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2]، يستفتح بها سورة، ويجعلها أول تنبيه من الله عز وجل في سورة النور التي تعلقت بصفة من صفات الله عز وجل: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]، إذا بها تستفتح بذكر هذا الذنب العظيم والإثم الكبير، وهو جريمة الزنا، اعتداء على الأعراض، وإذا بالله عز وجل يبين عقوبة الزنا، ولكن بأسلوب يثمر القناعة، ويحصل منه الزجر والتخويف: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2].

أي: الزاني أياً كان، شريفاً أو وضيعاً، قوياً أو ضعيفاً: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ، ثم يقول تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فجعل العقوبة ديناً لله عز وجل يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى.

هذا الأسلوب في كونه أول شيء يعاقب على الذنب، وثانياً: كونه سبحانه وتعالى يمنع من الرأفة بهما، إذا به يعقب ذلك، ويقول: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، وفي ذلك التشهير، والتشهير بالعقوبة يؤثر على الفاعل للذنب، ويؤثر على من يراه، ومن رأى زانياً يجلد إذا كان بكراً أو رأى زانياً ثيباً يرجم، قلّ أن يفارقه إلا وقد اتعظ، ولن يستطيع أن يرفع حجراً يرميه إلا وزجر نفسه عن أن يفعل فعله، وخاف من الله عز وجل أن يرجم غيره وهو مثله: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، قيل: لا ينكح: لا يطأ ولا يزني، لا يفعل الزنا إلا زانٍ أو مشرك، زانٍ من فساق المسلمين أو كافر، وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، فجاء التحريم بعدها.

وهذا أسلوب من أساليب التنفير من الذنب والجريمة، أعني أسلوب الخطاب بالتحريم، وإذا بالشرع يزيد على هذا في تحريم الزنا بقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]. والله ما تأمل أحدٌ هذه الآية بإيمان وصدق فيزني أبداً، فإنه قال: وَلا تَقْرَبُوا: ما قال: لا تزنوا، والنهي عن القرب من الشيء أبلغ من النهي عن فعله.

ثم قوله الله: وَلا تَقْرَبُوا أي: ذكوراً وإناثا، أغنياء وفقراء، شرفاء ووضعاء، خاطب الله عز وجل الأمة كلها: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى.

وهل الزنا هو الفعل فقط؟ لا، بل النهي عن الزنا بجميع صوره، فكل ما سماه الله ورسوله زنا يتقى، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فزنا العين النظر، وزنا اليد اللمس، وزنا الرجل المشي، وزنا القلب بعد ذلك بأن يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، حتى تنتهي الجريمة الكبيرة وهي فعل الزنا واقترافه والعياذ بالله.

هذا النهي (لا تقربوا الزنا) تشريع، والتعبير بصيغة (لا تقرب) أبلغ في التحريم.

ثم انظر كيف الله عز وجل يقول: إِنَّهُ بصيغة التوكيد، ونحن لا نشك في شيء يخبرنا الله عز وجل عنه أبداً، فلا أصدق من الله حديثاً ولا أصدق من الله قيلاً، فكيف إذا أكد الله ذلك بصيغة التوكيد، فهذه الصيغة تحتاج إلى تأمل!

إِنَّهُ الضمير عائد إلى الزنا بجميع صوره، وإلى وسائل الزنا وفعل الزنا كله:إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32].

الاعتداء الفعلي على العرض بالنظر ونحوه

الزنا فاحشة بالنظر، فاحشة بالسمع، فاحشة باللمس، فاحشة بجميع صوره.

البعض يظن أن الفحش أن يفعل الزنا، نعم هذا فحش، وما علم أن الزنا فاحشة إذا نظر بعينه، ولذلك كل من تكون عنده جرأة على أن يزني بعينه يكون من أهل الفاحشة، فتجده جريئاً على حدود الله في نظره، والله تعالى يطمس من عينه نور البصيرة، ولا تزال ترتع عينه في حرمات المؤمنين، وأعراضهم حتى يرفع منها نور الفراسة، ولا يزال يرتع بعينه والعياذ بالله في حرمات المؤمنين حتى يشهد الناس عليه أنه زانٍ بعينه، فهو قد يبدأ بخيانة الأعين يسرق النظرات، ثم بعد ذلك تجد الفحش في عينه، حتى لربما نظر إلى المرأة وهي مع زوجها وأومض بعينه إشارةً إلى الخنا والفجور.

ومن هنا تجد من يزني بعينه، ربما يسير في الشارع فلا يقف على عورة من عورات المسلمين إلا أرسل النظر إليها، ولا ينظر إلى بيت إلا وجدته خائناً في نظره فاحشاً متفحشاً في بصره، ينظر إلى باب البيت، ينظر إلى النافذة، ينظر إلى خلل البيت يبحث عن الأماكن الخفية، بل حتى لربما لو وقف بجوار سيارة يقلب نظره في السيارة يمنة ويسرة يريد أن ينظر إلى عورة من عورات المسلمين!

وهذا فاحش! وكل النفوس تمقته، وكل الناس تزدريه وتشمئز منه، تأتيه المرأة -وهي عورة من عورات المسلمين- وهو بائع أو طبيب أو في أي عمل من الأعمال، لمصلحة من المصالح، فإذا به ينظر إليها فيومض عينه ومض الخنا والفجور، فلا تملك أمة الله إلا أن تكره ذلك الشيء الذي تريده منه، ولربما كرهت وخرجت من عنده، وإذا صبرت خرجت بقلب مجروح لما اقترف من محارم الله فيها.

من هذا الفاحش الذي لا يخاف الله عز وجل حينما يرسل النظر، كلما جاء إلى عورة من عورات المسلمين تجده يسترسل في النظر إليها؟!

الاعتداء القولي على العرض بالفحش والنميمة والقذف ونحوها

ثم تجد زنا اللسان، اللسان يزني بالكلمات الفاحشة البذيئة، بالتسلط على عورات المسلمين بالمغازلة، يكلم أمة من إماء الله عز وجل يستدرجها إلى الحرام، إلى الفواحش والآثام، فتجد الفاحشة في لسانه، ولذلك قلّ أن تجد أحداً ممن يسترسل في أذية النساء بلسانه فيرزق القول السديد؛ لأن ذنب اللسان لا يجتمع معه نور القول والعمل، فنور الإيمان لا يجتمع مع معصية الله عز وجل، فتجده لا يوفق في كلامه، ولا يوفق في قوله، ولا يرزق القول السديد.

وتجده فاحشاً في قوله، حتى لربما يجلس مع بعض إخوانه فتجد زلات اللسان واضحة لا يستطيع أن يتحكم: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ آل عمران:117]، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج:10]، فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، من الفحش وغيره.

كذلك يقول: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء:32]، يعني الزنا، فهو إذا تسلط على عورات المسلمين بالكلام، لا يمكن أن يحول بين نفسه وبين الفحش.

وإذا تسلط على عورات المسلمين بالمشي، (وزنا الرجل المشي) كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فتجده يخرج في ظلمات الليل وفي مظان الريب، من أجل أن يبحث عن عورة من عورات المسلمين.

والمرأة الفاسدة والعياذ بالله تجدها أفحش، ولذلك بدأ الله في الزنا بالنساء؛ لأن المرأة لو استعصمت بعصمة الله ما وقعت في الحرام ولا وقع منها الزنا، ولذلك قال: الزَّانِيَةُ والزاني، فبدأ بها، ولما كانت السرقة غالباً تأتي من القوي وهو الرجل قال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ [المائدة:38]، فقدم النساء في الزنا وقدم الرجال في السرقة، وكل له ما يناسبه وما يشاكله.

فالمرأة إذا زنت أصبحت تحب سماع الخنا والفجور، تجدها والعياذ بالله متفحشة، لا تريد أن تسمع إلا كلاماً بذيئاً ساقطاً، وتستعذب ذلك، وليأتين عليها يوم تتجرع فيه مرارة ما كسبت، إما عاجلاً أو آجلاً.

يقول الله عز وجل: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء:32]، هذا في مقدمات الزنا، فكيف بفعل الزنا، والذي يقع في الزنا والعياذ بالله أفحش ويكون بلغ الفحش به غايته؛ فتجده لا يتورع عن حرام من سيئات الفرج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والفرج يصدق ذلك أو يكذبه).

في هذه الآية يقول الله تعالى: إِنَّهُ كَانَ [الإسراء:32]، وقع التعبير بكان التي تدل على الدوام والاستمرار، فالتصق الزنا مع الفحش ولا يمكن أن يفارق الزنا الفحش، إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32] أي: ساء طريقاً.

فمن سلك طريق الزنا بكت عيناه وتقرح قلبه، وإن لم يتب إلى الله عز وجل فلربما قاده ذلك إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله، وكما يقول: ساء سبيلاً، فمن يزني بإماء الله ويتعرض لعورات المسلمين؛ ليبكينه الله في الدنيا أو يبكينه في الآخرة أو يجمع له بين البكائين في الدنيا والآخرة، فمن تسلط على عورات المسلمين واستدرج الغافلات، واستدرج النساء، وأوقعهن في حبائله وأمنياته المكذوبة فلابد وأن يسوء سبيله وتسوء خاتمته، ولذلك تجد من يستمرئ هذه العادة في أسوء الأحوال، وما سميت السيئة سيئة إلا لأنها تسيء إلى صاحبها.

ولقد رأيت بعيني رجلاً كان فاحشاً متفحشاً بذيئاً، متسلطاً على عورات المسلمين، وجاءني أكثر من شخص يشتكي منه، وكان معنا في الدراسة، ووعظته أكثر من مرة ولم أستطع أن أقول له: بلغنا عنك كذا وكذا؛ لأنني لا أستطيع أن أتهم الناس، ولكني ذكرته بالله بما ظهر لي من حال، فما كان إلا أن استهزأ واستخف، فوالله الذي لا إله غيره! ولا رب سواه! لقد رأيته في حادث فكانت خاتمته من أسوأ الخواتم، وكان جريئاً على استدراج البرآء وضعفاء الصغار ونحو ذلك إلى الفساد والعياذ بالله، فلا يحسب أحد أن الكون همل وأن عورات المؤمنين سهلة، فمنهم من يبتلى بالشرود الذهني، ومنهم من يبتلى بشتات النفس، ومنهم من يبتلى بالفقر، ومنهم من تضرب عليه الذلة والعياذ بالله، ومنهم من ينطفئ نور الإيمان في وجهه، ..إلخ.

وَسَاءَ سَبِيلًا ، والعاقل الحكيم لا يمكن أن يستدرج نفسه إلى عواقب السوء والعياذ بالله (وساء سبيلاً): نكرة، أي: ساء طريقاً على أيٍ كان هذا الزنا.

كذلك الاعتداء على العرض كما يكون بالزنا؛ يكون بالقذف: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ تعبير بالتوكيد: إن الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، وعيد شديد! كون الله سبحانه وتعالى ينظر إلى النساء الصالحات الغافلات المؤمنات، ويغار عليهن سبحانه من فوق سبع سماوات، فلا يظنن أحد أن أعراض المسلمين رخيصة، ولا يظنن أحد أن اللسان لا سلطان عليه، والله سبحانه وتعالى قد حذر من الوقوع في حقوق الناس، ولذلك تجد أن العواقب الوخيمة في إضاعة حقوق الناس أليمة في الدنيا والآخرة، وجاءت الصيغ في القرآن والسنة في المنهيات، من حقوق الناس من أبلغ ما تكون، ولذلك تجد مثلاً في النميمة، وهي نقل الحديث بين الناس:

يمر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فيقول: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فقد كان يمشي بالنميمة...)، نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، الذي يقول الله له يوم العرض الأكبر: (ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع)، فيشفع في الأولين والآخرين، ولم يستطع أن يشفع في رفع العذاب عن نمام، إنما قال: (لعله أن يخفف عنه ما لم تيبسا)، لا يرفع العذاب وإنما يخفف فقط؛ لأن حقوق الناس أمرها عظيم.

وهذا نذير من الله عز وجل؛ فإن استطعت أن تخرج من الدنيا ولم تسب مسلماً ولم تتهم مسلماً في عرضه، ولم تتهمه في فكره ومنهجه وعقيدته، وتخرج وأنت خفيف الظهر والحمل من حقوق المسلمين، فافعل ذلك رحمك الله، وإلا لتندمن وليطولن ندمك، ولتندمن حين لا ينفع الندم.

فهنا في القذف يقول الله عز وجل: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:23]، فلهم لعنة الدنيا ولهم لعنة الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.

وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، وصف العذاب بكونه عظيماً، وكأن سائلاً سأل: ما هو هذا العذاب العظيم يا رب؟! متى يكون؟ وأين يكون؟ فإذا به يقول: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ [النور:24]، التي كانت لا تبالي بأعراض المسلمين، هذه الألسنة التي كانت سليقة حادة: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب:19]، هذه الألسنة التي لا تبالي بحرمة، إذا به سبحانه يخبر أن هذه الألسنة التي أذنبت تشهد، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].

ورد في بعض الآثار أن العبد يقول حينما تشهد عليه الملائكة (يا رب! لا أرضى حتى تقيم عليّ شاهداً من نفسي، فيقول: من نفسك؟ قال: نعم، فيختم الله عز وجل على فيه، ويتكلم فرجه، وتتكلم رجله، وتتكلم يده)، في يوم يسوؤه كلام ويسوؤه ما يسمعه، فإذا به يخبر الله عز وجل أنه تشهد عليهم ألسنتهم بما رتعوا في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وما استحلوا من محارم الله.

كم من أمة من إماء الله عز وجل سهرت ليلها تبكي، وأصبحت نهارها متقرحة القلب تشتكي إلى جبار السماوات والأرض من المظالم في اتهامها في عرضها، وكم من طالب علم وعالم وداعية وصالح يتهم في فكره ومنهجه، فلا يحسب أحد أن أعراض المسلمين رخيصة، وإن هذا اللسان الذي يرتع ليعاقب به العبد إذا كان يرتع في العرض؛ فكيف بالدين؟ وكيف بالفكر؟ وكيف بالمنهج؟

جعل الله عز وجل هذه الجرائم محل المقت في قلوب المسلمين، وليس هناك أحد هذب أخلاق المسلمين وقوّم سلوكهم وسدد وصوّب اتجاههم، مثل ما جاء في كتاب الله عز وجل.

ومن هنا يتضح لنا كيف بيّن الله عز وجل عظم الاعتداء عن العرض، وكيف حذر من هذا الذنب.